التصنيفات

الحاجب ذو الرياستين أبو مروان عبد الملك ابن رزين رحمه الله تعالى ورث والرياسة من ملوك عضدوا مؤازرهم، وشدوا دون النساء مأزرهم، ولم يتوشحوا إلا بالحمائل، ولا جنحوا للباس إلا في أعنة الصبا والشمائل، وركبوا الصعاب فذللوها، وابتغوا سببا للنجوم حتى انتعلوها، وملكوا الملك بأيد، وعقلوه من النخوة بقيد، وكان ذو الرياستين منتهى فخارهم، وقطب مدارهم، شيد بناءهم، وقيد غناءهم، رجلا اتخذته البسالة قلبا، وضمت عليه شغافا وخلبا، لا يعرف جبنا ولا خورا، ولا يتلو غير سور الندى سورا، وكانت دولته موقف البيان، ومقذف الأعيان، ترتضع فيها للمكارم أخلاف، وتدار بها للأماني سلاف، فوردت الآمال نداه نميرا، ووجد الإجمال في سراه سميرا، إلا أنه كان يتشطط على ندامه، ولا يرتبط في مجلس مدامه، فربما عاد إنعامه بوسا، وانقلب ابتسامه عبوسا، فلم تتم معه سلوة، ولا فقدت في ميدانه كبوة، وقليلا ما كان يقبل، ولا يناجي المذنب عنده إلا الحسام الصقيل، ومع هذا فإنه كان غيثا للندى، وليثا على العدى، وبدرا في المحفل، وصدرا في الجحفل، وله نظم ونثر ما قصرا عن الغاية، ولا اقصرا عن تلقي الراية، وقد اثبت منهما نبذا تروق شموسا، وتكاد تشرب كؤوسا. أخبرني الوزير أبو عامر بن سنون أنه اصطبح يوما والجو سماكي العوارف، لازوردي المطارف، والروض أنيقة لباته، رقيقة هباته، والنور مبتل، والنسيم معتل، ومعه قومه، وقد راقهم يومه، وصلاته تصافي معتفيهم، ومبراته تشافه موافيهم، والراح تشعشع، وماء الأماني ينشع، فكتب إلى ابن عمار وهو ضيفه: طويل

فلما وصلت الرقعة إليه تأخر عن الوصول، واعتذر بعذر مختل المعاني والفصول، فقال أحد الحاضرين أني لا عجب من ابن عمار، وكيف قعد عن هذا المضمار، مع ميله إلى السماع، وكلفه بمثل هذا الاجتماع، فقال ذو الرياستين أن الجواب تعذر، فلذلك اعتذر، لأنه يعاني قوله ويعلله، ويرويه ولا يرتجله، ويقوله في المدة، الممتدة، فرأى أن الوصول بلا جواب إخجال لأدبه، وإخلال بمنازله في الشعر ورتبه، فلما كان من الغد ورد ابن عمار ومعه الجواب وهو: طويل
وأخبرني الوزير الكاتب أبو جعفر ابن سعدون أنه أصبح يوما بحضرته وللرذاذ رش، وللربيع على وجه الأرض فرش، وقد صقل الغمام الأزهار حتى اذهب نمشها، وسقاها فأروى عطشها، فكتب إليه: طويل
فراجعه بقوله: طويل
ثم توجه فيه إلى روضة قد أرجت نفحاتها، وتدبجت ساحاتها، وتفتحت كمامها، وأفصحت حمامها، وتجردت جداولها كالبواتر، ورمقت أزهارها بعيون فواتر، فأقاموا يعملون كاسهم، ويشملون إيناسهم، فقال ذو الرياستين: طويل
وركب متصيدا في يوم غيم نضح رذاذه وجه الثرى، وتلفعت الشمس بمطرفه فلا ترى، والأرض لا تثبت حوافز الخيل في زلقها، ولا نهش الجياد إلى طلقها، والأفق لو مرت به دهمة الليل لغابت في نوه، وما بانت في جوه، والمدام قد علته، وأراؤها قد تولته، فقام بين يديه قنص فطارده في ميدان الجد لاهيا، وسايره في طريق الحذر ساهيا، وقد تفرد من عبيده، وتوحد في بيده، فسقط به فرسه سقطة أوهنت قواه، وانتهت به إلى ملازمة مثواه، وبلغه أن أحد عداته شمت بوقعته، وسر بصرعته، فقال: بسيط
وأخبرني الكاتب أبو عبد الله ابن خلصة أنه لما دخل بيطرة بتخلي أبي عيسى ابن لبون عنها أنشدته طائفة من الشعراء والكتاب فحوم ووصل وأدنى قوما وأبعد آخرين، وأصاخ من وزيره إلى اسوأ قرين، فأشار في جانب أبي عيسى بإخلال، وأصار عزته في قبضة الإخمال والإذلال، فتفرق القوم فرقا، وسلكوا من التشغيب عليه طرقا، وتشوفوا إلى المستعين، وأنفوا من الورود على غير عذب ولا معين، وكان في الجملة المنحرفة، والفئة المتطلعة إلى ابن هود المستشرفة، الكاتب أبو الحسن ابن سابق فقال: بسيط
فلما سمعه ابن رزين قال مطفئا للوعته، ونازعا كنزعته، نوعا من السياسة سكن بها أنفه، وأعاد عليه الأهواء مؤتلفه: بسيط
وخاطب ابن طاهر مستدعيا إلى الكون لديه برسالة ندل على أنافته في الفخر، دلالة النسيم على الزهر، والشاطئ على النهر، وتشهد له بالعلاء والمجد، شهادة النار بطيب الند، وكرم الزند، فإنه استدعاه والأذان قد صممت عن دعائه، وحكمه في ملكه والكل قد ضن عليه بما في وعائه، وهي.. أنت أدام الله عزك عالم
بالزمان وانقلابه، عارف بإعارته واستلابه، ومن عرفه حق معرفته لم تزده شدته إلا معتبرا، وشكر الله وتدبرا، وما زلت ألقاك بالود، على البعد، فأعلمك بتقدمك في الأعيان، وإن لم أرك بالعيان، واستخبر الأخبار فاسمع، ما يقرع صفاة الكبد ويصدع، بأنحاء الزمان عليك، تنكره لديك، إلى أن ورد فلان فاستفهمته عن حالك فذكر، ما أزعج وكدر، ارتماضا لمثلك أن يعوزه مرام، أو ينبو به مقام، فجردت عن ساعد الشفاعة عند القائد الأجل أبي عبد الله في صرف مات يمكن من أملاكك فوقع الاعتذار بأنه أمر محظور، تقدم فيه حد محذور، وأشار بإجراء ما يلم بالاكتفاء وأنا أعزك الله أعرض ما هو الأوفق ليث، والأليق بي، عن عزيمة مكينة، ورغبة وكيدة، من الانتقال إلى جهتي، والانبساط في دولتي، فأقاسمك خاص ضياعي ومعلوم أملاكي وإن شق عليك الكون بجهتي لبرد هوائها، وبعد أنهائها، فهاهي شنت مريه أقف طاعتها عليك، وأصرف أمرها إليك، وعندي من العون على الارتحال، ما يقتضيه لك رفيع الحال، ولك الفضل في مراجعتي بما يستقر عليه رأيك، ويأتي به أنحاؤك، إن شاء الله تعالى.. وله يتشوق إلى خليط ودعه، وأجرى بعده أدمعه: طويل
وأخبرني الوزير أبو عامر ابن سنون، أنه كان معه في منية العيون، في يوم مطرز الأديم، ومجلس معزز النديم، والأنس يغازلهم من كل ثنية، ويواصلهم بكل أمنية، فسكر أحد الحاضرين سكرا مثل له ميدان الحرب، وسهل عليه مستوعر الطعن والضرب، فقلب مجالس الأنس حربا وقتالا، وطلب الطعن وحده والنزالا، فقال ذو الرياستين: كامل
وله يحن إلى نازح من أحبابه، ألفه أيام شبابه، فاختلسه النوى من بين يديه، وترك الصبابة عوضا منه لديه: كامل
وله: خفيف
وتجنى عليه ذو الوزارتين أبو بكر بن عمار وتعتب، ولامه وذنب، فكتب ابن رزين إليه، معرضا بعينيه، وهو مما أبدع فيه تعريضا وتصريحا، وسقاه التنديد منه صريحا: طويل
وله في شمعة: رمل مجزوء
ولما افترس ملوك الأندلس الليث، وطمس رسومهم الغيث، وخوصموا بالنسبة بالأغماد، ورموا بداهية ناد، بقي ذو الرياستين طالعا بأفق الملاك وقد أفلت نجومه، محترسا من ذلك الليث الذي افترسهم هجومه، يحمي دولته من انقراضها، ويرمي من سعي في انتقاضها، فلم يرمه رام، ولم يجسر عليه عدو مترام، إلى أن خطبته المنية، وتخطت إليه تلك الثنية، وبقي ابنه على رسمه، مخطوبا له في منابرها باسمه، إلى ان دبت إليه تلك الأفاعي، واشتملت عليه تلك المساعي، فخر من عرشه، وأقيم من فرشه، فتبارك من لا يكيد به كائد، ولا يبيد ملكه وكل شيء بائد.
كمل ذكره.

  • مكتبة المنار - الأردن-ط 1( 1989) , ج: 1- ص: 51