التصنيفات

الشيخ صدر الدين محمد بن عمر بن مكي بن عبد الصمد الشيخ الإمام العالم العلامة ذو الفنون البارع صدر الدين ابن المرحل ويعرف في الشام بابن وكيل بيت المال المصري الأصل العثماني الشافعي أحد الأعلام وفريد أعاجيب الزمان في الذكاء والحافظة والذاكرة.

ولد في شوال سنة خمس وستين بدمياط وتوفي بالقاهرة ودفن عند الشافعي سنة ست عشرة وسبع مائة.
رثاه جماعة في الشام ومصر وحصل التأسف عليه، وقال الشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية لما بلغته وفاته: أحسن الله عزاء المسلمين فيك يا صدر الدين. أنشدني من لفظه لنفسه القاضي شمس الدين محمد بن داود ابن الحافظ ناظر جيش صفد:
وهو مأخوذ من قول القائل:
نشأ بدمشق وتفقه بوالده وبالشيخ شرف الدين المقدسي وأخذ الأصول عن صفي الدين الهندي وسمع من القاسم الإربلي والمسلم بن علان وجماعة، وكان له عدة محفوظات قيل أنه حفظ المفصل في مائة يوم ويوم والمقامات الحريرية في خمسين يوما وديوان المتنبي على ما قيل في جمعة واحدة، وكان من أذكياء زمانه فصيحا مناظرا لم يكن أحد من الشافعية يقوم بمناظرة الشيخ تقي الدين ابن تيمية غيره، ناظره يوما في الكلاسة فاضطر الكلام الشيخ تقي الدين إلى أحد الحاضرين وقال له: هذا الذي أقوله ما هو الصواب؟ فأنشده صدر الدين:
وجرت بينهما مناظرات عديدة في غير موضع.
وتخرج به الأصحاب والطلبة وكان بارعا في العقليات وأما الفقه وأصول الفقه فكانا قد بقيا له طباعا لا يتكلفهما، أفتى ودرس وبعد صيته، ولي مشيخة دار الحديث الأشرفية سبع سنين وجرت له أمور وتنقلات وكان مع اشتغاله يتنزه ويعاشر ونادم الأفرم نائب دمشق ثم توجه إلى مصر وقام بها إلى أن عاد السلطان من الكرك في سنة تسع وسبع مائة، فجاء بعدما خلص من واقعة الجاشنكير -فإنه نسب إليه منها أشياء وعزم الصاحب فخر الدين ابن الخليلي على القبض عليه تقربا إلى خاطر السلطان وهو بالرمل فعفا عنه السلطان- وجاء إلى دمشق.
فعمل عليه زمان قراسنقر وتوجه إلى حلب وأقرأ بها ودرس وأقبل عليه الحلبيون إقبالا زائدا وعاشرهم وخالطهم، قال: وصلني من مكارمات الحلبيين في مدة عشر أشهر فوق الأربعين ألف درهم، وأقبل عليه نائبها أسندمر.
وكان محفوظا لم يقع بينه وبين أحد من الكبار إلا وعاد من أحب الناس فيه، وكان حسن الشكل تام الخلق حسن البزة حلو المجالسة طيب المفاكهة وعنده كرم مفرط كل ما يحصل له ينفقه على خلطائه وخلصائه بنفس متسعة ملوكية وكان يتردد إلى الصلحاء ويلتمس دعاءهم ويطلب بركتهم.
أخبرني من لفظه الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن العسجدي الشافعي قال: كنت معه وكانت ليلة عيد فوقف له فقير وقال: شيء لله، فالتفت إلي وقال: ايش معك؟ فقلت: مائتا درهم، فقال: ادفعها إلى هذا الفقير، فقلت له: يا سيدي الليلة العيد وما معنا نفقة غد، فقال: امض إلى القاضي كريم الدين الكبير وقل له: الشيخ يهنيك بهذا العيد، فلما رآني كريم الدين قال: كأن الشيخ يعوز نفقة في هذا العيد، ودفع إلي ألفي درهم للشيخ وثلاث مائة درهم لي، فلما حضرت إلى الشيخ وعرفته ذلك قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ’’الحسنة بعشرة’’ مائتان بألفين. وحكى لي عنه غير واحد ممن كان يختص به مكارم كثيرة ولطفا زائدا وحسن عشرة، وأما أوائل عشرته فما كان لها نظير لكنه ربما يحصل عنده ملل في آخر الحال حتى قال فيه القائل:
وشعره الجيد منه مليح إلى الغاية وربما يقع فيه اللحن الخفي وكان ينظم الشعر والمخمس والدوبيت والموشح والزجل وغير ذلك من أنواع النظم ويأتي فيه على اختلاف الأنواع بالمحاسن.
ومن تصانيفه ما جمعه في سفينة سماه الأشباه والنظائر في الفقه يقال أنه شيء غريب، وعمل مجلدة في السؤال الذي حضر من عند أسندمر نائب طرابلس في الفرق بين الملك والنبي والشهيد والولي والعالم.
ولما كان بحلب حضر الأمير سيف الدين أرغون الدوادار نائب السلطان أظنه متوجها إلى مهنا بن عيسى فاجتمع به هناك وقدم له ربعة عظيمة كان قد وهبها له أسندمر نائب حلب فقال: هذه ما تصلح إلا لمولانا السلطان، ووعده بطلبه إلى الديار المصرية ووفى له بوعده وطلب إلى مصر ولم يزل بها في وجاهة وحرمة إلى أن توفي رحمه الله. وجهزه السلطان رسولا إلى مهنا مع الأمير علاء الدين الطنبغا الحاجب فقال الشيخ: إنه حصل لي تلك السفرة ثلاثون ألف درهم.
ومن شعره قصيدة بائية أولها:
قلت: لو لم يقل الشيخ صدر الدين من الشعر إلا هذا البيت لكان قد أتى بشيء غريب نهاية في البديع لقد غاص فيه على المعنى ودق تخيله فيه
هذا البيت أيضا بديع المعنى دقيقه وقد اعتذر عن تقطيبه بأحسن عذر وأوضحه عما أشار إليه الشعراء في ذلك وقبحوا فعله مثل قول ابن أبي الحداد:
وما أحسن قول ابن رشيق القيرواني:
وتتمة أبيات صدر الدين:
في هذه الأبيات تضمين إعجاز أبيات من قصيدة ابن الخيمي الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى.
وقال أيضا:
وهذه القصيدة والتي قبلها حذفت منهما جملة لأن هذا خلاصة ما فيهما. وقال:
وقال وهو في غاية الحسن:
وقال:
وقال:
وقال في مليح به يرقان:
قلت: وهذا مثل قول الوداعي:
وقال:
وقال أيضا:
وقال أيضا:
وقال أيضا:
وقال أيضا:
وقال أيضا:
وقال في مليح يلقب بالحامض:
وقال أيضا:
وقال أيضا:
وقال أيضا:
وقال أيضا:
وقال أيضا:
وقال أيضا:
وقال أيضا:
وقال أيضا:
وقال أيضا رحمه الله تعالى:
قلت: من العجيب أن الباخرزي ذكر في الدمية ترجمة الفقيه أبي نصر عبد الوهاب المالكي أورد فيها قول الشيخ أبي عامر الجرجاني:
أيها الواقف أنعم النظر في ما أوردته وتعجب من هذا الاتفاق وكون صدر الدين ابن الوكيل أخذ هذا المعنى الذي له في البيتين الأولين من قول الجرجاني، والجرجاني أتى بالقول بالموجب في بيتيه خفيا لأنه قال غضب وجر المرهف وقال أنا لك ابن الوكيل وهذا بقرينة تجريد المرهف لفظ تهديد فقلبه الجرجاني وقال بموجبه ونقله إلى التمليك، فأتى به الشيخ صدر الدين واضحا جليا صريحا ظاهرا، ومحل التعجب قوله أنا لك يا ابن الوكيل كأن هذا المعنى قال أنا لك يا ابن الوكيل تنظمني فيجيء أحسن وأبين وتكون أنت أحق بي من الجرجاني، وهذا اتفاق عجيب إلى الغاية ما مر بي مثله والظاهر أن الشيخ صدر الدين لما وقف على هذا المعنى تنبه له وأخذه فكان له وهو به أحق وهذا المعنى قد ابتكره الجرجاني أبو عامر وترك فيه فضلة فجاء الشيخ صدر الدين رحمه الله تعالى وجوده ولم يبق لأحد بعده مطمح إلى زيادة ولا مطمع في إفادة وما بقي إلا اختصار ألفاظه فقط فقلت:
وقال الشيخ صدر الدين:
وقال أيضا دوبيت:
وقال أيضا:
وقال:
وأنا شديد التعجب منه رحمه الله تعالى فإنه لم يكن عاجزا عن النظم الجيد وبعد هذا كان يأخذ أشياء من قصائد ومقاطيع ويدعيها، من ذلك أنه امتدح السلطان بقصيدة عندما فرغ القصر الأبلق من العمارة بقلعة الجبل وهي بمجموعها لابن التعاويذي أولها:
منها:
فغيره وقال: بنيت قصرا. وكان ينظم الشاهد شعرا على الفور إذا احتاج إليه وينشده تأييدا لما قاله وادعاه، من ذلك ما أخبرني به قاضي القضاة العلامة تقي الدين أبو الحسن السبكي عمن أخبره قال: ادعى يوما في الطائفة المنسوبة إلى ابن كرام أنهم الكرامية بتخفيف الراء فقال الحاضرون: المعروف فيهم تشديد الراء، فقال: لا التخفيف والدليل عليه قول الشاعر:
انتهى. قلت: وهذا في البديهة مخرع لا يتفق ذلك لأحد غيره من حسن هذا النظم وإبرازه في هذا القالب، هكذا شاعت هذه الواقعة عن الشيخ صدر الدين في الديار المصرية وكنا نعتقد صحتها دهرا حتى ظفرنا بالبيت المذكور وهو من جملة بيتين من شعر المتقدمين والأول منهما:
وكان الظفر بهذين البيتين في سنة أربع وأربعين وسبع مائة.
وجمع موشحاته وسمى الكتاب طراز الدار وهذا في غاية الحسن لأنه أخذ اسم كتاب ابن سناء الملك وهو دار الطراز فقلبه وقال طراز الدار لأن طراز الدار أحسن ما فيها، وكان الأدب قد امتزج بلحمه ودمه.
حكى لي قاضي القضاة تقي الدين أبو الحسن علي السبكي الشافعي قال: دخلت عليه في مرضه الذي توفي فيه فقلت: كيف تجدك؟ أو كيف حالك؟ فأنشدني:
فكان ذلك آخر عهدي به. أخبرني القاضي شهاب الدين ابن فضل الله قال: وكان عارفا بالطب والأدوية علما لا علاجا، فاتفق أن شكا إليه الأفرم سوء هضم فركب له سفوفا وأحضره، فلما استعمل منه أفرط به الإسهال جدا فأمسكه مماليك الأفرم ليقتلوه، وأحضر أمين الدين سليمان الحكيم لمعالجة الأفرم فعالجه باستفراغ بقية المواد التي اندفعت وأعطاه أمراق الفراريج ثم أعطاه الممسكات حتى صلح حاله، فلما صلحت حاله سأل الأفرم عن الشيخ صدر الدين فأخبره المماليك ما فعلوه به فأنكر ذلك عليهم ثم أحضره وقال له: يا صدر الدين جئت تروحني غلطا، وهو يضحك فقال له سليمان الحكيم: يا صدر الدين اشتغل بفقهك ودع الطب فغلط المفتي يستدرك وغلط الطبيب ما يستدرك، فقال له الأفرم: صدق لك لا تخاطر، ثم قال لمماليكه: مثل صدر الدين ما يتهم والله الذي جرى عليه منكم أصعب مما جرى علي وما أراد والله إلا الخير، فقبل يده وبعث إليه الأفرم لما انصرف جملة من الدراهم والقماش.
وأخبرني أيضا أن الشيخ تقي الدين ابن تيمية كان يقول عنه: ابن الوكيل ما كان يرضى لنفسه بأن يكون في شيء إلا غاية، ثم يعدد أنواعا من الخير والشر فيقول: في كذا كان غاية وفي كذا كان غاية.. قال: ولما أنكر البكري استعارة البسط والقناديل من الجامع العمري بمصر لبعض كنائس القبط في يوم من أيام مهماتهم ونسبت هذه الفعلة إلى كريم الدين وفعل ما فعل ثم طلع إلى حضرة السلطان وكلمه في هذا وأغلظ في القول له وكاد يجوز ذلك على السلطان لو لم يحل بعض القضاة الحاضرين على البكري وقال: ما قصر الشيخ كالمستزري به والمستهزئ بنكيره، فحينئذ أغلظ السلطان في القول للبكري فخارت قواه وضعف ووهن فازداد تأليب بعض الحاضرين عليه فأمر السلطان بقطع لسانه، فأتى الخبر إلى الشيخ صدر الدين وهو في زاوية السعودي فطلع إلى القلعة على حمار فاره اكتراه قصدا للسرعة فرأى البكري وقد أخذ ليمضي فيه ما أمر به فلم يملك دموعه أن تساقطت وفاضت على خده وبلت لحيته فاستمهل الشرطة عليه ثم أنه صعد الإيوان والسلطان جالس به وتقدم إلى السلطان بغير استئذان وهو باك فقال له السلطان: خير يا صدر الدين، فزاد بكاؤه ونحيبه ولم يقدر على مجاوبة السلطان فلم يزل السلطان يرفق به ويقول له: خير ما بك، إلى أن قدر على الكلام فقال له: هذا البكري من العلماء الصلحاء وما أنكر إلا في موضع الإنكار ولكنه لم يحسن التلطف، فقال له السلطان: إي والله أنا أعرف هذا ما هذا إلا حطبة، ثم انفتح الكلام ولم يزل الشيخ صدر الدين يرفق السلطان ويلاطفه حتى قال له: خذه وروح، فأخذه وانصرف، هذا كله والقضاة حضور وأمراء الدولة ملء الإيوان ما فيهم من ساعده ولا أعانه إلا أمير واحد شذ عني اسمه.
وحدث عنه من كان يصحبه في خلواته أنه كان إذا فرغ مما هو فيه قام فتوضأ ومرغ وجهه على التراب وبكى حتى يبل ذقنه بالدموع ويستغفر الله ويسأله التوبة حتى قال بعضهم: لقد رأيته وقد قام من سجوده ولصق بجدار الدار كأنه اسطوانة ملصقة.
وللشيخ صدر الدين ابن الوكيل رحمه الله تعالى ديوان موشحات منها قوله يعارض السراج المحار:
#قاسوا غلطا من حاز حسن البشر #بالبدر يلوح في دياجي الشعر #لا كيد ولا كرامة للقمر
#الصحة والسقام في مقلته #والجنة والجحيم في وجنته #من شاهده يقول من دهشته
#قد أنبته الله نباتا حسنا #وازداد على المدى سناء وسنا #من جاد له بروحه ما غبنا
#في نرجس لحظه وزهر الثغر #روض نضر قطافه بالنظر #قد دبج خده بنبت الشعر
#أحيى وأموت في هواه كمدا #من مات جوى في حبه قد سعدا #يا عاذل لا أترك وجدي أبدا
#القد وطرفه قناة وحسام #والحاجب واللحاظ قوس وسهام #والثغر مع الرضاب كأس ومدام
وأما الموشحة التي للسراج المحار فهي:
#ما أومض بارق الحمى أو خفقا #إلا وأجد لي الأسى والحرقا #هذا سبب لمحنتي قد خلقا
#أضنى جسدي فراق إلف نزحا #أفنى جلدي ودمع عيني نزحا #كم صحت وزند لوعتي قد قدحا
#أهوى قمرا حلو مذاق القبل #لم يكحل طرفه بغير الكحل #تركي اللحظات بابلي المقل
#ما حط لثامه وأرخى شعره #أو هز معاطفا رشاقا نضره #إلا ويقول كل راء نظره
#ما أبدع معنى لاح في صورته #أيناع عذاره على وجنته #لما سقي الحياة من ريقته
والمحار عارض بهذا قول أحمد بن حسن الموصلي وهو:
#لما برزت في الدوح تشدو وتنوح #أضحى دمعي بساحة السفح سفوح #والفكر نديمي في غبوق وصبوح
#ما لاح بريق رامة أو لمعا #إلا وسحاب عبرتي قد همعا #والجسم على المزمع هجري زمعا
#قلبي لهوى ساكنه قد خفقا #والوجد حبيس واصطباري طلقا #والصامت من سري بدمعي نطقا
#فالورد مع الشقيق من خديه #قد صانهما النرجس من عينيه #والآس هو السياج من صدغيه
#الصاد من المقلة من حققه #والنون من الحاجب من عرقه #واللام من العارض من علقه
#الملحة لمع الصلت بالإيضاح #والغرة بالتبيان كالمصباح #والمنطق نثر الدر بالإصلاح
#ما أبدع وضع الخال في وجنته #خط الشكل الرفيع من نقطته #قد حير إقليدس في هيئته
وقلت أنا معارضا لذلك وزدته توشيح الحشوات:

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 4- ص: 0