يعتبر كتاب ابن أبي حاتم إضافة إضافية مهمة إلى تاريخ الإمام البخاري الكبير، وقد ناقش أبو أحمد الحاكم أبا حاتم وأبا زرعة في هذا الكتاب فقال: عمدتم إلى كتاب البخاري فأعدتم إخراجه مرة ثانية، فقالوا له: إن عبد الرحمن بن أبي حاتم سأل بإذن والده وأبي زرعة عن الرواة الذين ذكرهم البخاري وغيرهم فأجاباه عن ذلك، فإذا حصل توافق بين آرائهما وآراء البخاري فذلك على سبيل الاتفاق العلمي.
مؤلف هذا الكتاب هو الإمام الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم، وأبو حاتم هو محمد بن إدريس الحنظلي الرازي، قال مسلمة بن قاسم عن ابن أبي حاتم: كان ثقة، جليل القدر، عظيم الذكر، إماماً من أئمة خراسان. وقال الذهبي: كتابه في الجرح والتعديل يقضي له بالرتبة المتقنة في الحفظ. وقد ذكر مقدمة ضافية لكتابه بين فيها سبب التأليف ومراتب الرواة، والأئمة الذين يستند إليهم في الجرح والتعديل، فقال في مقدمة كتابه: لمَّا لن نجد سبيلاً إلى معرفة شيء من معاني كتاب الله ولا من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إلا من جهة النقل والرواية، وجب أن نميز بين عدول النقلة والرواة وثقاتهم وأهل الحفظ والثبت والإتقان منهم، وبين أهل الغفلة والوهم وسوء الحفظ والكذب واختراع الأحاديث الكاذبة.
وبيّن أن ذلك بتبيين طبقاتهم، ومقادير حالاتهم، وتباين درجاتهم ليعرف من كان منهم في منزلة الانتقاد والجهبذة والتنقير والبحث عن الرجال والمعرفة بهم، وهؤلاء هم أهل التزكية والتعديل والجرح، ثم ذكر من يليهم ممن كان عدلاً في نفسه، وهم أهل العدالة، ومنهم الصدوق الورع الذي يهم أحياناً، وقد قبله الجهابذة والنقاد، ثم من يهم أحياناً من الطبقة الثانية، وفصل هذه الدرجات وفي آخرها قال -أي في آخر المقدمة- قال: بيان درجات رواة الآثار، وحدد ألفاظ الجرح والتعديل والمراتب، وقد سبق ذكر ذلك في المستوى الأول.
وقد استنبط هذه المراتب من حكم أئمة الجرح والتعديل على الرواة، ويمكن بجمع هذه الأحكام من كتابه، ووضع كل لفظ في مرتبته معرفة ما تشتمل عليه كل مرتبة من الألفاظ التي تعبر عن درجة الراوي في إطار هذه المرتبة، وماذا يَقصد الناقد بإطلاق لفظ معين في الحكم على الراوي؟ ثم مقارنة اجتهاد العلماء في الحكم على الراوي، ومعرفة اتفاقهم فيما اتفقوا فيه، وسبب اختلافهم فيما اختلفوا فيه وهو ما يعطي مدرسة النقد للرواة مقوماتها وأسسها على أساس من الدراسة الدقيقة، وكأني بابن أبي حاتم حينما يرد لفظ من ألفاظ التعديل أو الجرح في الراوي يحاول وضع الراوي الموصوف بهذا اللفظ في مرتبة من المراتب التي أصل عليها الكتاب.
وقد فصل بالنماذج المتعددة في المقدمة لأئمة النقل والتجريح المرتبة العليا من مراتب التوثيق، وهي مرتبة النقاد قال: فمن العلماء الجهابذة النقاد بالحجاز مالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وبالعراق سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وحماد بن زيد، وبالشام الأوزاعي، وترجم لكل كل منهم ترجمة مفصلة تدل لمَ قاله فبدأ بمالك من أهل المدينة، ثم بابن عيينة من أهل مكة، ثم بالثوري من أهل الكوفة، ثم بشعبة من أهل البصرة، وأتبعه بحماد بن زيد من أهلها أيضاً، ثم ذكر الأوزاعي من أهل الشام، ثم ذكر طبقة بعده.
فمن الكوفة ذكر وكيع بن الجراح، ومن البصرة ذكر يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ومن خراسان ذكر عبد الله بن المبارك، ومن الشام ذكر أبا إسحاق الفزاري، وأبا مسفر عبد الأعلى بن مسفر، ومن الطبقة الثالثة من أهل بغداد ذكر أحمد بن حنبل، وابن معين، ومن أهل البصرة ذكر علي بن المديني، ومن أهل الكوفة ذكر محمد بن عبد الله بن نمير، ثم ذكر بعدهم من أهل الري أبا زرعة الرازي وأباه أبا حاتم، ولم يذكر معهم أحد من طبقتيهم وبذلك انتهى من تفصيل أحوال الجهابذة النقاد.
وهؤلاء هم العلماء الذين بنى عليهم الحكم على الرواة في كتابه، وترجم لهم كرواة للحديث في ثنايا تراجم الكتاب، هذا عن المرتبة العليا عنده في التوثيق.
وقد اشتملت الأحكام الواردة في هؤلاء الأئمة على ألفاظ مختلفة، فعن أبي إسحاق الفزاري إبراهيم بن محمد قال أبو حاتم: ثقة مأمون إمام. وفي ترجمة مطرف بن معقل السعدي قال أبو حاتم: كان ثقة وزيادة. ويقول أبو حاتم: محمد بن عبد الله أي ابن محمد الرقاشي الثقة الرضا. وفي ترجمة محمد بن الوزير بن الحكم الدمشقي قال أبو حاتم: ثقة. وقال: محمد بن عبد الله بن الزبير الزبيري حافظ للحديث مجتهد له أوهام.