الصاحب ابن عباد اسماعيل بن العباس ن أبو القاسم الطالقاني: وزير غلب عليه الادب، فكان من نوادر الدهر علما وفضلا وتدبيرا وجودة رأي. استوزره مؤيد الدولة ابن بويه الديلمي ثم اخوه فخر الدولة. ولقب بالصاحب لصحبته مؤيد الدولة من صباه. فكان يدعوه بذلك. ولد في الطالقان (من اعمال قزوين) واليها نسبته، وتوفي بالري ونقل إلى اصبهان فدفن فيها. له تصانيف جليلة، منها (المحيط - خ) سبع مجلدات في الغة، وكتاب (الوزراء) و (الكشف عن مساويء شعر المتنبي - ط) و (الاقناع في العروض وتخريج القوافي - خ) و (عنوان المعارف وذكر الخلائف - خ) رسالة، و (الاعياد وفضائل النيروز) وقد جمعت رسائله في كتاب سمى (المختار من رسائل الوزير ابن عباد - خ) وله شعر فيه رقة وعذوبة. وتواقيعه اية الابداع في الانشاء.

  • دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 1- ص: 316

الصاحب بن عباد اسمه إسماعيل.

  • دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 7- ص: 357

الصاحب ابن عباد إسماعيل بن عباد بن العباس بن عباد الوزير الملقب بالصاحب كافي الكفاة أبو القاسم، من الطالقان وهي ولاية بين قزوين وأبهر، وهي عدة قرى يقع عليها هذا الاسم، وبخراسان بلدة غير هذه يقع عليها هذا الاسم خرج منها جماعة من العلماء. قال فيه الرستمي شاعره:

ومدحه أبو المرجى الأهوازي بقصيدة لما ورد الأهواز، منها:
فاستحسن جمعه بين اسمه ولقبه وكنيته واسم أبيه في بيت واحد، وذكر وصوله إلى بغداد وملكه إياها فقال:
#ويشرب الجند هنيئا بها فقال له: أمسك! فأمسك. فقال: تريد أن تقول:
#من بعد ماء الري ماء الفراه؟ فقال كذا والله! فضحك. وقال السلامي يهجوه:
وقال فيه أيضا يمدحه:
كان أبو القاسم وزير مؤيد الدولة بن ركن الدولة بن بويه وأخيه فخر الدولة وكانت وزارته ثماني عشرة سنة وشهرا واحدا. وهو أول من سمي الصاحب من الوزراء لأنه صحب مؤيد الدولة من الصبي وسماه الصاحب فغلب عليه هذا اللقب. وقيل: لأنه كان صاحب ابن العميد. وتوفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، وفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة مات والده عباد وهي السنة التي ولد فيها الصاحب أبو القاسم إسماعيل، وكان من أهل العلم، سمع أبوه أبا خليفة الفضل بن الحباب وغيره من البغداديين والرازيين والأصبهانيين وصنف كتابا في أحكام القرآن نصر فيه مذهب الاعتزال. ولما مات الصاحب أبو القاسم إسماعيل أغلقت له مدينة الري واجتمع الناس على باب قصره ينتظرون خروج جنازته، وحضر مخدومه فخر الدولة وسائر القواد وقد غيروا لباسهم، فلما خرج نعشه صاح الناس بأجمعهم صيحة واحدة وقبلوا الأرض، ومشى فخر الدولة أمام الجنازة وقعد للجنازة أياما. ورثاه أبو سعيد الرستمي فقال:
وقال أبو القاسم ابن أبي العلاء الشاعر الأصبهاني: رأيت في المنام كأن قائلا يقول لي: لم لم ترث الصاحب مع فضلك وشعرك؟ فقلت: ألجمتني كثرة محاسنه، فلم أدر بما أبدأ منها وخفت أن أقصر وقد ظن بي الاستيفاء لها. فقال: أجز ما أقوله! فقلت: قل! فقال:
#ثوى الجود والكافي معا في حفيرة فقلت:
#ليأنس كل منهما بأخيه. فقال:
#هما اصطحبا حيين ثم تعانقا. فقلت:
#ضجيعين في لحد بباب ذريه. فقال:
#إذا ارتحل الثاوون عن مستقرهم. فقلت:
#أقاما إلى يوم القيامة فيه. وكان الصاحب نادرة عصره وأعجوبة دهره في الفضائل والمكارم. أخذ الأدب عن ابن العميد وابن فارس وسمع من أبيه ومن غير واحد، وحدث وأملى. واتخذ لنفسه بيتا سماه بيت التوبة وجلس فيه أسبوعا وأخذ خطوط الفقهاء بصحة توبته، وخرج متحنكا متطلسا بزي أهل العلم وقال للناس: قد علمتم قدمي في العلم، فكل أقر له بذلك، وقال: قد علمتم أني متلبس بهذا الأمر الذي أنا فيه وجميع ما أنفقته من صغري إلى وقتي هذا من مال أبي وجدي، ثم مع هذا كله لا أخلو من تبعات، أشهد الله وأشهدكم أني تائب إلى الله عز وجل من كل ذنب أذنبته. ولبث في ذلك البيت أسبوعا، ثم خرج فقعد للإملاء، وحضر الناس الكثير إلى الغاية، كان المستملي الواحد لا يقوم بالإملاء حتى انضاف إليه ستة كل يبلغ صاحبه، وكان الأول ابن الزعفراني الحنفي وكان إذ ذاك رئيسهم، فما بقي في المجلس أحد من أهل العلم إلا وقد كتبه حتى القاضي عبد الجبار وهو قاضي القضاة بالري.
وقال الصاحب: حضرت مجلس ابن العميد عشية من عشايا رمضان وقد حضره الفقهاء والمتكلمون للمناظرة وأنا إذ ذاك في ريعان شبابي، فما تفوض المجلس وانصرف القوم إلا وقد حل الإفطار فأنكرت ذلك في نفسي واستقبحت إغفاله أمر إفطار الحاضرين مع وفور رياسته واتساع حاله، واعتقدت أن لا أخل بما أخل به إذا قمت مقامه. فكان الصاحب لا يدخل عليه أحد في رمضان بعد العصر كائنا من كان فيخرج من داره إلا بعد الإفطار عنده، وكانت داره لا تخلو كل ليلة من ليالي رمضان من ألف نفس مفطرة، وكانت صدقاته وقرباته تبلغ في شهر رمضان مبلغ ما يطلقه في السنة كلها. وكان في الصغر إذا أراد المضي إلى المسجد ليقرأ تعطيه والدته دينارا في كل يوم ودرهما وتقول له: تصدق بهذا على أول فقير تلقاه! فجعل هذا دأبه في شبابه إلى أن كبر وماتت والدته، وهو على هذا يقول للفراش في كل ليلة: اطرح تحت المطرح دينارا ودرهما! لئلا ينساه. فبقي على هذا مدة، ثم إن الفراش نسي ليلة من الليالي أن يطرح له الدرهم والدينار فانتبه وصلى وقلب المطرح ليأخذ الدرهم والدينار فما رآهما، فتطير من ذلك وظن أنه لقرب أجله، فقال للفراشين: شيلوا كل ما هنا من الفرش وأخرجوه وأعطوه لأول فقير تلقونه حتى يكون كفارة لتأخير هذا! فلقوا أعمى هاشميا يتكئ على يد امرأة، فقالوا: تقبل هذا! فقال: ما هو؟ فقالوا: مطرح ديباج ومخاد ديباج. فأغمي عليه، فأعلموا الصاحب بأمره فأحضره وسقاه شرابا بعدما رش عليه الماء، فلما أفاق سأله، فقال: اسألوا هذه المرأة إن لم تصدقوني، فقال له: اشرح! فقال: أنا رجل شريف ولي ابنة من هذه المرأة خطبها رجل فزوجناه، ولي سنتين آخذ القدر الذي يفضل عن قوتنا أشتري لها به قطعة صفراء وطفرية وما أشبه ذلك. فلما كان البارحة قالت أمها: اشتهيت لها مطرح ديباج ومخاد ديباج. فقلت: من أين لي ذلك؟ وجرى بيني وبينها خصومة إلى أن سألتها أن تأخذ بيدي وتخرجني حتى أمضي على وجهي، فلما قال لي هؤلاء هذا الكلام حق لي أن يغشى علي. فقال: لا يكون الديباج إلا مع ما يليق به، هاتم الأنماطيين! فجيء بهم فاشترى منهم الجهاز الذي يليق بذلك المطرح، وأحضر زوج الصبية ودفع إليه بضاعة سنية.
واستدعى في بعض الأيام شرابا، فأحضروا قدحا، فلما أراد أن يشربه قال له أحد خواصه: لا تشربه فإنه مسموم! وكان الغلام الذي ناوله واقفا، فقال للمحذر له: ما الشاهد على صحة قولك؟ قال: تجربه في الذي ناولك إياه! فقال: لا أستجيز ذلك ولا أستحله! قال: فجربه في دجاجة. قال: التمثيل بالحيوان لا يجوز. ورد القدح وأمر بقلبه، وقال للغلام: انصرف عني ولا تدخل داري! وأمر بإقرار جاريه وجرايته عليه وقال: لا يدفع اليقين بالشك، والعقوبة بقطع الرزق نذالة.
وقال الصاحب: أنفذ إلي أبو العباس تاش الحاجب رقعة في السر بخط صاحبه نوح بن منصور ملك خراسان يريدني فيها على الانحياز بحضرته ليلقي إلي مقاليد ملكه ويعتمدني لوزارته ويحكمني في ثمرات بلاده. قال: فكان فيما اعتذرت إليه من تركي امتثال أمره طول ذيلي وكثرة حاشيتي وصبيتي وحاجتي لنقل كتبي خاصة إلى أربعمائة جمل. فما الظن بما يليق بها من تجمل مثلي؟ وكان يقول لجلسائه: نحن بالنهار سلطان وبالليل إخوان. وكان مكي المنشد قديم الصحبة للصاحب والخدمة فأساء إليه غير مرة، فلما كثر ذلك منه أمر بحبسه في دار الضرب وكانت في جواره، فاتفق أن الصاحب صعد سطح داره وأشرف على دار الضرب فناداه مكي: {فاطلع فرآه في سواء الجحيم} فضحك الصاحب وقال: {اخسؤوا فيها ولا تكلمون} ثم أمر بإطلاقه. ودخل إلى الصاحب رجل لا يعرفه، فقال: أبو من؟ فأنشد الرجل:
فقال له: اجلس يا أبا القاسم! وقال الصاحب: ما قطعني إلا شاب ورد علينا إلى أصبهان بغدادي، فقصدني فأذنت له وكان عليه مرقعة وفي رجليه نعل طاق، فنظرت إلى حاجبي فقال له وهو يصعد إلي: اخلع نعلك! فقال: ولم؟ لعلي أحتاج إليها بعد ساعة! فغلبني الضحك وقلت: أتراه يريد أن يصفعني؟ وقال محمد بن المرزبان: كنا بين يديه ليلة فنعس، وأخذ إنسان يقرأ سورة الصافات، فاتفق أن بعض هؤلاء الأجلاف من أهل ما وراء النهر نعس أيضا وضرط ضرطة منكرة، فانتبه وقال: يا أصحابنا نمنا على {والصافات} وانتبهنا على {والمرسلات}. وقال أيضا: انفلتت ليلة ضرطة من بعض الحاضرين وهو في الجدل، فقال على حدته: كانت بيعة أبي بكر، خذوا فيما أنتم فيه! يعني أنه قيل في بيعة أبي بكر رضي الله عنه: إنما كانت فلتة. وقال قوم من أصبهان للصاحب‎: لو كان القرآن مخلوقا لجاز أن يموت، ولو مات القرآن في آخر شعبان بماذا كنا نصلي التراويح في رمضان؟ فقال الصاحب: لو مات القرآن لكان يموت رمضان ويقول: لا حياة لي بعدك، ولا نصلي التراويح ونستريح! ويقال: إن ابن أبي الحظيري أتى إليه يوما فقام له، فمر مسرعا لأجله فضرط فقال: يا مولانا الصاحب، هذا صرير التخت. فقال: بل صفير التحت! فذهب وقد استحيى وانقطع، فكتب إليه:
وكان الصاحب قد ولى عبد الجبار الأسداباذي قضاء القضاة بهمذان والجبال، فاستقبله يوما ولم يترجل له. وقال: أيها الصاحب، أريد أن أترجل للخدمة ولكن العلم يأبى ذلك. وكان يكتب في عنوان كتابه: إلى الصاحب، داعيه عبد الجبار بن أحمد، ثم كتب: وليه عبد الجبار بن أحمد، ثم كتب عبد الجبار بن أحمد. فقال الصاحب لندمائه: أطنه يؤول أمره إلى أن يكتب الجبار وقال ابن بابك: سمعت الصاحب يقول: مدحت -والعلم عند الله- بمائة ألف قصيدة شعرا، عربية وفارسية، وقد أنفقت أموالي على الشعراء والأدباء والزوار والقصاد، ما سررت بشعر ولا سرني شاعر كما سرني أبو سعيد الرستمي الأصبهاني بقوله:
#ورث الوزارة كابرا عن كابر. البيتين. كتب عامل إليه رقعة: إن رأى مولانا أن يأمر بإشغالي ببعض أشغاله فعل. فوقع الصاحب تحتها: من كتب إشغالي لا يصلح لأشغالي. ووقع إلى أبي الحسن الشقيقي البلخي: من نظر لدينه نظرنا لدنياه، فإن آثرت العدل والتوحيد بسطنا لك الفضل والتمهيد، وإن أقمت على الجبر فما لكسرك جبر. ولما كان ببغداد قصد القاضي أبا السائب عتبة بن عبيد لقضاء حقه، فتثاقل في القيام له وتحفز تحفزا أراه به ضعفا عن حركته وقصور نهضته، فأخذ الصاحب بضبعه وأقامه وقال: نعين القاضي على قضاء حقوق إخوانه! فخجل القاضي أبو السائب واعتذر إليه. ووجد يوما بعض ندمائه متغير السحنة، فقال: ما الذي بك؟ قال: حما. فقال له الصاحب: قه. فقال له النديم: وه. فاستحسن ذلك منه وخلع عليه. قلت: إنما قال له الصاحب قه لأنه لا يقال في ذلك إلا حميا فأضاف إليها القاف والهاء لتصير حماقه، فلطف النديم وظرف في زيادة الواو والهاء ليصير ذلك قهوة. وضرب الصاحب معلمه يوما، فأنشد يقول:
وسأل أبا الحسن علي بن عيسى الربعي عن مسألة فأجاب جوابا أخطأ فيه، فقال له: أصبت فقبل الأرض شكرا، فلما رفع رأسه قال له: عين الخطأ. وعزل الصاحب عاملا بقم فكتب إليه: أيها العامل بقم، قد عزلناك فقم! وما عظم وزيرا مخدومه وما عظم فخر الدولة الصاحب ابن عباد. قال الصاحب: ما استأذنت على فخر الدولة قط وهو في مجلس أنسه إلا انتقل إلى مجلس الحشمة وأذن لي فيه، وما أذكر أنه تبذل بين يدي أو مازحني قط إلا مرة واحدة، فإنه قال لي: بلغني أنك تقول: إن المذهب مذهب الاعتزال والنيك نيك الرجال. فأظهرت الكراهة لانبساطه وقلت: بنا من الجد ما لا نفرغ معه للهزل! ونهضت. وقال الصاحب يوما: كان أبو الفضل -يعني ابن العميد- سيدا ولكن لم يشق غبارنا ولا أدرك شوارنا ولا فسخ عذارنا ولا عرف غرارنا، ولا في علم الدين ولا فيما يرجع إلى نفع المسلمين. فأما ابنه فقد عرفتم قدره في هذا وفي غيره، طياش قلاش، ليس عنده إلا قاش وقماش، مثل ابن عياش، والهروي الحواشي. وولدت والشعري في طالعي، ولولا دقيقة لأدركت النبوة، وقد أدركت النبوة إذ قمت بالذب عنها والنصرة لها، فمن ذا يجارينا أو يمارينا أو يبارينا أو يغارينا ويسارينا ويشارينا؟ ولم يكن الصاحب يقوم لأحد من الناس ولا يشير إلى القيام ولا يطمع أحد في ذلك منه من أرباب السيوف أو الأقلام أميرا كان أو مأمورا. ونزل بالصيمرة عند عوده من الأهواز، فدخل عليه شيخ من المعتزلة زاهد يعرف بعبد الله بن إسحاق فقام له، فلما خرج قال: ما قمت لأحد مثل هذا القيام منذ عشرين سنة! وإنما فعل ذلك لزهده لأنه كان أحد أبدال دهره.
ولم يجتمع بباب أحد من الملوك والخلفاء والوزراء مثل ما اجتمع بباب الرشيد، كأبي نواس وأبي العتاهية والعتابي والنمري ومسلم بن الوليد وأبي الشيص وابن أبي حفصة ومحمد بن مناذر. وجمعت حضرة الصاحب بأصبهان والري وجرجان مثل أبي الحسين السلامي والرستمي وأبي القاسم الزعفراني وأبي العباس الضبي والقاضي الجرجاني وأبي القاسم ابن أبي العلاء وأبي محمد الخازن وأبي هاشم العلوي وأبي الحسن الجوهري وبني المنجم وابن بابك وابن القاشاني والبديع الهمذاني وإسماعيل الشاشي وأبي العلاء الأسدي وأبي الحسن الغويري وأبي دلف الخزرجي وأبي حفص الشهرزوري وأبي معمر الإسماعيلي وأبي الفياض الطبري وأبي بكر الخوارزمي، ومدحه مكاتبة الرضي الموسوي وأبو إسحاق الصابي وابن الحجاج وابن سكرة وابن نباتة وغيرهم. وأما المتنبي فإنه قال: بلغني أن بأصبهان غليما معطاء، ولم يدخل أصبهان ولا مدحه، وكان الصاحب لما بلغه وصوله تلك البلاد أباع دارا له بخمسين ألف درهم وأرصدها للمتنبي إن جاء إليه ومدحه، فلما بلغه ما قاله المتنبي أعرض عنه وتتبع شعره وأملي رسالة على ذم شعره. وأما أبو حيان التوحيدي فإنه أملى في ذمه وذم ابن العميد مجلدة سماها ثلب الوزيرين أتى فيها بقبائح، فمن ذلك ما ذكره في حق الصاحب أنه ناظر بالري يهوديا هو رأس الجالوت في إعجاز القرآن فراجعه اليهودي فيه طويلا وماتنه قليلا وتنكد عليه حتى احتد وكاد ينقد، فلما علم أنه قد سجر تنوره وأسعط أنفه قال: أيها الصاحب، فلم تتقد وتستشيط وتلتهب وتختلط؟ كيف يكون القرآن عندي آية ودلالة ومعجزة من جهة نظمه وتأليفه؟ فإن كان النظم والتأليف بديعين وكان البلغاء، فيما يدعى، عنه عاجزين وله مذعنين وها أنا أصدق عن نفسي وأقول: ما عندي أن رسائلك وكلامك وفقرك وما تؤلفه وتباده به نظما ونثرا هو فوق ذلك أو مثل ذلك وقريب منه وعلى حال ليس يظهر لي أنه دونه وأن ذلك سيستعلى عليه بوجه من وجوه الكلام أو بمرتبة من مراتب البلاغة! فلما سمع ابن عباد هذا فتر وخمد وسكن عن حركته وانحمص ورمه به وقال: ولا هكذا، يا شيخ! كلامنا حسن وبليغ، وقد أخذ من الجزالة حظا وافرا ومن البيان نصيبا ظاهرا ولكن القرآن له المزية التي لا تجهل والشرف الذي لا يخمل، وأين ما خلقه الله على أتم حسن وبهاء مما يخلقه العبد بطلب وتكلف؟ هذا كله يقوله وقد خبا حميه وتراجع مزاجه وصارت ناره رمادا مع إعجاب شديد قد شاع في أعطافه وفرح غالب قد دب في أسارير وجهه لأنه رأى كلامه شبهة لليهود وأهل الملل. وقال: كان ينشد شعره وهو يلوي رقبته ويجحظ حدقته وينزي أطراف منكبيه ويتشايل ويتمايل، كأنه {الذي يتخبطه الشيطان من المس}.
وقال: دخل يوما دار الإمارة الفيرزان المجوسي في شيء خاطبه به، فقال: إنما أنت مجش محش مخش لا تهش ولا تبش ولا تمتش! قال الفيرزان: أيها الصاحب، برئت من النار إن كنت أدري ما تقول! إن كان رأيك أن تشتمني فقل ما شئت بعد أن أعلم، فإن العرض لك والنفس لك فداء: لست من الزنج ولا من البربر، كلمنا على العادة التي عليها العمل! والله ما هذا من لغة آبائك الفرس ولا من أهل دينك من أهل السواد، وقد خالطنا الناس فما سمعنا منهم هذا النمط! فقام الصاحب مغضبا. قال: وكان كلفه بالسجع في الكلام والقلم عند الجد والهزل يزيد على كلف كل من رأيناه. قلت لابن المسيب: أين يبلغ ابن عباد في عشقه للسجع؟ قال: يبلغ به ذلك لو أنه رأى سجعة ينحل بموقعها عروة الملك ويضطرب بها حبل الدولة ويحتاج من أجلها إلى غرم ثقيل وكلفة صعبة وتجشم أمور وركوب أهوال لكان لا يخف عليه أن يفرج عنها ويخليها بل يأتي بها ويستعملها ولا يعبأ بجميع ما وصفت من عاقبتها. وقال فيه بعض الشعراء:
قلت: وعلى الجملة، من رجالات الوجود وأين آخر مثله؟ ولكن أبو حيان زاد في التمالئ عليه لنقص حظ ناله منه فتمحل له مثالب وادعى له معايب:
ومن تصانيف الصاحب: المحيط باللغة عشر مجلدات، رسائله، الكافي رسائل، كتاب الزيدية، الأعياد وفضائل النوروز، الإمامة في تفضيل علي بن أبي طالب وتصحيح إمامة من تقدمه، الوزراء لطيف، عنوان المعارف في التاريخ، الكشف عن مساوئ المتنبي. مختصر أسماء الله تعالى وصفاته، العروض الكافي، جوهرة الجمهرة، نهج السبيل في الأصول، أخبار أبي العيناء، نقض العروض، تاريخ الملل واختلاف الدول، الزيدين، ديوان شعره. ومن شعره:
هو مأخوذ من شعر ابن المعتز:
ومن شعره الصاحب:
ومنه:
ومنه:
وكتب إلى أبي الحسن الطبيب:
وقال لما حضرته الوفاة:
ومنه:
ومنه:
ومنه:
ومنه:
ومنه:
وقال يهجو:
وقال أيضا:
وقال لما أتته البشارة بسبطه عباد بن علي الحسني، ولم يكن للصاحب ولد إلا أمه، وكان زوجها من أبي الحسن علي بن الحسين الحسني الهمذاني، وكان شاعرا أديبا:
ثم قال:
وقد ذكرت ذلك الشعراء في أشعارها. فمن ذلك قول أبي الحسن الجوهري:
لما روت الشيعة أن بالطالقان كنزا من ولد فاطمة يملأ الله به الأرض عدلا كما ملئت جورا.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 9- ص: 0

الصاحب بن عباد اسمه إسماعيل بن عباد أبو القاسم.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 16- ص: 0

الصاحب بن عباد
وأما الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد، فإنه كان غزير الفضل، متفنناً في العلوم، أخذ عن أبي الحسين بن فارس، وأبي الفضل بن العميد.
ويحكى أنه لما رجع من بغداد دخل على الأستاذ أبي الفضل بن العميد، فقال له: كيف وجدت بغداد؟ قال: بغداد في البلاد، مثل الأستاذ في العباد.
وأنشده الصاحب:

وكان بين الصاحب وبين أبي بكر الخوارزمي شيء، فبلغ الصاحب عنه أنه هجاه بقوله:
وظلمه بهذا القول، فلما بلغ الصاحب موت أبي بكر أنشد:
وصنف تصانيف كثيرة: كالوقف والابتداء، والعروض، وجوهرة الجمهرة، والأخذ على أبي الطيب المتنبي، وكتاب الرسائل، إلى غير ذلك.
ويحكى عنه أنه لما صنف كتاب الوقف والابتداء كان ذلك في عنفوان شبابه، فأرسل إليه أبو بكر بن الأنباري وقال له: إنما صنفت كتاب الوقف والابتداء بعد أن نظرت في سبعين كتاباً تتعلق بهذا العلم، فكيف صنعت هذا الكتاب مع حداثة سنك؟ فقال الصاحب للرسول: قل للشيخ: نظرت في النيف وسبعين التي نظرت فيها، ونظرت في كتابك أيضاً.
وكان الصاحب صاحب بلاغة وفصاحة، سمح القريحة؛ يحكى أنه دخل رجل فجعل يكرر السجود، فقال له: تسجد كأنك هدهد!
ويحكى أيضاً أنه دخل عليه رجل فقال له: من أين أنت! فقال: من ’’بنج ده’’، وهي بالفارسية خمس قرى، فقال له الصاحب: يحمق من كان من قرية واحدة، فكيف من كان من خمس قرى!
ويحكى أنه رأى أحد ندمائه متغير اللون، فقال له: ما الذي بك؟ قال: حمى! فقال له الصاحب: ’’قه’’، فقال النديم: ’’ده’’، فاستحسن الصاحب ذلك منه، وخلع عليه.
وكان الصاحب يذهب إلى مذهب أهل العدل، وفي ذلك يقول:
وتوفي سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، في خلافة العادل بالله تعالى.

  • مكتبة المنار، الزرقاء - الأردن-ط 3( 1985) , ج: 1- ص: 238

  • دار الفكر العربي-ط 1( 1998) , ج: 1- ص: 281

  • مطبعة المعارف - بغداد-ط 1( 1959) , ج: 1- ص: 222