أبو العتاهية الشاعر اسمه إسماعيل بن القاسم العنزي الكوفي.
أبو إسحاق إسماعيل بن القاسم بن سويد ابن كيسان العنزي مولى عنزة العيني الكوفي الشاعر المشهور الملقب أبو العتاهية
ولادته ووفاته
قال ابن خلكان: ولد سنة 130 بعين التمر (ولذلك قيل له العيني) بليدة بالحجاز قرب المدينة وقيل أنها من أعمال سقي الفرات وقال ياقوت الحموي في كتابه المشترك أنها قرب الأنبار (انتهى) أقول الصواب إن مولده بعين التمر بالعراق لا بالحجاز وهي التي يقال لها اليوم شفاثا وان صح إن بالحجاز ما يسمى عين التمر فليس مولده به وفي رواية في الأغاني إن مولده بالكوفة.
وتوفي يوم الاثنين لثمان أو ثلاث خلون من جمادى الآخرة سنة 211 وقيل 213 وقيل 210 وقيل 209 حكى هذه الأقوال أبو الفرج في الأغاني ولكن قوله في الأبيات الآتية عشت تسعين حجة يدل على أنه مات سنة 220 على الأقل وكانت وفاته ببغداد وقبره على نهر عيسى قبالة قنطرة الزياتين قاله في الأغاني. وأوصى إن يكتب على قبره:
إن عيشا يكون آخره المو | ت لعيش معجل التنغيص |
وقيل أوصى إن يكتب عليه:
إذن حي تسمعي | واسمعي ثم عي وعي |
أنا رهن بمضجعي | فاحذروا مثل مصرعي |
عشت تسعين حجة | أسلمتني لمضجعي |
كم ترى الحي ثابتا | في ديار التزعزع |
ليس زاد سوى التقى | فخذي منه أو دعي |
أمه
في الأغاني أمه أم زيد بنت زياد المحاربي مولى بني زهرة (انتهى) فهو من قبل الأب مولى عنزة ومن قبل الأم مولى بني زهرة.
نسبته
العنزي نسبة إلى قبيلة عنزة بفتح العين المهملة والنون بعدها زاي وهاء سميت باسم عنزة بن أسد بن ربيعة قاله ابن خلكان. ويظهر من الأغاني أنهم من عنزة نسبا وأن جدهم أسر فاشتراه عنزي وأعتقه فكان ولاؤه أيضا لعنزة روى ذلك عن محمد بن سلام قال كان محمد بن أبي العتاهية يذكر إن أصلهم من عنزة وان جدهم كيسان كان من أهل عين التمر فلما غزاها خالد بن الوليد كان جدهم كيسان يتيما يكفله قرابة له من عنزة فسباه خالد فسال أبو بكر كيسان عن نسبه فأخبره أنه من عنزة فاستوهبه منه عباد بن رفاعة العنزي فاعتقه فتولى عنزة (انتهى) ومن ذلك يعلم أنه من عين التمر بالعراق لا بالحجاز كما مر.
كنيته ولقبه
في الأغاني كنيته أبو إسحاق وأبو العتاهية لقب غلب عليه. وفيه بسنده عن ميمون بن هارون عن بعض مشايخه أنه كني بأبي العتاهية لأنه كان يحب الشهرة والمجون والتعته وبسنده عن محمد بن موسى بن حماد إن المهدي قال له يوما أنت إنسان متحذلق معته فاستوت له من ذلك كنية غلبت عليه دون اسمه وكنيته ويقال للرجل المتحذلق عتاهية ويقال أبو عتاهية بدون ال (انتهى) وفي تاريخ بغداد أبو العتاهية لقب لقب به لاضطراب كان فيه وقيل بل كان يحب المجون والخلاعة فكني لعتوه (لعتوهه) أبا العتاهية.
صفته
في الأغاني بسنده عن محمد بن موسى كان أبو العتاهية نظيفا ابيض اللون سود الشعر له وفرة جعدة وهياة حسنة ولباقة وحصافة وفي موضع آخر منه عن النوفلي أبو العتاهية كان مقبحا طويل الوجه كأنه ينظر في سيف.
أصله ومنشؤه
قد عرفت إن أصله من عين التمر بالعراق وفي الأغاني منشؤه بالكوفة ثم روى عن ميمون عن بعض مشايخه قال وبلده الكوفة وبلد آبائه وبها مولده ومنشؤه وباديته وفي تاريخ بغداد: أصله من عين التمر ومنشؤه الكوفة ثم سكن بغداد.
أقوال العلماء فيه
في الأغاني قال الشعر فبرع فيه وتقدم ويقال أطبع الناس بشار والسيد وأبو العتاهية وما قدر أحد على جمع شعر هؤلاء الثلاثة لكثرته وكان غزير البحر لطيف المعاني سهل الألفاظ كثير الافتنان قليل التكلف إلا أنه كثير الساقط المرذول مع ذلك وأكثر شعره في الزهد والأمثال وله أوزان ظريفة قالها مما لم يتقدمه الأوائل فيها (انتهى) وفي شذرات الذهب: هو من مقدمي المولدين ومن طبقة بشار بن برد وأبي نواس (انتهى) وفي تاريخ بغداد: هو أحد من سار قوله وانتشر شعره وشاع ذكره ويقال إن أحدا لم يجتمع له ديوانه بكماله لعظمه وكان يقول في الغزل والمديح والهجاء قديما ثم تنسك وعدل عن ذلك إلى الشعر في الزهد وطريقة الوعظ فأحسن القول فيه وجود وأربى على كل من ذهب ذلك المذهب وأكثر شعره حكم وأمثال وكان سهل القول قريب المأخذ بعيدا من التكلف متقدما في الطبع (انتهى).
مكانته في الشعر
كان أبو العتاهية يفضل على شعراء عصره وبعضهم يقول أنه أشعر الناس هذا وفي عصره من فحول الشعراء مثل أبي نواس وبشار والعتابي والنمري ومسلم بن الوليد وأبي الشيص ومروان بن أبي حفصة والسيد الحميري وأشجع السلمي ودعبل الخزاعي ومحمد بن أمية ومحمد بن مناذر وأبي المشمقمق وغيرهم وفي الأغاني يقال إن أكثر الناس شعرا في الجاهلية والإسلام ثلاثة بشار وأبو العتاهية والسيد فإنه لا يعلم إن أحدا قدر على تحصيل شعر أحد منهم أجمع (انتهى) وكان أبو نواس مع شهرته وعلو مكانه في الشعر يعترف له بأنه أشعر منه ويقول عن شعره أفسحر هذا ففي الأغاني بسنده أنه قيل لأبي نواس وقد أنشد شعرا: أنت أشعر الناس فقال أما والشيخ حي يعني أبا العتاهية فلا. وفيه بسنده أنه قرئ بعض شعره على أبي نواس فقال قد والله أجاد ولم يقل فيه سوءا. وفي تاريخ بغداد بسنده عن ابن أبي شيخ قال بكرت إلى سكة ابن نيبخت فرأيت أبا نواس فجلست إليه فمر بنا أبو العتاهية على حمار فسلم ثم أوما برأسه إلى أبي نواس وأنشأ يقول:
لا ترقدن لعينك السهر | وانظر إلى ما تصنع الغير |
انظر إلى غير مصرفة | أن كان ينفع عينك النظر |
وإذا سالت فلم تجد أحدا | فسل الزمان فعنده الخبر |
أنت الذي لا شيء تملكه | وأحق منك بما لك القدر |
فنظر إلي أبو نواس ثم قال أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون. وفيه بسنده إن أبا نواس كان جالسا في بعض طرق بغداد والناس يمرون به وهو ممدود الرجل بين بني هاشم والقواد ووجوه أهل بغداد فكل يسلم عليه فلا يقوم إلى أحد ولا يقبض رجله إذا اقبل شيخ على حمار فوثب إليه أبو نواس وامسك الشيخ عليه حماره واعتنقا وجعل أبو نواس يحادثه وهو قائم على رجليه حتى رئي أبو نواس يرفع إحدى رجليه ويضعها على الأخرى مستريحا من الإعياء ثم انصرف الشيخ ورجع أبو نواس إلى مكانه فقيل له من هذا الشيخ الذي رأيناك تعظمه هذا الإعظام وتجله هذا الإجلال فقال: هذا إسماعيل بن القاسم أبو العتاهية فقال له السائل لم أجللته هذا الإجلال وساعة منك عند الناس أكثر منه قال ويحك لا تقل فوالله ما رأيته قط إلا توهمت أنه سماوي وأنا ارضي (انتهى) وكان بشار وهو الشاعر المقدم يقول أنه أشعر زمانه ويطرب عند سماع شعره ويقول لأشجع وأبو العتاهية ينشد: انظر هل طار الخليفة عن فرشه ففي الأغاني بسنده قيل لبشار من أشعر أهل زماننا فقال مخنث أهل بغداد يعني أبا العتاهية. وبسنده أنه جلس المهدي للشعراء يوما فإذن لهم وفيهم بشار وأشجع وأبو العتاهية وكان أشجع يأخذ عن بشار قال أشجع فلما سمع بشار كلام أبي العتاهية قال يا أخا سليم أهذا ذلك الكوفي الملقب قلت نعم قال لا جزى الله خيرا من جمعنا معه ثم قال له المهدي انشد فقال ويحك أو يبدأ به فيستنشد أيضا فقلت قد ترى فأنشد:
إلا ما لسيدتي ما لها | تدل فاحمل ادلالها |
ألا إن جارية للإما | م قد اسكن الحب سربالها |
مشت بين حور قصار الخطأ | تجاذب في المشي اكفالها |
وقد اتعب الله نفسي بها | واتعب باللوم عذالها |
قال أشجع: فقال لي بشار ويحك يا أخا سليم ما أدري من أي أمريه أعجب أمن ضعف شعره أم من تشبيبه بجارية الخليفة يسمع ذلك بإذنه قال المؤلف أعجب شيء ما بلغ به هؤلاء المتسمون بالخلافة من الخلاعة وقلة الغيرة حتى صار الشعراء يشببون بجواريهم في مجلسهم العام ولكن من يبرز جواريه تغني إمام الأجانب لا يمكن إن يغار من التشبيب بها. قال حتى أتى على قوله:
أتته الخلافة منقادة | إليه تجرر أذيالها |
ولم تك تصلح إلا له | ولم يك يصلح إلا لها |
ولو رامها أحد غيره | لزلزلت الأرض زلزالها |
ولو لم تطعه بنات القلوب | لما قبل الله أعمالها |
وان الخليفة من بغض لا | إليه ليبغض من قالها |
قال أشجع فقال لي بشار وقد اهتز طربا ويحك يا أخا سليم أترى الخليفة لم يطر عن فرشه طربا لما يأتي به هذا الكوفي.
(ومروان بن أبي حفصة) وهو من مشاهير شعراء عصره ومقدم عند بني العباس بانحرافه عن الطالبيين يمدح الخليفة العباسي بقصيدة طويلة ويمدحه أبو العتاهية وهو شيعي زيدي ببيتين فيسوى بينهما في العطاء ففي تاريخ بغداد بسنده عن العتبي قال رئي مروان بن أبي حفصة واقفا بباب الجسر كئيبا آسفا ينكت بسوطه في معرفة دابته فقيل له يا أبا السمط ما الذي نراه بك قال أخبركم بالعجب مدحت أمير المؤمنين فوصفت له ناقتي من خطامها إلى خفيها ووصفت الفيافي من اليمامة إلى بابه أرضا أرضا ورملة رملة حتى إذا أشفيت منه على غنى الدهر جاء ابن بياعة النخاخير يعني أبا العتاهية فأنشده بيتين فضعضع بهما شعري وسواه في الجائزة بي وهما:
إن المطايا تشتكيك لأنها | تطوي إليك سباسبا ورمالا |
فإذا رحلن بنا رحلن مخفة | وإذا رجعن بنا رجعن ثقالا |
ومسلم بن الوليد على تقدمه يقول له وقد سمع بعض شعره: لا والله يا أبا إسحاق لا يبالي من أحسن إن يقول مثل هذا ما فاته من الدنيا رواه في الأغاني. وأبو تمام الطائي ومكانته في الشعر والأدب لا تلحق يقول عن بعض شعره أنه ما شركه فيه أحد. ففي الأغاني بسنده قال أبو تمام الطائي: لأبي العتاهية خمسة أبيات ما شركه فيها أحد ولا قدر على مثلها متقدم ولا متأخر وهي قوله:
الناس في غفلاتهم | ورحى المنية تطحن |
وقوله لأحمد بن يوسف:
ألم تر إن الفقر يرجى له الغنى | وأن الفتى يخشى عليه من الفقر |
وقوله في موسى الهادي:
ولما استقلوا بأثقالهم | وقد أزمعوا للذي أزمعوا |
فزنت التفاتي بآثارهم | واتبعتهم مقلة تدمع |
وقوله:
هب الدنيا تصير إليك عفوا | أليس مصير ذاك إلى زوال |
وفي تاريخ بغداد بسنده عن أبي تمام قال: تكتب من شعر أبي العتاهية خمسة أبيات فان أحدا لم يشركه فيها ولا تهيأ لأحد مثلها وذكر الخمسة المتقدمة. وابن الأعرابي مع علو كعبه في معرفة الشعر ونقده يقول ما رأيت شاعرا قط أطبع ولا أقدر على بيت منه وما أحسب مذهبه إلا ضربا من السحر. ففي الأغاني حدث ابن الأعرابي إن الرشيد حم فصار أبو العتاهية إلى الفضل بن الربيع برقعة فيها أبيات في حق الرشيد فوصل إليه بذلك مال جليل فقال رجل بالمجلس لابن الأعرابي ما هذا الشعر بمستحق لما قلت لأنه شعر ضعيف فقال ابن الأعرابي وكان أحد الناس: الضعيف والله عقلك ألأبي العتاهية تقول أنه ضعيف الشعر فوالله ما رأيت شاعرا قط أطبع ولا أقدر على بيت منه وما أحسب مذهبه إلا ضربا من السحر ثم انشد له:
قطعت منك حبائل الآمال | وحططت عن ظهر المطي رحالي |
ووجدت برد اليأس بين جوانحي | فأرحت من حل ومن ترحال |
يا أيها البطر الذي هو من غد | في قبره متمزق الأوصال |
حذف المنى عند المشمر في الهدى | وأرى مناك طويلة الأذيال |
حيل ابن آدم في الأمور كثيرة | والموت يقطع حيلة المحتال |
قست السؤال فكان أعظم قيمة | من كل عارفة جرت بسؤال |
فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلا | فأبذله للمتكرم المفضل |
وإذا خشيت تعذرا في بلدة | فاشدد يديك بعاجل الترحال |
واصبر على غير الزمان فإنما | فرج الشدائد مثل حل عقال |
ثم قال للرجل هل تعرف أحدا يحسن إن يقول مثل هذا الشعر فقال له الرجل يا أبا عبد الله جعلني الله فداءك أني لم أردد عليك ما قلت ولكن الزهد مذهب أبي العتاهية وشعره في المديح ليس كشعره في الزهد فقال أفليس هو الذي يقول في المديح:
وهارون ماء المزن يشفى به الصدا | إذا ما الصدي بالريق غصت حناجره |
وأوسط بيت في قريش لبيته | وأول عز في قريش وآخره |
وزحف له تحكي البروق سيوفه | وتحكي الرعود القاصفات حوافره |
إذا حميت شمس النهار تضاحكت | إلى الشمس فيه بيضه ومغافره |
إذا نكب الإسلام يوما بنكبة | فهارون من بين البرية ثائره |
ومن ذا يفوت الموت والموت مدرك | كذا لم يفت هارون ضد ينافره |
فتخلص الرجل من شر ابن الاعرابي بان قال له القول كما قلت وما كنت سمعت له مثل هذين الشعرين وكتبهما عنه. هذا مع إن صاحب الأغاني روى إن ابن الأعرابي كان يعيب أبا العتاهية ويثلبه. فإذا كان هذا قوله فيه وهو يعيبه ويثلبه كان أقرب إلى الصحة.
والفراء يحيى بن زياد الأقطع من مشاهير علماء العربية يعترف بأنه أشعر أهل عصره. ففي الأغاني بسنده عن يحيى بن زياد الفراء قال لي جعفر بن يحيى يا أبا زكريا أزعم إن أبا العتاهية أشعر أهل هذا العصر فقلت هو والله أشعرهم عندي. والورد بن زيد الخزاعي أخو دعبل وهو من معاريف شعراء ذلك العصر يقول أنه أشعر الإنس والجن. ففي الأغاني بسنده قيل لورد بن زيد بن رزين الشاعر من أشعر أهل زمانه؟ قال: أبو نواس قلت فما تقول في أبي العتاهية فقال أبو العتاهية أشعر الإنس والجن.
وهذا سلم الخاسر ومكانته في الشعر غير مجهولة يقول أنه أشعر الجن والإنس ففي الأغاني بسنده إن موسى الشهرزوري قال لسلم الخاسر أنشدني لنفسك قال ولكن أنشدك لأشعر الجن والإنس لأبي العتاهية ثم أنشدني قوله:
سكن يبقى له سكن | ما بهذا يؤذن الزمن |
نحن في دار يخبرنا | ببلاها ناطق لسن |
دار سوء لم يدم فرح | لامرئ فيها ولا حزن |
في سبيل الله أنفسنا | كلنا بالموت مرتهن |
كل نفس عند ميتتها | حظها من مالها الكفن |
أن مال المرء ليس له | منه إلا ذكره الحسن |
وعن رجاء بن مسلمة قلت لسلم الخاسر من أشعر الناس فقال إن شئت أخبرتك بأشعر الجن والإنس فقلت إنما أسألك عن الإنس فان زدتني الجن فقد أحسنت فقال أشعرهم الذي يقول: سكن يبقى له سكن الأبيات مع إن أبا العتاهية هجاه كما في الأغاني بقوله:
تعالى الله يا سلم بن عمرو | أذل الحرص أعناق الرجال |
وكان بينهما منافرة والجماز كان ابن أخت سلم واقتص لخاله بالأبيات التي أولها: ما أقبح التزهيد من واعظ كما يأتي.
وهذا العتابي كلثوم بن عمرو وهو من لا يجهل مكانه في الشعر يقول أنه أشعر الناس الأولين والآخرين في وقته ففي الأغاني بسنده قال العتابي لمحمد بن النضر أنشدني لشاعر العراق يعني أبا نواس فأنشده وقال ظننتك تقول هذا لأبي العتاهية فقال لو أردت أبا العتاهية لقلت لك أنشدني لأشعر الناس ولم اقتصر على العراق. وبسنده قال العتابي الشاعر: لكم يا أهل العراق شاعر منوه الكنية ما فعل فذكر القوم أبا نواس فانترهم ونفض يده وقال ليس ذلك فقيل لعلك تريد أبا العتاهية قال نعم ذاك أشعر الأولين والآخرين في وقته. وفي الأغاني بسنده عن مصعب بن عبد الله: أبو العتاهية أشعر الناس بقوله:
تعلقت بآمال | طوال أي آمال |
وأقبلت على الدنيا | ملحا أي إقبال |
أيا هذا تجهز | لفراق الأهل والمال |
فلا بد من الموت | على حال من الحال |
قال مصعب: هذا كلام سهل لا حشو فيه ولا نقصان يعرفه العاقل ويقر به الجاهل. وعن عبد الله بن عبد العزيز العمري أشعر الناس أبو العتاهية حيث يقول:
ما ضر من جعل التراب مهاده | أن لا ينام على الحرير إذا قنع |
صدق والله وأحسن.
ومدح أبو العتاهية عمرو بن العلاء مولى عمرو بن حريث صاحب المهدي وكان ممدحا فأمر له بسبعين ألف درهم فقال بعض الشعراء كيف فعل هذا بهذا الكوفي واي شيء مقدار شعره فبلغه فأحضره فقال إن الواحد منكم ليدور على المعنى فلا يصيبه ويتعاطاه فلا يحسنه وهذا كان المعاني تجمع له مدحني فقصر التشبيب وقال:
إني أمنت من الزمان وريبه | لما علقت من الأمير حبالا |
لو يستطيع الناس من إجلاله | لحذوا له حر الوجوه نعالا |
إن المطايا تشتكيك لأنها | قطعت إليك سباسبا ورمالا |
فإذا وردن بنا وردن مخفة | وإذا رجعن بنا رجعن ثقالا |
وعن المعلى بن عثمان قيل لأبي العتاهية كيف تقول الشعر قال ما أردته قط إلا مثل لي فأقول ما أريد واترك ما لا أريد.
وعن روح بن الفرج الحرمازي سمعت أبا العتاهية يقول: لو شئت إن اجعل كلامي كله شعرا لفعلت.
وقال محمد بن أبي العتاهية سئل أبي هل تعرف العروض قال أنا أكبر من العروض وله أوزان لا تدخل في العروض.
وقيل لأبي العتاهية: أما يصعب عليك شيء من الألفاظ فتحتاج فيه إلى استعمال الغريب كما يحتاج إليه سائر من يقول الشعر قال لا فقال: أني لأحسب ذلك من ركوبك القوافي السهلة قال: فاعرض علي ما شئت من القوافي الصعبة فقال قل على مثل البلاغ فقال من ساعته:
أي عيش يكون أبلغ من عيـ | ـش كفاف قوت بقدر البلاغ |
صاحب البغي ليس يسلم منه | وعلى نفسه بغى كل باغي |
رب ذي نعمة تعرض منها | حائل بينه وبين المساغ |
أبلغ الدهر في مواعظه بل | زاد فيهن لي على الإبلاغ |
غبنتني الأيام عقلي ومالي | وشبابي وصحتي وفراغي |
واجتمعت الشعراء على باب الرشيد فإذن لهم فدخلوا وأنشدوا فأنشد أبو العتاهية:
يا من تبغي زمنا صالحا | صلاح هارون صلاح الزمن |
كل لسان هو في ملكه | بالشكر في إحسانه مرتهن |
فأدهش له الرشيد وقال له أحسنت والله وما خرج في ذلك اليوم أحد من الشعراء بصلة غيره. وأجرى الرشيد الخيل فجاء فرس يقال له المشمر سابقا وكان الرشيد معجبا به فأمر إن يقولوا فيه فبدرهم أبو العتاهية فقال:
جاء المشمر والأفراس يقدمها | هونا على رسلة منا وما انبهرا |
وخلف الريح حسرى وهي جاهدة | ومر يختطف الأبصار والنظرا |
فأجزل صلته وما جسر أحد بعد أبي العتاهية إن يقول فيه شيئا.
المقايسة بينه وبين أبي نواس
في الأغاني قال الحرمازي: شهدت أبا العتاهية وأبا نواس في مجلس وكان أبو العتاهية أسرع الرجلين جوابا عند البديهة وأبو نواس أسرعهما في قول الشعر فإذا تعاطيا جميعا الشرعة فضله أبو العتاهية وإذا تمهلا فضله أبو نواس.
مذهبه
كان يتشيع بمذهب الزيدية ولعله أخذ التشيع من الكوفة التي كان أهلها شيعة إلا ما ندر ولكنه مع تشيعه كان يقول بالجبر كما ستعرف وقد مر في ترجمة أبي سهل إسماعيل بن علي بن إسحاق بن أبي سهل النوبختي إن له كتابا في الصفات للرد على أبي العتاهية في التوحيد في شعره ولعل المراد الرد عليه في قوله بالجبر وفي إثبات صفات له تعالى زائدة على الذات قديمة كما يقوله الأشاعرة ويتفرع عليه قدم القرآن كما يأتي الإشارة إليه. وفي الأغاني: كان قوم من أهل عصره ينسبونه إلى القول بمذهب الفلاسفة ممن لا يؤمن بالبعث ويحتجون بان شعره إنما هو في ذكر الموت والفناء دون ذكر النشور والمعاد (انتهى) وهذه الحجة واهية جدا فالواعظ بالشعر أو النثر يخوف الناس بالموت ليزهدهم في الدنيا ولا يخوفهم بالبعث. ويظهر من الأغاني إن منصور بن عمار استاء من أبي العتاهية لان منصورا تكلم كلاما فقال أبو العتاهية أنه سرقه من رجل كوفي فنسبه منصور إلى الزندقة واحتج بهذه الحجة الواهية. وروي في الأغاني إن جارة له رأته ليلة يقنت في صلاته فروت عنه أنه يكلم القمر واتصل الخبر بحمدويه صاحب الزنادقة فترقبه فرآه يصلي ثم رآه يقنت فانصرف خاسئا. وهكذا يكون نصيب العالم من الجهال يصلي ويقنت في صلاته ويناجي ربه فتراه امرأة سخيفة العقل لم تر من يقنت قبل هذا مقابل القمر رافعا يديه فتظن أنه يكلم القمر ويعبد الكواكب ولولا إن حمدويه عرف إن هذا قنوت لالتصقت به الزندقة بشهادة هذه المرأة الجاهلة.
وفي الأغاني بسنده عن أحمد بن حرب كان مذهب أبي العتاهية القول بالتوحيد وان الله خلق جوهرين متضادين لا من شيء ثم بنى العالم منهما وان العالم حديث العين والصنعة لا محدث له إلا الله وكان يزعم إن الله سيرد كل شيء إلى الجوهرين المتضادين قبل إن تفنى الأعيان جميعا وكان يذهب إلى إن المعارف واقعة بقدر الفكر والاستدلال والبحث طباعا وكان يقول بالوعيد وبتحريم المكاسب كذا ويتشيع بمذهب الزيدية البترية المبتدعة لا ينتقص أحدا ولا يرى مع ذلك الخروج على السلطان وكان مجبرا قال الصولي فحدثني يموت بن المزرع حدثني الجاحظ قال أبو العتاهية لثمامة ابن أشرس بين يدي المأمون أسألك عن مسالة فقال له المأمون عليك بشعرك فقال إن رأى أمير المؤمنين إن يأذن لي في مسألته ويأمره بإجابتي فقال له أجبه إذا سالك فقال أنا أقول كلما فعله العباد من خير وشر فهو من الله وأنت تأبى ذلك فمن حرك يدي هذه وجعل أبو العتاهية يحركها فقال ثمامة حركها من أمه زانية فقال شتمني والله يا أمير المؤمنين فقال ثمامة ناقض الماص بظر أمه والله يا أمير المؤمنين فضحك المأمون وقال ألم أقل لك إن تشتغل بشعرك وتدع ما ليس من عملك قال ثمامة فلقيني بعد ذلك فقال لي يا أبا معن ما أغناك الجواب عن السفه فقلت إن من أتم الكلام ما قطع الحجة وعاقب على الإساءة وشفى من الغيظ وانتصر من الجاهل. وبسنده عن العباس بن رستم: كان أبو العتاهية مذبذبا في مذهبه يعتقد شيئا فإذا سمع طاعنا عليه ترك اعتقاده إياه وأخذ غيره (انتهى) وهذا يمكن إن يكون مدحا بأنه إذا ظهر له الحق أخذ به ولم يتعصب. وفي الأغاني: حدثني أبو شعيب صاحب أبي داود قلت لأبي العتاهية القرآن عندك مخلوق أم غير مخلوق قال سألتني عن الله أم عن غير الله قلت من غير الله فامسك وأعدت عليه فأجابني هذا الجواب حتى فعل ذلك مرارا فقلت ما لك لا تجيبني قال قد أجبتك ولكنك حمار (انتهى) وأراد بجوابه هذا إن القرآن كلام الله فهو قديم بقدم الله فلو كان القرآن مخلوقا لكان الله مخلوقا. قال وحدث خليل بن أسد النوشجاني قال أتانا أبو العتاهية إلى منزلنا فقال: زعم الناس أني زنديق والله ما ديني إلا التوحيد فقلنا فقل شيئا نتحدث به عنك فقال:
ألا إننا كلنا يائد | وأي بني آدم خالد |
وبدؤهم كان من ربهم | وكل إلى ربهم عائد |
فيا عجبا كيف يعصى الإله | أم كيف يجحده الجاحد |
وفي كل شيء له شاهد | يدل على أنه واحد |
وفي تاريخ بغداد بسنده قال الرشيد لأبي العتاهية الناس يزعمون انك زنديق فقال يا سيدي كيف أكون زنديقا وأنا القائل:
أيا عجبي كيف يعصى | الإله أم كيف يجحده جاحد |
ولله في كل تحريكة | وفي كل تسكينة شاهد |
وفي كل شيء له آية | تدل على أنه واحد |
أحواله
في الأغاني كان في أول أمره يتخنث ويحمل زاملة المخنثين ثم كان يبيع الفخار بالكوفة ثم قال الشعر فبرع فيه وتقدم. وبسنده عن أبي الشمقمق أنه رأى أبا العتاهية يحمل زاملة المخنثين فقلت له أمثلك يضع نفسه هذا الموضع مع سنك وشعرك وقدرك فقال أريد إن أتعلم كيادهم وأتحفظ كلامهم (انتهى) ثم روى بسنده عن خيار الكاتب: كان أبو العتاهية وإبراهيم الموصلي من أهل المذار جميعا وكان أبو العتاهية وأهله يعملون الجرار الخضر فقدما إلى بغداد ثم افترقا فنزل إبراهيم الموصلي بغداد ونزل أبو العتاهية الحيرة وذكر عن الرياشي مثله وان أبا العتاهية نقله إلى الكوفة. وبسنده عن الخليل بن أسد: كان أبو العتاهية يأتينا فيستأذن ويقول أبو إسحاق الخزاف وكان أبوه حجاما ولذلك يقول أبو العتاهية:
ألا إنما التقوى هو العز والكرم | وحبك للدنيا هو الفقر والعدم |
وليس على عبد تقي نقيصة | إذا صحح التقوى وان حاك أو حجم |
ثم روى أبو الفرج أنه كان لأبي العتاهية عبيد من السودان ولأخيه زيد عبيد منهم يعملون الخزف في أتون لهم ويدفعونه إلى أجير لهم اسمه أبو عباد اليزيدي بالكوفة فيبيعه لهم وقيل بل كان يفعل ذلك أخوه لا هو وسئل عن ذلك فقال أنا جرار القوافي وأخي جرار التجارة وقال عبد الحميد بن سريع أنا رأيت أبا العتاهية وهو جرار يأتيه الأحداث والمتأدبون فينشدهم أشعاره فيكتبونها على ما تكسر من الخزف (انتهى) ومر قول الخطيب أنه كان يقول الشعر في الغزل والمديح والهجاء قديما ثم تنسك وعدل عن ذلك إلى الشعر في الزهد والوعظ. وروي في الأغاني أنه تنسك ولبس الصوف وانه لما فعل ذلك أمره الرشيد إن يقول شعرا في الغزل فامتنع فضربه ستين عصا وحلف إن لا يخرج من حبسه حتى يقول شعرا في الغزل فحلف أبو العتاهية بعتق كل مملوك له وطلاق امرأته إن تكلم سنة إلا بالقرآن أو الذكر فكان الرشيد تحزن مما فعله فأمر إن يحبس في داره ويوسع عليه فمكث هكذا سنة فقال الرشيد لمسروق الخادم كم ضربنا أبا العتاهية قال ستين فأمر له بستين ألف درهم وخلع عليه وأطلقه. وقال محمد بن أبي العتاهية: كان أبي لا يفارق الرشيد في سفر ولا حضر إلا في الحج وكان يجري عليه في كل سنة خمسين ألف درهم سوى الجوائز والمعاون فلما قدم الرشيد الرقة لبس أبي الصوف وتزهد وترك حضور المنادمة والقول في الغزل فأمر الرشيد بحبسه فحبس فكتب إليه من وقته:
أنا اليوم لي والحمد لله أشهر | يروح علي الهم منكم ويبكر |
تذكر أمين الله حقي وحرمتي | وما كنت توليني لذلك يذكر |
ليالي تدني منك بالقرب مجلسي | ووجهك من ماء البشاشة يقطر |
فمن لي بالعين التي كنت مرة | إلي بها في سالف الدهر تنظر |
قال قلما قرأ الرشيد الأبيات قال قولوا له لا باس عليك فكتب إليه:
أرقت وطار عن عيني النعاس | ونام السامرون ولم يواسوا |
أمين الله أمنك خير امن | عليك من التقى فيه لباس |
تساس من السماء بكل بر | وأنت به تسوس كما تساس |
كان الخلق ركب فيه روح | له جسد وأنت عليه رأس |
أمين الله إن الحبس باس | وقد أرسلت ليس عليك باس |
فأمر بإطلاقه. وقال محمد بن أبي العتاهية أيضا: إن أباه لبس كساء صوف ودراعة صوف وآلى على نفسه إن لا يقول شعرا في الغزل فأمر الرشيد بحبسه والتضييق عليه فقال:
يا ابن عم النبي سمعا وطاعة | قد خلعنا الكساء والدراعه |
ورجعنا إلى الصناعة لما | كان سخط الإمام ترك الصناعة |
وتوانى الرشيد في إخراجه إلى إن قال الأبيات التي أولها:
أما والله إن الظلم لوم | وما زال المسيء هو الظلوم |
إلى ديان يوم الدين نمضي | وعند الله تجتمع الخصوم |
فرق له وأمر بإطلاقه. وفي رواية للأغاني إن الرشيد حبسه وضيق عليه حتى يقول الشعر الرقيق في الغزل كما كان يقول فحبسه في بيت خمسة أشبار في مثلها فصاح الموت أخرجوني فانا أقول كلما شئتم فقيل له قل فقال حتى أتنفس فاخرج وأعطي دواة وقرطاسا فقال أبياتا في الغزل ولعل حبسه وإطلاقه قد تكرر. وله في الرشيد لما حبسه أشعار كثيرة ذكر جملة منها في الأغاني. ولما مات موسى الهادي قال أبو العتاهية: لا أقول شعرا بعده أبدا. وقال إبراهيم الموصلي لا أغني بعده أبدا وكان محسنا إليهما فحبسهما الرشيد. وشرب الرشيد مع جعفر وغنت جارية صوتا ببيت واحد فاستحسناه فقال الرشيد ما أحوجه إلى بيت ثان فأرسل إلى أبي العتاهية فكتب إليه أبو العتاهية:
شغل المسكين عن تلك المحن | فارق الروح واخلي من بدن |
ولقد كلفت أمرا عجبا | أسأل التفريج من بيت الحزن |
ثم قال أبو العتاهية لإبراهيم إلى كم هذا تلاح الخلفاء هلم أقل شعرا وتغني فيه فقال أبو العتاهية:
بأبي من كان في قلبي له | مرة حب قليل فسرق |
يا بني العباس فيكم ملك | شعب الإحسان منه تفترق |
إنما هارون خير كله | مات كل الشر مذ يوم خلق |
فدعا بهما الرشيد فأنشده أبو العتاهية وغناه إبراهيم فأعطى كل واحد مائة ألف درهم ومائة ثوب. وفي لسان الميزان جمع أبو عمر بن عبد البر زهديات أبي العتاهية في مجلد كبير.
أخباره
في الأغاني بسنده عن محمد بن أبي العتاهية أنه فخر رجل من كنانة على أبي العتاهية واستطال بأهله فقال أبو العتاهية:
دعني من ذكر أب وجد | ونسب يعليك سور المجد |
ما الفخر إلا في التقى والزهد | وطاعة تعطي جنان الخلد |
لا بد من ورد لأهل الورد | أما إلى ضحل وأما عد |
وفي شذرات الذهب: يقال إن أبا نواس وجماعة من الشعراء معه دعا أحدهم بماء يشربه فقال: عذب الماء فطابا ثم قال أجيزوا فترددوا ولم يعلم أحد منهم ما يجانسه في سهولته وقرب مأخذه حتى طلع أبو العتاهية فقالوا هذا، قال وفيم أنتم قالوا قال أحدنا نصف بيت ونحن نخبط في تمامه قال وما الذي قال قالوا: عذب الماء فطابا فقال أبو العتاهية: حبذا الماء شرابا. وشاور رجل أبا العتاهية فيما ينقشه على خاتمه فقال انقش عليه لعنة الله على الناس وانشد:
برمت بالناس وأخلاقهم | فصرت استأنس بالوحدة |
ما أكثر الناس لعمري وما | أقلهم في حاصل العدة |
وقيل له أي شعر قلته أحكم قال قولي:
إن الشباب والفراع والجده | مفسدة للمرء أي مفسده |
وكان أبو العتاهية يختلف إلى عمرو بن مسعدة لود كان بينه وبين أخيه مجاشع بن مسعدة فاستأذن أبو العتاهية على عمرو فحجب عنه فكتب إليه:
ما لك قد حلت عن إخائك | واستبدلت يا عمرو شيمة كدره |
لستم ترجون للحساب ولا | يوم تكون السماء منفطره |
قد كان وجهي لديك معرفه | فاليوم أضحى حرفا من النكره |
وكان أبو العتاهية قد هجا عبد الله بن معن بن زائدة بقوله:
فصغ ما كنت حليت | به سيفك خلخالا |
وما تصنع بالسيف | إذا لم تك قتالا |
وكان ابن نوفل قال في عبد الملك بن عمير القاضي:
إذا ذات دل كلمته لحاجة | وهم بان يقضي تنحنح أو سعل |
فقال عبد الملك تركني وان السعلة لتعرض لي في الخلاء فاذكر قوله فأهاب إن أسعل وقال عبد الله بن معن ما لبست سيفي قط فرأيت إنسانا يلحظني إلا ظننت أنه يحفظ قول أبي العتاهية في فلذلك يتأملني فأخجل. وفي الأغاني بسنده عن أبي العتاهية قال: لما تركت قول الشعر حبسني الرشيد فأدخلت السجن وأغلق الباب علي فدهشت كما يدهش مثلي لتلك الحال وإذا أنا برجل جالس في جانب الحبس مقيد فتمثل:
تعودت مس الضر حتى ألفته | وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر |
وصيرني يأسي من الناس راجيا | لحسن صنيع الله من حيث لا أدري |
فقلت له أعد يرحمك الله البيتين فقال لي ويلك يا أبا العتاهية ما أسوأ أدبك دخلت فما سلمت تسليم المسلم على المسلم ولا سالت مسالة الحر للحر ولا توجعت توجع المبتلى حتى إذا سمعت بيتين من الشعر الذي لا فضل فيك غيره لم تصبر عن استعادتها فقلت أني دهشت لهذه الحال فاعذرني فقال أنا أولى بالدهش والحيرة منك لأنك حبست في إن تقول شعرا به ارتفعت وأنا مأخوذ بان أدل على ابن رسول الله(ص) ليقتل أو اقتل دونه ووالله لا أدل عليه أبدا فأينا أحق بالدهش فقلت أنت والله أولى سلمك الله ثم أعاد البيتين حتى حفظتهما وسألته من هو فقال أنا حاضر داعية عيسى بن زيد وابنه أحمد ولم نلبث إن سمعنا صوت الأقفال فسكب عليه ماء كان عنده ولبس ثوبا نظيفا و دخل الجند والحرس معهم الشمع فأخرجونا وقدم قبلي إلى الرشيد فسأله عن أحمد بن عيسى فقال لا تسألني عنه فلو كان تحت ثوبي هذا ما كشفته عنه وأمر بضرب عنقه فضرب ثم قال لي أظنك قد ارتعت يا إسماعيل فقلت دون ما رأيته تسيل منه النفوس فقال ردوه إلى محبسه وانتحلت البيتين وزدت فيهما:
إذا أنا لم اقبل من الدهر كلما | تكرهت منه طال عتبي على الدهر |
أخباره في البخل
في الأغاني: كان أبو العتاهية أبخل الناس مع يساره وكثرة ما جمعه من الأموال. وبسنده عن ثمامة بن أشراس أنشدني أبو العتاهية:
إذا المرء لم يعتق من المال نفسه | تملكه المال الذي هو مالكه |
إلا إنما مالي أنا منفق | وليس لي المال الذي أنا تاركه |
إذا كنت ذا مال فبادر به الذي | يحق وإلا استهلكته مهالكه |
فقلت له من أين قضيت بهذا فقال من قول رسول الله(ص) إنما لك من مالك ما أكلت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت فقلت له أتؤمن بان هذا قول رسول الله(ص) وانه الحق قال نعم قلت فلم تحبس عندك سبعا وعشرين بدرة في دارك ولا تأكل منها ولا تشرب ولا تزكي ولا تقدمها ذخرا ليوم فقرك وفاقتك فقال يا أبا معن والله إن مما قلت لهو الحق ولكن أخاف الفقر والحاجة إلى الناس فقلت وبم تزيد حال من افتقر على حالك وأنت دائم الحرص دائم الجمع شحيح على نفسك لا تشتري اللحم إلا من عيد إلى عيد. فترك جواب كلامي كله ثم قال لي والله لقد اشتريت في يوم عاشوراء لحما وتوابله وما يتبعه بخمسة دراهم فأضحكني حتى أذهلني عن جوابه. وقال الجاحظ حدثني ثمامة قال دخلت إلى أبي العتاهية فرأيت قدامه خبزا يابسا وقدحا فيه لبن حليب فكان يأخذ القطعة من الخبز فيغمسها في اللبن ويخرجها فقلت له كأنك اشتهيت إن تتأدم بلا شيء وما رأيت أحدا قبلك تدم بلا شيء وكان لأبي العتاهية جار يلتقط النوى فقير متجمل فكان يمر بأبي العتاهية طرفي النهار فيقول أبو العتاهية اللهم أغنه عما هو بسبيله شيخ ضعيف سيء الحال متجمل اللهم أعنه اصنع له بارك فيه فقيل له أراك تكثر الدعاء لهذا الشيخ وتزعم أنه فقير فلم لا تتصدق عليه فقال أخشى إن يعتاد الصدقة والصدقة آخر كسب العبد وان في الدعاء لخيرا كثيرا.
وكان له خادم اسود طويل كأنه محراك أتون وكان يجري عليه كل يوم رغيفين بغير إدام فشكا العبد ذلك إلى صديق له ليسأله إن يزيده رغيفا فقال له يا أبا إسحاق كم تجري على هذا الخادم كل يوم، قال: رغيفين قال لا يكفيانه فقال من لم يكفه القليل لم يكفه الكثير وكل من أعطى نفسه شهوتها هلك وهذا خادم إن لم أعوده القناعة والاقتصاد أهلكني فمات الخادم فكفنه في إزار وفراش له خلق فقال له سبحان الله خادم قديم الحرمة طويل الخدمة واجب الحق تكفنة في خلق وإنما يكفيك له كفن بدينار فقال أنه يصير إلى البلا والحي أولى بالجديد من الميت فقال يرحمك الله أبا إسحاق عودته الاقتصاد حيا وميتا.
ووقف عليه سائل من الظرفاء وحوله جماعة فسأله فقال صنع الله لك فأعاد السؤال فأجابه كذلك فأعاده ثالثا فرد عليه مثل ذلك فقال ألست القائل:
كل حي بعد ميتته | حظه من ماله الكفن |
فبالله عليك أتريد إن تعد مالك كله لثمن كفنك؟ قال لا، قال فكم قدرت له؟ قال خمسة دنانير، قال فهي إذا حظك من مالك كله، قال نعم، قال فتصدق علي بدرهم من غير حظك، قال لو تصدقت عليك لكان حظي، قال فافرض إن دينارا من الخمسة نقص قيراطا وادفع إلي قيراطا وإلا فأمر آخر قال ما هو قال: القبور تحفر بثلاثة دراهم فأعطني درهما وأعطيك كفيلا باني أحفر لك قبرك به متى مت وتربح درهمين فإن لم أحتفر رددته على ورثتك أو رده كفيلي فقال أبو العتاهية أعزب لعنك الله وغضب عليك فضحك الحاضرون ومر السائل يضحك فقال أبو العتاهية من أجل هذا وأمثاله حرمت الصدقة فقالوا له ومن حرمها ومتى حرمت وقيل له أتزكي مالك فقال ما أنفق على عيالي إلا من زكاة مالي فقالوا سبحان الله إنما ينبغي إن تخرج زكاة مالك إلى الفقراء والمساكين، فقال: لو انقطعت عن عيالي زكاة مالي لم يكن في الأرض أفقر منهم.
وكان أبو العتاهية عند قثم بن جعفر بن سليمان ينشده في الزهد فأرسل قثم إلى الجماز فحضر وأبو العتاهية ينشد فأنشأ الجماز يقول:
ما أقبح التزهيد من واعظ | يزهد الناس ولا يزهد |
لو كان في تزهيده صادقا | أضحى وأمسى بيته المسجد |
يخاف إن تنفد أرزاقه | والرزق عند الله لا ينفد |
والرزق مقسوم على من ترى | يناله الأبيض والأسود |
أشعاره
في الأغاني عن الرياشي سمعت الأصمعي يستحسن قول أبي العتاهية:
أنت ما استغنيت عن | صاحبك الدهر أخوه |
فإذا احتجت إليه | ساعة مجك فوه |
قال ومن شعره أرجوزته التي سماها ذات الأمثال ويقال إن فيها أربعة آلاف مثل منها قوله:
حسبك مما تبتغيه القوت | ما أكثر القوت لمن يموت |
الفقر فيما جاوز الكفافا | من اتقى الله رجا وخافا |
هي المقادر فلمني أو فذر | أن كنت أخطأت فما أخطأ القدر |
لكل ما يؤذي وان قل ألم | ما أطول الليل على من لم ينم |
ما انتفع المرء بمثل عقله | وخير ذخر المرء حسن فعله |
إن الفساد ضده الصلاح | ورب جد جره المزاح |
من جعل النمام عينا هلكا | مبلغك الشر كباغيه لكا |
إن الشباب والفراع والجده | مفسدة للمرء أي مفسده |
يغنيك عن كل قبيح تركه | يرتهن الرأي الأصيل شكه |
ما عيش من آفته بقاؤه | نغص عيشا كله فناؤه |
يا رب من أسخطنا بجهده | قد سرنا الله بغير حمده |
ما تطلع الشمس ولا تغيب | إلا لأمر شانه عجيب |
لكل شيء معدن وجوهر | وأوسط وأصغر وأكبر |
من لك بالمحض وكل ممتزج | وساوس في الصدر منه تعتلج |
وكل شيء لاحق بجوهره | أصغره متصل بأكبره |
ما زالت الدنيا لنا دار أذى | ممزوجة الصفو بألوان القذى |
الخير والشر بها أزواج | لذا نتاج ولذا نتاج |
من لك بالمحض وليس محض | يخبث بعض ويطيب بعض |
لكل إنسان طبيعتان | خير وسر وهما ضدان |
انك لو تستنشق الشحيحا | وجدته أنتن شيء ريحا |
والخير والشر إذا ما عدا | بينهما بون بعيدا جدا |
عجبت حتى غمني السكوت | صرت كأني حائر مبهوت |
كذا قضى الله فكيف أصنع | الصمت إن ضاق الكلام أوسع |
قال وهي طويلة جدا. ومن شعره في الغزل قوله:
كأنها من حسنها درة | أخرجها اليم إلى الساحل |
كان في فيها وفي طرفها | سواحرا أقبلن من بابل |
لم يبق مني حبها ما خلا | حشاشة في بدن ناحل |
يا من رأى قبلي قتيلا بكى | من شدة الوجد على القاتل |
ومن رائق شعره قوله في عتبة جارية الخيزران وكان يهواها ويشبب بها وهو:
بالله يا حلوة العينين زوريني | قبل الممات وإلا فاستزيريني |
هذان أمران فاختاري أحبهما | إليك أو لا فداعي الموت يدعوني |
إن شئت مت فأنت الدهر مالكة | روحي وان شئت إن أحيا فتحييني |
يا عتب ما أنت إلا بدعة خلقت | من غير طين وخلق الناس من طين |
إني لأعجب من حب يقربني | ممن يباعدني منه ويعصيني |
أما الكثير فلا أرجوه منك ولو | أطمعتني في قليل كان يكفيني |
وقوله في تشبيه البنفسج:
ولا زوردية تزهر بزرقتها | بين الرياض على حمر اليواقيت |
كأنها ورقاق القضب تحملها | أوائل النار في أطراف كبريت |
وفي تاريخ بغداد بسنده عن المبرد قال لا اعلم شيئا من غزل أبي العتاهية ومديحه يخلو من صنعة وربما كان من القصيدة في موضعين فمن شعره الذي كان يستطرف قوله:
#آه، من غمي وكربي *من شدة حبي
ما أشد الحب، يا | سبحانك اللهم ربي |
لم أنل منه نوالا | غير إن كدر شربي |
أنت ممن خلق الرحمن | من ذا الخلق حسبي |
ولقد قلت وجمر الحب | قد أقرح قلبي |
يا بلائي من غزال | قد سبا قلبي ولبي |
قال المبرد ومن مليح أشعاره قوله:
من لم يذق لصبابة طعما | فلقد أحطت بطعمها علما |
أني منحت مودتي سكنا | فرأيته قد عدها جرما |
يا عتب ما أنا عن صنيعك بي | أعمى، ولكن الهوى أعمى |
والله ما أبقيت من جسدي | لحما ولا أبقيت لي عظما |
إن الذي لم يدر ما كلفي | ليرى على وجهي به وسما |
قال المبرد ومن شعره المختار قوله:
يا عتب هجرك مورث الأدواء | والهجر ليس لودنا بجزاء |
يا صاحبي لقد لقيت من الهوى | جهدا وكل مذلة وعناء |
علق الفؤاد بحبها من شقوتي | والحب داعية لكل بلاء |
إني لأرجوها وأحذرها، فقد | أصبحت بين مخافة ورجاء |
بخلت علي بودها وصفائها | ومنحتها ودي ومحض صفائي |
فتخالف الأهواء فيما بيننا | والموت عند تخالف الأهواء |
وقد جمعنا طرفا صالحا من شعره في الزهد والمواعظ في الجزء الثالث من معادن الجواهر فأغنى عن ذكره هنا.