ابن القرية أيوب بن زيد بن قيس بن زرارة الهلالي: أحد بلغاء الدهر. خطيب يضرب به المثل. يقال (أبلغ من ابن القرية) والقرية أمه. كان أعرابيا أميا، يتردد إلى عين أمه. كان أعرابيا أميا، يتردد إلى عين التمر (غربي الكوفة) فاتصل بالحجاج، فأعجب بحسن منطقه، فأوفده على عبد الملك بن مروان. ولما خلع ابن الأشعث الطاعة بسجستان بعثه الحجاج إليه رسولا، فالتحق به وشهد معه وقعة دير الجماجم (بظاهر الكوفة) وكان شجاعا فلما انهزم ابن الأشعث سيق أيوب إلى الحجاج أسيرا، فقال له الحجاج: والله لأزيرنك جهنم! قال: فأرحني فاني أجد حرها فأمر به فضربت عنقه. ولما رآه قتيلا قال: لو تركناه حتى نسمع من كلامه! وأخباره كثيرة.
دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 2- ص: 37
ابن القرية أيوب بن زيد بن قيس بن زرارة بن سلمة بن جشم بن مالك، ينتهي إلى عدنان، المعروف بابن القرية - بكسر القاف وتشديد الراء والياء آخر الحروف - والقرية جدته واسمها خماعة بنت جشم بن ربيعة بن زيد مناة بن عوف بن سعد بن الخزرج، كان أعرابيا أميا، وهو معدود من جملة خطباء العرب المشهورين بالفصاحة والبلاغة، كان قد أصابته السنة، فقدم عين التمر وعليها عامل للحجاج بن يوسف، وكان العامل يغدي كل يوم ويعشي، فوقف ابن القرية ببابه، فرأى الناس يدخلون، فقال: ’’أين يدخل هؤلاء؟’’ قالوا: ’’إلى طعام الأمير’’، فدخل، فتغدى، وقال: ’’أكل يوم يصنع الأمير ما أرى؟’’ فقيل: ’’نعم’’. وكان يأتي كل يوم بابه للغداء والعشاء إلى أن ورد كتاب من الحجاج على العامل، وهو عربي غريب لا يدري ما هو، فأخر لذلك طعامه، فجاء ابن القرية فلم ير العامل يتغدى، فقال: ’’ما بال الأمير لا يأكل ولا يطعم؟’’ فقالوا: ’’اغتم لكتاب ورد عليه من الحجاج عربي غريب لا يدري ما هو’’، قال: ’’ليقرئني الأمير الكتاب، فأنا أفسره إن شاء الله تعالى’’. وكان خطيبا لسنا بليغا، فذكر ذلك للوالي، فدعا له، فلما قرئ الكتاب عليه عرف الكلام وفسره للوالي حتى عرف جميع ما فيه، فقال له: ’’أفتقدر على جوابه؟’’ قال: ’’لست أقرأ ولا أكتب، ولكن ادع كاتبا يكتب ما أمليه’’، ففعل، فكتب جواب الكتاب، فلما قرئ الكتاب على الحجاج، رأى كلاما عربيا غريبا، فعلم أنه ليس من كلام كاتب العامل ولا كتاب الخراج، فدعا برسائل عين التمر، فنظر فيها، فرآها ليست ككتاب ابن القرية، فكتب الحجاج إلى العامل: ’’أما بعد، فقد أتاني كتابك بعيدا من جوابك بمنطق غيرك، فإذا نظرت إلى كتابي هذا فلا تضعه من يدك حتى تبعث بالرجل الذي صدر لك الكتاب، والسلام’’.
فقرأ العامل الكتاب على ابن القرية، وقال له: ’’تتوجه نحوه’’، قال: ’’أقلني’’، قال: ’’لا بأس عليك’’، وأمر له بكسوة ونفقة، وحمله إلى الحجاج، فلما دخل عليه، قال: ما اسمك؟ قال: أيوب قال: اسم نبي؛ وقال: أظنك أميا تحاول البلاغة ولا تستصعب عليك مقالها. وأمر له بنزل ومنزل، فلم يزل يزداد به عجبا حتى أوفده على عبد الملك بن مروان. فلما خلع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي الطاعة بسجستان، بعثه الحجاج إليه، فلما دخل عليه قال له: لتقومن خطيبا ولتخلعن عبد الملك ولتسبن الحجاج، أو لأضربن عنقك قال: أيها الأمير، إنما أنا رسول، قال: هو ما أقول لك، فقام وخطب وخلع عبد الملك وشتم الحجاج وأقام هنالك، فلما انصرف ابن الأشعث مهزوما، كتب الحجاج إلى عماله بالري وأصبهان وما يليهما، أمرهم أن لا يمر بهم أحد من فل ابن الأشعث إلا بعثوا به أسيرا، وأخذ ابن القرية فيمن أخذ. فلما أدخل على الحجاج، قال: أخبرني عما أسألك عنه، قال: سلني عما شئت، قال: أخبرني عن أهل العراق قال: أسرع الناس إلى فتنة، وأعجزهم عنها؛ قال: فأهل الشام؟ قال: أطوع الناس لخلفائهم؛ قال: فأهل مصر؟ قال: عبيد من غلب؛ قال: فأهل البحرين؟ قال: نبط استعربوا؛ قال: فأهل عمان؟ قال: عرب استنبطوا؛ قال: فأهل الموصل؟ قال: أشجع فرسان وأقتل للأقران؛ قال: فأهل اليمن؟ قال: هم أهل سمع وطاعة ولزوم الجماعة؛ قال: فأهل اليمامة؟ قال: أهل جفاء واختلاق أهواء وأصبر عند اللقاء؛ قال: فأهل فارس؟ قال: أهل بأس شديد، وشر عتيد، وزيف كثير وقرى يسير؛ قال: أخبرني عن العرب قال: سلني قال: قريش؟ قال: أعظمها أحلاما، وأكرمها مقاما؛ قال: فبنو عامر بن صعصعة؟ قال: أطولها رماحا وأكرمها صباحا؛ قال: فبنو سليم؟ قال: أعظمها مجالس وأكرمها محابس؛ قال: فثقيف؟ قال: أكرمها جدودا وأكثرها وفودا؛ قال: فبنو زبيد؟ قال: ألزمها للرايات وأدركها للترات؛ قال: فقضاعة؟ قال: أعظمها أخطارا، وأكرمها نجارا وأبعدها آثارا؛ قال: فالأنصار؟ قال: أثبتها مقاما وأحسنها إسلاما وأكرمها أياما؛ قال: فبكر بن وائل؟ قال: أثبتها صفوفا وأحدها سيوفا؛ قال: فعبد القيس؟ قال: أسبقها إلى الغايات وأضربها تحت الرايات؛ قال: فبنو أسد؟ قال: أهل عدد وجلد ونكد؛ قال: فلخم؟ قال: ملوك وفيهم نوك؛ قال: فجذام؟ قال: يوقدون الحرب ويسعرونها ويلقحونها، ثم يمرونها؛ قال: فبنو الحارث؟ قال: رعاة للقديم، حماة للحريم؛ قال: فعك؟ قال: ليوث جاهدة في قلوب فاسدة؛ قال: فتغلب؟ قال: يصدقون إذا لقوا ضربا ويسعرون للأعداء حربا؛ قال: فغسان؟ قال: أكرم العرب أحسابا، وأثبتها أنسابا؛ قال: فأي العرب كانت في الجاهلية أمنع من أن تضام؟ قال: قريش، وكانوا أهل ربوة لا يستطاع ارتقاؤها، وهضبة لا يرام انتزاؤها، في بلدة حمى الله ذمارها، ومنع جارها؛ قال: فأخبرني عن مآثر العرب، قال: كانت العرب تقول: حمير أرباب الملك، وكندة لباب الملل، ومذحج أهل الطعان، وهمدان أحلاس الخيل، والأزد آساد الناس؛ قال: فأخبرني عن الأرضين؛ قال: سلني، قال: الهند؟ قال: بحرها در، وجبلها ياقوت، وشجرها عود، وورقها عطر، وأهلها طغام كقطيع الحمام؛ قال: فخراسان؟ قال: ماؤها جامد، وعدوها جاحد؛ قال: فعمان؟ قال: حرها شديد، وصيدها عتيد، قال: فالبحرين؟ قال: كناسة بين المصرين؛ قال: فاليمن؟ قال: أهل العرب، وأهل البيوتات والحسب؛ قال: فمكة؟ قال: رجالها علماء جفاة، ونساؤها كساة عراة؛ قال: فالمدينة؟ قال: رسخ العلم فيها وظهر منها؛ قال: فالبصرة؟ قال: شتاؤها جليد، وحرها شديد، وماؤها ملح، وحربها صلح؛ قال: فالكوفة؟ قال: ارتفعت عن حر البحر وسفلت عن برد الشام، فطاب ليلها، وكثر خيرها؛ فواسط؟ قال: جنة بين حماة وكنة؛ قال: وما حماتها؟ وكنتها؟ قال: البصرة والكوفة يحسدانها. وما ضرها ودجلة والزاب يتجاريان في إفاضة الخير عليها؟ قال: فالشام؟ قال: عروس بين نسوة جلوس؛ قال: ثكلتك أمك يا ابن القرية، لولا إتباعك لأهل العراق، وقد كنت أنهاك عنهم أن تتبعهم، فتأخذ من نفاقهم. ثم دعا بالسياف وأومأ إلى السياف أن أمسك. فقال ابن القرية ثلاث كلمات، أصلح الله الأمير كأنهن ركب وقوف يكن مثلا بعدي، قال: هات. قال: لكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة، ولكل حليم هفوة. قال الحجاج: ليس هذا وقت المزاح، يا غلام، أوجب جرحه فضرب عنقه.
وقيل، لما أراد قتله، قال: العرب تزعم أن لكل شيء آفة، قال: صدقت العرب، أصلح الله الأمير! قال: فما آفة الحلم؟ قال: الغضب؛ قال: فما آفة العقل؟ قال: العجب؛ قال: فما آفة الكرام؟ قال: مجاورة اللئام؛ قال: فما آفة العلم؟ قال: النسيان؛ قال: فما آفة السخاء؟ قال: المن عند البلاء؛ قال: فما آفة الشجاعة؟ قال: البغي؛ قال: فما آفة العبادة؟ قال: الفترة؛ قال: فما آفة الذهن؟ قال: حديث النفس؛ قال: فما آفة الحديث؟ قال: الكذب؛ قال: فما آفة المال؟ قال: سوء التدبير؛ قال: فما آفة الكامل من الرجال؟ قال: العدم؛ قال: فما آفة الحجاج بن يوسف؟ قال: أصلح الله الأمير، لا آفة لمن كرم حسبه، وطاب نسبه، وزكا فرعه. قال: امتلأت شقاقا وأظهرت نفاقا، اضربوا عنقه. فلما رآه قتيلا، ندم، وكان قتله سنة أربع وثمانين للهجرة.
وسأله بعضهم عن الدهاء، ما هو، قال: تجرع الغصص، وتوقع الفرص. ومن كلامه في صفة العي: التنحنح من غير داء، والتثاؤب من غير ريبة، والإكباب في الأرض من غير علة.
وقال أبو الفرج الأصبهاني في ترجمة مجنون ليلى بعد أن استوفى أخباره: وقد قيل إن ثلاثة أشخاص شاعت أخبارهم، واشتهرت أسماؤهم ولا حقيقة لهم، ولا وجود في الدنيا وهم: مجنون ليلى، وابن القرية، وابن أبي العقب الذي تنسب إليه الملاحم، وهو يحيى بن عبد الله بن أبي العقب. وقيل: إنه لما أتي بابن القرية، قال له الحجاج: ألم تكن في خمول من الدعة، وعدم من المال، وكدر من العيش، وتضعضع من الهيئة، ويأس من بلوغ ما بلغت إليه، فوليتك ولاية الوالد، ولم تكن ولدا، وولاية الراجي عندك الخير، ولم أرجه عندك أبدا، حتى قمت خطيبا، وقلت كذا وكذا. فقال: أيها الأمير، أتيت إنسانا في مسك شيطان، فتهددني بتخويفه، وقهرني بسلطانه، فنطق اللسان بغير ما في القلب، والنصيحة لك ثابتة، والمودة باقية، قال: كذبت يا عدو الله. ثم سأله ما ذكرته، ورد جوابه كما ذكرت. وقيل: قال له فيما سأله: فكيف رأيت خطبتي؟ فسكت، قال: أقسمت عليك، إلا صدقتني، قال: تكثر الرد، وتشير بالرد، وتقول أما بعد. فقال له الحجاج: فأنت ما تستعين بيدك في كلامك قال: لا أصل كلامي بيدي حتى يضيق بي لحدي، قال: فأخبرني عن أشعر بيت قالته العرب. قال: قول القائل:
فما حملت من ناقة فوق رحلها | أبر وأوفى ذمة من محمد |
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 10- ص: 0
ابن القرية أيوب بن زيد.
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 24- ص: 0