التصنيفات

أبو عبادة البحتري الشاعر اسمه الوليد بن عبيد.

  • دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 2- ص: 371

أبو عبادة الوليد بن عبيد الطائي البحتري ولد بمنبج سنة 206 ومات سنة 284.
قال الآمدي في الموازنة: كان يكنى أبا عبادة ولما دخل العراق تكنى أبا الحسن ليزيل العنجهية والأعرابية ويساوي في مذاهبه أهل الحاضرة ويقرب بهذه الكنية إلى أهل النباهة والكتاب من الشيعة، وقد ذكر بعضهم أنه كان يكنى أبا الحسن وأنه لما اتصل بالمتوكل وعرف مذهبه عدل إلى أبي عبادة والأول أثبت.
وقال اليافعي: كان البحتري أمير شعراء عصره ورئيس فصحاء دهره وشعره يقال له سلسلة الذهب وهو في الطبقة العليا، ولد بمنبج ونشأ بها ورحل إلى بغداد ومدح خلفاء وقته ووزراء عصره وأمراء زمانه كما هو ظاهر في ديوانه وأقام بالعراق مدة طويلة ثم عرج إلى الشام واجتمع مع أبي تمام بحمص في أول أمره قبل شهرته ومعروفيته، واستفاد منه وكتب في إكرامه إلى أهل معرة النعمان فأكرموه وأعطوه أربعة آلاف درهم وهي أول إنعاشه.
تشيعه
قال عبد الجليل الرازي أستاذ ابن شهراشوب المازندراني: البحتري من شعراء الشيعة وكان خصيصا بدعبل الخزاعي ومن أصدقائه كما في كتاب اكتفاء القنوع وغيره، ذكر ذلك في ترجمة البحتري. وخلوص دعبل في التشيع مشهور وإكرام أبي تمام للبحتري أيضا كذلك. ويظهر من الشيخ أبي عبد الله أحمد بن عياش في كتابه مقتضب الأثر في إمامة الأئمة الاثني عشر أن البحتري وأبي الغوث الطهوي كانا في عصر واحد، وكانا من الشيعة الاثني عشرية، لكن البحتري يمدح الملوك وأبي الغوث يمدح آل الرسول، وذكر قصيدة لأبي الغوث في مدح الأئمة من آل محمد الاثني عشر، قال كان البحتري أبو عبادة ينشدها وتلك القصيدة ألا يمكن أن ينشدها إلا من كان من الإمامية لأن من جملتها قوله:

وهي طويلة كتبنا منها موضع الحاجة إلى الشاهد:
وللبحتري في هجو علي بن الجهم نديم المتوكل أبيات يعنفه على نصبه مذكورة في ديوانه المطبوع بالجوائب وغيره وما حركه على ذلك إلا التشيع منها قوله:
وله أيضا في هجاء ابن الجهم المذكور وهي أيضا في الديوان:
#إن وقفت سوقك أو أكسدت بضاعة من شعرك الخائب
فتأمل هذا البيت الأخير:
ومما يمكن أن يستدل به على تشيعه قوله في المنتصر وقد أحسن إلى العلويين ووصلهم على عكس أبيه من قصيدة:
وقوله من قصيدة:
وهجاؤه علي بن الجهم الهجاء المقذع لهجوه عليا عليه السلام – كما مر - فإن ذلك إذا تأملت لا يصدر إلا من شيعي ولم نر من هجاه لذلك من الشعراء غير البحتري. أما هجاؤه: لأحمد بن صالح وولده بما لعله يرجع إلى التشيع كما في ديوانه فلعله كان لبعض حالات الشعراء الذين لا يبالون ما يقولون في هجو من يغيظهم أو يمنعهم، أما تألمه على المتوكل بعد موته مع نصبه فلإحسانه العظيم إليه وعدم عراقة الشعراء في الدين إلا من قل.
شاعريته
قال الأستاذ رئيف خوري: إذا جاز فك العناصر التي لا بد منها لتتميم قوام الشعر، فإننا نجد - على الأقل - أربعة من هذه العناصر: الصورة والعاطفة والفكرة والجرس الموسيقي. وقد يغلب، بل كثيرا ما يغلب أحد هذه العناصر على شعر شاعر فإذا جاءت الغلبة للصورة كان الشاعر وصافا، وإذا جاءت للعاطفة كان شاعر حس. وإذا جاءت للفكرة كان شاعر تأمل وجهد عقلي. وإذا جاءت للجرس الموسيقي كان شاعر نغم وإيقاع.
وليس ثمة جدال في أن عنصر الجرس الموسيقي هو عنصر جد ضروري للشعر. بل لعله أهم عناصر الشعر الفارقة ولا سيما ما كان شعرا غنائيا. وبرهان ذلك أننا قد نجد من النثر ما لا يقل حظه من الصورة والعاطفة والفكر عن حظ الشعر. لكنه يبقى أدنى إلى النثر لأنه فاقد الوزن والقافية وهما رأس الوسائل التي بها يتوسل الشعر إلى الموسيقى. ولولا ما يجلبان للشعر من جرس موسيقي رقيق أو فخم رائع لما كان من سبب لأن يقيد بهما الشاعر نفسه.
فإذا صح ما قدمناه وهو على الجملة صحيح لاجتماع أكثر الآراء عليه. ثم إذا نظرنا في ضوء ما قدمناه إلى الحكم الذي أطلقه ابن الأثير على البحتري. رأينا النقادة الشهير يحبس ميزة البحتري في خاصيتين قرن إحداهما بالأخرى.
أولا: أن أبا عبادة أحسن سبك اللفظ على المعنى، أي: توافقت عباراته ومعانيه، وثانيا: أنه أراد أن يشعر فغنى، أي: غلب عنصر الجرس الموسيقي في شعره على كل عنصر آخر في الشعر من صور وعاطفة وفكرة.
فهل أصاب ابن الأثير في حكمه هذا على شاعرنا البحتري؟.
أما أن البحتري أحسن سبك اللفظ على المعنى فأمر لا سبيل إلى الشك فيه. نستطيع أن نلمس ذلك ونتحراه في الألفاظ المفردة التي ينتقيها أبو عبادة، وفي الجمل التي يصوغها من ألفاظه، ثم في صور التعبير التي تدور في كلامه.
وأهم صفة تتحلى بها ألفاظ البحتري المفردة أنها فصيحة مأنوسة في الفهم، عذبة سائغة في السمع والنطق، منزهة عن الابتذال، مبرأة من الغلظة والوحشية، وتلك صفة تشيع في ألفاظه حتى في الطور الأول من حياته حين كان بمنبج وجوارها يعيش عيشة أقرب إلى البداوة وخشونة الذوق البدوي. في هذا الطور من حياته وصف أبو عبادة الذئب وقتاله معه فكان قمينا في مثل هذا الموقف أن يستعمل من الألفاظ أعوصها وأجفاها، ولكنه لم يفعل.
قال مثلا يصور ضعف الذئب وهزاله:
فليس في هذا الشعر لفظ يجهله من أصاب من العربية قسطا حتى قوله: الرشاء (الحبل) ومنأد (منحن) والطوى (الجوع) واستمر مريره (تشدد بعد وهن).
ولقد قويت هذه الصفة في ألفاظ البحتري في الطور الثاني من حياته حين انتقل إلى ضفاف دجلة، فاحتك بمتارف الحضارة ومباهج الطبيعة في العاصمتين العباسيتين: بغداد وسامراء. فازدادت ألفاظه أنسا في الفهم وانسياغا في السمع والنطق وتنزها عن الابتذال وتبرءا من الغالظة والوحشية. بل طبعت ألفاظه بطابع جديد لم يكن لها من قبل، هو طابع الأناقة والصقل والرونق.
وحسبنا هذه الأبيات له في وصف الربيع:
ثم هذه الأبيات في وصف بركة المتوكل:
على أن براعة البحتري في انتقاء مفرداته ما كانت لتغنيه لولا أنه برع كذلك في صياغة جملة من هذه الألفاظ فعل الصانع الماهر الذي لا يكتفي بأن يجيد اختيار الجواهر للعقد بل يجيد كذلك نظمها وتركيبها في السلك، فيراعي النسب بين جوهرة وأخرى ويتحاشى التنافر بينها ويصوغ منها عقدا منسجما، لكن عند هذا الحد يجب أن تنتهي المقايسة بين الشاعر الذي أداته الألفاظ والصائغ الذي أداته الجواهر ذلك أن الشاعر لا يكفيه أن يراعي النسب بين ألفاظه ولا أن يتحاشى التنافر بينها ولا أن يصوغ منها ’’نظما’’ بل عليه وهو يجمع اللفظ إلى اللفظ أن يديم الالتفات إلى المعنى، إذ لا قيمة للكلام مهما حسنت مفرداته وائتلفت مخارجها في النطق وطابت مواقعها في السمع إلا أن يستقيم لها معنى مقصود تناديه فيلبيها.
ومن هذا الوجه أيضا نلقى البحتري صائغا متقنا. فهو لا يقتصر على مراعاة النسب بين ألفاظه لكي ينفي التنافر والثقل عن تركيب جمله، بل يتعدى ذلك إلى مراعاة النسب بين تلك الجمل والمعاني التي يختصها بالقصد.
وأبرز الصفات التي تتحلى بها جمل البحتري من حيث صلتها بالمعنى أنها واضحة مشرقة قلما يكلفك فهمها كدا أو عناء. ومرد ذلك إلى أن أبا عبادة يقصر جمله ولا يحشوها بالمعترضات ولا يسرف في حذف أو تقديم أو تأخير، وإنما يذكر كل ما يرى ذكره يزيد في وضوح العبارة، ويجعل كل قسم من أقسام الجملة في موقعه المألوف، فالفعل في حيث يجب أن يكون الفعل، والفاعل بعد الفعل، وكذلك المبتدأ والخبر على ترتيبهما المعتاد الخ...... حتى جاء في كتاب يتيمة الدهر للثعالبي:
’’إن شعر البحتري كتابة معقودة بالقوافي’’ والمراد بذلك أن البحتري قد ملك ناصية النظم بقدر لو شئنا معه أن نحل شعره من قيد الوزن والقافية فنجعله نثرا لما وجدنا سبيلا إلى تحويل الكلام عن صورته الأولى بحذف قسم من أقسام الجملة أو تقديمه أو تأخيره. وإليك مثلا قوله في وصف الخريف:
وقوله في وصف موكب المتوكل يوم عيد الفطر:
ثم قوله في مدح التواضع:
فتأمل، هل ترى الوزن والقافية قد كلفا الشاعر خروجا عما هو المألوف في كتابة أسهل النثر وأسلسله، ثم تأمل هل ترى أنصع بيانا من هذا الكلام الذي يوشك أن يهجم معناه على ذهنك قبل أن تصل أصداؤه إلى أذنك.
وإن حرص البحتري على هذا الوضوح والصفاء والتأنق في سبكه اللفظ على المعنى، لماثل أيضا في اجتنابه صور التعبير الغامضة أو البعيدة. فتراه قريب التشابيه صريح الكنايات داني الاستعارات، ولا يعسف عسفا في طلب المجاز أو البديع شأن أبي تمام مثلا في الكثير من مواقفه.
فأسمع أبا عبادة يصف لك منظر جبال لبنان من دمشق:
شبه الجبال اللبنانية بالسحب البيضاء المعلقة بالفضاء وهو تشبيه مستملح يدرك في غير مؤونة ولا إرهاق خاطر.
وأسمعه في المقطع الذي وصف به قتاله مع الذئب يكني عن قلب الذئب هذه الكناية اللطيفة التي لا يحتاج في فهمها إلى مشقة ولا أعنات:
يقول أنه سدد إلى الذئب نبلة أخرى فغاصت عميقا في موضع اللب منه والرعب والحقد، أي: القلب. وكذلك اسمعه يستعير النوم واليقظة للورود التي كانت أكماما فتفتحت في عيد النوروز:
وهي استعارة تبلغ الغاية في الطبيعة والإبداع، ثم أسمعه يأتيك بهذا المجاز الرائق المحبب إذ يجعل الصبا توفي نذورا حين تهب صباح مساء على القصر الجعفري بعد مصرع صاحبه المتوكل:
وهكذا يتبين لك أن البحتري لا يلتمس إلا كل صورة شفافة رائعة من صور التعبير. كما تبين لك من قبل أنه لا يقبل من مفردات اللفظ إلا على المأنوس المنقح الأنيق، ولا يعول من الجمل إلا على الواضح المشرق. ولهذا لقبه ابن رشيق صاحب كتاب العمدة بأنه شيخ الصناعة الشعرية، ونعت النقاد شعره بسلاسل الذهب، وضربوا المثل بالديباجة البحترية أي: جمال النسج في كلامه. ولهذا أيضا شهد له الأثير بحق أنه أحسن سبك اللفظ على المعنى.
ولكن ابن الأثير قرن هذه الخاصية في البحتري بخاصية أخرى هي أنه أراد أن يشعر فغنى. بل الأصح أن نقول أن النقادة الشهير إنما أثبت الخاصية الأولى عند البحتري كالتمهيد لخاصيته الثانية وهي أن أبا عبادة شاعر أجمل ما في شعره عنصر الجرس الموسيقي. فهل نرى ابن الأثير أنصف أبا عبادة في حكمه هذا حين جعل بالنتيجة مدار الجمال في شعره على النغم والإيقاع، فقال إنه أراد أن يشعر فغنى، ثم أعاد الكرة فقال: هو على الحقيقة قبة الشعراء في الإطراب.
الواقع أننا حين نطلب الفكرة في شعر البحتري لا نلبث أن نجد حظه منها عاديا مألوفا. فليس في معانيه غوصات تأمل وجهد عقلي كالتي نجدها عند الشعراء المثقفين كأبي نواس وأبي تمام وابن الرومي والمتنبي وسبب ذلك أن البحتري - وهو البدوي النشأة - لم يتوفر له قسط كبير من الثقافة إلا فيما يتصل بآلة اللغة. يضاف إلى ذلك أنه لم يكن واسع المطامح, وقد وفق من طريق شعر إلى حياة خاصة أبعد ما تكون عن الحرمان حتى قال فيه ابن رشيق: فاض كسبه من شعره، وكان يركب في موكب من عبيد. وهذا الضيق في مطامحه، وما صادف من التوفيق في حياته الخاصة، ما كانا ليثيراه إلى غوص وإلى عمق تحليل. ثم لا شك في أن الجو الذي أحدثه المتوكل باضطهاد المعتزلة، والدعوة إلى ترك المناقشة والتفلسف، قد كان له أثره فيما نلمسه من سطحية البحتري في أكثر معانيه. ودليلنا على ذلك أنه شاء في آخر حياته أن – يتفلسف - فقال في رثائه لأحد أصدقائه:
شبه الدنيا بزوجة رجل تطلق حين يشتد كلفه بها وشغفه، أراد أن الإنسان كلما تعلق بالدنيا أفلتت من يديه ودفعت به نحو القبر. ثم زعم أن الدنيا وإن ظهرت من صنع خالق واحد فإن فيها من التفاوت والاختلاف ما يحمل على الاعتقاد بأنها من صنع خالقين اثنين أحدهما حكيم والآخر أحمق. فما كان من خصوم البحتري إلا أن اتهموه بالقول بإلهين: إله خير وإله شر، على مذهب الزرادشتية الفارسية، ولاقت هذه التهمة رواجا في العامة حتى اضطر الشاعر إلى الخروج من بغداد هاربا أو كالهارب إلى بلده منبج حيث قضى نحبه.
وإذا لم يكن للبحتري استعدادا يخوله أن يكون شاعر فكرة، ولا كان المناخ العقلي في عصره وبيئته ليصرف رجلا مثله إلى سبر الأغوار والتفتيش عن المعاني، فيتعرض لغضب السلطان أو سخط العوام.
فأما الصورة فقد كان نصيب أبي عبادة منها قيما نفيسا. فهو معدود في الشعراء الواصفين وله إجادات مرموقة في وصف الآثار العمرانية والمشاهد الطبيعية، من مثل السينية التي وقف بها على أطلال إيوان كسرى في المدائن، واللامية في القصر الكامل الذي بناه الخليفة المعتز. واليائية الهائية في بركة المتوكل. والميمية في الربيع. ومع هذا يجب الاعتراف بأن أوصافه جلها حسي يتعلق بظاهر الموصوفات، وجلها إجمال قليل الحظ من الدقة في تصوير الملامح وتحريها.
غير إننا حين نلتفت شطر العاطفة عند البحتري توشك أن ترتد إلى مثل ضؤولة نصيبه من الفكرة إلا في بعض قصائد كالتي رثي بها المتوكل غب مصرعه بأيدي الجند الأتراك، فإن فيها من صدق اللوعة والجسارة على قتلة المتوكل وعلى ولي عهده ما يجعلها رائعة من روائع الرثاء، وحجة للبحتري - رغم تذبذبه - على أنه كان قمينا بجمال الوفاء.
وهكذا ترانا إذا استثنينا حظ البحتري من إجادة الصورة، وعرفنا له بعض لمحات دالة على قوة العاطفة، نجد أن حكم ابن الأثير كان صحيحا حين جعل أجمل ما في شعر أبي عبادة عنصر الجرس الموسيقي. فهو العنصر الذي يمتاز به البحتري حقا، وأكبر الظن أن البحتري كان مدركا لشعره ميزته العليا هذه، فكان يباهي الناس مباهاة في إنشاده لعلمه أن الإنشاد يسبغ على شعره عذوبة وطلاوة، ويجد له رونقا يضيع إذا قرأ قصيدة قراءة صامتة.
ولنضرب لنا مثلا. قال البحتري يتغزل بعلوة القينة الحلبية التي عرفها في صباه ثم اتخذها عروسا لشعره يذكرها في مطالع الغزل التقليدي التي يمهد بها للمدح:
فليس يستطيع متذوق للشعر ينشد هذه الأبيات إلا أن يجد لها وقعا حلوا في نفسه. فإذا فتش عن مبعث هذه الحلاوة لم يمكنه أن يجده في معنى نادر ولا وصف ساحر ولا شعور باهر. فالفكرة في الأبيات والصورة والعاطفة كلها متاع مشترك بين قوالي الغزل.
فمن أين إذن، كان ذلك الوقع الحلو الذي نحسه في أنفسنا حين نردد هذه الأبيات. أنه ناشئ ولا ريب من رشاقتها وحسن رنتها، أي: الجرس الموسيقي العذب الذي احتواه نظم هذه الأبيات وجلاه لنا إنشادها.
وللبحتري صفة خاصة دقيقة، يعالج بها الجرس الموسيقي ويلينه ويطوعه لشعره. فهو بالدرجة الأولى شديد الحرس على اللفظ المأنوس الأنيق وعلى التركيب الشفاف المشرق وعلى صور التعبير القريبة المتناول، مما أدخلناه في حسن سبكه للفظ على المعنى وظاهر أن أنس اللفظ وأناقته ووضوح التركيب وإشراقه، وقرب متناول الصور التعبيرية، كل ذلك خادم لحسن الجرس الموسيقي إذ لا يفسد هذا الجرس شيء كالتعقيد والتقعير، فتشتغل النفس عندئذ بطلب المعنى عند التلذذ برخامة النغم والإيقاع.
غير أن أبا عبادة لا يقتصر على هذا القدر من الصنعة في تطويع الجرس الموسيقي لنظمه بل تراه بارعا مرهف الحس في اجتناب كل نشاز بين حرف وآخر في اللفظة الواحدة، أو بين لفظة وأخرى في التركيب، فهو لا يراعي نسب الألفاظ فيما بينها فقط ولا النسب فيما بين الألفاظ والمعنى فقط، بل يراعي النسب أيضا بين مخارج الحروف وأصواتها ومقاطع الكلمات وأصدائها:
فهل ترى في هذا النظم حرفا يجاوز حرفا آخرا يتجافى صوتهما، أو هل ترى كلمة تلاصق كلمة أخرى يتنافى صداهما.
وإلى ذلك يستعمل البحتري فنا من التسجيع في داخل البيت يكسب نظمه موسيقى مطربة كما في قوله:
وقوله:
وقوله في السينية يصف المتحاربين في صورة المعركة بين الفرس والروم:
فذلك التسجيع بين ’’محرقة’’ و’’مؤرقة’’ و’’يروقني’’ و’’يشوقني’’ و’’مليح’’ و’’مشيح’’ قد أعطى الشعر جمال وقع يضيع عند تبديل واحدة من هذه الألفاظ.
ومع التسجيع يعتمد البحتري كثيرا على جودة التقطيع للكلام في النظم. وإليك مثلا قوله في البائية التي وصف فيها مصارعة الفتح بن خاقان وزير المتوكل للأسد. قال:
ولا أدل على جودة تقطيع الكلام في هذا النظم من أن نعيد كتابته على الشكل الآتي:
هزبر مشى يبغي هزبرا،
وأغلب من القوم يغشى باسل الوجه غلبا
فأحجم،
لما لم يجدفيك مطمعا
وأ قدم،
لما لم يجد عنك مهربا.
فلم يغنه.
إن كر نحوك مقبلا،
ولم ينجه
إن حاد عنك منكبا!
حملت عليه السيف
لا عزمك انثنى
ولا يدك ارتدت
ولا حده نبا.
إن أدنى حظ من رهافة الحس الموسيقي ليشهد بما قد أسبغته جودة تقطيع النظم على هذا الشعر من عذوبة إيقاع.
وخاتمة القول أن ابن الأثير لم يعد الصواب حين جعل ميزة البحتري العليا أنه أراد أن يشعر فغنى. فلقد ظهر لنا في كل ما تقدم أن أجمل ما بني عليه شعر البحتري هو الجرس الموسيقي وما يشيعه إنشاده من طرب في أجزاء النفس.
وليس يقلل حكم ابن الأثير من علو منزلة البحتري بين الشعراء العرب. فإن ميزة الجرس الموسيقي ليست بالميزة اليسيرة ولا سيما في الشعر الغنائي، بل لعلها هي الميزة العليا في هذا الضرب من الشعر.
ولكن لا بد من الإقرار بأن الجرس الموسيقي الذي يتحلى به نظم البحتري قليل النصيب من الفخامة والروعة، فهو جرس عذب رقيق وكفى. أنه قد عدم ذلك العزف الصاخب القوي الذي نجده في شعر زميله أبي الطيب المتنبي.
من شعره
قال:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال:
#هل ركب مكة حاملون تحية تهدي إليها من معنى مغرم
وقال:
وقال:
وقال:
وقال في الفضل بن إسماعيل الهاشمي:
وقال:
وقال:
وقال:
وقال في الشيب:
وقال أيضا من قصيدة:
وقال من قصيدة في وصف الرياض:
وقال يصف إيوان كسرى:
وقال من قصيدة:
شعره في الطيف والخيال
قال المرتضى في الأمالي: لأبي عبادة البحتري في وصف الخيال الفضل على كل متقدم ومتأخر فإنه تغلغل في أوصافه واهتدى من معانيه إلى ما لا يوجد لغيره وكان مشغوفا بتكرار القول فيه لهجا لإبدائه وإعادته وقوله في هذا المعنى أكثر من أن يذكر.

  • دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 10- ص: 274