التصنيفات

موفق الدين أبو نصر أسعد ابن أبي الفتح إلياس بن جرجيس المطران الدمشقي. ولد بدمشق ونشأ بها وتوفي في ربيع الأول سنة 587 بدمشق.
ذكر له ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء ترجمة طويلة قال فيها: هو الحكيم الإمام العالم الفاضل كان سيد الحكماء وأوحد العلماء وافر الآلاء جزيل النعماء أمير أهل زمانه في علم صناعة الطب وعملها وأكثرهم تحصيلا لأصولها وجملها جيد المداواة لطيف المداراة عارفا بالعلوم الحكمية متعينا في الفنون الأدبية وكان أبوه أيضا طبيبا متقدما وكان موفق الدين حاد الذهن فصيح اللسان كثير الاشتغال وكان جميل الصورة كثير التخصص محبا للبس الفاخر المثمن وكان يغلب عليه الزهو بنفسه والتكبر حدثني أبو الظاهر إسماعيل أنه لم يكن على شيء من ذلك أيام طلبه للعلم فكان إذا فرع من دار السلطان يأتي وحوله كثير من المماليك فإذا قرب من الجامع ترجل وأخذ الكتاب بيده ودخل وحده إلى حلقة الشيخ فسلم عليه وقعد بين يديه وكان كثير المطالعة للكتب لا يفتر عن ذلك في أكثر أوقاته وكان أبدا لا يفارق في كمه مجلدا يطالعه على باب دار السلطان أو أين توجه وكان كثير المروءة كريم النفس ويهب لتلامذته الكتب ويحسن إليهم وإذا جلس أحد منهم لمعالجة المرضى يخلع عليه ولم يزل معتنيا بأمره (انتهى). وفي النجوم الزاهرة: الموفق أسعد بن إلياس بن جرجيس المطران الطبيب كان نصرانيا فاسلم على يد السلطان وكان غزير المروءة حسن الأخلاق كريم العشرة.
تشيعه
ليس في ترجمته التي في عيون الأنباء على طولها ما يشعر بتشيعه ولكن في النجوم الزاهرة ما يدل على تشيعه وهذا غريب مع كونه في خدمة صلاح الدين وأسلم في زمانه قال: وكان يصحبه صبي حسن الصورة اسمه عمر وكان الموفق يحب أهل البيت ويبغض ابن عنين الشاعر لخبث لسانه وكان يحرض السلطان صلاح الدين عليه ويقول له أليس هو القائل:

فهجاه ابن عنين بقوله:
إحسانه إلى أهل صناعة الطب وعطفه عليهم
في عيون الأنباء أنه كان كثير الاشتمال على أهل هذه الصناعة الطبية والحكمية يقدمهم ويتوسط في أرزاقهم. أخبرني الفقيه إسماعيل بن صالح بن البنا القفطي خطيب عيذاب قال لما فتح صلاح الدين الساحل أتيت لزيارة البيت المقدس فلما حصلت بالشام رأيت جبالا مشجرة بعدة براري عيذاب المصحرة فاشتقت إلى سكنى الشام، وتحيلت في الرزق به فأتيت القاضي الفاضل عبد الرحيم فكتب لي كتابا إلى السلطان بتوليتي خطابة قلعة الكرك فلما أتيت دمشق أشير علي بعرضه على ابن المطران فدخلت عليه بأذن فرأيته حسن الخلقة والخلق لطيف الاستماع والجواب ورأيت داره في غاية الحسن والتجمل حتى إن أنابيب الماء فيها من ذهب ورأيت له غلاما يتحجب بين يديه اسمه عمر في غاية جمال الصورة وسألته حاجتي فانعم بانجازها. ولما فتح صلاح الدين الكرك أتى إلى دمشق الحكيم يعقوب بن سقلاب النصراني وهو بزي أطباء الفرنج فقصد ابن المطران لعله ينفعه فأشار عليه إن يغير زيه إلى زي أطباء بلاد الإسلام، وأعطاه ما يلبسه وقال له: إن ها هنا أميرا كبيرا اسمه ميمون القصري وهو مريض وأنا أداويه فتعال معي فقال للأمير هذا طبيب فاضل وأنا اعتمد عليه فيكون يلزمك إلى إن تبرأ إن شاء الله فلازمه إلى إن برئ فأعطاه خمسمئة دينار فأحضرها إلى ابن المطران فقال له ابن المطران: ما أردت إلا نفعك فخذها فأخذها ودعا له.
من مكارم أخلاقه
في عيون الأنباء: حدثني الحكيم إبراهيم بن محمد السويدي قال كان ابن المطران جالسا على باب داره فجاءه شاب وأعطاه ورقة فيها اثنا عشر بيتا من الشعر يمدحه بها فقال له أنت شاعر قال لا ولكنني من أهل البيوت وقد ضاقت يدي فقصدتك فادخله داره وقدم له طعاما فأكل وقال له قد مرض عز الدين فرخشاه صاحب صرخد وهذا المرض يعتاده وأنا اعرف دواءه وقد رأيت إن أبعثك فتداويه بما أقول لك وأعطاه ثيابا لائقة وفرسا ومائتي درهم وكتب معه إلى فرخشاه فذهب وداواه بما قال له ابن المطران فبرئ وأجازه بألف دينار وخلع عليه وطلب منه إن يبقى عنده ويكون طبيبه فقال حتى أشاور شيخي ابن المطران فقال وهل هو إلا غلام أخي لا سبيل إلى خروجك فلما ألح عليه احضر الجائزة وأخبره بقصته فقال لا عليك تكون حاجبا عندي.
اتصاله بصلاح الدين بن أيوب
في عيون الأنباء: أنه خدم بصناعة الطب الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وحظي في أيامه وكان رفيع المنزلة عنده عظيم الجاه، وكان يتحجب عنده ويقضي أشغال الناس، ونال من جهته من المال مبلغا كثيرا، وكان صلاح الدين كريم النفس كثير العطاء لمن هو في خدمته، وكان له حسن اعتقاد في ابن المطران لا يفارقه في سفر أو حضر، وكان يغلب على ابن المطران الزهو بنفسه والتكبر حتى على الملوك وكان صلاح الدين قد عرف ذلك منه ويحترمه لعلمه، واسلم ابن المطران في أيام صلاح الدين. حدثني بعض من كان يعرف ابن المطران أنه كان مع صلاح الدين في بعض غزواته وكان عادة صلاح الدين في حروبه إن تنصب له خيمة حمراء وكذلك دهليزها و شقتها فنظر يوما إلى خيمة حمراء وكذلك شقتها ومستراحها فسال عنها فأخبر أنه لابن المطران الطبيب فقال لقد عرفت إن هذا من حماقة ابن المطران وضحك وأمر بمستراحها فرمي، فصعب ذلك على ابن المطران وبقي يومين لم يقرب الخدمة فاسترضاه السلطان ووهب له مالا. وحدثني أيضا أنه كان في خدمة صلاح الدين طبيب يقال له أبو الفرج النصراني فقال يوما للسلطان إن عنده بنات ويحتاج إلى تجهيزهن فقال صلاح الدين اكتب ما تحتاج إليه في ذلك فكتب ما قيمته ثلاثون ألف درهم فأمر بشراء ذلك له فلما بلغ ذلك ابن المطران قصر في ملازمة الخدمة وتبين التغير في وجهه فأمر له صلاح الدين من المال بمثل تلك القيمة. وقال جمال الدين علي بن يوسف بن إبراهيم القفطي إن موفق الدين لما أسلم وكان نصرانيا حسن إسلامه وزوجه صلاح الدين إحدى حظاياه وكانت جارية زوجة صلاح الدين وأعطتها الكثير من حليها وذخائرها فرتبت أموره وصار له ذكر سام في الدولة وحصلت له أموال جمة من أمراء الدولة في حال مباشرته لهم في أمراضهم وترقت حاله عند سلطانه إلى إن كاد يكون وزيرا.
أخباره في معالجة المرضى
في عيون الأنباء: حدثني شيخنا مهذب الدين قال كان أسد الدين شيركوه صاحب حمص قد طلب ابن المطران فتوجه إليه وكنت معه فاستقبله في الطريق رجل مجذوم وقد تغيرت خلقته، فاستوصفه دواء فقال كل لحوم الأفاعي فعادوه المسالة فقال كل لحوم الأفاعي فلما رجعنا وإذا بشاب حسن الصورة قد سلم علينا فلم نعرفه فأخبر أنه هو المجذوم أكل لحوم الأفاعي فصلح.
وحدثني أيضا أنه كان معه في البيمارستان الذي أنشأه نور الدين بن زنكي فكان من جملة المرض رجل به استسقاء زقي فقصد إلى بزله فخرج منه ماء اصفر وابن المطران يتفقد نبضه فلما رأى إن قوته لا تفي بإخراج أكثر من ذلك أمر بشد الموضع وان يستلقي المريض ولا يغير الرباط وأوصى زوجته بعدم تغييره إلى اليوم الثاني فلما انصرفنا قال المريض لزوجته قد وجدت العافية وما بقي شيء وطلب منها حل الرباط فامتنعت فعاودها إلى إن حلت الرباط وخرجت بقية الماء فهلك.
وحدثني أيضا أنه رأى في البيمارستان مع ابن المطران رجلا قد فلجت يده من أحد شقي البدن ورجله من الشق الآخر فعالجه بالأدوية الموضعية فصلح.
مشايخه
في عيون الأنباء: قرأ علم النحو واللغة والأدب على الشيخ الإمام تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي وتميز في ذلك واشتغل بالطب على مهذب الدين بن النقاش.
تلاميذه
في عيون الأنباء: كان أجل تلامذته شيخنا مهذب الدين عبد الرحيم بن علي وكان كثير الملازمة له والاشتغال عليه وسافر معه عدة مرات في غزوات صلاح الدين لما فتح الساحل.
مؤلفاته
في عيون الأنباء: له من الكتب
(1) بستان الأطباء وروضة الألباء جزءان جمع فيه ما يجده من ملح ونوادر وتعريفات مستحسنة لم يتم
(2) المقالة الناصرية في حفظ الأمور الصحية جعلها باسم الملك الناصر صلاح الدين
(3) مختصر كتاب الأدوار للكدانيين إخراج أبي بكر أحمد بن علي بن وحشية فرع من اختصاره في رجب سنة 581
(4) لغز في الحكمة
(5) كتاب على مذهب دعوة الأطباء
(6) كتاب الأدوية المفردة لم يتم
(7) كتاب آداب طب الملوك.
خزانة كتبه
في عيون الأنباء: كانت له همة عالية في تحصيل الكتب حتى أنه مات وفي خزانته من الكتب الطبية وغيرها ما يناهز عشرة آلاف مجلد خارجا عما استنسخه وكانت له عناية بالغة في استنساخ الكتب وتحريرها وكان في خدمته ثلاثة نساخ يكتبون له أبدا ويجري عليهم الرزق منهم جمال الدين المعروف بابن الجمالة وكان خطه منسوبا وكتب ابن المطران أيضا بخطه كتبا كثيرة رأيت عدة منها وهي في نهاية حسن الخط والصحة والأعراب وأكثر الكتب التي كانت عنده توجد وقد صححها وأتقن تحريرها وبعد وفاته بيعت جميع كتبه لأنه لم يخلف ولدا.

  • دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 3- ص: 295