الأمير أبو فراس الحارث بن سعيد الحمداني العدوي التغلبي
نسبه
هو أبو فراس الحارث بن أبي المعالي سعيد بن حمدان بن حمدون بن الحارث بن لقمان بن راشد بن المثنى بن رافع بن الحارث بن عطيف بن محربة بن حارثة بن مالك بن عبيد بن عدي بن اسامة بن مالك بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب الحمداني العدوي التغلبي.
وأبو فراس بكسر الفاء وتخفيف الراء من أسماء الأسد. وفي شعره ما يدل على إن أمه أو إحدى جداته رومية حيث يقول:
إذا خفت من أخوالي الروم خطة | تخوفت من أعمامي العرب أربعا |
ويقول أيضا:
لإسماعيل بي وبينه فخر | وفي اسحق بي وبينه عجب |
ويقول أيضا:
وأعمامي ربيعة وهي صيد | وأخوالي بلصفر وهي غلب |
مولده ووفاته
ولد بمنبج سنة 320 وقيل سنة 321 ومقتضى ما حكاه ابن خالويه عن أبي فراس أنه قال له انه في سنة 339 كان سني 19 سنة أو ولادته كانت سنة 320 وقتل يوم الأربعاء لثمان خلون من ربيع الآخر أو يوم السبت لليلتين خلتا من جمادي الأولى في حرب كانت بينه وبين قرعويه أو فرغوية غلام سيف الدولة سنة 357 هكذا في جميع كتب التاريخ والأدب. فما في تاريخ دمشق لابن عساكر المطبوع من أنه قتل سنة 350 غلط من الطابع. ومقتضى تاريخ ولادته ووفاته إن يكون عمره 37 سنة وهو المناسب لقوله قرب وفاته:
زين الشباب أبو فرا | س لم يمتع بالشباب |
ولكنه يقول في بعض قصائده:
أبعد الأربعين محرمات | تماد في الصبابة واغترار |
وهو يدل على أنه بلغ الأربعين والله أعلم ماذا عمر بعد ذلك وفي ديوان الشريف الرضي المطبوع إن أبا الهيجاء حرب بن سعيد بن حمدان توفي سنة 382 قال وكان أخوه أبو فراس الحارث بن سعيد قد مات قبله بقليل. وهذا لا يناسب تاريخ وفاته المتقدم فان بينه وبين تاريخ وفاة أخيه على هذا 25 سنة وهذا لا يقال عنه انه توفي بقليل فان القليل نحو سنة أو أشهر أو نحو ذلك فلا بد إن يكون أحد التاريخين غلطا والله أعلم. على إن سيف الدولة مات سنة 356 واستيلاء أبي فراس على حمص الذي كان قتله بسببه كان بعد وفاة سيف الدولة بيسير فلا بد أما من كون تاريخ وفاة أبي الهيجاء غلطا أو قول جامع الديوان إن أخاه أبا فراس مات قبله بقليل غلط والله أعلم.
عشيرته
نشأ أبو فراس في عشيرة عربية صميمة تقلب أفرادها في الملك والإمارة قرونا عديدة وكانت لهم أحسن سيرة مملوءة بمحاسن الأفعال وجميل الصفات من كرم وسخاء وعز وإباء وصولة وشجاعة وفصاحة وبراعة وحلم وصفح وتدبير وغيرة وحماية للجار وحفظ للذمار ورأي رصين وعقل رزين إلى غير ذلك. وكلهم أو جلهم شعراء مجيدون أهل شجاعة وإقدام تعودوا ممارسة الحروب وقيادة الجيوش ويندر أوليس بموجود إن يكون فيهم من ليس بشاعر ولا شجاع فارس وسيف الدولة المتقدم في الرياسة والإمارة والشجاعة والكرم وأبو فراس الفائق بشعره فيهم والمتميز بشجاعته وفروسيته. عن كتاب أعلام الكلام للقشيري: كان كشاجم من المعجبين بآل حمدان ونظم قصيدة بليغة في جعفر بن عبد الله الحمداني.
وقال الثعالبي في اليتيمة: كان بنو حمدان ملوكا وأمراء أوجههم للصباحة وألسنهم للفصاحة وأيديهم للسماحة وعقولهم للرجاحة. وأنا أزيد فأقول: ونفوسهم للطماحة وقلوبهم للشجاعة وأقوالهم للبراعة وأوامرهم للإطاعة وحماهم للمناعة وصيتهم للاذاهة. تجلت الأخلاق والشيم العربية الفاضلة والغيرة على العروبة والإسلام في أفعالهم وأقوالهم وقد اختاروا أحسن الكنى والألقاب المشعرة بشغفهم بالعز والعلياء والشجاعة وتمسكهم بالعروبة فمن كناهم: أبو المعالي وأبو العلاء وأبو الأغر وأبو العشائر وأبو الهيجاء وأبو السرايا وأبو المرجى وأبو فراس -وهي كنية الأسد- وأبو العطاف وأبو عدنان وأبو الغطريف ومن أسمائهم الغضنفر. وفيهم يقول أبو فراس:
فلم يخلق بنو حمدان إلا | لمجد أو لباس أو لجود |
وفيهم يقول أبو فراس أيضا:
أيها المبتغي محل بني ح | مدان مهلا أتبلغ الجوزاء |
فضلوا الناس رفعة وسناء | وعلوهم تكرما ووفاء |
يا محيل الأفكار فيهم إلى كم | تتعب الفكر هل تنال السماء |
وفيهم يقول أبو فراس أيضا:
وأنا الذي علم الأنام بأنه | لم ينمه إلا كريم سيد |
وفيهم يقوم أبو فراس أيضا:
ونحن أناس يعلم الله أننا | إذا جمع الدهر الغشوم شكائمه |
إذا ولد المولود منا فإنما | الأسنة والبيض الرقاق تمائمه |
وفيهم يقول أبو فراس أيضا:
وإذا افتخرت فخرت بالشم الأولى | شادوا المكارم من بني حمدان |
نحن الملوك بنو الملوك أولي العلا | ومعادن السادات من عدنان |
والمجد يعلم أننا أركانه | والبيت مرتكز على الأركان |
قومي متى تخبرهم لم يحسنوا | غير اصطناع العرف والإحسان |
كم معدم أغنوا بفضل سماحهم | كرما وفكوا من أسير عاني |
وهم أحق ببيت شعر قد مضى | في الناس ممن ضمه الثقلان |
(وإذا دعوتهم ليوم كريهة | سدوا شعاع الشمس بالمران) |
وفيهم يقول أبو فراس أيضا:
إذا كان منا واحد في عشيرة | علاها وان ضاق الخناق حماها |
ولا اشتورت إلا وأصبح شيخها | ولا اختبرت إلا وكان فتاها |
ولا ضربت بين القباب قبابه | وأصبح مأوى الطارقين سواها |
وفيهم يقول أبو فراس أيضا:
وإني لمن قوم كرام أصولهم | بها ليل أبطال كرام المناسب |
ولولا رسول الله كان اعتزاؤنا | لاشرف بيت من لؤي بن غالب |
وفيهم يقول أبو فراس أيضا:
وأنا ابن من شاد المكارم وابتنى=خطط المعالي حيث حل الفرقد
وأنا الذي علم الأنام بأنه | لم ينمه إلا كريم سيد |
حمدان جدي خير من وطئ الحصى | وأبي سعيد في المكارم أوحد |
أعلى لنا لقمان أبيات العلا | وأناف حمدون وشيد أحمد |
يعطي إذا ضن السحاب تكرما | ويجير إن جار الزمان الأنكد |
والمجد يوجد عندنا بأرومة | والعار والفحشاء مالا يوجد |
والفخر يقسم أننا أبناؤه | دون البرية والمكارم شهد |
ويقود فيهم أبو فراس أيضا:
ونحن أناس لا توسط بيننا | لنا الصدر دون العالمين أو القبر |
ويقول فيهم أبو فراس أيضا:
ولقومي الشرف الرفيع محله | فوق المجرة والسماك المرزم |
ورثوا الرياسة كابرا عن كابر | من عهد عاد في الزمان وجرهم |
ظفروا بها بالسيف أول مرة | وبقاؤها بالسيف أصبح فيهم |
نحن البحار بل البحار مياهها | ملح وموردنا لذيذ المطعم |
وفيهم يقول أبو فراس أيضا:
ومن لم يشاهد كر قومي في الوغى | فها فليشاهد كرهم في المكارم |
ويقول أبو فراس أيضا وقد أتى عسكر ناصر الدولة وفيه أخوته وبنو أخيه وقد طال عهده بلقائهم لأنه كان خلفهم صبية فعرفهم بالشبه:
يلوح بسيماه الفتى من بني أبي | وتعرفه من غيره بالشمائل |
مفدى مرجى يكثر الناس حوله | طويل نجاد السيف سبط الأنامل |
وفيهم يقول السري الرفا من قصيدة يمدح بها أبا البركات لطف الله بن ناصر الدولة الحمداني:
والحمد حلي بني حمدان تعرفه | والصبح أبلج لا يلقى بإلإنكار |
قوم إذا نزل الزوار ساحتهم | تفيئوا ظل جنات وانهار |
وفيهم يقول السري أيضا من قصيدة يمدح بها سيف الدولة:
آل حمدان غرة الكرم المحض | وصفو الصريح منه اللباب |
أشرق الشرق منهم وخلا الغرب | ولم يخل من ندى وضراب |
ينجلي السلم عن بدور رواض | فيه والحرب عن اسود غضاب |
وفيهم يقول هارون الكناني من قصيدة:
يبرزون الوجوه تحت ظلام | الموت والموت فيهم يستظل |
كرماء إذا الظبا غشيتهم | منعتهم أحسابهم إن يولوا |
وفيهم يقول جعفر بن محمد الموصلي:
بأبناء حمدان الذين كأنهم | مصابيح لاحت في ليال حوالك |
لهم نعم لا استقل بشكرها | وان كنت قد سيرته في المسالك |
وفيهم يقول المتنبي في مدح سيف الدولة:
وأنت أبو الهيجا بن حمدان يا ابنه | تشابه مولود كريم ووالد |
وحمدان حمدون وحمدون حارث | وحارث لقمن ولقمن راشد |
وفيهم يقول المتنبي أيضا من قصيدة يمدح بها أبا العشائر الحسين بن علي بن الحسين بن حمدان:
يا بني الحارث بن لقمان لا | تعدمكم في الوغى متون العتاق |
بعثوا الرعب في قلوب الأعادي | فكأن القتال قبل التلاقي |
وتكاد الظبي لما عودوها | تنتضي نفسها إلى الأعناق |
وإذا أشفق الفوارس من وقع | القنا أشفقوا من الاشفاق |
كرم خشن الجوانب منهم | فهو كالماء في الشفار الرقاق |
ومعال إذا ادعاها سواهم | لزمته جناية السراق |
وفيهم يقول الشريف الرضي من قصيدة يرثي بها أبا الهيجاء حرب بن سعيد بن حمدان أخا أبي فراس وأولها:
رجونا أبا الهيجاء إذ مات حارث | فمذ مضيا لم يبق للمجد وارث |
يقول فيها:
وسرب بنو حمدان كانت حماته | رعت فيه ذؤبان الليالي العوائث |
فأين كفاة القطر في كل أزمة | وأين الملاجي منهم والمغاوث |
إذا ما دعا الداعون للبأس والندى | فلا الجود منزور ولا الغوث رائث |
من المطعمين المجد بالبيض والقنا | ملاء المقاري والعريب غوارث |
إذا طرحوا عماتهم وضحت لهم | مفارق لم يعصب بها العار لائث |
بكتهم صدور المرهفات و بشرت | هجان المتالي والمطي الرواغث |
يخلى لهم من كل ورد جمامه | إذا وردوا والمعشبات الاثائث |
مضوا لا الأيادي مخدجات نواقص | ولا مرر العلياء منهم رثائث |
وقد نبغ منهم جماعة كثيرة بل جلهم نوابغ فكان فيهم الأمراء والشعراء والشجعان والأسخياء ذكر أكثرهم أبو فراس في قصيدته الرائية العصماء التي يفتخر فيها بقومه في الإسلام ويذكر وقائعهم ومفاخرهم وأولها:
لعل خيال العامرية زائر | فيسعد مهجور ويسعد هاجر |
وسنورد طرفا مقنعا منها.
فمن نوابغهم جدهم الأعلى (الحارث) بن لقمان بن راشد الذي يشير إليه أبو فراس بقوله في القصيدة المذكورة:
أنا الحارث المختار من نسل حارث | إذا لم يسد في القوم إلا الأخاير |
وجدهم الأدنى الذي يتفرعون منه وينسبون إليه أبو العباس حمدان بن حمدون ويقال أحمد بن حمدون. والظاهر إن أصل اسمه أحمد وحمدان تغيير منه. وأولاد حمدان بن حمدون وهم تسعة:
1- علي بن حمدان بن حمدون وكان أسن ولد حمدان مات حدثا. وولده أبو الغطريف يحيى بن علي بن حمدان.
2- أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون والد سيف الدولة وله ثلاثة أولاد (أولهم) أبو محمد ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان بن حمدون وهو أسن من سيف الدولة ولناصر الدولة عدة أولاد منهم. أبو تغلب الغضنفر. وأبو المظفر حمدان. وإبراهيم. وأبو البركات لطف الله. وأبو المرجى جابر. وأبو القاسم هبة الله. والحسين، وأبو المطاع ذو القرنين (الثاني) من أولاده عبد الله بن حمدان سيف الدولة أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان بن حمدون وله من الأولاد أبو المكارم مات في حياته وأبو المعالي شريف ملك بعده (الثالث) من أولاد عبد الله بن حمدان أبو العطاف جبر بن عبد الله بن حمدان.
3- أبو الوليد سليمان بن حمدان بن حمدون الملقب بالحرون
4- أبو العلاء سعيد بن حمدان بن حمدون والد أبي فراس وله خمسة أولاد وهم. أبو عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان. وأبو فراس الحارث بن سعيد بن حمدان. وأبو الهيجاء حرب بن سعيد ابن حمدان. وأبو الأغر أحمد بن سعيد بن حمدان وأبو الفضل ابن سعيد بن حمدان.
5- أبو سليمان داود بن حمدان بن حمدون الملقب بالمزرفن وله ولدان وهما. أبو وائل تغلب. وأبو اليقظان عمار ويظهر إن لعمار ولدا اسمه داود أيضا.
6- أبو علي الحسين بن حمدان. بن حمدون. وحفيده أبو العشائر الحسين بن علي بن الحسين بن حمدان.
7- أبو السرايا نصر بن حمدان بن حمدون وله خمسة أولاد وهم. أبو العباس أحمد. وأبو اليقظان عمار. وأبو الحسن علي. وأبو زهير مهلهل وأبو عدنان محمد 8- أبو إسحاق إبراهيم بن حمدان ابن حمدون.
9- أبو جعفر محمد الغمر بن حمدان بن حمدون ومن بني حمدان جعفر بن عبد الله الحمداني لكشاجم فيه قصيدة بليغة.
أقوال العلماء فيه
عده ابن شهراشوب في معالم العلماء من شعراء أهل البيت المجاهرين وقال أبو عبد الله الحسين بن محمد بن أحمد بن خالويه النحوي اللغوي جامع ديوان أبي فراس وشارحه في مقدمة الديوان ما لفظه: من حل من الشرف السامي والحسب النامي والفضل الرائع والكرم الذائع والأدب البارع والشجاعة المشهورة والسماحة المأثورة محل أبي فراس الحارث بن سعيد بن حمدان بن حمدون بن الحارث العدوي رحمه الله وكان سيف الدولة أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان رضي الله تعالى عنه وهو ابن عمه ومنبته ومثقفه ومخرجه و موقفه يجري على سنته العادلة وآثاره الفاضلة شهدت له شواهد الفضل ودعت إليه دواعي النبل. وفي اليتيمة: أبو فراس الحارث بن سعيد حمدان. كان فرد دهره وشمس عصره أدبا وفضلا وكرما ونبلا ومجدا وبلاغة وبراعة وفروسية وشجاعة وكان سيف الدولة يعجب جدا بمحاسن أبي فراس ويميزه بالإكرام عن سائر قومه ويصطنعه لنفسه ويستصحبه في غزواته ويستخلصه في أعماله وأبو فراس ينثر الدرر الثمينة في مكاتباته إياه ويوفيه حق سؤدده ويجمع بين أدبي السيف والقلم في خدمته.
وقال ابن عساكر في تاريخ دمشق: الحارث بن سعيد بن حمدان أبو فراس بن أبي العلاء التغلبي الحمداني الأمير الشاعر الفارس كان يسكن منبج ويتنقل في بلاد الشام في دولة أبي الحسن علي بن حمدان المعروف بسيف الدولة. وفي النجوم الزاهرة أبو فراس الحارث بن أبي العلاء سعيد بن حمدان التغلبي العدوي الأمير الشاعر الفصيح وكان يتنقل في بلاد الشام في دولة ابن عمه سيف الدولة بن حمدان وكان من الشجعان والشعراء المفلقين وديوان شعره موجود.
وفي نسمة السحر: أبو فراس الحارث بن أبي العلاء سعيد بن حمدان بن حمدون التغلبي الشامي الأمير الكبير الشاعر المشهور (إلى أن قال) فهو المنزل الموت الأحمر ببني الأصفر والمورد السنان الأشهب في نحر العدو الأزرق تحت النقع الأسود في اليوم الأغبر.
وفي أبي فراس يقول الأمير أبو أحمد عبد الله بن ورقاء الشيباني من قصيدة تأتي:
أمدره تغلب لسنا وعلما | ومصقع نطقها عند التلاحي |
لقد أوتيت علما واطلاعا | بآداب وألفاظ فصاح |
لمقولك المضاء إذا انتضاه | القصيد على المهند الصفاح |
شخصيته
هو أمير جليل وقائد عظيم أكبر قواد سيف الدولة وشجاع مدرة وشاعر مفلق وعربي صميم تجلت فيه الأخلاق والشيم العربية السامية بأجلى مظاهرها في شجاعته وولوعه بالحرب وكراهته الإخلاد إلى الدعة والراحة وفي إباء نفسه وفخره وحماسته واعتزازه بعشيرته وعلو همته وارتفاعه عن الدنايا وسخائه وفصاحته وحبه للعفو والصفح وحفظ الحرم وارتياحه إلى الكرم والبذل وحبه فعل الخير والمساواة بنفسه وعدم إيثارها على المسلمين ورقة طبعه وسجاحة خلقه وحبه للوطن ورعايته لحقوق الإخوان ومحافظته على لم شعث العشيرة إلى دين متين واعتقاد ثابت رصين وخوف من الله تعالى وغيرة على الإسلام والعروبة وأشعاره الكثيرة الحماسية وأخباره الآتية شاهدة شهادة صادقة بما اتصفت به نفسه من الشمم والإباء وعلو الهمة والطموح إلى العلياء والغرام بالمجد وما يكسب الثناء والحمد. والأمير أبو فراس هو أمير السيف والقلم. كان شاعرا مجيدا وبطلا مقداما إذا قال فعل فهو إذا قال:
وإني لنزال بكل مخوفة | كثير إلى نزالها النظر الشزر |
وإني لجرار لكل كتيبة | معودة إن لا يخل بها النصر |
سيذكرني قومي إذا جد جدهم | وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر |
فهو حقيقة نزال بكل مخوفة جرار لكل كتيبة وإذا غاب يترك فراغا لا يسده غيره فيذكره قومه لا كمن يقول ولا يفعل.
قضى الحمدانيون أيامهم في حروب متواصلة مع جيرانهم وأعدائهم الروم وكانت لأبي فراس اليد الطولى في قيادة الجيوش الحمدانية وتسييرها وكان له الفضل الأكبر في إحراز الفلج لها وكان إذا مشى الجيش مشى أبو فراس في الطليعة فيجندل بسيفه الأبطال ويردي غلب الرجال. وكان ذا نفس طماحة وروح تواقة لا ترضى بالدنيات من الأمور والصغائر من الأفعال بل تنهض به إلى أسمى المنازل وأعلى الرتب باشر أبو فراس قيادة الحروب وقيادة الجيوش وما اخضر عارضاه كما يدل عليه بعض أشعار أهله. وحكى عنه ابن خالويه أنه قال غزونا مع سيف الدولة وفتحنا حصن العيون وأوغلنا في بلاد الروم وفتحنا حصن الصفصاف وسني إذ ذاك 19 سنة وهو القائل:
فلا تصفن الحرب عندي فإنها | طعامي مذ ذقت الصبا وشرابي |
وهو عارف بتواريخ العرب في الجاهلية والإسلام وغيرهم وهو عالم بصناعة الكلام والاحتجاج وإيراد الأدلة والنقص والإبرام كما تدل عليه قصيدته الميمية التي يرد بها على ابن سكرة العباسي مشارك في العلوم عارف باللغة والعربية تخرج على ابن خالويه العالم اللغوي النحوي الشهير وغيره.
جمع أبو فراس إلى مكانة بيته وشرف محتده شخصية قوية فذة فأهله ذلك لأن يكون الأمير الجليل وأن يكون أكبر قواد سيف الدولة وأن يكون من أحب الشخصيات العربية إلى النفوس على مر الأزمان. ولا شك إن نشأته في حجر سيف الدولة ووراثته مزايا عرف بها آل حمدان وتفردوا بمحاسنها قد كونا شخصيته تلك. يضاف إلى ذلك ظروف حياته التي قضاها في ممارسة الحرب والغزو ومكابدة الأسر. فقد اجتمعت تلك العوامل والمؤثرات فأخرجت شخصية صافية واضحة لا ارتباك فيها ولا تعقيد شأن أكثر الشعراء بعيدة كل البعد عن إن تربكها الخطوب وترهقها الحوادث أو إن تخرج بها دفائن الأهواء عن الخلق المتفائل السمح مع عزم وصلابة ووضوح.
لا شك في إن الوراثة وحياة المرء الاجتماعية منذ نشأته لهما الأثر العظيم في تكوين شخصيته. وتنمية صفاته الغريزية وتقويتها وإبرازها. وقد ورث شاعرنا الأمير عن أجداده وآبائه الشيء الكثير مما عرف به هذا البيت العربي الكريم فكان مطبوع الفطرة على مثل الأخلاق العربية العليا. ثم تداولت ظروف حياته هذه الفطرة السليمة الصافية فاتسقت معها تنميها وتغذيها فكانت رغباته قيد إرادة قوية ومجال واسع في الإمارة والرياسة، لتحقيق ما تصبو إليه نفسه العظيمة لقد تيسر له -وهو الطامح إلى معالي الأمور- إن يباشر الحروب وقيادة الجيوش ويتقلب في ذرى الإمارة وهو ابن تسع عشرة سنة فنمت فيه غريزة الشجاعة وقويت وعظمت وهو إلى ذلك يجر وراءه ماضيا ضخما وصيتا عريضا من تراث الآباء والأجداد ويحمل في قرارة نفسه عقيدة دينية صلبة تعرف معها نفسه ما لها وما عليها فأهله ذلك لأن يكون الأمير الجليل ولأن يكون أكبر قواد سيف الدولة ولأن يتبوأ أسمى مقام بين العظماء ولأن يكون خالد الذكر ما بقي الدهر ووجد مجالا واسعا في الحماسة والفخر الصادق وساعدته الحالات التي كان يمارسها من نصر وظفر واسر طال واستمر على إن تخرج قريحته الفياضة شعرا مطبوعا بطابع كل حسن ورقة وعذوبة وفخامة وانسجام وهو إذا افتخر وتحمس وذكر الحروب يقول قولا صادقا يطابق الفعل ولا يكون كمن يقول ما لا يفعل ويفخر بما ليس فيه. فنمت شخصيته واطمأنت خطوطها العامة في وضوح وصفاء، لذلك كان بعيدا كل البعد عن أن يحمل الحقد والنقمة على الحياة وبنى البشر فلم يقل كما قال المتنبي المنكوب في صميم نفسه بما لم ينكب به أبو فراس:
ومن عرف الأيام معرفتي بها | وبالناس روى رمحه غير راحم |
نعم لقد قال: (إذ مت ظمآنا فلا نزل القطر). ولكنه لم يمت ظمآن
بل شرب حتى ارتوى رحمه الله. وتبرم بالزمان والإخوان شأن أمثاله لكنه لم يخرج في ذلك إلى ما خرج إليه المتنبي. ويظهر تبرمه بالزمان والإخوان في كثير من شعره كقوله:
تناساني الأصحاب إلا عصابة | ستلحق بالأخرى غدا وتحول |
ومن ذا الذي يبقى على العهد إنهم | وان كثرت دعواهم لقليل |
اقلب طرفي لا أرى غير صاحب | يميل مع النعماء حيث تميل |
وصرنا نرى إن المتارك محسن | وان صديقا لا يضر وصول |
تصفحت أحوال الزمان فلم يكن | إلى غير شاك للزمان وصول |
وليس زماني وحده بي غادر | ولا صاحبي دون الرجال ملول |
أكل خليل هكذا غير منصف | وكل زمان بالكرام بخيل |
نعم دعت الدنيا إلى الغدر دعوة | أجاب إليها عالم وجهول |
وقبلي كان الغدر في الناس شيمة | وذم زمان واستلام خليل |
تلك شخصية أبي فراس. قل وجودها في غير بني حمدان في ذلك العصر الذي عاش فيه أبو فراس والذي توالت فيه الفتن والخطوب على الإسلام والعرب متسلسلة منذ اليوم الذي بدا فيه فساد الدين والدنيا في بلاد العرب والإسلام فقل اليقين والأمان وعصفت بالنفوس عواصف المحن والخطوب الخارجية والداخلية. فلم يكن غريبا إن يتفوق أبو فراس ويتبوأ مركز الإمارة والقيادة عن جدارة واستحقاق لأن شخصية تستطيع إن تخرج من خلال هذه الغمرات النفسية خالصة الجوهر صافية السجايا والخلايا ممثلة روح التضحية واليقين والفروسية كما كانت في صدر الإسلام لهي شخصية عبقرية.
وقد جمع أبو فراس ألوانا صادقة من رسوم شخصيته تلك فكانت صورة واضحة رائعة له في إحدى قصائده التي أرسلها إلى ابن عمه سيف الدولة من أسر القسطنطينية: وقد بلغه عن سيف الدولة ما أنكره كما في الديوان وقال ابن خالويه امتنع الأمير سيف الدولة من إخراج ابن أخت الملك إلا بفداء عام وحمل الأمير أبو فراس إلى القسطنطينية فقال يعاتب سيف الدولة. وهذه القصيدة من غرر شعر أبي فراس ولذلك أوردناها بتمامها وهي:
أما لجميل عندكن ثواب | ولا لمسيء عندكن متاب |
لقد ضل من تحوي هواه خريدة | وقد ذل من تقضي عليه كعاب |
ولكنني والحمد لله حازم | أعز إذا ذلت لهن رقاب |
ولا تملك الحسناء قلبي كله | وان ملكتها روقة وشباب |
واجري ولا أعطي الهوى فضل مقودي | وأهفو ولا يخفى علي صواب |
إذا الخل لم يهجرك إلا ملالة | فليس له إلا الفراق عتاب |
إذا لم أجد في بلدة ما أريده | فعندي لأخرى عزمة وركاب |
وليس فراق ما استطعت فان يكن | فراق على حال فليس إياب |
صبور ولو لم تبق مني بقية | قؤول ولو إن السيوف جواب |
وقور وأحوال الزمان تنوشني | وللموت حولي جيئة وذهاب |
والحظ أهوال الزمان بمقلة | بها الصدق صدق والكذاب كذاب |
بمن يثق الإنسان فيما ينوبه | ومن أين للحر الكريم صحاب |
وقد صار هذا الناس إلا أقلهم | ذئابا على أجسادهن ثياب |
تغابيت عن قومي فظنوا غباوتي | بمفرق أغبانا حصى وتراب |
ولو عرفوني حق معرفتي بهم | إذا علموا إني شهدت وعابوا |
وما كل فعال يجازى بفعله | ولا كل قوال لدي يجاب |
ورب كلام مر فوق مسامعي | كما طن في لوح الهجير ذباب |
إلى الله أشكو إننا بمنازل | تحكم في آسادهن كلاب |
تمر الليالي ليس للنفع موضع | لدي ولا للمعتفين جناب |
ولا شد لي سرج على ظهر سابح | ولا ضربت لي بالعراء قباب |
ولا برقت لي في اللقاء قواطع | ولا لمعت لي في الحروب حراب |
ستذكر أيامي نمير وعارم | وكعب على علاتها وكلاب |
أنا الجار لا زادي بطيء عليهم | ولا دون مالي في الحوادث باب |
ولا اطلب العوراء منهم أصيبها | ولا عورتي للطالبين تصاب |
وأسطو وحبي ثابت في قلوبهم | واحلم عن جهالهم واهاب |
بني عمنا لا تنكروا الود أننا | شداد على غير الهوان صلاب |
بني عمنا ما يصنع السيف في الوغى | إذا فل منه مضرب وذباب |
بني عمنا نحن السواعد والظبا | ويوشك يوما إن يكون ضراب |
وإن رجالا ما ابنهم كابن أختهم | حريون إن يقضي لهم ويهابوا |
فعن أي عذر إن دعوا ودعيتم | أبيتم بني أعمامنا وأجابوا |
وما أدعي ما يعلم الله غيره | رحاب علي للعفاة رحاب |
وأفعاله بالراغبين كريمة | وأمواله للطالبين نهاب |
ولكن نبا منه بكفي صارم | واظلم في عيني منه شهاب |
وأبطأ عني والمنايا سريعة | وللموت ظفر قد أطل وناب |
فإن لم يكن ود قريب نعده | ولا نسب دون الرجال قراب |
فأحوط للإسلام إن لا يضيعني | ولي عنه فيه حوطة ومناب |
ولكنني راض على كل حالة | ليعلم أي الحالتين صواب |
وما زلت أرضى بالقليل محبة | لديه وما دون الكثير حجاب |
واطلب إبقاء على الود أرضه | وذكري مني في غيرها وطلاب |
كذاك الوداد المحض لا يرتجى له | ثواب ولا يخشى عليه عقاب |
وقد كنت أخشى الهجر والشمل جامع | وفي كل يوم لقية وخطاب |
فكيف وفيما بيننا ملك قيصر | وللبحر حولي زخرة وعباب |
أمن بعد بذل النفس فيما تريده | أثاب بمر العتب حين أثاب |
فليتك تحلو والحياة مريرة | وليتك ترضى والأنام غضاب |
وليت الذي بيني وبينك عامر | وبيني وبين العالمين خراب |
إذا صح منك الود فالكل هين | وكل الذي فوق التراب تراب |
في هذه القصيدة ترى شخصية أبي فراس واضحة حتى في غزلها الذي كان فيه صادقا لا جاريا في استهلال القصيدة به على سنة الشعراء الأقدمين فحسب. فهو يمثل غزل الرجل الكبير والأمير الأبي الذي (لا تملك الحسناء كل قلبه) والذي (يهفو ولكن لا يخفى عليه صواب) ولا شك بان ما ينتابه فيها من حس الألم والتبرم بالإخوان وعتاب سيف الدولة لا ينتاب إلا نفسا كالتي وصفناها.
وقد أولع أبو فراس في شعره بذكر الحرب والطعن والضرب في سبيل العز والمجد فمن بديع شعره في ذلك قوله:
لا عز إلا بالحسام المخذم | وضراب كل مدجج مستلئم |
وقراع كل كتيبة بكتيبة | ولقاء كل عرموم بعرموم |
ولقد رضعت من الزمان لبانه | وعرفت كل معوج ومقوم |
وقطعت كل تنوفة لم يلقها | قدم ولم تقرع بباطن منسم |
وأهنت نفسي للرماح وانه | من لم يهن بين القنا لم يكرم |
ورأيت عمري لا يزيد تأخري | فيه ولا يفنيه فضل تقدمي |
لا تكاد تقرأ خبرا من أخبار أبي فراس ولا قصيدة من شعره فلا تجد أثرا يروعك من فروسيته وفتوته. وفي كل حادثة من حوادث أيامه اثر من ذلك. قال ابن خالويه غدا أبو فراس يتصيد في خيل يسيرة فأحدقت به الخيل (يعني خيل الروم) من كل جانب في عدد كثير فلم يزل يقاتل حتى كشفهم واعتنق فارسهم واسر عدة منهم فكتب إلى سيف الدولة:
ألا من مبلغ سروات قومي | وسيف الدولة الملك الهماما |
باني لم أدع فتيات قومي | إذا حدثن جمجمن الكلاما |
شرت ثناءهن ببذل نفسي | ونار الحرب تضطرم اضطراما |
ولما لم أجد إلا فرارا | أشد من الحمام أو الحماما |
حملت على ورود الموت نفسي | وقلت لصحبتي موتوا كراما |
وعدت بصارم ويد وقلب | حمتني إن أضام وإن ألاما |
آلفهم وأنشرهم كأني | بها نعما اطرد أو نعاما |
ومدعو إلى المران لما | رأى إن قد تذمم واستلاما |
عقدت على مقلده يميني | وأعفيت المثقف والحساما |
وهل عذر وسيف الدين ركني | إذا لم اركب الخطط العظاما |
وأقفوا فعله في كل أمر | واجعل فضله أبدا إماما |
وقد أصبحت منتسبا إليه | وحسبي إن أكون له غلاما |
أراني كيف اكتسب المعالي | وأعطاني على الدهر الذماما |
ورباني ففقت به البرايا | وأنشاني فسدت به الأناما |
فأبقاه الإله لنا طويلا | وزاد الله نعمته دواما |
وما أجمل ما يتمدح به الفارس الفتى وهو في عنفوان الشباب يحارب ويخاطر بنفسه حتى لا يدع فتيات قومه إذا حدثن عنه أخذهن الخجل من فراره فجمجمن الكلام بل يدعهن يتباهين بمقامه. ثبت أبو فراس في هذه المرة فلم يقدر عليه وثبت في المرة الثانية الآتية فاسر ولكنه في المرتين لم يكن نادما على الفرار. وكان الروم كانوا يترصدونه ويغتنمون فرصة خروجه للصيد ليغتالوه.
وهو إذا ظفر بأعدائه من قبائل العرب هزه مرأى إحدى مخدراتهم وهي تتوسل إليه إن يصفح ويعفو فلقيها بالجميل ووهب لها ما حازه الجيش وترك نساء الحي مصونات محجبات كما قال:
وساحبة الأذيال نحوي لقيتها | فلم يلقها جافي اللقاء ولا وعر |
وهبت لها ما حازه الجيش كله | ورحت ولم يكشف لأبياتها ستر |
وهو في إيقاعه ببني جعفر حين رماه النساء بأنفسهن هزته أريحية الفتوة فكان عند ظن (بنيات عمه) به في الصفح والعفو وحفظ الحرم فأطلق لهن الأموال والأسرى ولم يكتف بذلك بل كلف نفسه غرم ما فقد من المال، وأرسل هذه الأبيات الجميلة التي تمثل روح الفتوة عند أبي فراس أصدق تمثيل وأروعه. قال من قصيدة:
ولما أطعت الجهل والغيظ ساعة | دعوت بحلمي أيها الحلم اقبل |
بنيات عمي هن ليس يرينني | بعيد التجافي أو قليل التفضل |
شفيع النزاريات غير مخيب | وداعي النزاريات غير مخذل |
فأصبحت في الأعداء أي ممدح | وان كنت في الأصحاب أي معذل |
ففي هذا الشعور تجاه النساء اللائذات به وفي هذا الاعتزاز يجبر كسرهن وحمايتهن أريحية الرجولة والفتوة.
وفي قصيدته هذه يقول أيضا في إيقاعه ببني جعفر ذاكرا في قتلهما من بني جعفر:
مضى فارس الحيين زيد بن زمعة | ومن يدن من نار الوقيعة يصطل |
وقرم بني البنا تميم بن عامر | فتيان طعانان في كل جحفل |
ولو لم تفتني سورة الحرب فيهما | جريت على رسم من الصفح أول |
وعدت كريم العفو والبطش فيهما | احدث عن يوم أغر محجل |
وتراه قد اعترف بشجاعتهما وفضلهما اعتراف الخصم الشريف وبتأسف لحيلولة سورة الحرب دون كريم العفو عنهما فاصطليا بنار الوقيعة.
وصفح عن بني كلاب فقال معربا عن أخلاقه الفاضلة وحبه العفو ومتمدحا بذلك وكرره في شعره مرارا:
أفر من السوء لا أفعله | ومن موقف الضيم لا اقبله |
وقرب القرابة أرعى له | وفضل أخي الفضل لا أجهله |
وأبذل عدلي للأضعفين | وللشامخ الأنف لا أبذله |
وأحسن ما كنت بقيا إذا | أنالني الله ما آمله |
وقد علم الحي حي الضباب | وأصدق قيل الفتى أفضله |
باني كففت واني عففت | وان كره الجيش ما أفعله |
وقال في إيقاعه ببني كلاب وصفحه عنه من قصيدة:
لي منة في رقاب الضباب | وأخرى تخص بني جعفر |
فلما سمعت ضجيج النساء | ناديت حار إلا اقصر |
أحارث من صافح غافر | لهن إذا أنت لم تغفر |
وقال في مثل ذلك:
تسمع في بيوت بني كلاب | بني البنا تنوح علي تميم |
بكرهي إن حملت بني أبيه | وأسرته على الناي العظيم |
رجعت وقد ملكتهم جميعا | إلى الأعراق والأصل الكريم |
وقال في إيقاعه ببني كلاب أيضا وصفحه عن الحرم:
تخف إذا نطاردها كلاب | فكيف بها إذا قلنا نزال |
تركناها ولم يتركن إلا | لأبناء العمومة والخوال |
فلم ينهضن عن تلك الحشايا | ولم يبرزن عن تلك الحجال |
وقال في مثل ذلك:
سلي عني سراة بني معد | ببالس عند مشتجر العوالي |
لقيناهم بأسياف قصار | كفين مؤونة الأسل الطوال |
وعادوا سامعين لنا فعدنا | إلى المعهود من شرف الفعال |
ونحن متى رضينا بعد سخط | أسونا ما جرحنا بالنوال |
وهو القائل:
ينال اختيار الصفح عن كل مذنب | له عندنا ملا لا تنال الوسائل |
وقال يتمدح بالحلم والعفو:
يقولون لا تخرق بحلمك هيبة | وأحسن شيء زين الهيبة الحلم |
فلا تتركن العفو عن كل زلة | فما العفو مذموما وان عظم الجرم |
ولما أسرت بنو كلاب سيد بني قطن خرج أبو فراس حتى انتزعه منهم وقال:
رددت على بني قطن بسيفي | أسيرا غير مرجو الإياب |
سررت بفكه حيي نمير | وسؤت بني سبيعة والضباب |
وما أبغي سوى شكري ثوابا | وان الشكر من خير الثواب |
فهل يثني علي فتى نمير | بحلي عنه قيد بني كلاب |
وقال وقد أوقع ببني كلاب وأسر مصعبا الطائي وسألته أم بسام فصفح عن الأموال من أبيات:
جار نزعناه قسرا في بيوتكم | والخيل تعصب فرسانا بفرسان |
بالمرج إذ أم بسام تناشدني | بنات عمك يا حار بن حمدان |
فظلت اثني صدور الخيل ساهمة | بكل مضطغن بالحقد ملآن |
ونحن قوم إذا عدنا بسيئة | على العشيرة عقبنا بإحسان |
وأي مثال للأخلاق السامية يحتذيه المرء ويقتدي به أسمى من قوله في البائية السالفة:
أنا الجار لا زادي بطيء عليهم | ولا دون مالي في الحوادث باب |
ولا اطلب العوراء منهم أصيبها | ولا عورتي للطالبين تصاب |
ولما حصل محمد بن رائق بالموصل دبر على ناصر الدولة ليقتله فسبقه ناصر الدولة بالفتكة وقد كان ابن رائق قتل عمارة العقيلي وجماعة من بني نمير فقال أبو فراس وهو صبي:
لقد علمت قيس بن عيلان إننا | بنا يدرك الثار الذي قل طالبه |
وإنا نزور الملك في عقر داره | ونفتك بالقرم الممنع جانبه |
وإنا فتكنا بالأغر ابن رائق | عشية دبت بالفساد عقاربه |
أخذنا لكم بالثأر ثأر عمارة | وقد نام لم ينهض إلى الثأر صاحبه |
وما أحسن ما وصف به نفسه وصفا صدق فيه وأبان عن أخلاقه الفاضلة التي هي أحسن قدوة بقوله:
لئن ألفيتني ملكا مطاعا | فإنك واجدي عبد الصديق |
أقيم مع الذمام على ابن أمي | واحمل للصديق على الشقيق |
أفرق بين أموالي وبيني | و اجمع بين مالي والحقوق |
أخو الغمرات في جد وهزل | أخو النفقات في سعة وضيق |
جرئ في الحروب على المنايا | جبان عن ملاحاة الرفيق |
شخصية أبي فراس شخصية غنية بالحيوية. فالأمل والطموح والفتوة والزعامة واستسهال الصعاب حتى الموت في سبيل مثل أعلى للرجولة والقومية والدين كانت كنوزا ثمينة في شخصية أبي فراس وقد تدفقت تلك الحيوية الفياضة في وجوه الحياة العامة فبهرت الأبصار وراعت النفوس.
وانك لتجد دلائل هذه الحيوية جليلة رائعة في جميع أخباره وأشعاره. وإذا لم يكن عجيبا إن تظهر دلائل تلك الحيوية في أخباره وأشعاره وهو الأمير المبجل في سلمه والقائد المنتصر في غزواته وحروبه فان من الرائع العجيب إن يكون في أسر الروم ثم لا تشعره نفسه الأبية شيئا من اللين والمداراة تجاه أعدائه الذين يحكمونه كما يريدون فيناظره الدمستق مناظرة لا يلين فيها (والدمستق) بضم الدال والميم والتاء لقب عظيم من عظماء الروم قيل معناه الرئيس الأكبر للجيش والبطارقة قواده. في اليتيمة وغيرها: أحفظ أبو فراس الدمستق في مناظرة جرت بينهما فقال له الدمستق: إنما أنتم كتاب ولا تعرفون الحرب فقال له أبو فراس نحن نطأ أرضك منذ ستين سنة بالسيوف أم بالأقلام. يغضب أبو فراس الدمستق ويحفظه فيجيبه هذا جوابا فيه كثير من المكر والبراعة إذ يقول لأبي فراس القائل:
وصناعتي ضرب السيوف وإنني | متعرض في الشعر بالشعراء |
"إنما أنتم كتاب ولا تعرفون الحرب" فقد عرف الدمستق كيف يغيظ أبا فراس ويطعن عزته وقوميته ظنا منه بأن أبا فراس الأسير الذي لا حول له ولا قوة سوف يسكت على هذا التحدي ولكن الفارس الأبي يجيبه جواب الغالب للمغلوب لا جواب الأسير لمن هو في أسره فيقوله له: نحن نطأ أرضك منذ ستين سنة بالسيوف أم بالأقلام ثم يقول متحمسا مفتخرا:
أتزعم يا ضخم اللغاديد إننا | ونحن ليوث الحر لا نعرف الحربا |
فويلك من للحرب إن لم نكن لها | ومن ذا الذي يضحي ويسمي لها تربا |
ومن ذا يكف الجيش من جنباته | ومن ذا يقود القلب أو يصدم القلبا |
وويلك من أردى أخاك بمرعش | وجلل ضربا وجه والدك العضبا |
وويلك من خلى ابن أختك موثقا | وخلاك باللقان تبتدر الشعبا |
لقد جمعتنا الحرب من قبل هذه | فكنا بها أسدا وكنت بها كلبا |
فسل بردسا عنا أباك وصهره | وسل أهل برداليس أعظمهم خطبا |
بأقلامنا أحجرت أم بسيوفنا | وأسد الشري قدنا إليك أم الكتبا |
تركناك في وسط الفلاة تجوبها | كما انتفق اليربوع يلتثم التربا |
تفاخرنا بالضرب والطعن في الوغى | لقد أوسعتك النفس يا ابن استها كذبا |
رعى الله أوفانا إذا قال ذمة | وأنفذنا طعنا وأثبتنا ضربا |
ويناظره الدمستق في أمور الدين فيقول:
أما من أعجب الأشياء علج | يعرفني الحلال من الحرام |
وقال في بعض ما قاله وهو في الأسر:
وإن فتى لم يكسر الأسر قلبه | وخوض المنايا حده لعجيب |
أما سائر أخباره فكلها تدل على ما في شخصيته من ذلك الغنى النفسي.
عرض سيف الدولة يوما خيوله وبنو أخيه حضور فاختار كل واحد منهم فرسا منها وأمسك أبو فراس، وسيف الدولة يريد منه إن يفعل مثل فعلهم فلا يفعل وتأبى نفسه من ذلك ويجده حطا من قدره ويرى نفسه أجل من إن يطمع في أخذ جواد من خيل سيف الدولة هذا وسيف الدولة ابن عمه ومربيه وصهره واتصاله به أشد من اتصال بني أخيه فيحدث ذلك وجدا في نفس سيف الدولة عليه ويعاتبه فلا يعتذر ويجيبه بالترفع عن ذلك ويقول:
غيري يغيره الفعال الجافي | ويحول عن شيم الكريم الوافي |
لا أرتضي ودا إذا هو لم يدم | عند الجفاء وقلة الإنصاف |
تعس الحريص وقل ما يأتي به | عوضا عن الإلحاح والإلحاف |
إن الغني هو الغني بنفسه | ولو أنه عاري المناكب حافي |
ما كل ما فوق البسيطة كافيا | وإذا قنعت فكل شيء كافي |
ويعاف لي طمع الحريص فتوتي | ومروتي وقناعتي وعفافي |
ما كثرة الخيل الجياد بزائدي | شرفا ولا عدد السوام الضافي |
خيلي وإن قلت كثير نفعها | بين الصوارم والقنا الرعاف |
ومكارمي عدد النجوم ومنزلي | مأوى الكرام ومنزل الأضياف |
لا أقتني لصروف دهري عدة | حتى كأن صروفه أحلافي |
شيم عرفت بهن مذ أنا يافع | ولقد عرفت بمثلها أسلافي |
وبذل ملك الروم المفاداة لأبي فراس مفردا فكره الأمير النبيل إن يختار نفسه على المسلمين وشرع في مفاداة جميع الأسرى وضمن المال وخرج بهم كما يأتي عند ذكر أسره. ولقي الروم وهم ألف بسبعين من أصحابه لا يرتضيهم لأنهم كانوا من الخدم والأتباع خرج بهم إلى الصيد فأسر كما يدل عليه قوله من قصيدة أرسلها إلى سيف الدولة أول ما أسر ولا يعلم إن هذا هو الأسر الأول أو الثاني:
ولو لم تثق نفسي بمولاي لم أكن | لأوردها في نصره كل مورد |
ولا كنت ألقى الألف زرقا عيونها | بسبعين فيها كل أشام أنكد |
ويدل شعره في تلك القصيدة وغيرها على أنه كان يمكنه الهرب أو الانحياز عن الروم فلم يفعل حيث يقول:
يقولون جانب. عادة ما عرفتها | شديد على الإنسان ما لم يعود |
فقلت أما والله لا قال قائل | شهدت له في الخيل الأم مشهد |
ولكن سألقاها فأما منية | هي الظن أو بنيان عز مؤبد |
ولم أر إن الدهر من عدد العدى | وإن المنايا السود ترمين عن يد |
فهو يأنف من الفرار حتى في ساعة الخطر التي لا يتردد كثير من الشجعان والأشراف في الفرار عندها كما فعل الحارث بن هشام فإنه فر يوم بدر وكان مع المشركين واعتذر عن فراره فقال:
الله يعلم ما تركت قتالهم | حتى علوا فرسي بأشقر مزبد |
وعلمت إني إن أقاتل مفردا | اقتل ولا يضرر عدوي مشهدي |
ففرت عنهم والأحبة فيهم | طمعا لهم بعقاب يوم مرصد |
وكأنما كان لهذا الموقف الذي وقفه أبو فراس وعرض نفسه فيه للأسر مع امكان الفرار في شعره أكثر من مرة وأشار إلى كثرة تحدث الناس به ولومهم إياه وتفنن بالاعتذار عنه. قال من قصيدة:
ألام على التعرض للمنايا | ولي سمع أصم عن الملام |
وقال من قصيدة وكأنما أزدهاه وأبهجه تكاثر اللوام عليه لوما يشعر بحرص الناس عليه وضنهم به:
يقولون لي أقدمت في غير مقدم | وأنت امرؤ ما حنكته التجارب |
فقلت لهم لو لم ألاق صدورها | تناولني بالذم منهم عصائب |
تكاثر لوامي على ما أصابني | كان لم تنب إلا بأسري النوائب |
يقولون لم ينظر عواقب أمره | ومن لم يعن تجري عليه العواقب |
ألم يعلم الذلان إن بني الوغى | كذاك سليب بالرماح وسالب |
وان وراء الحزم فيها ودونه | مواقف تنسى عندهن التجارب |
أرى ملء عيني الردى وأخوضه | إذ الموت قدامي وخلفي المقانب |
وقوله:
تجشمت خوف العار أعظم خطة | وأملت نصرا كان غير قريب |
رضيت لنفسي: كان غير موفق | ولم ترض نفسي كان غير نجيب |
أي رضيت إن يقال عني كان غير موفق في رأيهم ولم ترض نفسي إن يقال عني كان غير نجيب. وقال من قصيدة:
وقال أصيحابي الفرار أو الردى | فقلت هما أمران أحلاهما المر |
ولكنني امضي لما لا يعيبني | وحسبك من أمرين خيرهما الأسر |
يقولون لي بعت السلامة بالردى | فقلت أما والله ما نالني خسر |
وحكى ابن خالويه عن أبي فراس أنه قال: طلب ملك الروم قسطنطين بن لاون الهدنة من سيف الدولة لما كثرت وقائعه بالروم واتصلت غزواته فأبى إلا بشروط قد بعد عهد الروم بمثلها فعند ذلك أراد ملك الروم إن يظهر لسيف الدولة قوته فهادن ملك الغرب وصرف من كان في جهته من العساكر لأن نصارى الغرب وملوكهم لم يكونوا مع ملك القسطنطينية على وفاق وهادن أيضا ملك البلغار والروس والترك والإفرنجة وسائر الأجناس واستنجدهم على حرب سيف الدولة وبعث عسكرا عظيما بينهم رجل يسمى البركمونس وهو أخو الملكة زوجته وابن رومانوس الملك قبله وانفق من الأموال ما يعظم قدره حتى قيل إنه اخرج اثني عشر ألف عامل لحفر الخندق حول عسكره يريد بذلك إن يقهر سيف الدولة أو يحمله على قبول الهدنة بالشروط التي يريدها ملك الروم وسار القائد متوجها إلى ديار بكر وبلغ سيف الدولة خبره فجهز العساكر إلى ديار بكر وأقام هو في غلمانه واتفق إن الفرات زاد فمنع البركمونس من العبور فعدل إلى الشام ونزل على سميساط فافتتحها في بعض يوم ونزل على رعبان ونفر إليه سيف الدولة فيمن بقي معه وأمر أبا فراس بالتقدم فكان أبو فراس أول من لحق العسكر وأحسن البلاء وثبت يقاتل حتى استحر القتل وكثر الأسر في أصحابه ثم انصرف بباقيهم حتى خلصهم واسر في هذه الوقعة أخواه ودق رمحين في تريبق الجزري رئيس الحرزيم وأسر تريبق بعض أصحاب أبي فراس فأرى تريبق ذلك الأسير الجراح التي فيه من أبي فراس وقال له أكتب إلى صاحبك أبي فراس وقل له مثلك لا يتسمى في مثل ذلك اليوم ويعرفه الناس وذلك لأن أبا فراس كان حينما يطعن أو يضرب تريبق يتكنى ويتسمى ويقول خذها وأنا فلان على عادة العرب في الحروب فأراد تريبق نصحه وان كان عدوه بان من كان مثله رئيسا شجاعا واترا لا يتسمى في مثل ذلك اليوم الذي هو فيه في عدد قليل وعدوه في عدد كثير فيعرفه الناس ويجتهدوا في قتله أو أسره متى عرفوه فقال أبو فراس في ذلك بيتين جميلين وكان اعتذاره فيهما عن تسمية اعتذار شعريا طريفا:
يعيب علي إن سميت نفسي | وقد أخذ القنا منهم ومنا |
فقل للعلج لو لم اسم نفسي | لسماني السنان لهم وكنى |
أي لو لم أتكن لعرفوني بطعني وضربي.
وسار سيف الدولة لغزو الروم واستخلفه على الشام فيما ذكره ابن خالويه فلم ترض نفس أبي فراس بالأخلاد إلى الراحة والدعة وأراد إن يكون شريك سيف الدولة في كل غزواته ومواسيا له بنفسه في السراء والضراء وغلظ عليه القعود عن المسير معه فكتب إليه من قصيدة يتألم من تأخره عنه يسأله الاذن له في صحبته في ذلك الغزو فقال:
تضن بالحرب عنا ضن ذي بخل | ومنك في كل حال يعرف الكرم |
لا تبخلن على قوم إذا قتلوا | أثنى عليك بنو الهيجاء دونهم |
يقول فيها طالبا من سيف الدولة إن يأذن له في المسير معه ومبينا له إن الشام محروس بهيبته من العدو غاب عنه أو حضر:
قالوا المسير فهز الرمح عامله | وارتاح في جفنه الصمصامة الخذم |
وطالبتني بما ساء العداة -وقد | عودتها ما تشاء- الذنب والرخم |
حقا لقد ساءني أمر ذكرت له | لولا فراقك لم يوجد له ألم |
لا تشغلني بأمر الشام احرسه | إن الشام على من حله حرم |
وإن للثغر سورا من مهابته | صخوره من أعادي أهله القمم |
لا يحرمني سيف الدين صحبته | فهي الحياة التي تحيا بها النسم |
وما اعترضت عليه في أوامره | لكن سألت ومن عاداته نعم |
وكتب إليه وقد آلمه التأخر عن الغزو من قصيدة:
أتطفأ حسرتي وتقر عيني | ولم أوقد مع الغازين نارا |
أظن الصبر ابعد ما يرجى | إذا ما الجيش بالسارين سارا |
وكان أبو فراس يعتز بعشيرته وتهز أمجاد بني حمدان صميم تقدمه فيكثر من المباهاة بهم وبوقائعهم وكلهم أمير فارس أديب وقد ذكرنا شيئا من ذلك عند ذكر أسرته. فهو لذلك يحرص على لم شعث العشيرة ودوام صلة الرحم. وقد كانت بين أبي تغلب بن ناصر الدولة وأخيه حمدان شحناء وحرب فحاصر الأول الثاني بالجزيرة. فاجتمع لذلك الأمراء في الجزيرة فقال أبو فراس من قصيدة تعبر عن شعور صادق ورحم بر. هذا مع إن ناصر الدولة كان قد قتل أباه والأحقاد تورث كما تورث المحبة قال:
المجد بالرقة مجموع | والفضل مرئي ومسموع |
إن بها كل عميم الندى | يداه للجود ينابيع |
وكل مبذول القرى بيته | بيت على العلياء مرفوع |
لكن أتاني خبر رائع | يضيق عنه السمع والروع |
إن بني عمي وحاشاهم | شعبهم بالخلف مصدوع |
بنواب فرق ما بينهم | واش على الشحناء مطبوع |
عودوا إلى أحسن ما بينكم | سقتكم الغر المرابيع |
لا يكمل السؤدد في ماجد | ليس له عود ومرجوع |
أنبذل الود لأعدائنا | وهو عن الإخوة ممنوع |
ونصل الأبعد من غيرنا | والنسب الأقرب مقطوع |
لا يثبت العز على فرقه | غيرك بالباطل مخدوع |
ومن قوله في لم شعث العشيرة والحنو عليها:
عطفت على غنم بن تغلب بعدما | تعرض مني جانب لهم صلد |
أفضت عليها الجود من قبل هذه | وأفضل منه ما تؤمله بعد |
ولا خير في هجر العشيرة لامرئ | يروح على لم العشيرة أو يغدو |
ولكن دنو لا يولد جرأة | وهجر رفيق لا يصاحبه زهد |
نباعدهم طورا كما نبعد العدى | ونكرمهم حينا كما يكرم الوفد |
وسائر أشعاره لا تكاد تخلو قصيدة منها من ذكر الحرب والتغني بذكر المواقع تغني القائد المقدام ومن أحب شيئا أكثر ذكره. فقد كان الطعن والضرب وإعزاز قومه ونفسه حاجة نفسية في شخصيته تقتضيها حيويته في رجولته وفروسيته وكان يزدهيه ويبهجه ما في غزواته المظفرة من أجر الدنيا والدين لأن أبا فراس كان يحمل مع فروسيته ورجولته عقيدة دينية ثابتة واضحة لا شائبة فيها. وحتى في أغراضه الشعرية الخاصة كان خاطر الحرب يأخذ عليه حسه فلا يتمالك إن يستطرد إلى ذلك من خلال الغزل والنسيب ونحوهما. فهو عند ذكره بعض أهله وقد شيعها إلى الحج يذكر الحرب والطعن والضرب مع عدم المناسبة بينها وبين ما قصد له. فبينما هو يبتدئ بالغزل حسب العادة المتبعة فيقول:
أيحلو لمن لا صبر ينجده صبر | إذا ما انقضى فكر ألم به فكر |
أمعنية بالعذل رفقا بقلبه | أيحمل ذا قلب ولو أنه صخر |
عذيري من اللائي يلمن على الهوى | أما في الهوى لو ذقن طعم الهوى عذر |
أطلن عليه النوم حتى تركنه | وساعته شهر وليلته دهر |
ومنكرة ما عاينت من شجونه | ولا عجب ما عاينته ولا نكر |
ويحمد في الغضب البلى وهو قاطع | ويحسن في الخيل المسومة الضمر |
تذكرني نجدا ومن حل أرضها | فيا صاحبي نجواي هل ينفع الذكر |
إذا به يذكر الحرب ويفتخر بالشجاعة وعلو الهمة فيقول:
تطاولت الكثبان بيني وبينه | وباعد فيما بيننا البلد القفر |
مفاوز لا يعجزن صاحب همة | وان عجزت عنها الغريرية الصبر |
كأن سفينا بين فيد وحاجز | يحف به من آل قيعانه بحر |
عداني عنه ذود أعداء منهل | كثير إلى وراده النظر الشزر |
وسمر أعاد تلمع البيض بينها | وبيض أعاد في أكفهم السمر |
وقوم متى ما القهم روي القنا | وارض متى ما أغزها شبع النسر |
وخيل يلوح الخير بين عيونها | ونصل متى شمته نزل النصر |
إذا ما الفتى أذكى مغاورة العدى | فكل بلاد حل ساحتها ثغر |
ويوم كان الأرض شابت لهوله | قطعت بخيل حشو فرسانها صبر |
تسير على مثل الملاء منشرا | وآثارنا طرز لأطرافها عمر |
ثم يصف المشيعة إلى الحج فيقول ويبدع:
وفيمن حوى ذاك الحجيج خريدة | لها دون عطف الستر من دونها ستر |
وفي الكم كف ما يراها عديلها | وفي الخدر وجه ليس يعرفه الخدر |
أشيعها والدمع من شدة الأسى | على خدها نظم وفي نحرها نثر |
رجعت وقلبي في سجاف غبيطها | ولي لفتات نحو هودجها كثر |
فهل عرفات عارفات بزورها | وهل شعرت تلك المشاعر والحجر |
أما اخضر من بطنان مكة ما ذوى | أما أعشب الوادي أما نبت الصخر |
سقى الله قوما حل رحلك بينهم | سحائب لا قل نداها ولا نزر |
وهو في خطابه للمحبوب وغزله به لا يجد إلا الحرب وغزو الروم أعداء بلاده وقومه موضوعا يتمثل به فيقول:
أيها الغازي الذي | يغزو بجيش الحب جسمي |
ما يقوم الأجر في | غزوك للروم بأثمي |
كما أنه يجد صوت قراع السيوف بين الصفوف أشهى إليه من شرب السلاف من كف ظبي ذي شنوف حيث يقول:
أحسن من قهوة معتقة | بكف ظبي مقرطق غنج |
صوت قراع في وسط معمعة | قد صبغ الأرض من دم المهج |
وبينا هو يراسل أبا أحمد عبد الله بن محمد بن ورقاء الشيباني يعتذر إليه مما ظنه من التعريض به في أخر قصيدته الرائية الطويلة إذا به تجيش نفسه بما تعوده من الفخر والحماسة فيقول بعد النسيب:
لأملاك البلاد علي ضرب | يحل عزيمة الدرع الوقاح |
ويوم للكماة به عناق | ولكن التصافح بالصفاح |
ولم تفعل مرارة الأسر ووحشة الغربة عن أهله وصحبه ووطنه في نفسه ما فعله قعوده في هذا الأسر عن الحرب وتدبير أمور القيادة والرياسة فقال من قصيدته العصماء البائية المتقدم ذكرها:
تمر الليالي ليس للنفع موضع | لدي ولا للمعتفين جناب |
ولا شد لي سرج على ظهر سابح | ولا ضربت لي بالعراء قباب |
ولا برقت لي في اللقاء قواطع | ولا لمعت لي في الحروب حراب |
وجميع قصائده الروميات تعرب عما كان ينتابه في الأسر من ألم الشوق إلى الحرب ومنازلة الفرسان.
لم تكن أشعار أبي فراس خيال تمنيات وأحلام فإن أخباره تدل على إن أشعاره صور صادقة من حياته الواقعية ومثله العليا التي كان يعيش بها.
وما أحسن ما أبان به عن نفسيته وما أدق ما أشار به إشارة غير مباشرة إلى ناحية من نفسه هي تحكمه في رغباته وإباؤه إن ترغمه تلك الرغبات على إجابتها لا إن يسعى إليها مختارا، في هذه الأبيات:
وما أنا من كل المطاعم طاعم | ولا أنا من كل المشارب شارب |
ولا أنا راض إن كثرن مكاسبي | إذا لم تكن بالعز تلك المكاسب |
ولا السيد القمقام عندي بسيد | إذا استنزلته من علاه الرغائب |
علي طلاب العز من مستقره | ولا ذنب لي إن حاربتني المطالب |
وعندي صدق الضرب في كل معرك | وليس عليه إن نبون المضارب |
عتادي لدفع الهم نفس أبية | وقلب على ما شئت منه مصاحب |
وجرد كأمثال السعالي سلاهب | وخوص كأمثال القسي نجائب |
وفي قوله:
ومن أبقى الذي أبقيت هانت | عليه موارد الموت الزؤام |
ثناء طيب لا خلف فيه | وآثار كآثار الغمام |
وعلم فوارس الحيين إني | قليل من يقوم لهم مقامي |
لقد حقق ما كان يطمح إليه فأبقى الثناء الطيب والآثار الحميدة وأقام سيفه الحجة لدى فرسان قومه بان من يقوم مقامه نادر قليل لذلك هو بعد إن أدى رسالته يرد موارد الموت الزؤام غير متردد لأنه قد شفى طموح نفسه وبعد همته وحقق الغاية من حياته كما قال:
علينا إن نغاور كل يوم | رخيص الموت بالمهج الغوالي |
فإن عشنا ذخرناها لأخرى | وان متنا فموتات الرجال |
ويجد نفسه سعيدا مغتبطا بما يعانيه في حروبه من وعورة المنازل والنزول في القفار بين الأفاعي والعقارب لان ورود العذب الزلال لا يجلبه إلا ورود الرنق الأجاج حيث يقول من قصيدة:
أوينا بين أطراف العوالي | إلى بلد من النصار خالي |
تمد بيوتنا في كل فج | به بين الأراقم والصلال |
نعاف قطونه ونمل منه | ويمنعنا الإباء من الزيال |
مخافة إن يقال بكل أرض | بنو حمدان كفوا عن قتال |
ومن عرف الخطوب ومارسته | أطاب النفس بالحرب السجال |
فإن يك إخوتي وردوا شباها | بأكرم موقف وأجل حال |
فمن ورد المهالك لم ترعه | رزايا الدهر في أهل ومال |
وذا الورد المكدر جانباه | بما أوردت من عذب زلال |
إذا ما لم تخنك يد وقلب | فليس عليك خائنة الليالي |
ضربت فلم أدع للسيف حدا | وجلت بحيث ضاق عن المجال |
الأهل منكر ببني نزار | مقامي يوم ذلك أو مقالي |
ألم أثبت لها والخيل فوضى | بحيث تخف أحلام الرجال |
تركت ذوابل المران فيها | مخضبة محطمة الأعالي |
وعدت أجر رمحي عن مقام | تحدث عنه ربات الحجال |
وكان للدين والأخلاق في شخصية أبي فراس أثر بالغ صادق زاد في نقاء تلك الشخصية وصفائها وأعانه في الصعاب التي لاقاها -وهو لما يزل في عنفوان الشباب- على إن يقف من الحياة موقف الحكيم الزاهد المستهين بالمكاره وما أجمل وأصدق عاطفته الدينية وأشجى عتابه لسيف الدولة في خطابه له من بعض الروميات بقوله:
فإن لم يكن ود قريب نعده | ولا نسب دون الرجال قراب |
فأحوط للإسلام إن لا يضيعني | ولي عنه فيه حوطة ومناب |
وما بالك بذلك الفارس المغوار بينما هو يفتخر بآبائه وبحروبه إلى أقصى ما يتصور إذا بعاطفة الدين تميل به إلى مناجاة الله تعالى فكأنه عابد في محراب لا أسد في مجال الضراب فيقول:
أنظر لضعفي يا قوي | وكن لفقري يا غني |
أحسن إلي فإنني | عبد إلى نفسي مسي |
ويقول وليسا في الديوان المطبوع:
أنا إن عللت نفسي | بطبيب أو دواء |
عالم إن ليس إلا | بيد الله شفائي |
ويسلي نفسه وهو في الأسر ويعظها بأبلغ مواعظ أهل العرفان فيقول:
ما لي جزعت من الخطوب وإنما | أخذ المهيمن بعض ما أعطاني |
ويقول مظهرا حسن ظنه وثقته بالله تعالى:
ومن لم يوق الله فهو ممزق=ومن لم يعز الله فهو ذليل
إذا لم يعنك الله فيما تريده=فليس لمخلوق إليه سبيل
وإن هو لم يدللك في كل مسلك | ضللت ولو إن السماك دليل |
وإن هو لم ينصرك لم تلق ناصرا | وان عز أنصار وجل قبيل |
ويتمدح بالكرم والسخاء وبذل الزاد وأقراء الضيف في كثير من شعره كقوله:
ولا والله ما بخلت يميني | ولا أصبحت أشقاكم بمالي |
ولا أمسي احكم فيه بعدي | قليل الحمد مذموم الفعال |
ولكني سأفنيه واقني | ذخائر من ثواب أو جمال |
وللوراث ارث أبي وجدي | جياد الخيل والأسل الطوال |
وما تجني سراة بني أبينا | سوى ثمرات أطراف العوالي |
وقوله من قصيدة:
ولست بجهم الوجه في وجه صاحبي | ولا قائل للضيف هل أنت راحل |
ولكن قراه ما تشهى ورفده | ولو سأل الأعمار ما هو سائل |
وقوله من أبيات:
إذا مررت بواد جاش غاربه | فاعقل قلوصك وانزل ذاك وادينا |
وإن عبرت بناد لا تطيف به | أهل السفاهة فاجلس فهو نادينا |
نغير في الهجمة الغراء ننحرها | حتى ليعطش في الأحياء راعينا |
تجفل الشول بعد الخمس صادية | إذا سمعن عن الأمواه حادينا |
وتغتدي الكوم أشتاتا مروعة | لا تأمن الدهر إلا من أعادينا |
ويصبح الضيف أولانا بمنزلنا | نرضى بذاك ويمضي حكمه فينا |
وقوله من أبيات:
سلي عني نساء بني معد | يقلن بما رأين وما سمعنه |
ألست أمدهم لذرى ظلال | وأوسعهم لدى الأضياف جفنه |
وقوله:
أحمي حريمي إن يباح | ولست أحمي ما ليه |
وتخافني كوم اللقاح | وقد امن عذابيه |
تمسي إذا طرق الضيوف | فناؤها بفنائيه |
ناري على ترف تأجج | للضيوف السارية |
يا نار إن لم تجلبي | ضيفا فلست بناريه |
ويرتاح إلى الكرم والمعروف مع من يشكر ومن يكفر فإنه إن فاته الشكر لم يفته الأجر فيقول:
وما نعمة مكفورة قد صنعتها | إلى غير ذي شكر بما نعتي أخرى |
سآتي جميلا ما حييت فإنني | إذا لم أفد شكرا أفدت به أجرا |
ويقول:
وأقسم إن فوت جميل فعل | أشد علي من حز المواسي |
وما أغناه حين تنظر إلى ملكه بقايا ما وهب إذ يقول في أبدع معنى وأبلغ لفظ تعرض فيه هذه الصورة الشعرية للشجاعة والكرم:
بخلت بنفسي إن يقال مبخل | وأقدمت جبنا إن يقال جبان |
وملكي بقايا ما وهبت مفاضة | ورمح وسيف صارم وحصان |
وبلغ التحمس والفخر بالعشيرة في نفس أبي فراس مدى بعيدا فهو يقول في قصيدته الرائية التي يفتخر فيها بقومه وعشيرته والتي بلغ فيها الغاية في الحماسة والفخر والتي زادت أبياتها العامرة على (240) بيتا:
لنا في بني عمي وإحياء أخوتي | علا حيث سار النيران سوائر |
وإنهم السادات والغرر التي | أطول على خصمي بها وأكاثر |
ولولا اجتناب العتب من غير منصف | لما عزني قول ولا خان خاطر |
فكأنه لم يكفه هذا القول الكثير وهذا الفخر العريض الطويل ورأى نفسه قد اختصر ولم يطنب وأقل ولم يطل اجتنابا للعتب من غير منصف ولولا ذلك لما عزه قول ولا خانه خاطر وأي قول يعزه وخاطر يخونه بعد (240) بيتا تصرف فيها بأنواع الفخر والحماسة واستقصى ذكر عشيرته وأيامهم ووقائعهم ومفاخرهم وهو يرى نفسه مقصرا قد منعه خوف العتب من غير منصف من الإطالة والاستيفاء.
أخباره
له أخبار كثيرة شائقة منها مع سيف الدولة ومنها في الأسر ومنها مع المتنبي وبني ورقاء ومنها غير ذلك.
أخباره مع سيف الدولة
عدى ما تقدم وعدى الروميات
كان سيف الدولة الأمير المقدم في آل حمدان وكان هو مربي أبي فراس فان أبا العلاء سعيد بن حمدان والد أبي فراس وعم سيف الدولة كان قد قتل. قتله ابن أخيه ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان حين جاء إليه إلى الموصل وخاف إن يتغلب عليها فقتله غيلة سنة (323) وأبو فراس يومئذ طفل صغير عمره سنتان أو ثلاث سنين فرباه ابن عمه سيف الدولة ونشأ في حجره وكان أبو فراس يعرف له ذلك وينزله منزلة والده ويعترف بجميله وينوه بذلك في أشعاره ويعامله في أكثر حالاته معاملة التابع للمتبوع والمأمور للآمر بل الخادم للمخدوم ويتواضع له في مخاطباته بشعره فهو يقول في بعض قصائده مخاطبا له:
هيهات لا أجحد النعماء منعمها | خلفت يا ابن أبي الهيجاء في أبي |
ويقول مخاطبا له أيضا من أبيات:
إذ أنت سيدي الذي | ربيتني وأبي سعيد |
ويقول من قصيدة:
وكيف ينتصف الأعداء من رجل | العز أوله والمجد آخره |
فمن سعيد بن حمدان ولادته | ومن علي بن عبد الله سائره |
لقد فقدت أبي طفلا فكان أبي | من الرجال كريم العود ناضره |
هو ابن عمي دنيا حين أنسبه | لكنه لي مولى لا أناكره |
ويقول من قصيدة:
ورباني ففقت به البرايا | وأنشاني فسدت به الأناما |
ويقول أيضا:
أب بر ومولى وابن عم | ومستند إذا ما الخطب جالا |
ولما هرب ناصر الدولة من معز الدولة البويهي حين طرده إلى الشام من ديار ربيعة سنة (347) والتجأ إلى أخيه سيف الدولة وكان ناصر الدولة أسن منه قال أبو فراس قصيدة يمدح بها سيف الدولة ويعرض فيها بذم ناصر الدولة الذي قتل أباه ولا توجد في الديوان المطبوع وهي:
لمثلها يستعد البأس والكرم | وفي نظائرها تستنفد النعم |
هي الرياسة لا تقنى جواهرها | حتى يخاض إليها الموت والعدم |
تقاعس الناس عنها وانتدبت لها | كالسيف لا نكل فيه ولا سأم |
ما زال يجحدها قوم و تنظرهم | حتى أقروا وفي آنافهم رغم |
شكرا فقد وفت الأيام ما وعدت | أقر ممتنع وانقاد معتصم |
وما الرياسة إلا ما تقر به | شمس الملوك وتعنو تحته الأمم |
هذي شيوخ بني حمدان قاطبة | لاذوا بدارك عند الخوف واعتصموا |
حلوا بأكرم من حل القباب بها | بحيث حل الندى واستوسق الكرم |
مغارم المجد يعتد الملوك بها | مغانما في العلا في طيها نعم |
فكنت منهم وإن أصبحت سيدهم | تواضع الملك في أصحابه عظم |
شيوخهم سبقت لا فضل ينعتها | وليس يفضل فينا الفاضل الهرم |
ولم يفضل عقيلا في ولادته | على علي أخيه السن والقدم |
وكيف يفضل من أزرى به بخل | وصد اليد والرجلان والصمم |
لا تنكروا يا بنية ما أقول فلن | تنسى التراث ولا إذ حال شيخكم |
كادت مخازيه ترديه فأنقذه | منها بحسن دفاع عنه عمكم |
ثم تعود إليه عاطفة الرحم ويتجلى فيه كرم النفس فيقول:
استودع الله قوما لا أفسرهم | بالظالمين ولو شئنا لما ظلموا |
والقائلين ونغضي عن جوابهم | والجائرين ونرضى بالذي حكموا |
إني على كل حال لست أذكرهم | إلا وللشوق دمع واكف سجم |
الأنفس اجتمعت يوما أو افترقت | إذا تأملت نفس والدماء دم |
رعاهم الله ما ناحت مطوقة | وحاطهم أبدا ما أورق السلم |
وغيظه من ناصر الدولة لم يمنعه إن يقول عنه (ومنا لدين الله سيف وناصر).
ومن مطالعة أخباره مع سيف الدولة يظهر عظيم تقدير سيف الدولة له واعتماده عليه وشدة تعلقه به ومحبته له ومعرفته مزاياه وسجاياه العالية. وفي اليتيمة: كان سيف الدولة يعجب جدا بمحاسن أبي فراس ويميزه بالإكرام عن سائر قومه ويصطفيه لنفسه ويستصحبه في غزواته ويستخلفه على أعماله وأبو فراس ينثر الدر الثمين في مكاتباته إياه ويوفيه حق سؤدده ويجمع بين أدبي السيف والقلم في خدمته.
وكان أبو فراس يعلم منزلته هذه عند سيف الدولة وحاجة سيف الدولة إلى مواهبه وكفاءته فلا جرم إن خاطبه متحمسا معتزا بشجاعته وبابن عمه فقال:
يا ابن الذوائب من نزار والأولى | شادوا بيوت مناقب لم تهدم |
أنا سيف سيف الدولة الماضي إذا | نبت السيوف وخان كل مصمم |
أرم الكتائب بي فإنك عالم | إني أخو الهيجاء غير مذمم |
وعلام لا ألقى الفوارس معلما | وعلو جدك عدتي وعرمرمي |
أنا سيفك الماضي وليس بقاطع | سيف إذا ما لم يشد بمعصم |
وكان سيف الدولة يعده لكل مهم فهو قائد جيوشه ونائبه فيها في حضوره وغيبته وشريكه في أكثر غزواته الروم وغيرها والفاعل كفعله وله في كل تلك الغزوات الأثر المحمود فقد سار معه إلى بلاد الروم حتى افتتحوها وأمره بالتقدم فتقدم وافتتح حصن عرقة وكمن لهم سيف الدولة في موضع وأبو فراس في موضع أخر فقتلا منهم مقتلة عظيمة وسار معه إلى حرب الدمستق لما خرج إلى الشام فهرب الدمستق واسر ابنه قسطنطين ولما نزل ملك الروم على رعبان ونفر إليه سيف الدولة أمر أبا فراس بالتقدم فتقدم وأحسن البلاء. وأرسله سيف الدولة لبناء قلعة رعبان وقد خربتها الزلزلة وهي من الغور وبقيت خرابا خمس سنين وأراد سيف الدولة عمارتها وهي مجاورة للروم يخافون من تعميرها ويمنعون منه بكل جهدهم فلم ير أهلا لذلك غير أبي فراس فأرسله في قطعة من الجيش فعمرها في 37 يوما ورد قسطنطين بن الدمستق الذي جاء بجيشه ليمنعه عنها خائبا.
ولما طلب ملك الروم الهدنة من سيف الدولة فأبى إلا بشروط توافقه وجهز ملك الروم الجيوش لغزو الشام نفر إليه سيف الدولة وأمر أبا فراس بالتقدم فتقدم وأبلى بلاء حسنا كما مر.
أخلص أبو فراس لابن عمه سيف الدولة أمير الحمدانيين ووقف بطولته على خدمة العرش الحمداني فبادله سيف الدولة الإخلاص وأكبر فيه الخدمة.
وبعد ما أسره الروم كان مع ما هو عليه من مضاضة الأسر لا يني عن تعرف أخبار الروم والبعث بها إلى سيف الدولة والإشارة عليه والنصح
له مع ما عرض بينهما من الوحشة وهو في الأسر فقد كتب إليه يعرفه خروج الدمستق في جموع الروم ويحثه على الاستعداد. وهو شريكه في قيادة الجيوش
لتأديب قبائل العرب إذا أرادت العيث والخروج عن الطاعة. فقد اجتمعت مرة واتفقت على حربه فسار إليهم ومعه أبو فراس حتى أوقع بهم وهزمهم وقتل فيهم وقدمه مرة في قطعة من الجيش ليتبعهم فاتبعهم يقتل وياسر وأنفذه إلى بني عقيل وبني نمير وبني كلاب حيث عاثوا في عمله فظفر ونصر. وسار معه مرة إلى قبائل كعب بديار مضر لما شمخت واستفحل أمرها فهربت فأمره باللحاق بهم وردهم إلى الطاعة ففعل وأخذ رهائنهم وانتدبه مرة لقتال بني كلاب فقاتلهم وأوقع بهم وأفسدوا مرة أخرى فأسرى إليهم سيف الدولة من حلب وأمر أبا فراس إن يعارضه من منبج ففعل واجتمعا بالجسر فأوقعا بهم ولما أكثرت بنو كعب وبنو كلاب الغارات على بني نمير وضيقوا عليهم انهض سيف الدولة أبا فراس لمعاونتهم فلما نزل بهم انكشفت بنو كعب وتنحت بنو كلاب.
وهو خليفته على بلاد الشام عند غيبة سيف الدولة عنها لما يعلم من كفاءته ونصحه وقيامه بحفظ الثغر ولم يكن ليثق في ذلك بأحد غيره من عشيرته ولا غيرهم وقع ذلك عدة مرات تقدمت الإشارة إليها (ومنها) لما سار سيف الدولة لبناء عين زربة وحصونها. قال ابن خالويه سار الأمير سيف الدولة سنة 351 إلى الثغور الشامية لبناء عين زربة وحصونها واستخلف على الشام الأمير أبا فراس فسار نقفور بن بردس ملك الروم في جمع النصرانية إلى الشام فلقيه الأمير أبو فراس في ألف فارس من العرب فوقع بينهم ست وقائع في كلهن يظهره الله حتى دخل دلوك ولم يتجاوزها وفي ذلك يقول أبو فراس من قصيدة يخاطب بها الدمستق:
وإني إذ نزلت على دلوك | تركتك غير متصل النظام |
ولما إن عقدت صليب رأيي | تحلل عقد رأيك في المقام |
وكنت ترى الأناة وتدعيها | فأعجلك الطعان عن الكلام |
وبث مؤرقا من غير سقم | حمى جفنيك طيب النوم حامي |
ولكن ذلك لم يمنعه من إن يرى غاية النعمة إن يكون غلاما لسيف الدولة فكيف به وهو نسيبه وابن عمه فقال:
وقد أصبحت منتسبا إليه | وحسبي إن أكون له غلاما |
ويقول له أيضا:
إن تقدمت فحاجب | أو تأخرت فكاتب |
أو تسايرنا جميعا | فكلا الحالين واجب |
ويقول لسيف الدولة أيضا:
وأنت أريتني خوض المنايا | وصبري تحت هبوات النزال |
فصبري في قتالك لا قتالي | وفعلي في فعالك لا فعالي |
وفي أرضاك إغضاب العوالي | وإكراه المناصل والنصال |
وكتب إلى سيف الدولة في علة وجدها:
وعلة لم تدع قلبا بلا ألم | سرت إلى ذروة العليا وغاربها |
هل تقبل النفس عن نفس فافديه | الله يعلم ما تغلو علي بها |
لئن وهبتك نفسا لا نظير لها | فما سمحت بها إلا لواهبها |
وكتب إليه كما في اليتيمة:
وما لي لا اثني عليك وطالما | وفيت بعهدي والوفاء قليل |
وأوعدتني حتى إذا ما ملكتني | صفحت وصفح المالكين جميل |
وكذلك لم يمنع سيف الدولة كون أبي فراس تابعا له وناشئا في حجره بمنزلة الابن من إن يعبر عنه بكلمة (سيدي) في إحدى المناسبات الأدبية. وفي هذا دلالة لا تخفى على سمو أخلاق الأميرين ومنزلة كل منهما عند الآخر لذلك ليس غريبا إن يخاطب أبو فراس ابن عمه في موضع أخر مخاطبة الند للند ويجعل مفاخر بني حمدان وطولهم به كما بسيف الدولة فيقول:
بنا وبكم يا سيف دولة هاشم | تطول بنو أعمامنا وتفاخر |
فإذا وإياكم ذراها وهامها | إذ الناس أعناق لها وكراكر |
ويقول:
ولو لم يكن فخري وفخرك واحدا | لما سار عني بالمدائح سائر |
ثم يقول:
فلا وأبي ما ساعدان كساعد | ولا وأبي ما سيدان كسيد |
فجعل لنفسه من السيادة وغيرها مثل ما لسيف الدولة وكذلك ليس غريبا إن يعود بعد هذا مخاطبا له خطاب التابع للمتبوع فيقول:
وإنك للمولى الذي بك اقتدي | وإنك للمولى الذي بك اهتدي |
وأنت الذي علمتني طرق العلا | وأنت الذي أهديتني كل مقصد |
وأن ينحو هذا النحو في موضع أخر فيقول:
ولما ثار سيف الدين ثرنا | كما هيجت آسادا غضابا |
أسنته إذا لاقى طعانا | صوارمه إذا لاقى ضرابا |
صنائع فاق صانعها ففاقت | وغرس طاب غارسه فطابا |
وكنا كالسهام إذا أصابت | مراميها فراميها أصابا |
ومن أخباره مع سيف الدولة ما ذكره الثعالبي في اليتيمة في ترجمة سيف الدولة قال: كان أبو فراس يوما بين يديه في نفر من ندمائه فقال لهم سيف الدولة أيكم يجيز قولي وليس له إلا سيدي يعني أبا فراس:
لك جسمي تعله | فدمي لم تحله |
فارتجل أبو فراس وقال:
أنا إن كنت مالكا | فلي الأمر كله |
فاستحسنه وأعطاه ضيعة بمنبج تغل ألف دينار.
وفي اليتيمة: حكى ابن خالويه قال كتب أبو فراس إلى سيف الدولة وقد شخص من حضرته إلى منزله بمنبج "كتابي أطال الله بقاء مولانا الأمير سيف الدولة من المنزل وقد وردته ورود السالم الغانم مثقل الظهر والظهر وفرا وشكرا" فاستحسن سيف الدولة بلاغته في ذلك ووصف براعته وبلغ أبا فراس ذلك فكتب إليه:
هل للفصاحة والسماحة | والعلا عني محيد |
إذ أنت سيدي الذي | ربيتني وأبي سعيد |
في كل يوم استفيد | من العلاء واستزيد |
وفي اليتيمة: كان سيف الدولة قلما ينشط لمجلس الأنس لاشتغاله عنه بتدبير الجيوش وملابسة الخطوب وممارسة الحروب فوافت حضرته إحدى المحسنات من قيان بغداد فتاقت نفس أبي فراس إلى سماعها ولم ير إن يبدأ باستدعائها قبل سيف الدولة فكتب إليه يحثه على استحضارها فقال:
محلك الجوزاء بل ارفع | وصدرك الدهناء بل أوسع |
وقلبك الرحب الذي لم يزل | للجد والهزل به موضع |
وفضلك المشهور لا ينقضي | وفخرك الذائع لا يدفع |
رفه بقرع العود سمعا غدا | قرع العوالي جل ما يسمع |
وكان سيف الدولة وعد أبا فراس بإحضار أبي عبد الله بن المنجم وبالاجتماع به ليلة فكتب إليه أبو فراس:
"قد تقدم وعد سيدنا سيف الدولة بإحضار أبي عبد الله ابن المنجم والغناء بحضوره وأنا سائل في ذلك. فان رأى سيف الدولة إن يتطول بانجاز ما وعد فعل إنشاء الله" وكتب إليه معها بهذين البيتين:
أيا سيدا عمني جوده | بفضلك حزت السنا والثناء |
قدي إن أتيتك في ليلة | فنلت الغنى وسمعت الغناء |
فأجابه سيف الدولة:
"أنا مشغول بقرع الحوافر عن المزاهر. قال العلوي:
أسمعاني الصياح بالآمبيس | وصريف العيرانة العيطموس |
واتركاني من قرع مزهرريا | واختلاف الكؤوس بالخندريس |
ليس يبني العلا بذاك ولا يو | جد كالصبر عند أم ضروس |
وإذا كنا لا نفعل ما قاله أسود بني عبس:
ولقد أبيت على الطوى وأظله | حتى أنال به كريم المأكل |
فعلى كل حال يقع الانتظار إن شاء الله تعالى".
فكتب إليه أبو فراس:
يبني الرجال وغيره يبني القرى | شتان بين قرى وبين رجال |
قلق بكثرة ماله وسلاحه | حتى يفرقه على الأبطال |
(قلت): كنت إربا بأبي فراس عن سماع الغناء وهو الذي يقول:
لئن خلق الأنام لحسو كأس | ومزمار وطنبور وعود |
فلم يخلق بنو حمدان إلا | لمجد أو لباس أو لجود |
وفي اليتيمة كتب أبو فراس إلى سيف الدولة - ولا توجد في الديوان المطبوع:
يا أيها الملك الذي | أضحت له جمل المناقب |
نتج الربيع محاسنا | القحنها غرر السحائب |
راقت ورق نسيمها | فحكت لنا صور الحبائب |
حضر الشراب فلم يطب | شرب الشراب وأنت غائب |
وما كان أجدر أبا فراس بالتنزه عن ذكر الشرب والشراب في شعره ولعله كان يجري في ذلك على سنن الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون ويصفون ما لا يتعاطون. قال وتأخر عن مجلس سيف الدولة لعلة وجدها فكتب إليه:
لقد نافسني الدهر | بتأخيري عن الحضرة |
فما ألقى من العلة | ما ألقى من الحسره |
وفي الديوان أهدى الناس إلى سيف الدولة في بعض الأعياد فأكثروا فاستشار أبو فراس فيما يهديه فكل أشار بشيء فخالفهم وكتب إليه. واقتصر في اليتيمة على قوله أهدى الناس إلى سيف الدولة فأكثروا فكتب إليه أبو فراس:
نفسي فداؤك قد بعثت | بعهدتي بيد الرسول |
أهديت نفسي إنما | يهدى الجليل إلى الجليل |
وجعلت ما ملكت يدي | صلة المبشر بالقبول |
لما رأيتك في الأنام | بلا مثيل أو عديل |
ووقع بين أبي فراس وبعض بني عمه وهو صبي قتال فخرج معه سيف الدولة بالتعتب فقال أبو فراس وفي اليتيمة انه كتب إلى سيف الدولة يعاتبه:
إني منعت من المسير إليكم | ولو استطعت لكنت أول وارد |
أشكو وهل أشكو جناية منعم | غيظ العدو به وكبت الحاسد |
قد كنت عدتي التي أسطو بها | ويدي إذا اشتد الزمان وساعدي |
فرميت منك بغير ما أملته | والمرء يشرق بالزلال البارد |
لكن أتت بين السرور مساءة | وصلت لها كف القبول بساعد |
فصبرت كالولد التقي لبره | يغضي على ألم لضرب الوالد |
ونقضت عهدا كيف لي بوفائه | ومن المحال صلاح قلب فاسد |
وكان لسيف الدولة غلام اسمه نجا قد اصطنعه ونوه باسمه وقلده طرسوس وأخذ يقرع باب العصيان والكفران وزاد تبسطه وسوء عشرته لرفقائه فبطش به ثلاثة نفر منهم وقتلوه فشق ذلك على سيف الدولة وأمر بقتل قاتليه فكتب إليه أبو فراس:
ترى لنفسك أمرا | وما يرى الله أفضل |
ما زلت تسعى بجد | برغم شانيك مقبل |
ووجد سيف الدولة على بعض بني عمه فكتب إليه أبو فراس يستعطفه:
إن لم تجاف عن الذنوب | وجدتها فينا كثيره |
لكن عادتك الجميلة | إن تغض على بصيره |
وقال لسيف الدولة ولا يوجدان في الديوان المطبوع:
ومالي لا اثني عليك وطالما | وفيت بعهدي والوفاء قليل |
وأوعدتني حتى إذا ما ملكتني | صفحت وصفح المالكين جميل |
قال ابن خالويه: في شرح ديوان أبي فراس لما قتل الصباح مولى عمارة الحرفي وكان سيف الدولة قلده قنسرين فقصد قاتليه مطالبا لهم بدمه ثم كف عنهم عن قدرة وقررهم بالجزيرة بتوسط أبي فراس فقال أبو فراس: (وما نعمة مكفورة قد صنعتها) البيتين المتقدمين.
قال وقد تأخر عن سيف الدولة في بعض غزواته ولا توجد في المطبوع:
دع العبرات تهمر انهمارا | ونار الشوق تستعر استعارا |
أتطفأ حسرتي وتقر عيني | ولم أوقد مع الغازين نارا |
أظن الصبر ابعد ما يرجى | إذا ما الجيش بالسارين سارا |
أقمت عن الأمير وكنت ممن | يعز عليه فرقته اختيارا |
وقد ثقفت للهيجاء رمحي | وأضمرت المهاري والمهارى |
وكان إذ دعا للأمر حفت | به الفتيان تبتدر ابتدارا |
بخيل لا تعاند من عليها | وقوم لا يرون الموت عارا |
إذا سار الأمير فلا هدوا | لنفسي أو يؤوب ولا قرارا |
أكابد بعده هما وغما | ونوما لا أكابده غرارا |
وكنت به أشد ذرى وبطشا | وأبعدهم إذا ركبوا مغارا |
أشق وراءه الجيش المعنى | وأخرق خلفه الرهج المثارا |
ستذكرني إذا اطردت رجال | دققت الرمح بينهم مرارا |
وأرض كنت أملؤها خيولا | وجو كنت أرهجه غبارا |
فأشفي من طعان الخيل صدري | وأدرك من صروف الدهر ثارا |
لعل الله يعقبني صلاحا | قديما أو يقيلني العثارا |
إذا بقي الأمير قرير عين | فديناه اختيارا لا اضطرارا |
أب بر ومولى وابن عم | ومستند إذا ما الخطب جارا |
يمد على أكابرنا جناحا | ويكفل عند حاجتها الصغارا |
أراني الله طلعته سريعا | وأصحبه السلامة حيث سارا |
وبلغه أمانيه جميعا | وكان له من الحدثان جارا |
وقال يهنئ سيف الدولة بولديه أبي المعالي شريف وأبي المكارم وليست في الديوان المطبوع:
يهني الأمير بشارة | قرت بها عين المكارم |
أعلا الورى قدرا وخير | هم يسر بخير قادم |
إني وإن كنت المشارك | في الأبوة والمساهم |
لأقول قولا لا يرد | ولا يرى لي فيه لائم |
لأبي المعالي في العلا | وأبي المكارم في المكارم |
بيت رفيع سمكه | عالي الذرى ثبت الدعائم |
وكتب إلى سيف الدولة وقد بلغه نزول العدو على الحدث فسار سيف الدولة مسرعا حتى سبقه إليها وقد كان سيف الدولة بعيدا عنها موغلا في بلاد الروم فقال أبو فراس هذه القصيدة:
دعوناك والبحران دونك دعوة | أتاك بها يقظان فكرك لا البرد |
فأصبحت ما بين العدو وبيننا | تجارى بك الخيل المسومة الجرد |
أتيناك أدنى ما يجيبك جهدنا | وأهون سير الخيل من تحتنا الشد |
بكل نزاري أتتك بشخصه | عوادي من حاليك ليس لها رد |
وحمر سيوف لا تجف لها ظبي | بأيدي رجال لا يحط لهم لبد |
وزرق تشق السرد عن مهج العدى | وتسكن منهم أية سكن الحقد |
ومصطحبات قارب الركض بينها | ولكن بها عن غيرها أبدا بعد |
نشردهم ضربا كما شرد القطا | وينظمهم طعنا كما نظم العقد |
لئن خانك المقدور فيما بنيته | فما خانك الركض المواصل والجهد |
تعاد كما عودت والهام صخرها | ويبنى بها المجد المؤثل والحمد |
ففي كفك الدنيا وشيمتك العلا | وطائرك الأعلا وكوكبك السعد |
قال ابن خالويه كان بنو عقيل ونمير وكلاب قد عاثوا في عمل سيف الدولة واشتدوا فأنفذ أبا فراس في بعض السرايا فظفر ونصر فكتب إلى سيف الدولة:
أضارب الجيش بي في وسط مفرقه | لقد ضربت بعين الصارم القضب |
لا تحرز الدرع مني نفس صاحبها | ولا أجيز ذمام البيض واليلب |
ولا أعود برمحي غير منحطم | ولا أروح بسيفي غير مختضب |
حتى تقول لك الأعداء راغمة | هذا ابن عمك أضحى فارس العرب |
هيهات لا أجحد النعماء منعهما | خلفت يا ابن أبي الهيجاء في أبي |
يا من يحاذر إن تمضي علي يد | مالي أراك لبيض الهند تسمح بي |
وأنت بي من اضن الناس كلهم | فكيف تبذلني للسمر والقضب |
ما زلت أجهله فضلا وأنكره | وأوسع النفس من عجب ومن عجب |
حتى رأيتك بين الناس محتفيا | تثني علي بوجه غير متئب |
فعندها وعيون الناس ترمقني | علمت أنك لم تخطئ ولم أصب |
وقال ابن خالويه أيضا في شرح ديوان أبي فراس: ندب سيف الدولة أبا فراس في سنة 345 لبناء رعبان وقد أخربتها الزلازل. وياقوت يقول خربتها الزلزلة سنة 340 فانفذ سيف الدولة أبا فراس في قطعة من الجيش فأعاد عمارتها فيكون قد عمرها بعد خرابها بخمس سنين فبناها في 37 يوما ووافى قسطنطين ابن الدمستق ليزيله عنها فرده الله بغيظه وفي ذلك يقول الشاعر (أحد شعراء سيف الدولة):
أرضيت ربك وابن عمك والقنا | وبذلت نفسا لم تزل بذالها |
وبنيت مجدا في ذؤابة وائل | لو طاولته بنات نعش طالها |
رد الجيوش وقد ظنتك ذليلة | طعن ينكب بينها أبطالها |
وتركت رعبانا بما أوليتها | تثني عليك سهولها وجبالها |
وفي ذلك يقول أبو فراس في رائيته الطويلة مشيرا إلى سيف الدولة:
وإن معاليه لكثر غوالب | وأن أياديه لغر غزائر |
ولكن قولي ليس يغفل (يعضل) عن فتى | على كل قول من معانيه خاطر |
الأقل لسيف الدولة القرم إنني | على كل شيء غير وصفك قادر |
فلا تلزمني خطة لا أطيقها | فمجدك غلاب وفضلك باهر |
ولو لم يكن فخري وفخرك واحدا | لما سار عني بالمدايح سائر |
ولكنني لا أغفل (لا أعضل) القول عن فتى | أساهم في عليائه وأشاطر |
وعن ذكر أيام مضت ومواقف | مكاني منها بين الفضل ظاهر |
مساع يضل القول فيهن كله | وتهلك في أوصافهن الخواطر |
بناهن باني الثغر والثغر دارس | وعامر دين الله والدين داثر |
وأين أبو فراس في شجاعته وإقدامه من أحمد بن عبد الله التنوخي في جبنه وتأخره عن المسير مع أبي فراس إلى رعبان جبنا وخوفا.
قال ابن خالويه كان أبو فراس أنكر على أحمد بن عبد الله التنوخي الشاعر تأخره عن المسير معه إلى رعبان وكان جبانا فكتب التنوخي إلى أبي فراس قصيدة منها:
أيا بدر السماء بلا محاق | ويا بحر السماح بغير شاطي |
أأترك إن أبيت قرير عين | لقى بين الدساكر والبواطي |
وأخرج نحو رعبان كأني | بمنبج قد دعيت إلى سماط |
أحاذر من دواه مؤبدات | هنالك إن يقعن على قماطي |
وأكتب إن كتبت إليك يوما | كتبت إليك من دار العلاطي |
الوحشة بين أبي فراس وسيف الدولة
لا يعرف بين أبي فراس وسيف الدولة شيء من الوحشة قبل أسر أبي فراس في المرة الثانية بل سيف الدولة يعبر عنه بسيدي كما مر وهو الأمير المربي لأبي فراس وأبو فراس يخاطبه خطاب التابع للمتبوع ويتواضع له غاية التواضع كما مر ولا يوجد شيء يمكن إن يفهم منه حصول وحشة بينهما قبل أسر أبي فراس للمرة الثانية إلا ما مر عن اليتيمة من أنه كتب إلى سيف الدولة يعاتبه بقوله من أبيات:
قد كنت عدتي التي أسطو بها | ويدي إذا اشتد الزمان وساعدي |
فرميت منك بغير ما أملته | والمرء يشرق بالزلال البارد |
لكن جامع ديوان أبي فراس يقول كما مر إن ذلك القتال وقع بينه وبين بني عمه وهو صبي ويظهر للمتأمل في مجاري الأحوال إنه كان قد حصل بينهما شيء من الوحشة بعد وقوع أبي فراس في الأسر ولم يشر أحد من المؤرخين إلى ذلك صريحا ولكن يمكن فهمه ضمنا من بعض ما نقلوه قال ابن خالويه تأخرت كتب سيف الدولة عن أبي فراس وهو في الأسر وذلك أنه بلغه إن بعض الأسراء قال إن ثقل على الأمير هذا المال كاتبنا فيه صاحب خراسان وغيره من الملوك وذلك إنهم قرروا مع ملك الروم إطلاق أسراء المسلمين بما يحملونه من المال فأتهم سيف الدولة أبا فراس بهذا القول لضمانه المال للروم وقال من أين يعرفه صاحب خراسان من القصيدة التي أولها (أسيف الهدى وقريع العرب) وتأتي في الروميات. فالظاهر إن هذا هو السبب في استيحاش سيف الدولة منه وتأخيره فداءه وهذا السبب كاف في حصول الوحشة والنفرة ويدل عليه قول أبي فراس من قصيدة:
أمثلي تقبل الأقوال فيه | ومثلك يستمر عليه كذب |
ولكن صاحب اليتيمة يقول إن أبا فراس كتب إلى سيف الدولة: مفاداتي إن تعذرت عليك فائذن لي في مكاتبة أهل خراسان ومراسلتهم ليفادوني وينوبوا عنك في أمري فأجابه سيف الدولة بكلام خشن وقال ومن يعرفك بخراسان فكتب إليه أبو فراس (أسيف الهدى وقريع العرب) إلا إن ابن خالويه اعرف بأخبار الأميرين من الثعالبي لوجوده في بلاط سيف الدولة ومزيد خلطته به وبأبي فراس ويمكن إن يكون أحد الوشاة أبلغ سيف الدولة شيئا عن أبي فراس حقا أو باطلا والله أعلم. والذي يدل على حصول شيء من الوحشة بينهما إن أبا فراس أسرته الروم كما مر سنة 351 من منبج وحملته إلى القسطنطينية فبقي مأسورا فيها أربع سنين وهو يخاطب سيف الدولة في أشعاره ويتوسل إليه في الفداء ويرسل إليه القصيدة تلو القصيدة ويخاطبه في قصائده بما يلين الجلمود فلا يرق له ولا يفديه. وتحضر أمه من منبج إلى حلب تتوسل إليه وتتضرع في فداء ولدها فلا يبذله لها ولا يجيبها إليه ويردها خائبة فتموت وهو في الأسر فيرثيها بمرثية تقطع القلوب ويرسل إلى ولدي سيف الدولة وهو خالهما يتضرع إليهما بكلام يرقق قلوب الأجانب فضلا عن الأقارب ويسألهما إن يسألا أباهما في فدائه فلم يجد ذلك ويستأذنه أبو فراس على رواية اليتيمة لما طال عليه الأمر في إن يراسل ملوك خراسان في فدائه فيقول سيف الدولة ومن يعرفه في خراسان ويجيبه بجواب خشن ومن يعرفك بخراسان فهل كان سيف الدولة عاجزا عن فدائه في كل هذه المدة وهو يقطعه منبج التي تغل ألف دينار لبيت يقوله أو إن أبا فراس ليس أهلا لان يفدى. أو إن سيف الدولة لا تعطفه عليه عاطفة رحم ولا غيره وهو ابن عمه وخال أولاده وبمنزلة ولده وقائد جيوشه ومن أسر في سبيل تشييد ملكه والذب عن الوطن والإسلام وهو يعبر عنه بالأمس بقوله سيدي. كل هذا يدلنا على إن في الأمر شيئا. وكتب إلى سيف الدولة من الأسر:
أيا عاتبا لا أحمل الدهر عتبه | علي ولا عندي لأنعمه جحد |
سأسكت إجلالا لعلمك إنني | إذا لم تكن خصمي لي الحجج اللد |
فهل كان يا ترى ذلك العتب في بعض هذه الأمور وقصيدته البائية المتقدمة التي أرسلها إلى سيف الدولة من الأسار وقد بلغ أبا فراس عن سيف الدولة ما أنكره مملوءة بالعتاب الدال على تهاون سيف الدولة بأمره كقوله فيها:
بمن يثق الإنسان فيما ينوبه | ومن أين للحر الكريم صحاب |
وما أدعي ما يعلم الله غيره | رحاب علي للعفاة رحاب |
ولكن نبا منه بكفي صارم | وأظلم في عيني منه شهاب |
فإن لم يكن ود قديم نعده | ولا نسب دون الرجال قراب |
فأحوط للإسلام إن لا تضيعني | ولي عنك فيه حوطة ومناب |
أمن بعد بذل النفس فيما تريده | أثاب بمر العتب حين أثاب |
وقال في بعض ما أرسله إلى سيف الدولة من الأسر:
وإن أوجعتني من أعادي شيمة | لقيت من الأحباب أدهى وأوجعا |
تنكر سيف الدين لما عتبته | وعرض بي تحت الكلام وقرعا |
وهو يقول في داليته التي قال جامع ديوانه إنه يعرض فيها ببعض أهله:
وهل نافعي إن عضني الدهر مفردا | إذا كان لي قوم طوال السواعد |
وهل أنا مسرور بقرب أقاربي | إذا كان لي منهم قلوب الأباعد |
لكن لم يتعين إن ذلك البعض هو سيف الدولة بل الظاهر أنه غيره.
وفيما كتبه إليه من الأسر قوله:
وعيش العالمين لديك سهل | وعيشي وحده بفناك صعب |
وأنت أنت دافع كل خطب | مع الخطب الملم علي خطب |
ويقول في أبياته التي أرسلها لغلاميه منصور وصاف من الأسر مخاطبا سيف الدولة:
بلى إن لي سيدا | مواهبه أكثر |
بذنبي أوردتني | ومن فضلك المصدر |
فقد اعترف بذنب له إليه جازاه به وكتب إليه من الأسر أبياتا أولها:
جنى جان وأنت عليه جان | وعاد فعدت بالكرم الغزير |
وآخرها:
ومثل أبي فراس من تجافى | له عن فعله مثل الأمير |
فما هو الذنب وما هي هذه الجناية؟ ليس في يدنا من التواريخ ما يفصلها ولا ما يدل على ذنب وجناية له غير قوله: مفاداتي إن تعذرت عليك فائذن لي في مكاتبة أهل خراسان ليفادوني إن صح إن يسمى ذلك ذنبا وجناية.
ومما يلفت النظر إن سيف الدولة كتب إليه يعتذر من تأخير أمره وبتشوقه وكأنه أراد إن يحفظ خط الرجعة فيؤخر فداءه ويعتذر إليه ولكن هذا العذر بظاهر الحال غير مقبول فما كان سيف الدولة عاجزا عن تقديم فدائه وأي عذر له في تأخير أمره ولذلك لم يقبل أبو فراس هذا العذر وكتب إليه:
بالكره مني واختيارك | إن لا أكون خليف دارك |
يا تاركي إني لشكرك | ما حييت لغير تارك |
كن كيف شئت فإنني | ذاك المواسي والمشارك |
والذي يغلب على الظن إن تأخير سيف الدولة مفاداة أبي فراس كان لأمر سياسي خطير هان معه أمر تأخير فدائه مع كونه من أهم المهمات ولكن أبا فراس لضيق صدره من الأسر وطول مدته فيه كان يلح على سيف الدولة في مفاداته وينسبه إلى التهاون في ذلك فان الحالة التي كان فيها أبو فراس في أسره لا يمتنع معها إن يصدر منه العتب واللوم لسيف الدولة ويظن إن ذلك لذنب نسبه سيف الدولة إليه مع كون سيف الدولة معذورا في أمره وربما دل على ذلك ما مر عن ابن خالويه إن سيف الدولة امتنع من إخراج ابن أخت الملك إلا بفداء عام وحمل أبو فراس إلى القسطنطينية فقال قصيدة يعاتب بها سيف الدولة. فهذا يدل على إن تأخير الفداء كان لطلب فداء عام نجهل تفصيله. كما نجهل تفصيل هذه الأمور من جميع نواحيها. ويدل على ما قلناه ما في معجم البلدان من إن سيف الدولة جمع في سنة 355 الأموال وفدى أسرى المسلمين من الروم وكان فيهم أبو فراس بن حمدان وغيره من أهله وأبى إن يفديهم ويترك غيرهم من المسلمين. لكن الأمر الذي لا يخلو من استغراب إن سيف الدولة مات بعد خلاص أبي فراس من الأسر بسنة فلم يرثه أبو فراس ولو رثاه لوجد ذلك في ديوانه فهل يا ترى بقي أثر هذه الوحشة في نفس الأميرين أو أحدهما.
أخباره في الأسر
قال ابن خلكان قال ابن الحسن علي بن الزراد الديلمي: كانت الروم قد أسرت أبا فراس في بعض وقائعها وهو جريح قد أصابه سهم بقي نصله في فخذه ونقلته إلى خرشنة بلدة بالروم على الساحل ثم منها إلى قسطنطينية وذلك في سنة 348 وفداه سيف الدولة في سنة 355 قال ابن خلكان قلت هكذا قال وقد نسبوه في ذلك إلى الغلط وقالوا أسر أبو فراس مرتين فالمرة الأولى بمغارة الكحل سنة 348 وما تعدوا به خرشنة وهي قلعة ببلاد الروم والفرات يجري من تحتها وفيها يقال إنه ركب فرسه وركضه برجله فأهوى به من أعلى الحصن إلى الفرات والله أعلم والمرة الثانية أسره الروم على منبج في شوال سنة 351 وحملوه إلى قسطنطينية وأقام في الأسر أربع سنين وله في الأسر أشعار كثيرة. وقال ابن الأثير في الكامل في حوادث سنة 351 فيها في شوال أسرت الروم أبا فراس بن سعيد بن حمدان من منبج وكان متقلدا لها وقال في حوادث سنة 355 فيها تم الفداء بين سيف الدولة والروم وتسلم سيف الدولة ابن عمه أبا فراس بن حمدان وأبا الهيثم ابن القاضي أبي الحصين. فيكون أبو فراس أقام في الأسر في المرة الثانية أربع سنين أما في المرة الأولى فلم تطل مدته وتخلص من خرشنة. ويدل شعره الذي أرسله إلى سيف الدولة أول ما أسر انه لقي الروم وهم ألف بسبعين من أصحابه لا يرتضيهم فاسر ويدل شعره في تلك القصيدة وغيرها على أنه كان يمكنه الهرب أو الإنحياز عن الروم فلم يفعل كما مر تفصيله عند ذكر شخصيته، وبذلك صرح ابن خالويه فقال خرج بردس البطريق وهو ابن أخت الملك في ألف فارس من الروم إلى نواحي منبج وكانت إقطاعا لأبي فراس فصادف الأمير أبا فراس يتصيد في سبعين فارسا فأراده أصحابه على الهزيمة فأبى وثبت حتى أثخن بالجراح فأسر.
اشتد على أبي فراس ألمه من الأسر وضاقت به نفسه وحزن لذلك فكانت دموعه تلك القوافي الخالدة التي تبكي المنشد وتشجي السامع والتي هي غرة في جبين الشعر وقلادة في جيد الدهر. ومن الطبيعي إن يعرض مثل ذلك لمثله فبينما هو أمير إذا هو أسير وبينما هو حاكم إذا به محكوم عليه وزاد صدره حراجة إن البطارقة قيدوا بميافراقين فقيد هو بخرشنة وهو يسار به إلى القسطنطينية أسيرا وكيف يطيق الليث إن يصفد ويحتمل إن يحبس ويذل ويمتهن فلا بد له من إن يزأر إن لم يستطع الفتك بخصمه ولعمري ليست نفس الأسد بأكبر من نفس أبي فراس ولا شمم الليث وآباؤه بأعظم من شمم الحارث وآبائه وأبو فراس الحارث هو الليث أفعالا ونفسا واسما وكنية وطال بأبي فراس أساره واعتل في أثناء ذلك حتى يئس من نفسه وإذا كان في مثل هذه الحال فبمن يستنجد وممن يطلب الفداء وتفريج الكرب ليس إلا من أمير أسرته ومن يمت إليه بالقرابة القريبة وبالنصرة في الحروب والمواساة في السراء والضراء وهو ابن عمه سيف الدولة أمير بني حمدان فيكتب إليه أول ما أسر بقوله:
دعوتك للجفن القريح المسهد | لدي وللنوم القليل المشرد |
ثم لا يلبث إن يستدرك بعد هذا البيت بلا فاصل فيبين إن ذلك ليس لحب الحياة وخوف الموت بل ذلك لأمر يعود إلى عزة النفس فيقول:
وما ذاك بخلا بالحياة وإنها | لأول مبذول لأول مجتدي |
ولكنني أختار موت بني أبي | على صهوات الخيل غير موسد |
ويطلب من سيف الدولة إن يفديه لكن لا يطلب ذلك بذلة وضراعة بل يطلبه بكل أنفة وحمية فإنه أهل لأن يفدى وحق على سيف الدولة إن يفديه وفداؤه يعود بالعز والفخر والنصر عليه وعلى بني حمدان فيقول:
فإن تفتدوني تفتدوا لعلاكم | فتى غير مردود اللسان ولا اليد |
يطاعن عن أحسابكم بلسانه | ويضرب عنكم بالحسام المهند |
وتثور بأبي فراس ثائرة الأسف من تحكم آسريه به فيقول فيما كتب به إلى سيف الدولة.
إلى الله أشكو إننا في منازل | تحكم في آسادهن كلاب |
ويتأسف لما فاته بسبب الأسر من أفعال الخير وبذل الجود ومقارعة الفرسان فيقول:
تمر الليالي ليس للنفع موضع | لدي ولا للمعتفين جناب |
ولا شد لي سرج على ظهر سابح | ولا ضربت لي بالعراء قباب |
ولا برقت لي في اللقاء قواطع | ولا لمعت لي في الحروب حراب |
وتشتد به العلة فيكتب إلى سيف الدولة من درب الروم وهو يسار به أسيرا إلى القسطنطينية فيقول متحزنا متفجعا:
هل تعطفان على العليل | لا بالأسير ولا القتيل |
باتت تقلبه الأكف | سحابة الليل الطويل |
ثم تعود به عاطفة الكرم والشجاعة إلى إن يقول:
فقد الضيوف مكانه | وبكته أبناء السبيل |
وتقطعت سمر الرماح | وأغمدت بيض النصول |
ومر أبو فراس وهو أسير بالبلاد التي كان يحل فيها غازيا وهو أمير ومن الطبيعي إن يتألم لذلك وهذه عادة الزمان في أهله فقال مشيرا إلى ذلك:
إن زرت خرشنة أسيرا | فلكم حللت بها مغيرا |
ولقد رأيت النار تخترق | المنازل والقصورا |
ولقد رأيت السبي يجلب | نحونا حوا وحورا |
نختار منه الغادة | الحسناء والظبي الغريرا |
إن طال ليلي في ذاك | فقد نعمت به قصيرا |
ولئن لقيت الحزن فيك | فكم لقيت بك السرورا |
ولئن رميت بحادث | فلألفين له صبورا |
من كان مثلي لم يبت | إلا أميرا أو أسيرا |
ليست تحل سراتنا | إلا الصدور أو القبورا |
قال ابن خالويه قال أبو فراس أخذته من كلام عمي الحسين بن حمدان وقد بنى أخوه إبراهيم بن حمدان منزلا بخمسين ألف دينار فقال له في بناء منزل تصرف خمسين ألف دينار لأنزلته أبدا ولا نزلت إلا دار الإمارة. وكرر أبو فراس ذكر هذا المعنى فقال:
وإنا أناس لا توسط بيننا | لنا الصدر دون العالمين أو القبر |
قال ابن خالويه: بلغ أبا فراس إن الروم قالوا ما أسرنا أحدا ولم نسلبه سلاحه غير أبي فراس وقولهم هذا مع إن فيه إظهار الميزة والاحترام لأبي فراس لم ترض به نفسه وعده منة عليه ونفسه لا تقبل منة أحد فقال من قصيدة:
يمنون إن خلوا ثيابي وإنما | علي ثياب من دمائهم حمر |
وقائم سيف فيهم دق نصله | وأعقاب رمح فيهم حطم الصدر |
ثم وصل أبو فراس إلى القسطنطينية وبعد وصوله ولقائه ملك الروم قرر معه الفداء وكتب بذلك إلى سيف الدولة فتأخرت أجوبة كتبه فكتب إليه أبو فراس يعتب عليه ويستبطئ أمره فوجد سيف الدولة من ذلك وقرعه في كتابه إليه والى غيره، وعند ذلك ضاقت بأبي فراس نفسه فهو أسير بعيد عن وطنه وأهله وقد قرر أمرا مع ملك يجله ويحترمه ويرى إن بيده إنفاذ ما قرره معه ثم يجد انه لم يقدر على إنفاذه فما يكون موقفه مع ملك الروم وبما ذا يعتذر إليه عن تأخير إنفاذ ما قرره ثم يكتب إلى سيف الدولة يعاتبه ويستبطؤه كما يعاتب ابن العم ابن عمه وكما يستبطؤ القائد رئيسه ويطلب منه التعجيل ويتوقع الجواب بالإيجاب ساعة فساعة وإذا بالجواب يرد عليه بالتقريع فكم يكون ألمه عندئذ وزاد في ألمه الكتاب إلى غيره بتقريعه وسواء أكان تأخير إنفاذ ذلك من سيف الدولة لأمر سياسي ومصلحة مهمة اقتضت التأخير أم لأمر أخر أوجب غضب سيف الدولة مما فعله أبو فراس فذلك لا يدفع تألم أبي فراس الشديد مما حصل فكتب إلى سيف الدولة قصيدة ملؤها التألم والحزن وغير خفي حراجة مثل هذا الموقف على الشاعر فما في نفسه من الألم يبعثه على الشكوى الشديدة من سيف الدولة وخوف ازدياد غضبه يحمله على لين القول وحسن الاعتذار فهو بين داعيين يتجاذبانه ويقف حائرا إلى أيهما يميل يقول فيها مشيرا إلى سيف الدولة والى ما مضى من أيام شبابه في خدمته:
وهبت شبابي والشباب مضنة | لابلج من أبناء عمي أروعا |
أبيت معنى من مخافة عتبه | وأصبح محزونا وأمسي مروعا |
ثم يبث ما يجده في نفسه من الحزن والألم فيقول:
أما ليلة تمضي ولا بعض ليلة | أسر بها هذا الفؤاد المفجعا |
ثم يعرض بالشكاية من سيف الدولة بما يقرب من التصريح فيقول:
أما صاحب فرد يدوم وفاؤه | فيصفي لمن أصفى ويرعى لمن رعى |
أفي كل دار لي صديق أوده | إذا ما تفرقنا حفظت وضيعا |
أقمت بأرض الروم عامين لا أرى | من الناس محزونا ولا متصنعا |
ثم يصرح فيقول:
تنكر سيف الدين لما عتبته | وعرض بي تحت الكلام وقرعا |
ثم يعتذر ويتوسل فيحسن التوسل فيقول:
فقولا له من صادق الود إنني | جعلتك مما رابني منك مفرغا |
ويظهر إن من الناس من أوعز إلى سيف الدولة بالاستغناء عن أبي فراس وإنه يوجد من يقوم مقامه وإنه استعاض عنه بغيره أو شيء مما هو من هذا القبيل فقال يرد ذلك ويفنده:
لقد قنعوا بعدي عن القطر بالندى | ومن لم يجد إلا القنوع تقنعا |
وما مر إنسان فاخلف مثله | ولكن يرجي الناس أمرا مرقعا |
فلا تغترر بالناس ما كل من ترى | أخوك إذا أوضعت في الأمر أوضعا |
ولا تتقلد ما يروقك حليه | تقلد إذا حاربت ما كان أقطعا |
ولا تقبلن القول من كل قائل | سأرضيك مرأى لست أرضيك مسمعا |
ثم يذكر استبداله به ذكر الآسف المغبون الذي يبرز أسفه بعبارة الدعاء وإظهار الرضا التي ظاهرها ذلك وملؤها الأسف والوجد فيقول:
وإن يستجد الناس بعدي فلا يزل | بذاك البديل المستجد ممتعا |
ثم يبدي عذر سيف الدولة بكلام من لا يسعه إلا إبداء العذر ونفسه منطوية على خلاف ذلك فيقول:
فإن يك بطء مرة فلطالما | تعجل نحوي بالجميل وأسرعا |
وإن يجف في بعض الأمور فإنني | لأشكره النعمى التي كان أوزعا |
ولما كان في أسر الروم أمر الملك إن الأسرى يتزاورون يوم السبت فقال أبو فراس:
جعلوا الالتقاء في كل سبت | فجعلناه للزيارة عيدا |
وشركنا اليهود فيه فكدنا | رغبة إن نزيل عنه اليهودا |
يرقبون المسيح فيه وما نر | قب إلا أخا جليلا ودودا |
لو قدرنا وعل ذاك قريب | ما عدمنا بالقرب عيدا جديدا |
أراد بقوله وما نرقب إلا أخا الخ أخاه أبا الفضل فإنه كان من جملة الأسرى وفي نسخة مخطوطة من الديوان إنه لم يتركه مع الأسرى إكراما له أي أفرده بمكان وحده وكان أبا الفضل كان قد أبطأ عن زيارة أبي فراس فكتب إليه أبو فراس يعاتبه ويذكر إن له مانعا من زيارته وإلا لما تركها فقال:
أتترك إتيان الزيارة عامدا | وأنت عليها لو تشاء قدير |
وعيشك لولا ما علمت لما ونت | إلى الدار مني روحة وبكور |
فلم كان رأيي في لقائك نافذا | ورأيك فيه ونية وفتور |
يضيق علي الحبس حتى تزورني | فما هو إلا روضة وغدير |
صبرت على هذي فما أنا بعدها | على غيرها مما كرهت صبور |
ولما حصل بالقسطنطينية أكرمه ملك الروم وبجله وعرف له حق الفضل والإمارة فأفرده بدار وأخدمه ولم يعامله معاملة باقي الأسرى وكذلك أكابر دولته كانوا إذا رأوه أو مر عليهم قابلوه بالتعظيم فكفروا له أي تكتفوا كما يفعلون مع عظمائهم وعرض عليه لذلك الفداء منفردا فلم يقبل حتى فادى جميع أسرى المسلمين وضمن الفداء عنهم وجاء بهم معه. قال ابن خالويه قال أبو فراس لما حصلت بالقسطنطينية أكرمني ملك الروم إكراما لم يكرمه أسيرا من قبلي وذلك إن من رسومهم إن لا يركب أسير في المدينة دابة قبل لقاه للملك وأن يمشي في ملعب لهم يعرف بالبطوم مكشوف الرأس ويسجد فيه ثلاث ساعات أو نحوها ويدوس الملك رقبته في مجمع لهم يعرف بالنوري فأعفاني من جميع ذلك ونقلني لوقتي إلى دار وجعل لي برطنان يخدمانني وأمر بإكرامي ونقل إلي من أردته من أسارى المسلمين وبذل لي المفاداة مفردا فكرهت بعد ما وهبه الله لي من العافية ورزقنيه من الكرامة والجاه إن أختار نفسي على المسلمين وشرعت مع ملك الروم بالفداء ولم يكن الأمير سيف الدولة يستبقي أسارى الروم فكان في أيديهم فضلة ثلاثة آلاف أسير ممن أخذ من الأعمال والعساكر أي إنه في ذلك الوقت كان في أسر الروم ثلاثة آلاف من المسلمين ولم يكن عند سيف الدولة أحد من أسارى الروم لأنه لم يكن يستبقي أسارى الروم عنده بل إذا كان عند الروم أسارى بعددهم فاداهم بهم وإلا أخذ الفداء وأطلقهم فلما أسر الروم هؤلاء الثلاثة الآلاف لم يكن عند المسلمين مقابلهم قال أبو فراس فابتعتهم بمائتي ألف دينار رومية وفي رواية عن ابن خالويه بمائتين وأربعين ألفا ومائتي دينار رومية على إن يوقع الفداء واشتري هذه الفضلة فضمنت المال والمسلمين وخرجت بهم من القسطنطينية وتقدمت بوجوههم إلى خرشنة ولم يعقد قبلها قط فداء مع أسير ولا هدنة فقال:
ولله عندي في الأسئار وغيره | مواهب لم يخصص بها أحد قبلي |
حللت عقودا أعجز الناس حلها | وما زلت لا عقدي يذم ولا حلي |
إذا عاينتني الروم كفر صيدها | كأنهم أسرى لدي وفي كبلي |
وأوسع أياما حللت كرامة | كأني من أهلي نقلت إلى أهلي |
فأبلغ بني عمي وقل لبني أبي | بإني في نعماء يشكرها مثلي |
وما شاء ربي غير نشر محاسني | وان يعرفوا ما قد عرفتم من الفضل |
ويظهر من هذا الخبر إنه عقد الهدنة والمفاداة بنفسه مع ملك الروم وضمن له المال وجاء بالأسرى معه فهل كان ذلك يا ترى بأمر سيف الدولة وبعلمه بعد ما استأذنه فإذن له في المفاداة وهل دفع المال سيف الدولة وأرسله إليه أو رضي ملك الروم بضمانه وبقي في عهدته حتى رجع وأخذه من سيف الدولة وأرسله أو دفعه أبو فراس من ماله لم يصرح المؤرخون بشيء من ذلك لكن ظاهر الحال يدل على إن الفداء بأمر سيف الدولة وبأذنه وإنه هو الذي دفع المال معجلا أو مؤجلا ولو كان لأبي فراس مال لفدى نفسه من أول الأمر وينبغي إن يكون ذلك بعد ما أبطأ عليه سيف الدولة بالجواب ووقعت بينهما الوحشة كما مر ثم عاد فبذل الفداء ولم تطل مدة سيف الدولة بعد هذا الفداء فتوفي بعده بسنة.
أخباره مع المتنبي
في اليتيمة كان المتنبي يشهد له بالتقدم والتبريز ويتحامى جانبه فلا ينبري لمباراته ولا يجترئ على مجاراته وإنما لم يمدحه ومدح من دونه من آل حمدان تهيبا له وإجلالا لا إغفالا وإخلالا. (أقول) أما انه كان يشهد له بالتقدم فربما يساعد عليه ما في الصبح المنبي من إن أحسن قصائد أبي الطيب هو في سيف الدولة وتراجع شعره بعد مفارقته وسئل عن السبب في ذلك فقال قد تجوزت في قولي وأعفيت طبعي واغتنمت الراحة منذ فارقت آل حمدان وفيهم من يقول:
تسائلني من أنت وهي عليمة | وهل بفتى مثلي على حاله نكر |
إلى نهاية عشرة أبيات من هذه القصيدة وفيهم من يقول:
صبور ولو لم تبق مني بقية | قؤول ولو إن السيوف جواب |
إلى نهاية أربعة أبيات من هذه القصيدة يعني أبا فراس ولعل هذا كان منه بعد مفارقة سيف الدولة حيث خفت دواعي الحسد والمزاحمة منه لأبي فراس. وأما انه كان لا يمدحه تهيبا وإجلالا فغير صواب والعجب صدور مثله من الثعالبي مع معرفته وفضله فانا لم نر ولم نسمع إن شاعرا ترك مدح أحد تهيبا وإجلالا والصواب انه تركه إغفالا وإخلالا فإنه مما لا ريب فيه انه كان بين المتنبي وأبي فراس منافسة ومباعدة ولا نستطيع إن نقول إن سببها المتنبي وحده أو أبو فراس وحده أو هما لا نستطيع الجزم بشيء منها لكننا نعلم إن المتنبي كان بجبلته متعاظما معجبا بنفسه يدلنا على ذلك تعاظمه عن مدح الوزير المهلبي والصاحب بن عباد الذي بذل له مشاطرة ما يملك وقصته مع الحاتمي مشهورة وكان معجبا بشعره لا يرى لشاعر عليه فضلا بل لا يرى إن أحدا يستطيع إن يجري معه في حلبة الشعر فهو يقول بمسمع من أبي فراس:
خليلي ما لي لا أرى غير شاعر | فكم منهم الدعوى ومني القصائد |
ويقول:
أفي كل يوم تحت ضبني شويعر | ضعيف يقاويني قصير يطاول |
ومن كانت هذه صفته وهذه حاله لا يمكن إن يرى لأبي فراس حقا ولا يرعى له مكانة ولا يوفيه ما يستحقه من إجلال وتكريم. مع ما ينضاف إلى ذلك من كون أبي فراس شاعرا مفلقا يزاحم المتنبي في المكانة عند سيف الدولة وفي مدح سيف الدولة ووصف حروبه ووقائعه -وعدو المرء من يعمل عمله- ومن كونه مقربا عند سيف الدولة بشعره الفائق وشجاعته وبطولته وقيادته لجيوش سيف الدولة مع كونه ابن عمه وخال أولاده وكل ذلك مما يبعث الحسد والكراهة لأبي فراس في نفس المتنبي ويؤدي إلى شيء من التقصير في حقه وما كان في الجنان لا بد إن يظهر منه شيء على صفحات الوجه واللسان وأبو فراس مع ما فيه من الإمارة والبطولة والشجاعة وقيادة الجيوش والقرب من سيف الدولة وهو في ريعان الشباب ولشعره المكانة السامية في نفس سيف الدولة وشعراء عصره لم يكن مع اجتماع هذه الخلال فيه ليحتمل من المتنبي تقصيرا في حقه وإخلالا بمكانته رغما عما طبع عليه من مكارم الأخلاق فلا جرم إن يقع في نفسه من النفرة من المتنبي والعداوة أكثر مما وقع في نفس المتنبي منه ويؤدي ذلك إلى إن يذمه أبو فراس ويقع فيه عند سيف الدولة ولا بد إن يبلغ ذلك المتنبي فيزيد ما في نفسه على أبي فراس فمع كل هذه الأحوال كيف يمكن إن يمدحه المتنبي بل لو أمكنه لجاهر بذمه. هذا هو السبب لعدم مدح المتنبي له مع مدحه من دونه من بني حمدان الذين لم تكن فيهم هذه المزاحمة والمنافسة للمتنبي لا بالشاعرية ولا بغيرها لا ما ذكره الثعالبي. ولو لم يرد في هذا السبب شيء من المؤرخين لكفي فيه ما مر سواء أصح ما ذكره المؤرخون أم لم يصح فلسنا بحاجة إليه والذي ذكرناه كاف في بيان السبب في عدم مدح المتنبي له. أما الذي يدل على وقوع النفرة بينهما من كلام المؤرخين فهو ما ذكره صاحب الصبح المنبي عن حيثية المتنبي قال: قال ابن الدهان في المأخذ الكندية قال أبو فراس لسيف الدولة إن هذا المتشدق كثير الادلال عليك وأنت تعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار على ثلاث قصائد ويمكن إن تفرق مائتي دينار على عشرين شاعرا يأتون بما هو خير من شعره فتأثر سيف الدولة من هذا الكلام وعمل فيه وكان المتنبي غائبا وبلغته القصة فدخل على سيف الدولة وأنشد:
إلا ما لسيف الدولة اليوم عاتبا | فداه الورى أمضى السيوف مضاربا |
إلى تمام ستة أبيات فاطرق سيف الدولة ولم ينظر إليه كعادته فخرج المتنبي من عنده متغيرا وحضر أبو فراس وجماعة من الشعراء فبالغوا في الوقيعة بحق المتنبي وانقطع أبو الطيب بعد ذلك ونظم القصيدة التي أولها:
واحر قلباه ممن قلبه شبم | ومن بجسمي وحالي عنده سقم |
وأنشدها وجعل يتظلم فيها من التقصير في حقه بقوله:
ما لي اكتم حبا قد برى جسدي | وتدعي حب سيف الدولة الأمم |
إن كان يجمعنا حب لغرته | فليت أنا بقدر الحب نقتسم |
قد زرته وسيوف الهند مغمدة | وقد نظرت إليه والسيوف دم |
فهم جماعة بقتله في حضرة سيف الدولة لشدة إدلاله وإعراض سيف الدولة عنه فلما وصل في إنشاده إلى قوله:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي | فيك الخصام وأنت الخصم والحكم |
قال أبو فراس مسخت قول دعبل وأدعيته وهو:
ولست أرجو انتصافا منك ما ذرفت | عيني دموعا وأنت الخصم والحكم |
فقال المتنبي:
أعيذها نظرات منك صادقة | إن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم |
فعلم أبو فراس انه يعنيه فقال ومن أنت يا دعي كندة حتى تأخذ أعراض الأمير في مجلسه واستمر المتنبي في إنشاده ولم يرد عليه إلى إن قال:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا | بأنني خير من تسعى به قدم |
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي | وأسمعت كلماتي من به صمم |
فزاد ذلك أبا فراس غيظا وقال له سرقت هذا من قول عمرو بن مرة بن العبد:
أوضحت من طرق الآداب ما اشتكلت | دهرا وأظهرت أغرابا وإبداعا |
حتى فتحت بإعجاز خصصت به | للعمي والصم أبصارا وأسماعا |
ولما وصل إلى قوله:
الخيل والليل والبيداء تعرفني | والسيف والرمح والقرطاس والقلم |
قال أبو فراس وماذا أبقيت للأمير إذا وصفت نفسك بالشجاعة والفصاحة والرياسة والسماحة تمدح نفسك بما سرقته من كلام غيرك وتأخذ جوائز الأمير أما سرقت هذا من قول الهيثم بن الأسود النخعي الكوفي المعروف بابن عريان العثماني:
أعاذلتي كم مهمه قد قطعته | أليف وحوش ساكنا غير هائب |
أنا ابن العلى والطعن والضرب والسري | وجرد المذاكي والقنا والقواضب |
حليم وقوره في البلاد وهيبتي | لها في قلوب الناس بطش الكتائب |
فقال المتنبي:
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره | إذا استوت عنده الأنوار والظلم |
فقال أبو فراس وهذا سرقته من قول معقل العجلي:
إذا لم أميز بين نور وظلمة | بعيني فالعينان زور وباطل |
وغضب سيف الدولة من كثرة مناقشته في هذه القصيدة وكثرة دعاويه فيها فضربه بالدواة التي بين يديه فقال المتنبي في الحال:
إن كان سركم ما قال حاسدنا | فما لجرح إذا أرضاكم ألم |
فقال أبو فراس هذا أخذته من قول بشار:
إذا رضيتم بان نجفي وسركم=قول الوشاة فلا شكوى ولا ضجر
فلم يلتفت سيف الدولة إلى ما قال أبو فراس وأعجبه بيت المتنبي ورضي عنه في الحال وقبل رأسه وأجازه بألف دينار ثم بألف أخرى. فهذه القصة تدلنا على ما كان يتداخل المتنبي من الكبرياء والتعاظم وما كان يعتمده من الاستخفاف بحق أبي فراس وان هذا وأمثاله كان يصده عن مدح أبي فراس لا ما قاله الثعالبي. كما أنه يدلنا على ما لأبي فراس من الرواية الواسعة في الشعر.
أخباره مع بني ورقاء
في اليتيمة أبو محمد جعفر وأبو أحمد عبد الله أبناء ورقاء الشيباني من رؤوساء عرب الشام وقوادها والمختصين بسيف الدولة وما منهما إلا أديب شاعر جواد ممدح وبينهما وبين أبي فراس مجاوبات.
قال ابن خالويه: لما سمع أبو أحمد عبد الله بن محمد بن ورقاء الشيباني ظفر سيف الدولة بقاتلي الصباح مولى عمارة الحرفي عامل سيف الدولة على قنسرين وعفوه عنهم بتوسط أبي فراس قال قصيدة يهنئ بها سيف الدولة بغزوته هذه ويفاخر مضر بأيام بكر وتغلب في الجاهلية والإسلام أولها.
أرسما بسابروج أبصرت عافيا | فأذكرك العهد الذي كنت ناسيا |
ألا ليت شعري والحوادث جمة | وما كنت في دهري إلى الناس شاكيا |
أمخترمي ريب المنون بحسرة | تبلغ نفسي من شجاها التراقيا |
إلى الله أشكو إن في الصدر حاجة | تمر بها الأيام وهي كما هيا |
ومنها في ذكر بني كعب وإيحاشهم سيف الدولة حتى أضربهم:
وانهم لما استهاجوا صيالة | وما كان عن مستوجب البطش وانيا |
كمن شب نارا في شعار ثيابه | وهيج ليثا للفريسة ضاريا |
وهي طويلة جدا فلما سمع أبو فراس ما عمل فيها عمل قصيدة على هذا الشرح يذكر فيها أسلافهم ومناقبهم في الإسلام دون الجاهلية ويرد على أبي أحمد في افتخاره بأيامهم في الجاهلية وبأيام من بعد منهم في الإسلام وتركه الفخر بمن قرب منهم في الإسلام وهي قصيدة تزيد على 240 بيتا أولها:
لعل خيال العامرية زائر | فيسعد مهجور ويسعد هاجر |
إلى إن يقول:
أيشغلكم وصف القديم ودونه | مفاخر فيها شاغل ومآثر |
فقل لبني ورقاء إن شط منزل | فلا العهد منسي ولا الود داثر |
وكيف يرث الحبل أو تضعف القوى | وقد قربت قربى وشدت أواصر |
أبا أحمد مهلا إذا الفرع لم يطب | فلا طبن يوم الافتخار العناصر |
أتسمو بما شادت أوائل وائل | وقد غمرت تلك الأوالي الأواخر |
وتطلب العز الذي هو غائب | وتترك العز الذي هو حاضر |
وختمها بهذين البيتين:
يسر صديقي إن أكثر واصفي | عدوي وان ساءته تلك المفاخر |
وهل تجحد الشمس المنيرة ضوءها | ويستر نور البدر والبدر ظاهر |
قال ابن خالويه قال لي أبو فراس لما وصلت هذه القصيدة إلى أبي أحمد عبد الله بن محمد بن ورقاء الشيباني ظن إني عرضت به في البيتين اللذين ختمت بهما القصيدة فكتب إلي قصيدة تصرف فيها بالتشبيب يقول فيها:
أشاقك بالخال الديار الدواثر | روائح مجت آلها وبواكر |
عمرن بعمار من الإنس برهة | فهاهن صفر ليس فيهن صافر |
أخلت بمغناها دمى وخرائد | وحلت بأقصاها مهى وجاذر |
أهن عيون باللحاظ دوائر | على عاشقيها أم سيوف بواتر |
ضعائف يقهرن الأشداء قدرة | عليهم وسلطان الصبابة قاهر |
إلا يا ابن عم يستزيد ابن عمه | رويدك إني لانبساطك شاكر |
تصفحت ما أنفذته فوجدته | كما استودعت نظم العقود الجواهر |
وذكرني روضا بكته سماؤه | فضاحكه مستأسد وهو زاهر |
عرائس يجلوها عليك خدورها | ولكنما تلك الخدور دفاتر |
فعدلا فان العدل في الحكم سيرة | بها سار في الناس الملوك الأساور |
فكتب أبو فراس إلى أبي محمد جعفر بن محمد بن ورقاء وجعله حكما بينه وبين عمه أبي أحمد عبد الله بن ورقاء وابتدأ فيها بالحماسة وهي في الديوان المطبوع ناقصة فقال:
أنا إذا اشتد الزما | ن وناب خطب وأدلهم |
ألفيت حول بيوتنا | عدد الشجاعة والكرم |
للقا العدا بيض السيوف | وللندى حمر النعم |
هذا وهذا دأبنا | يودى دم ويراق دم |
قل لابن ورقا جعفر | حتى يقول بما علم |
إني وان شط المزار | ولم تكن داري أمم |
أصبو إلى تلك الخلال | واصطفي تلك الشيم |
وألوم عادية الفراق | وبين أحشائي ألم |
ولعل دهرا ينثني | ولعل شعبا يلتئم |
هل أنت يوما منصفي | من ظلم عمك يا ابن عم |
أبلغه عني ما أقول | فأنت من لا يتهم |
إني رضيت وان كرهت | أبا محمد الحكم |
فكتب أبو محمد جعفر بن محمد بن ورقاء مجيبا له:
أنتم كما قد قلت بل | أعلى وأشرف يا ابن عم |
ولكم سوابق كل فخر | والسوابق من أمم |
لم يعل منكم شاهق | فوق الشوامخ والقمم |
إلا ولاحقه يلوح | على ذراه كالعلم |
ودعوت شيخك وابن | عمك جعفرا فيما أهم |
من عدل قولك حين قلت | وجور ما قد قال عم |
فقضى عليه وقد قضى | في الحق لما إن حكم |
إن الذي أبدى الفخار | لسادة ملكوا الأمم |
في دهرهم وزمانهم | ولهم قديم في القدم |
ليسوا كمن لم يبلغوا | العلياء إلا بالرمم |
هذا قضائي إن نحا | للحق عمي والتزم |
أحسنت والله العظيم | نظام بيتك حين تم |
فيما ذكرت به السيوف | وما ذكرت به النعم |
حتى كان بنظمه | للحسن درا منتظم |
وشكوت أشواقا إلي | تمس قلبك بالألم |
أفديه قلبا عاليا | فوق الفضائل والهمم |
قد فاض فيضا بالسماح | وقد تدفق بالكرم |
فسيول جدواه تدفقها | الشهامة عن ضرم |
وقد انبرى لي منعما | يا طيب ذلك في النعم |
وأزل لي من بره | أزكى وأطيب ما قسم |
فلأشكرن صنيعه | حتى تغيبني الرجم |
وأرسل أبو فراس إلى أبي محمد جعفر وأبي أحمد عبد الله ابني ورقاء بقوله
من قصيدة:
أتاني من بني ورقاء قول | ألذ جنى من الماء القراح |
وأطيب من نسيم الروض حفت | به اللذات من روح وراح |
تبكي في نواحيه الغوادي | بأدمعها فتبتسم الأقاحي |
عتابك يا ابن عم بغير جرم | أشد علي من وخز الرماح |
وما أرضى انتصافا من سواكم | وأغضي منك عن ظم صراح |
أظنا إن بعض الظن أثم | أمزحا رب جد من مزاح |
أريتك يا ابن عم بأي عذر | عدوت عن الصواب وأنت لاحي |
أأجعل في الأوائل من نزار | كفعلك أم بأسرتنا افتتاحي |
أمن كعب نشا بحر العطايا | وأكرم مستغاث مستراح |
وصاحب كل عضب مستبيح | أعاديه ومال مستباح |
وهذا السيل من تلك الغوادي | وهذي السحب من تلك الرياح |
وكيف أعيب مدح شموس قومي | ومن أضحى امتداحهم امتداحي |
ولو شئت الجواب أجبت لكن | خفضت لكم على علم جناحي |
ولست وان صبرت على الأسايا | إلا حي أسرتي وبهم ألاحي |
ولو إني اقترحت على زماني | لكنتم يا بني ورقا اقتراحي |
فأجابه أبو أحمد بقوله من قصيدة:
أصاح قلبه أم غير صاحي | وقد عنت لنا عفر البطاح |
ظباء الوحش تحكي ماثلات | ظباء الإنس بالصور الملاح |
يدرن مراض أجفان صحاح | فيا عجبي من المرضى الصحاح |
وما زالت عيون العين فينا | تؤثر فوق تأثير السلاح |
أمطلعة الهلال على قضيب | ومسدلة الظلام على الصباح |
عدتني عن زيارتك العوادي | ودهر للأكارم ذو إطراح |
أمدره تغلب لسنا وعلما | ومصقع نطقها عند التلاحي |
لقد أوتيت علما واطلاعا | بآداب وألفاظ فصاح |
لمقولك المضاء إذا انتضاه | القصيد على المهندة الصفاح |
وقال أبو فراس في بني ورقاء من قصيدة يذكر فيها وده لهم وقوة اتصاله بهم ويفضلهم على سواه:
يا قوم إني امرؤ كتوم | تصحبني مقلة نموم |
نديمي النجم طول ليلي | حتى إذا غارت النجوم |
أسلمني الصبح للرزايا | فلا حبيب ولا نديم |
برملتي عالج رسوم | يطول من دونها الرسيم |
أنخت فيهن يعملات | ما عهد أرقالها ذميم |
أجدبها قطع كل واد | أخصبه نبته العميم |
تلك سجايا من الليالي | للبؤس ما يخلق النعيم |
بين ضلوعي هوى مقيم | لآل ورقاء لا يريم |
يغير الدهر كل شيء | وهو صحيح لهم سليم |
أمنع من رامه سواهم | منه كما يمنع الحريم |
ونحن من عصبة وأهل | يضم أغصاننا أروم |
وهل يساويهم قريب | أم هل يدانيهم حميم |
لم تتفرق لنا خؤول | في العز منا ولا عموم |
سمت بنا وائل وفازت | بالعز أخوالنا تميم |
ودادهم خالص صحيح | وعهدهم ثابت مقيم |
ذاك لنا منهم حديث | وهو لأجدادنا قديم |
ندني بني عمنا إلينا | فضلا كما يفعل الكريم |
أيد لهم عند كل خطب | يثني بها الحادث الجسيم |
وألسن دونهم حداد | لد إذا قامت الخصوم |
لم تنأ عنا لهم قلوب | وان نأت منهم جسوم |
فلا عدمنا لهم ثناء | كأنه اللؤلؤ النظيم |
لقد نمتنا لهم أصول | ما مس اعراقهن لوم |
نبقى ويبقون في نعيم | ما بقي الركن والحطيم |
حياته السياسية
كان عصر الحمدانيين عصرا قد انقسمت فيه المملكة الإسلامية المترامية الأطراف إلى ممالك وأمارات جلها غير عربية فكانت خراسان وما والاها بيد السامانيين وما وراء النهر بيد الغزنويين وكلتا الدولتين غير عربية وبغداد وفارس بيد البويهيين وهم من الفرس والخلافة العباسية في بغداد لا حول لها ولا طول وإنما لها الخطبة والمشاركة في السكة في البلاد الإسلامية. والشام ومصر بيد الاخشيديين وهم أتراك وشمال إفريقيا بيد الفاطميين والأندلس بيد الأمويين فأنشأ الحمدانيون مملكة إسلامية عربية في الموصل وديار بكر وديار ربيعة والجزيرة وحلب والعواصم إلى منتهى البحر المتوسط شمالا والى مملكة الروم وقاعدتها القسطنطينية شرقا والى فلسطين ودمشق غربا فردوا غارات الروم وأغاروا على بلادهم وفتحوا كثيرا منها والروم يومئذ في قوتهم وقهروا القرامطة والخوارج الشراة كهارون الشاري وغيرهم وتسلطوا على الأكراد وأخضعوهم واخضعوا قبائل العرب المنتشرة في الجزيرة وبادية الشام صاحبة العدد الكثير والقوة وأدخلوها في طاعتهم وحاربوا الأخشيديين في الشام وأخذوا منهم دمشق ثم عادوا إليها بمخامرة أهلها وكانت هذه المملكة منقسمة بين ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان وأخيه سيف الدولة علي بن عبد الله بن حمدان وكان لناصر الدولة الموصل والجزيرة ولسيف الدولة حلب والعواصم وما إليها وكان ناصر الدولة لا يخلو من منازعة البويهيين له وسيف الدولة يحارب الروم غالبا وسيد بني حمدان ورئيسهم سيف الدولة ووزيره وقائده الأول ومحل اعتماده في الحروب وقيادة الجيوش وحماية المملكة أبو فراس لم يكن سيف الدولة وأبو فراس طالبي ملك صرف وأمارة محضة بل كان لهما باعث ديني وغيرة وطنية يبعثهما على حماية المملكة وحفظها فسيف الدولة يجمع من غبار غزواته للروم التي كان يقصد منها رد عاديتهم عن بلاده لبنة ويوصي إن توضع تحت رأسه في قبره وأبو فراس يقول لسيف الدولة:
فأحوط للإسلام إن لا يضيعني | ولي عنك فيه حوطة ومناب |
وإن رجلا كسيف الدولة وابن عمه أبي فراس يستطيعان إنشاء دولة قوية عربية إسلامية نمت في ظلها العلوم العربية والإسلامية والأدب العربي نموا فائقا في عصر تفككت فيه عرى الإسلام والعروبة وفي بقعة محاطة بالروم من جهة وبالإخشيديين والبويهيين الأقوياء من جهات أخرى ومشحونة في داخلها بدعايات القرامطة والخوارج وفتنهم وبغزوات الأكراد والقبائل العربية وفسادهم لرجلان فريدان عظيمان خلد التاريخ ذكرهما في صفحاته بالعز والفخر. ومما يلفت النظر إن جميع ملوك الإسلام كانوا في ذلك الوقت مشغولين بلذاتهم أو بالحروب بينهم. وبنو حمدان وحدهم هم الحامون للثغور والواقفون في وجه الروم يصدونهم عن غزو بلاد الإسلام ولم يجسر الأجنبي على اقتحام تلك الثغور إلا بعد انقضاء دولتهم والى ذلك يشير بعض شعراء ذلك العصر بقوله يمدح سيف الدولة وأبا فراس:
طلعت لهم فوق الدروب سحابة | تهمي بصوبي عثير وقتام |
والمسلمون بمعزل منهم سوى | من أفردوه لنصرة الإسلام |
وأبو فراس في الهياج أمامه | مثل الحسام بدا إمام حسام |
عصره العلمي والأدبي
كان أبو فراس في عصر ملئ بأعاظم العلماء ومشاهير الكتاب وأكابر الشعراء وكانت حضرة سيف الدولة التي نشا فيها أبو فراس وتربى وترعرع تعج بالمشاهير الفحول من هؤلاء فمن الشعراء المتنبي والسري بن أحمد الرفا الموصلي وأبو العباس أحمد بن محمد النامي والزاهي علي بن إسحاق البغدادي والناشي الأصغر علي بن عبد الله بن وصيف والخالديان أبو بكر وأبو عثمان. وأبو الفرج الببغا عبد الواحد بن نصر الشامي. وأبو نصر بن نباتة التميمي من شعراء العراق والوأواء الدمشقي وأبو بكر الخوارزمي وأبو الحسن علي بن محمد الشمشماطي والقاضي الجرجاني أبو الحسن علي بن عبد العزيز. وأبو القاسم الشيظمي وأبو الحسن محمد بن سامي الشعباني المعروف بالمغنم المصري وأبو محمد الفياضي الكاتب وأبو إسحاق الصابي وسلامة بن الحسين الموصلي. والقاضي أبي الحصين علي بن عبد العزيز الرقي وغيرهم ذكر أكثرهم ابن النديم في الفهرست والثعالبي في اليتيمة وقال الثعالبي يقال إنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع بباب سيف الدولة من شيوخ الشعر ونجوم الدهر. ومن العلماء الفارابي وابن خالويه النحوي الأديب اللغوي وأبو الفرج الأصبهاني وغيرهم فنشأ أبو فراس في هذا المجتمع الأدبي العلمي فاقتبس من نوره. واستضاء بهديه وصحب ابن خالويه وتلمذ عليه واستفاد منه ولا شك في إن للصحبة والعشرة أثرها في مثل ذلك لا سيما إذا انضاف إليها فكر وقاد وفهم حاذق ونفس شديدة الانطباع كفكر أبي فراس وفهمه ونفسه فلا جرم إن نشا أبو فراس بهذه المنزلة المتميزة في الشعر والأدب والعلم والمعرفة.
أدبه وشعره وأسلوبه
أبو فراس شاعر مفلق من فحول الشعراء المتميزين وكاتب بليغ أحرز قصب السبق في ميدان الأدب بشعره ونثره وان كان المأثور عنه من النثر شيئا يسيرا وهو شاعر وجداني قوي العاطفة رقيق الإحساس فياض الشعور غزير المواهب مصقول الألفاظ بديع المعاني سابق في الإجادة تهتز بشعره النفوس وتفيض من جوانبه الرقة والانسجام وتعلوه الفخامة والمتانة. وهو طويل النفس وقصيدته الرائية التي يفتخر فيها بقومه تزيد على 240 بيتا كلها في غاية المتانة والقوة والانسجام لم يزدها طولها إلا حسنا وقوة ومتانة مع أنه استوفى فيها ذكر عشيرته ومفاخرهم وأيامهم فاشتمل بسبب ذلك أكثرها على القصص التي تحتاج الإجادة في نظمها إلى قوة شعرية قوية ومادة غزيرة.
وفي اليتيمة: شعره مشهور سائر بين الحسن والجودة والسهولة والجزالة والعذوبة والفخامة والحلاوة والمتانة ومعه رواء الطبع وسمة الظرف وعزة الملك ولم تجتمع هذه الخلال قبله إلا في شعر عبد الله بن المعتز وأبو فراس يعد أشعر منه عند أهل الصنعة ونقدة الكلام وكان الصاحب يقول بدئ الشعر بملك وختم بملك يعني امرأ القيس وأبا فراس.
وأنت إذا تأملت شعره في جميع الفنون في جزالته ومتانته وعذوبته وسلاسته وانسجامه وأخذ ه بمجامع القلوب وجمعه لأنواع المحاسن التي تطلب من الشعراء علمت أنه ليس في شيء من المبالغة اقترانه إلى ملك الشعراء امرئ القيس بل من يفضله على المتنبي ليس مبالغا فان المتنبي وإن ساواه أو فضله في ابعاض من شعر المتنبي إلا انه لا يكاد يساويه في مجموع شعريهما فإنك لا تكاد تجد في شعر أبي فراس ما يعاب أو ينتقد بل جله أو كله مهذب مصفى في غاية الانسجام والبلاغة والرقة والمتانة سلم من السقطات مع ما في شعر المتنبي من السقطات الكثيرة وحسب أبي فراس قول سيف الدولة الشاعر الملك لما طلب إجازة بيت قاله ليس لها إلا سيدي كما مر.
وشعر أبي فراس صور صادقة لشخصيته. وقد كان في شخصيته القوة والصفاء والوضوح وهي كذلك ظاهرة في شعره، وكما كانت شخصية أبي فراس تتدفق بالحيوية كذلك شعره يفيض بالرجولة والحياة، وقد مر بنا إن حياة أبي فراس كانت مجالا ممتازا لتحقيق أغراضه ومطامح نفسه لذلك بعد شعره كل البعد عن إن يحمل صورا من التشاؤم والنقمة كالذي نراه في شعر المتنبي، وإنما كانت صوره الشعرية مشرقة نابضة بالحياة والفتوة. وأما أسلوبه فعنصر متمم لشعره الذي يمثل شخصيته، هو أسلوبه في الحياة: سهولة ومتانة ورقة، ينسجم مع معانيه وأغراضه الشعرية لفظا وتركيبا انسجاما جميلا رائعا.
وقد أبان أبو فراس رأيه في الشعر وأشار إلى ميزة في شعره هي انه مقصور على الفخر ومدح عشيرته ومقطعات تحلى بها كتبه ورسائله خال من المديح والهجاء والمجون في أبياته التي افتتح بها ابن خالويه ديوانه الذي جمعه حيث يقول:
الشعر ديوان العرب | أبدا وعنوان الأدب |
لم أعد فيه مفاخري | ومديح آبائي النجب |
ومقطعات ربما | حليت منهن الكتب |
لا في المديح ولا الهجاء | ولا المجون ولا اللعب |
ومن البديهي إن لا يعدو أبو فراس وهو الشاعر المطبوع في شعره مفاخره ومديح آبائه وتلك المقطعات التي حلى بها كتبه ورسائله لأن المديح الذي كان شائعا في ذلك العصر لم يكن يمت إلى شعور صادق وإنما كان من أجل حاجات خاصة تحمل الشعراء على اصطناع شعور مزيف ولولا تلك الحاجات لما وجدوا دافعا نفسيا لمدح من مدحوا أما أبو فراس فقد كان غنيا عن إن يقضي حاجة من مال أو جاه بالشعر. لذلك يقول الشعر للشعر مدحا وغيره وكذلك ترفعه عن الهجاء كان طبيعيا لأن الطبقة التي كانت تتهاجى من الشعراء والتي كانت تهجو من منعها سيبه من الملوك والأمراء كان أبو فراس بعيدا عنها ولم يكن له بينها قرين تدعو المنافسة بينهما إلى التهاجي وإنما كان أقرانه من النبلاء الأمراء الذين عرفت ولم يكن يرجو سيب أحد ليهجوه إذا منعه بل كان يرى نفسه أعلى وارفع من إن يهجو أحدا. وهو نفسه لم يكن يرضى إن يحشر في زمرة الشعراء، لما أخذت الأذهان في ذلك العصر عنهم من أخلاق لا ترضاها النفوس الكبيرة فهم مداحون اليوم لمن هجوه بالأمس وهجاؤون غدا لمن مدحوه اليوم في سبيل الدرهم والدينار إلى غير ذلك من الأخلاق التي نعرفها اليوم من أخبار أكثرهم وأشعارهم قال:
فحم الغبي وقلت غير ملجلج | إني لمشتاق إلى العلياء |
وصناعتي ضرب السيوف وإنني | متعرض في الشعر بالشعراء |
وقال:
نطقت بفضلي وامتدحت عشيرتي | فما أنا مداح ولا أنا شاعر |
والحقيقة انه كان هو وحده الشاعر الذي يحق له إن يفخر بشعره ويتباهى بشاعريته إذا غض غيره من الشعراء من إبصارهم إلا نادرا منهم وكذلك خلو شعره من المجون واللعب كان أمرا بديهيا وقد عرفت من أخلاقه ورجولته ما عرفت. وحسب الشعر العربي بل القومية العربية من أبي فراس تلك الأغراض التي ذكرها في أبياته المتقدمة والتي قصر عليها شعره ففيها المجال كل المجال لإظهار شاعريته الفياضة. وفيها دروس العزة والرجولة والقومية لمن يريدون حياة عزيزة وكرامة موفورة.
وقد نظم أبو فراس في جل أبواب الشعر وأنواعه المتعارفة ومقاصد الشعراء وتصرف في مناحي الشعر ما شاء فجاء في جميعها بالمعاني البديعة في التراكيب البليغة وجاء في جميع ذلك سابقا مجليا.
نظم في الغزل والنسيب فكان غزله ونسيبه يكاد يسيل رقة مع احتشام ومحافظة على الأدب. ونظم في المديح فلم يتعد مدح قومه وعشيرته وخاصة ابن عمه الأمير سيف الدولة ومدح أهل البيت النبوي وما تضمنته مراسلة أخوانه وأصدقائه فجاء مدحه مع تفوقه في صياغته ومعانيه الجليلة بعيدا عن الدعاوى الباطلة والمبالغات الشائنة مخلدا بخلود الدهر.
لقد أحسنت حياة أبي فراس إلى الأدب العربي أيما إحسان لأنه وهو الأمير المبجل والفارس المقدم والأبي المترفع قد بعد عن إن يلتجئ إلى المدائح الكاذبة المصطنعة الشعور فكان مديحه صادقا لا يقوله إلا بدافع الشعور الصادق الصميم لأنه لم تلجئه حاجة إلى اصطناع شعور مزيف كالتي ألجأت المتنبي إلى مدح كافور. ومدائح أبي فراس تكاد تكون وحدها في الأدب العربي شعرا صحيحا لأنها قيلت لوجه الشعور الصادق والوداد الحق. فكل مدائحه في ذلك لأهل البيت النبوي وفي آل حمدان ومراسلة أخوانه. أما مدائحه في أهل البيت عليهم السلام فإنها تشعر بولاء صادق وعصبية شديدة و إيمان راسخ تجلت فيها عقيدته الدينية واضحة راسخة وأما مدائحه في آل حمدان فمصدرها الفخر والاعتزاز وأكثرها في سيف الدولة وقد علمت أي صلة من نسب و أدب ومكانة كانت تجمع بينهما. فما كان ليمجد أعمال سيف الدولة ويفخر بها إلا لأن مجده هو مجده وفخره هو فخره كما قال:
ولو لم يكن فخري وفخرك واحدا | لما سار عني بالمدائح سائر |
وما كان ليتواضع في مدحه له ويضع نفسه في منزلة التابع الأقل إلا لان سيف الدولة صاحب الفضل عليه في كفالته وتربيته له وتقديمه إياه تقديرا لمزاياه فهو في هذا التواضع الشديد يساير خلقه العالي في الوفاء وعرفان الجميل فلا تذلل ولا استكانة. ولهذا رأيناه في مواضع كثيرة عندما كان الموقف يستلزم فخرا استشهادا بحقائق. يخاطب سيف الدولة خطاب الند للند. ولم يكن في ذلك مجترئا على مقام سيف الدولة ولا متعديا حدوده وأما مراسلته لإخوانه وأصدقائه فلا تنم إلا عن حسن الوفاء وكرم الأخلاق.
ونظم في الرثاء قليلا لم يعد به رثاء بعض أئمة أهل البيت ورثاء أمه وبعض عشيرته فكان دافعه إلى ذلك عاطفة دينية أو رحم ماسة لا غرض أخر من أغراض الدنيا التي يتوخاها الشعراء.
ونظم في الفخر والحماسة وذكر الحرب والتمدح بالشجاعة وأكثر فكان الشاعر الوحيد الذي جمع إلى متانة الشعر وحصافته صدق الدعوى في حماسته فلم يفخر إلا بما فيه ولم يقل قولا لم يصدقه الفعل فهو إذا افتخر بقومه وعشيرته وبحروبه وشجاعته وبحلمه وصفحه وكرمه وبذله وتحمسه لا يفخر إلا بما فيه ويقول قولا صادقا يطابق الفعل ولا يكون كأكثر الشعراء في حماستهم وكثير من أقوالهم في إنهم يقولون ما لا يفعلون وإن كان ربما تجاوز في بعض ذلك كقوله:
إذا أمست نزار لنا عبيدا | فإن الناس كلهم نزار |
وقوله:
حمدان جدي خير من وطئ الحصى | وأبي سعيد في المكارم أوحد |
ونظم في الاحتجاج والمناظرة فكان المتكلم الفريد الذي لا يفوقه الكميت في شعره الكلامي ولا علماء الكلام والجدل فيما دونوه في كتبهم الكلامية أبانت عن ذلك ميميته المشهورة المسماة بالشافية التي رد فيها على محمد بن سكرة العباسي بأقوى رد وبرهان وأوضح حجة وبيان وشحنها بالاحتجاجات والردود والإشارة إلى الوقائع وأطال فيها فكانت آية في البلاغة والمتانة والرصانة مع إن ذلك كما مر تحتاج الإجادة فيه إلى قوة فائقة وإلا غلبت على الشعر الركة. ونظم في الصفات فأبدع ومنظومته في وصف الطرد والقنص مع طولها أجاد فيها وأبدع. ونظم في الزهد والمواعظ والحكم فكان كأزهد زاهد وأكبر واعظ وأعظم حكيم وهو الفارس البطل الشجاع الفاتك الذي تغلب على مثله قساوة القلب والبعد عن الزهد والمواعظ والحكم. ونظم في المراسلات لإخوانه فكان عنوان الوفاء وطراز حفظ المودة والإخاء. ونظم الروميات فكانت فريدة في بابها في رقتها وكشفها عن طبع رقيق وعاطفة شديدة ونفس كبيرة وهمة عالية. ونظم في شكوى الزمان وعتاب الإخوان والشوق إلى الأهل والأوطان فأبدع ولم يعد الحقيقة ونظم في الإشارة إلى القصص والأخبار والتواريخ فكشف نظمه فيها عن خبرة واسعة. وفي شعره الأمثال السائرة الكثيرة التي يتمثل بها الأدباء في محافلهم والخطباء على منابرهم. ونظم في الألغاز وغير ذلك من فنون الشعر التي تجدها فيما سنتلوه عليك من شعره وأجاد وبلغ الغاية في كل ما عاناه من ضروب الشعر ولم تقتصر أجادته على ما مارسه أو اتصف به من وصف الحروب والشجاعة والفخر. وقلما يوجد كتاب أدب أو تاريخ أو نحوها ليس فيه استشهادات من شعره.
نكتة طريفة
في اليتيمة: حكى بديع الزمان أبو الفضل الهمذاني إن الصاحب أبا القاسم قال يوما لجلسائه وأنا فيهم وقد جرى ذكر أبي فراس: لا يقدر أحد إن يزور على أبي فراس شعرا فقلت ومن يقدر على ذلك وهو الذي يقول:
رويدك لا تصل يدها بباعك | ولا تعز السباع إلى رباعك |
ولا تعن العدو علي إني | يمين إن قطعت فمن ذراعك |
فقال الصاحب: صدقت، قلت أيد الله مولانا قد فعلت!. قال صاحب اليتيمة: ولعمري أنه قد أحسن ولم يشق غبار أبي فراس.
ديوان شعره
وديوان شعره قد جمعه أبو عبد الله الحسين بن محمد بن خالويه النحوي اللغوي وشرح الوقائع التي أشار إليها أبو فراس في شعره وذكر جملة من أخباره، والموجود بأيدي الناس هو برواية ابن خالويه جمعه غير مرتب على الحروف وقال في مقدمته بعد كلامه المتقدم في مدح أبي فراس: وما زال رحمه الله تعالى إيجابا لحق الأدب في رعاية الصحابة والعلم بأهل المخالصة يلقي إلي دون الناس شعره ويحظر علي نشره حتى سبقتني به الركبان فجمعت منه ما ألقاه إلي وشرحت من زبدة أخباره رضي الله عنه والأيام المذكورة فيه ما أرجو إن يقرنه الله عز وجل بالصواب والرشاد بمنه ولطفه وطوله وقوته وحوله.
وهذا الديوان طبع في بيروت لأول مرة سنة 1873 م وحذف منه شروح ابن خالويه إلا أقلها ونقص منه جملة من القصائد بتمامها ونقص من القصائد المذكورة فيه عدة أبيات وكان مشحونا بالأغلاط لعدم معرفة الواقفين على طبعه فجاء كثير من كلماته محرفا أو ناقصا أو غير ذلك من الأغلاط. وهو بهذه الطبعة أول ديوان شعر قرأته وسني بين السبع والعشر و علق بذهني منه شيء كثير لا أزال أحفظه حتى اليوم وقد بلغت الثمانين من أعوام عمري. ثم طبع للمرة الثانية في بيروت سنة 1910 م وغير ترتيبه عما في الطبعة الأولى بالتقديم والتأخير وشاركت الطبعة الثانية الأولى في نقصان القصائد والأبيات وفي الأغلاط وزادت عليها في الغلط كثيرا وأفسده طابعه زيادة على الغلط بما علقه عليه من الشروح التي لا يكاد يمت شيء منها إلى صواب. فمن طريق ما جاء فيها نذكره تفكهة للمطالع ونموذجا لتلك الشروح: ما ذكره في شرح قوله: (وخلى أمير المؤمنين عقيل)، فقال: أي خلى أمير المؤمنين سيف الدولة قبيلة عقيل الذين قادهم ندى بن جعفر. وفي شرح: (منكم علية أم منهم) إن علية اسم إمام من كبار المحدثين. وأدرج الأبيات الثلاثة التي قيلت في عبد الله بن طاهر وأولها (له يوم بؤس فيه للناس أبؤس) في ضمن قصيدة لأبي فراس. إلى غير ذلك مما يجده المطالع.
وكم كنت متألما إن لا يكون ديوان هذا الشاعر العربي العظيم الفذ مطبوعا طبعا متقنا صحيحا كاملا فبحثت عن نسخه المخطوطة حتى وقع بيدي بتوفيقه تعالى منها أربع نسخ منها نسختان رتبهما كاتبهما على حروف المعجم والباقي غير مرتب وإحداها ناقصة واشتركت ثلاث منها في ذكر الوقائع التي ذكرها ابن خالويه في الشرح كما اشتركت في الغلط والتحريف الذي يصعب معه معرفة الصواب إلا إنني استطعت بعد مزيد التأمل والتعب الشديد ومقابلة النسخ بعضها ببعض ومراجعة الكتب إن استخرج منها نسخة صحيحة كاملة مرتبة على حروف المعجم سالمة من الغلط والتحريف إلا في مواضع يسيرة بقيت مستغلقة وشرحت ما استغلق من ألفاظه اللغوية وما أشير إليه من الحوادث والوقائع إلا قليلا منها لم يتيسر لي الاطلاع عليه كما إنني عثرت أثناء بحثي وتنقيبي في كتب الأدب والتاريخ وغيرها على شعر له غير يسير خلت عنه هذه النسخ الأربع والنسخة المطبوعة فكانت هذه النسخة التي جمعتها نسخة فريدة في بابها خدمت بها الأدب العربي وحاميت عن شعر هذا الشاعر العظيم إن تعبث به أيدي التحريف والتصحيف والنقصان ومثلتها للطبع فكان مجموع أبيات النسخة التي جمعتها (3430) بيتا أو أزيد بزيادة (1156) بيتا عن النسخة المطبوعة البالغ عدد أبياتها 2274 بيتا وأرجو أن لا يكون فأتني شيء من شعره بعد هذا التفتيش الطويل والتنقيب الكثير.
ومما يلاحظ في ديوان أبي فراس كثرة اختلاف نسخه كثرة مفرطة جدا حسبما رأيناه في النسخ التي عثرنا عليها وفي كتب الأدب (أولا) في اللفظة الواحدة أو الجملة الواحدة أو البيت الواحد فتجدها مغيرة بما يرادفها أو يقارب معناها (ثانيا) في ترتيب الأبيات بالتقديم والتأخير (ثالثا) في القصائد بالزيادة والنقصان (رابعا) في بعض القصائد المتحدة الوزن والقافية ففي نسخة جعلت القصيدتان أو أكثر قصيدة واحدة وفي أخرى قصيدتين إلى غير ذلك مما يتعسر حصره. ويمكن كون سبب ذلك أنه ألقى شعره إلى ابن خالويه فجمعه ورتبه وغير بعض ألفاظه إلى ما رآه أحسن واسقط بعض الأبيات التي لم يرتضها وغير ترتيب بعضها بعد إن رخص له أبو فراس في جميع ذلك ويمكن إن يكون أبو فراس نفسه قد وقع منه هذا أو بعضه وكانت هذه القصائد قد انتشرت ورواها الرواة على حالها الأول فوقع الاختلاف من جراء ذلك ويمكن إن يكون وقع تغيير في الديوان من ابن خالويه أو من أبي فراس بعد انتشار نسخة فقد كان أبو فراس في عصر قد راج فيه سوق الشعر والأدب رواجا عظيما وكان لأبي فراس وعشيرته من الصيت ما يحمل الكثيرين على نسخ ديوانه ورواية شعره. وربما يرشد إلى هذا قول ابن خالويه السابق: ويحظر علي نشره حتى سبقتني به الركبان. ويمكن إن يكون ما ألقاه أبو فراس إلى ابن خالويه من شعره قد نقص منه بعض القصائد أو المقطعات التي ذهل عنها أبو فراس ورواها الرواة فألحقها الناس ببعض نسخ الديوان وبقي البعض الآخر خاليا عنها أما جعل القصيدتين واحدة فمن جهل الرواة.
وبعد فراغي من جمع ديوان أبي فراس وترجمته زارني الشاب النابة الأديب الدكتور سامي الدهان الحلبي، واستعاره مني فبقي عنده أياما واخبرني انه بذل جهودا عظيمة في جمع ديوان أبي فراس وشرح ابن خالويه له فوقف على نحو خمسين نسخة منه في فرنسا وألمانيا وانكلترة والمدينة المنورة ومصر واستانبول ودمشق وحلب وغيرها من العواصم والبلدان الأوروبية والإسلامية وصرف في سبيل ذلك أموالا طائلة وأوقاتا نفيسة وعانى أسفارا إلى هذه البلدان ومشقات في سبيل تحصيل نسخ الديوان حتى اخرج من مجموعها نسخة كاملة صحيحة وجمع بين الألفاظ المتعددة نسخها وراجع في أسماء الأماكن والأشخاص الرومية التي وجدت في شعره ولم تضبط في الكتب العربية الأصول اليونانية وشرع في طبعه واراني مما طبعه 171 صفحة وهو جاد في إكمال طبعه فأعجبت بهمته وجهوده وشكرت له صنيعه. وعلمت إن الله تعالى بعد مرور أكثر من ألف سنة من وفاة أبي فراس شاء إن لا يبقى ديوان أبي فراس على ما كان عليه فسخرني و سخر هذا الشاب النبيل لأحياء ديوان أبي فراس ونشره من رمسه. وقد كتب إلي عن أعماله في جمع هذا الديوان ما صورته:
طفت عواصم أوروبا وحواضرها باحثا منقبا في مكتباتها عن مخطوطات العصر الحمداني بصورة عامة ونسخ ديوان أبي فراس بصورة خاصة فوفقت بعد سياحة ثلاث سنوات إلى اكتشاف نسخ من ديوانه لا تعرف عنها فهارس المكتبات العامة إلا إنها مخطوطات عربية لشاعر مجهول. وقد نوهت عن ذلك في إحدى مجلات أوروبا وفي مؤتمر المستشرقين ببلجيكا ولفت النظر إلى العناية بها والحفظ عليها وقد وقعت على نسخة (الأم) في برلين فأخذت عنها الديوان رواية ابن خالويه، وقابلت عليها نسخ انكلترا وإيطاليا وفرنسا وهولندا وهي مع نسخ ألمانيا تبلغ العشرين، وقد كاتبت الأستاذ المستشرق الروسي كراتشكوفسكي في الحصول على نسخ ليننغراد فتفضل علي بما طلبت واستجلبت نسختي فاس والرباط وزرت مصر فوجدت في الأزهر وفي التيمورية ودار الكتب المصرية خمس عشرة نسخة واكتشفت في الكنيسة المارونية بحلب نسخة ديوانه وأما نسخ استانبول فقد حصلت على ما أريد منها.
ولقد ترجمت كتاب (دفورجاك) التشيكي عن أبي فراس في مقدمته بطبعة يتيمة الدهر إلى الفرنسية وحصلت على أكثر من ستين مرجعا من روسي وألماني وانكليزي وإيطالي وفرنسي وترجمتها إلى العربية جميعا.
وتفضلت علي الجمعيات العلمية في أوروبا بمخطوطات المستشرقين الذين حاولوا طبع ديوان أبي فراس فحالت دون إتمامه المنية. كل ذلك إلى مخطوطات تاريخية عن العصر الحمداني صورتها ونقلتها حتى تم لدي من ذلك كله شبه تمام المعلومات التي تهم عصر الشاعر الخالد.
ولقد بلغ عدد نسخ الديوان الخمسين والمخطوطات التاريخية الثلاثين و الدراسات والمصادر ما يقرب من المائة. هذا والله يعلم إني اعتقد بنقص المصادر وفساد أكثر النسخ وقصور عملي هذا وفقري في العلم لا أدعي الكمال وتمام المعرفة ولم اقصد إلا نشر النسخ كما هي.
وقد قدمت بين يدي الطبعة بوصف النسخ بالفرنسية وتعداد الدراسات عن الشاعر وقيمتها وتحليل ما في الديوان وقدمت الدراسة الفرنسية هذه إلى (السوربون) فكلفت الأستاذ بلانشير مؤلف "المتنبئ" أن ينقدها وكان من حظي إن أثنى عليها ووقعت من نفسه وفرح بصدورها لأنها تفتح أمامه أفاقا جديدة للعصر الذي كرس له شبابه حين درس المتنبئ.
مقتله
لم تطل مدة أبي فراس بعد خلاصه من الأسر بل بقي نحو سنتين وقتل وقد ذكر أبو فراس في بعض قصائده إن موته سيكون قتلا فهو يقول:
وقد علمت أمي بأن منيتي | بحد سنان أو بحد قضيب |
كما علمت من قبل إن يغرق ابنها | بمهلكه في الماء أم شبيب |
وقوله هذا أما من باب أقوال الشجعان إنهم لا يموتون حتف الأنف أو إن أمه رأت رؤيا علمت منها ذلك كالرؤيا التي رأتها أم شبيب. وكان سيف الدولة قد مات بعد خلاص أبي فراس بنحو سنة واتفقت الروايات على إن سبب قتله خلاف حصل بينه وبين أبي المعالي شريف بن سيف الدولة خليفة أبيه واختلفت الروايات في أنه هل قتل في المعركة أو بعد اختلاطه بالمستأمنة أو في الطريق بعد ما ضرب ضربات وأسر.
في اليتيمة: دلت قصيدة قرأتها لأبي إسحاق الصابي في رثائه على أنه قتل في وقعة كانت بينه وبين بعض موالي أسرته. ورثاء الصابي له محض وفاء وقضاء لحرمة المشاركة في الأدب.
وقال ابن الأثير في حوادث سنة 357: في هذه السنة في ربيع الآخر قتل أبو فراس ابن أبي العلاء سعيد بن حمدان وسبب ذلك أنه كان مقيما بحمص فجرى بينه وبين أبي المعالي بن سيف الدولة بن حمدان وحشة فطلبه أبو المعالي فانحاز أبو فراس إلى صدد وهي قرية في طرف البرية عند حمص فجمع أبو المعالي الأعراب من بني كلاب وغيرهم وسيرهم في طلبه مع قرعويه فأدركه بصدد فكبسوه فاستأمن جمع من أصحابه واختلط هو بمن استأمن منهم فقال قرعويه لغلام له اقتله فقتله وأخذ رأسه وتركت جثته في البرية حتى دفنها بعض الأعراب، وأبو فراس هو خال أبي المعالي بن سيف الدولة ولقد صدق من قال إن الملك عقيم.
وقال ابن خالويه في شرح ديوان أبي فراس: لما مات سيف الدولة عزم أبو فراس على التغلب على حمص فاتصل خبره بأبي المعالي بن سيف الدولة وغلام أبيه قرعويه فأنفذ إليه من قاتله فأخذ وقد ضرب ضربات فمات في الطريق فقال قبل موته:
إذا لم يعنك الله فيما تريده | فليس لمخلوق إليه سبيل |
وإن هو لم ينصرك لم تلق ناصرا | وإن عز أنصار وجل قبيل |
وإن هو لم يرشدك في كل مسلك | ضللت ولو إن السماك دليل |
قال: وبلغني إن أبا فراس رضي الله عنه أصبح يوم مقتله حزينا كئيبا وكان قلقا في تلك الليلة ورأته ابنته امرأة أبي العشائر وهو على تلك الحال فأحزنها حزنا شديدا، ثم ركب وهي على تلك الحال فأنشأ يقول ورجله في الركاب والخادم يضبط السير عليها وإنما قال ذلك كالذي ينعي نفسه وإن لم يكن من قصده ذلك فقال رحمه الله:
أبنيتي لا تحزني | كل الأنام إلى ذهاب |
أبنيتي صبرا جميلا | للجليل من المصاب |
نوحي علي بحسرة | من خلف سترك والحجاب |
قولي إذا ناديتني | فعييت عن رد الجواب |
زين الشباب أبو فرا | س لم يمتع بالشباب |
ثم سار فلقي قرعويه فكان من أمره ما كان وهذا أخر ما قاله من الشعر فيما بلغني فسبحان من لا يحول ولا يزول.
وفي نسمة السحر قيل إنه قتل في المعركة على باب حمص.
وقال ابن خلكان: رأيت في ديوانه انه لما حضرته الوفاة كان ينشد مخاطبا ابنته وذكر الأبيات الخمسة المتقدمة، ثم قال: وهذا يدل على أنه لم يقتل أو يكون قد جرح وتأخر موته ثم مات من الجراحة. ولكن قد سمعت فيما مر عن ابن خالويه انه أنشدها ورجله في الركاب يوم قتله قبل إن يلقى قرعويه ثم قتل فما في الديوان إن صح يمكن إن يراد بقوله لما حضرته الوفاة أي يوم قتل فلا منافاة. ثم قال ابن خلكان: ذكر ثابت بن قرة الصابي في تاريخه قال: جرت حرب بين أبي فراس وكان مقيما بحمص وبين أبي المعالي شريف بن سيف الدولة واستظهر عليه أبو المعالي وقتله في الحرب وأخذ رأسه وبقيت جثته مطروحة في البرية إلى إن جاء بعض الأعراب فكفنه ودفنه. قال غيره: وكان أبو فراس خال أبي المعالي وقلعت أمه سخينة عينها لما بلغها وفاته وقيل إنها لطمت وجهها فقلعت عينها وقيل لما قتله قرعويه لم يعلم به أبو المعالي فلما بلغه الخبر شق عليه. وسخينة هي أم أبي المعالي أخت أبي فراس لا أم أبي فراس لأن أمه ماتت وهو في أسر الروم. فقوله: وقلعت أمه عينها أي أم أبي المعالي.
وفي تاريخ دمشق لابن عساكر المطبوع ما لفظه: في سنة 350 قتل أبو فراس قتله أبو قرعونة غلام سيف الدولة ولما بلغ قتله أمه قلعت عينها وكان قتله عند ضيعة تعرف بصدد في حرب كانت بين شريف بن سيف الدولة وبين أبي فراس. وفيه ثلاث مخالفات للمعروف في كتب التاريخ (إحداها) تاريخ قتله سنة 350 وقد أجمعت كتب التاريخ أنه سنة 357 (ثانيتها) تسمية غلام سيف الدولة أبو قرعونة والمذكور في اسمه قرعويه أو فرغوية (ثالثتها) قوله ولما بلغ أمه الخ الدال على إنها أم أبي فراس مع إن أم أبي فراس ماتت وهو في الأسر كما مر فالصواب إنها أم أبي المعالي ولما كانت النسخة المطبوعة فاشية الغلط لم يعلم إن ذلك من كلام ابن عساكر. والصواب إن الذي قتله قرعويه وان أبا المعالي لم يعلم بقتله إلا بعد وقوعه.
وهؤلاء المماليك أمثال قرعويه لم تكن لهم نفوس شريفة تدعوهم إلى العفو عند المقدرة وكانوا كثيرا ما يكفرون النعمة بعدما أجادوا الخدمة في أول أمرهم فيرغب فيهم مواليهم فإذا ترقت حالهم بطروا وربما فتكوا بمواليهم. وقرعويه هذا عصى على أبي المعالي بعد سيف الدولة في خبر معروف ثم سلط الله عليه مولى له فقبض عليه مع بكجور وحبسه في قلعة حلب ست سنين ثم قتله أبو المعالي شريف بن سيف الدولة فجازاه الله تعالى بمثل فعله.
ومن المؤسف إن يكون أبو فراس الأمير الشجاع الكبير النفس العالي الهمة العربي الصميم يقتل بيد غلام مملوك لغلام مملوك وما أحسن وأصدق قول المتنبي كما في اليتيمة:
فلا تنلك الليالي إن أيديها | إذا ضربن كسرن النبع بالغرب |
ولا يعن عدوا أنت قاهره | فإنهن يصدن الصقر بالخرب |
ولله أمر هو بالغه. وأولى بان يستشهد لذلك بقول أبي فراس نفسه:
ذدت الأسود عن الفرائس | ثم تفرسني الضباع |
وفي تاريخ أبي الفدا: وفي مقتله في صدد يقول بعضهم.
وعلمني الصد من بعده | عن النوم مصرعه في صدد |
فسقيا لها إذ حوت شخصه | وبعد لها حيث فيها ابتعد |
مختارات من شعره الغزل والنسيب
قال ولا توجد في الديوان المطبوع:
أيا من وجهه بدر | وفي ألحاظه سحر |
ويا من جسمه ماء | ويا من قلبه صخر |
لقد قام لدى العاذل | من وجهك لي عذر |
فكاشفتك عن وجدي | لما عزني الصبر |
وما بحت بما ألقاه | حتى أنهتك الستر |
وقال:
لبسنا رداء الليل والليل راضع | إلى إن تردى رأسه بمشيب |
وبتنا كغصني بانة عابثتهما | مع الصبح ريحا شمال وجنوب |
بحال ترد الحاسدين بغيظهم | وتطرف عنا طرف كل رقيب |
إلى إن بدا ضوء الصباح كأنه | مبادي نصول في عذار خضيب |
فيا ليل قد فارقت غير مذمم | ويا صبح قد أقبلت غير حبيب |
وقال ولا توجد في الديوان المطبوع:
تبسم إذ تبسم عن أقاح | وأسفر حين أسفر عن صباح |
وأتحفني براح من رضاب | وراح من جنا خد وراح |
فمن لألاء غرته صباحي | ومن صهباء ريقته اصطباحي |
وله:
وظبي غرير في فؤادي كناسه | إذا اكتنست عين الفلاة وحورها |
فمن خلقه أجيادها وعيونها | ومن خلقه عصيانها ونفورها |
وله وليست في الديوان المطبوع:
وبيض بألحاظ العيون كأنما | هززن سيوفا واستللن محاجرا |
تصدين لي يوما بمنعرج اللوى | فغادرن قلبي بالتصبر غادرا |
سفرن بدورا وانتقبن أهلة | ومسن غصونا والتفتن جاذرا |
وله:
مسيء محسن طورا وطورا | فما أدري عدوي أم حبيبي |
يقلب مقلة ويدير لحظا | به عرف البريء من المريب |
وبعض الظالمين وإن تناهى | شهي الظلم مغتفر الذنوب |
وله:
الزمني ذنبا بلا ذنب | ولج في الهجران والعتب |
أحاول الصبر على هجره | والصبر محظور على الصب |
وأكتم الوجد وقد أصبحت | عيناي عينيه على قلبي |
وقال من قصيدة:
عم صباحا وإن غدوت خلاء | من ظباء فضحن فيك الظباء |
كنت استصعب الجفاء فلما | بعدوا سهل البعاد الجفاء |
كلما أبلت الديار الليالي | عاد ذاك البلى علي بلاء |
وقال في غلام نبت عذاره:
قد كان بدر السماء حسنا | والناس في حبه سواء |
فزاده ربه عذارا | تم به الحسن والبهاء |
لا تعجبوا ربنا قدير | يزيد في الخلق ما يشاء |
وقال من قصيدة:
أنا في حالتي وصال وهجر | من أذى الحب في عذاب مذيب |
بين قرب منغص بصدود | ووصال منغص برقيب |
وله:
أساء فزادته الإساءة حظوة | حبيب على ما كان منه حبيب |
يعد علي الواشيان ذنوبه | ومن أين للوجه الجميل ذنوب |
ألا أيها الجاني ونسأله الرضا | ويا أيها المخطي ونحن نتوب |
لحا الله من يرعاك في القرب وحده | ويترك عهد الغيب حين تغيب |
وله وليسا في الديوان المطبوع:
وشادن قال لي لما رأى سقمي | وضعف جسمي والدمع الذي انسجما |
أخذت دمعك من خدي وجسمك من خصري | وسقمك من طرفي الذي انسقما |
وقال وليسا في الديوان المطبوع:
أيا معافى من رسيس الهوى | يهنيك حال السالم الغانم |
أعانك الله بخير أما | تكون لي عونا على ظالمي |
وقال وليسا في الديوان المطبوع:
لما تبينت باني له | ازداد حبا كلما لاموا |
وددت إذ ذاك بان الورى | فيك مدى الأيام لوام |
وقال وليسا في الديوان المطبوع:
ودعوا خشية الرقيب بإيماء | فودعت خشية اللوام |
لم أبح بالوداع جهرا ولكن | كان جفني فمي ودمي كلامي |
وقال:
من أين للرشا الغرير الأحور | في الخد مثل عذارك المتحدر |
قمر كان بعارضيه كليهما | مسكا تساقط فوق ورد أحمر |
وقال:
عدتني عن زيارته عواد | أقل مخوفها سمر الرماح |
ولو إني أطعت رسيس شوقي | ركبت إليه أعناق الرياح |
وقال:
قمر دون حسنه الأقمار | وكثيب من النقا مستعار |
وغزال فيه نفار وما | ينكر من شيمة الظباء النفار |
وقال:
أتتني منك أخبار | وبانت منك أسرار |
من السلوة في عينيك | آيات وآثار |
أراها منك بالقلب | وللأحشاء أبصار |
إذا ما برد الحب | فما تسخنه النار |
وقال:
وعارضني السحاب فقلت مهلا | فاني من دموعي في سحاب |
وأنت إذا سكبت سكبت وقتا | ودمعي كل وقت في انسكاب |
فهبك صدقت دمعك مثل دمعي | فهل بك في الجوانح مثل ما بي |
وقال:
فديت من أصبح أحبابه | تخاف منه ما يخاف العدا |
سبحان من حبب ألحاظه | إلى محبيه وفيها الردى |
وقال:
نبوة الإدلال ليست | عندنا ذنبا يعد |
قل لمن ليس له عهد | لنا عهد وعقد |
جملة تغني عن التفصيل | مالي عنك بد |
إن تغيرت فما غير | منا لك عهد |
وقال:
أهدى إلي صبابة وكآبة | فأعادني كلف الفؤاد عميدا |
إن الغزالة والغزالة أهدتا | وجها إليك إذا طلعت وجيدا |
وقال:
ولقد علمت وما علمت | وإن أقمت على صدوده |
إن الغزالة والغزالة | في ثناياه وجيده |
وقال:
يا معشر الناس هل لي | مما لقيت مجير |
أصاب غرة قلبي | هذا الغزال الغرير |
فعمر ليلي طويل | وعمر نومي قصير |
أسرت مني فؤادي | يفديك ذاك الأسير |
وقال:
ما إن تجدد لي يأس فيسليني | إلا تجدد لي في وصله طمع |
لا احمل اللوم فيه والغرام معا | ما كلف الله نفسا فوق ما تسع |
وقال:
غلام فوق ما أصف | كان قوامه ألف |
إذا ما ماس يرعبني | أخاف عليه ينقصف |
سروري عنده طمع | ودهري كله أسف |
وقال:
الحزن مجتمع والصبر مفترق | والحب مختلف عندي ومتفق |
ولي إذا كل عين نام صاحبها | عين تحالف فيها الدمع والأرق |
لولاك يا ظبية الإنس التي نظرت | لما وصلن إلى مكروهي الحدق |
لكن نظرت وقد سار الخليط ضحى | بناظر كل حسن منه مسترق |
وقال:
يا من رضيت بفرط ظلمه | ودخلت طوعا تحت حكمه |
الله يعلم ما لقيت | من الهوى وكفى بعلمه |
هب للمقر ذنوبه | واصفح له عن عظم جرمه |
إني أعيذك إن تبوء | بقتله وبحمل أثمه |
وقال:
هبه أساء كما ذكرت فهب له | وارحم تضرعه وذل مقامه |
بالله ربك لم فتكت بصبره | ونصرت بالهجران جيش سقامه |
فرقت بين جفونه ومنامه | وجمعت بين نحوله وعظامه |
وقال:
لا غرو إن فتنتك | باللحظات فاترة الجفون |
فمصارع العشاق ما | بين الفتور إلى الفتون |
إصبر فمن سنن الهوى | صبر الظنين على الضنين |
وقال:
أشفقت من هجري فغابت | الظنون على اليقين |
وظننت بي فضننت لي | والظن من شيم الضنين |
وقال:
ما كنت تصبر بالقديم | فلم صبرت اليوم عنا |
ولقد أسأت بك الظنون | لأنه من ضن ظنا |
وقال:
الورد ما ينبت خداه | والسحر ما تفعل عيناه |
حل رداء الحسن في وجهه | تطريزه منه عذاراه |
وقال:
قلبي يحن إليه | نعم ويحنو عليه |
وما جنى أو تجنى | إلا اعتذرت إليه |
فكيف أملك قلبي | والقلب رهن لديه |
وقال:
الورد في وجنتيه | والسحر من مقلتيه |
وإن عصاني لساني | فالقلب طوع يديه |
وقال:
ولما أصبح الدمع | وقد باح بكتمان |
وللناس على سري | من عيني عينان |
تسامحت فلا أكتم | إلا بعض أشجاني |
وبالدارين إنسان | له بالقلب داران |
إذا ما ماس بالقرطق | يسعى بين أخدان |
رأيت البدر قد بان | على غصن من ألبان |
ألا يا صاحبي رحلي | بالله أجيباني |
أرى من لست أنساه | على الحالات ينساني |
وهذا الذي قاله من إن عيني العاشق عينان عليه قد أولع به وكرره في شعره فقال:
علي من عيني عينان | تبوح للناس بكتماني |
وجهك والبدر إذا ابرزا | لا عين العالم بدران |
وقال من قصيدة ليست في الديوان المطبوع وتأتي:
فعلام اكتم أو أسر صبابتي | وعلي من عيني لي عينان |
وقال:
من لي بكتمان هوى شادن | عيني له عين على قلبي |
عرضت صبري وسلوي له | فاستشهدا في طاعة الحب |
وقال من أبيات مرت:
وأكتم الوجد وقد أصبحت | عيناي عينيه على قلبي |
وقال:
وإذا يئست من الدنو | رغبت في فرط البعاد |
أرجو الشهادة في هوا | ك لان روحي في جهاد |
وقال:
وكنى الرسول عن الجواب تظرفا | ولئن كنى فلقد علمنا ما عنى |
قل يا رسول ولا تحاش فإنه | لا بد منه أساء بي أم أحسنا |
الذنب لي فيما جناه لأنني | مكنته من مهجتي فتمكنا |
وقال وفيه إشارة إلى علم النجوم:
وشادن من بني كسرى شغفت به | لو كان أنصفني في الحب ما جارا |
كأنما الشمس لي في القوس نازلة | إن لم يزرني وفي الجوزاء إن زارا |
وقال:
فوالله ما أحدثت في الحب سلوة | ووالله ما حدثت نفسي بالصبر |
وإنك في عيني لأبهى من الغنى | وانك في قلبي لأحلى من النصر |
وقال:
صبرت على اختيارك واضطراري | وقل مع الهوى منك انتصاري |
وكان يعاف حمل الضيم قلبي | فقر على تحمله قراري |
وقال:
فديتك طال ظلمك واحتمالي | كما كثرت ذنوبك واعتذاري |
وكم أبصرت من حسن ولكن | عليك لشقوتي وقع اختياري |
وقال:
ولي في كل يوم منك عتب | أقوم به مقام الاعتذار |
حملت هواك لا جلدا ولكن | صبرت على اختيارك واضطراري |
الفخر والحماسة
وقد أكثر في شعره من الفخر والحماسة وذكر الحرب حتى أنه لشدة ولوعه بذلك يمزجه بالغزل والنسيب وبكثير من فنون الشعر والشريف الرضي في شعره هذه المزية فأبو فراس يقول وهو يتغزل:
أجملي يا أم عمرو | زادك الله جمالا |
لا تبيعيني برخص | إن في مثلي يغالى |
أنا إن جدت بوصل | أحسن العالم حالا |
قال ابن خالويه: كثرت وقائع سيف الدولة بالعرب في كل ارض فتجمعت نزاريها ويمانيها وتشاكت ما لحقها وتراسلت واتفقت على الاجتماع بسلمية لمقاتلته وقتلت عامله بقنسرين الصباح عبد عمارة الحارفي فنهض سيف الدولة ومعه ابن عمه أبو فراس حتى أوقع بهم وعليهم يومئذ الندى بن جعفر ومحمد بن يزيع العقيليان، من آل المهنأ فهزمهم وقتل وجوههم واتبع فلولهم وقدم أبا فراس في قطعة من الجيش يتبعهم ويقتل ويأسر فلم ينج منهم إلا من سبق به فرسه واتبعهم سيف الدولة وأبو فراس حتى ألحقوهم بالسماوة. وانكفأ سيف الدولة إلى بني نمير وهي بالجزيرة فوجدها خاضعة ذليلة تعطي الرضا وتنزل على الحكم فصفح عنهم وأحلهم بالجزيرة فقال أبو فراس من قصيدة يذكر الحال والمنازل ويصف مواقفه فيها وكان قد حسن بلاؤه في تلك الوقعة. وهي من غرر شعره:
أبت عبراته إلا انسكابا | ونار ضلوعه إلا التهابا |
ومن حق الطلول علي إن لا | أغب من الدموع لها سحابا |
وما قصرت عن تسآل ربع | ولكني سألت فما أجابا |
رأيت الشيب لاح فقلت أهلا | وودعت الغواية والشبابا |
وما إن شبت من كبر ولكن | لقيت من الأحبة ما أشابا |
بعثن من الهموم إلي ركبا | وصيرن الصدود له ركابا |
ألم ترنا أعز الناس جارا | وأمنعهم وأمرعهم جنابا |
لنا الجبل المطل على نزار | حللنا النجد منه والهضابا |
يفضلنا الأنام ولا نحاشى | ونوصف بالجميل ولا نحابى |
وقد علمت ربيعة بل نزار | بأنا الرأس والناس الذنابى |
ولما إن طغت سفهاء كعب | فتحنا بيننا للحرب بابا |
منحناها الحرائب غير أنا | إذا جارت منحناها الحرابا |
ولما ثار سيف الدين ثرنا | كما هيجت آسادا غضابا |
أسنته إذا لاقى طعانا | صوارمه إذا لاقى ضرابا |
دعانا والأسنة مشرعات | فكنا عند دعوته الجوابا |
صنائع فاق صانعها ففاقت | وغرس طاب غارسه فطابا |
وكنا كالسهام إذا أصابت | مراميها فراميها أصابا |
عبرن بماسح والليل طفل | وجئن إلى سلمية حين شابا |
تناهبن الثناء بصبر يوم | به الأرواح تنتهب انتهابا |
وقاد ندى بن جعفر من عقيل | شعوبا قد أسلن بها الشعابا |
فما كانوا لنا إلا أسارى | وما كانت لنا إلا نهابا |
كان ندى بن جعفر قاد منهم | هدايا لم يرع عنها ثوابا |
وشدوا رأيهم ببني بزيع | فخابوا لا أبا لهم وخابا |
فلما اشتدت الهيجاء كنا | أشد مخالبا واحد نابا |
وامنع جانبا وأعز جارا | وأوفى ذمة وأقل عابا |
قرينا بالسماوة من عقيل | سباع الأرض والطير السغابا |
وبالصباح والصباح عبد | قتلنا من لبابهم اللبابا |
تركنا في بيوت بني المهنا | نوادب ينتحبن بها انتحابا |
وأبعدنا لسوء الفعل كعبا | وأدنينا لطاعتها كلابا |
وسرنا بالخيول إلى نمير | تجاذبنا أعنتها جذابا |
إمام مشيع سمح بنفس | يعز على العشيرة إن يصابا |
وما ضاقت مذاهبه ولكن | يهاب من الحمية إن يهابا |
ويأمرنا فنكفيه الأعادي | همام لو يشأ لكفى ونابا |
فلما أيقنوا إن لا غياث | دعوه للمغوثة فاستجابا |
وعاد إلى الجميل لهم فعادوا | وقد مدوا لما يهوى الرقابا |
أمر عليهم خوفا وأمنا | أذاقهم به أريا وصابا |
أحلهم الجزيرة بعد بأس | أخو حلم إذا ملك العقابا |
ولو شئنا حميناها البوادي | كما تحمي اسود الغاب غابا |
إذا ما لأنفذ الأمراء جيشا | إلى الأعداء أنفذنا كتابا |
أنا ابن الضاربين الهام قدما | إذا كره المحامون الضرابا |
ألم تعلم ومثلك قال حقا | باني كنت أثقبها شهابا |
وقال يفتخر من قصيدة:
أنخت وصاحباي بذي طلوح | طلائح شفها وخد القفار |
ولا ماء سوى نطف الروايا | ولا زاد سوى القنص المثار |
فلما لاح بعد الأين سلع | ذكرت منازلي وعرفت داري |
ألم بنا وجنح الليل داج | خيال زار وهنا من نوار |
أباخلة علي وأنت جار | وواصلة على بعد المزار |
تلاعب بي على بزل المطايا | خلائق لا تقر على الصغار |
ونفس دون مطلبها الثريا | وكف دونها فيض البحار |
أرى نفسي تطالبني بأمر | قليل دون غايته اقتصاري |
وما يغنيك من همم طوال | إذا اقترنت بأحوال قصار |
علي لكل هم كل عنس | أمون الرحل موخدة القفار |
وخراج من الغمرات خرق | أبو شبلين محمي الذمار |
شديد تحيف الأيام واف | على علاته عف الإزار |
فلا نزلت بي الجيران إن لم | أجاورها مجاورة البحار |
ولا صحبتني الفرسان إن لم | أصاحبها بمأمون الفرار |
ولا خافتني الأملاك إن لم | أصبحها بملتف الغبار |
بجيش لا يخل بهم مغير | ورأي لا يغبهم مغار |
شددت على الحمامة كور رحل | بعيد حله دون اليسار |
تحف بي الأسنة والعوالي | ومضمرة المهاري والمهار |
وتخفق حولي الرايات حمرا | وتتبعني الخضارم من نزار |
عزيز حيث حط السير رحلي | تداريني الأنام ولا إداري |
وأهلي من أنخت إليه عيسى | وداري حيث كنت من الديار |
وقال يفتخر من قصيدة ولا توجد في الديوان المطبوع:
لقد نزحت بالغيد خوص الركائب | وقد غادرتني فرصة للنوائب |
وما كنت أدري ما جناية بينهم | على القلب حتى جد سير الركائب |
ومن كان مشغولا بود خريدة | وحث كؤوس أو وصال حبائب |
فما لي إلا البيض والبيض والقنا | وجرد كرام محضرات الجوانب |
ولا أنا وان عند مختلف القنا | ولا بجبان عند زحف الكتائب |
وقد ألبستني كل حال لباسها | واحكمني طول السرى بالتجارب |
وعرفني عرف الخطوب ونكرها | تصرف أيام أتت بالعجائب |
ولو رضيت نفسي المقام لأقصرت | ولكنها معقودة بالكواكب |
ولو إنها لانت لخفض معيشة | أطاعت مقالات الغواني الكواعب |
ولكن نفسي لا تجيب إلى الرضا | بغير الرضا من عاليات المناصب |
وإني لمن قوم كرام أصولهم | بها ليل أبطال كرام المناسب |
ولولا رسول الله كان اعتزاؤنا | لا شرف بيت من لؤي بن غالب |
وقال يفتخر:
ومعود للكر في حمس الوغى | غادرته والفر من عاداته |
حمل القناة على أغر سميذع | دخال ما بين الفتى وقناته |
لا اطلب الرزق الدنيء مناله | قوت الهوان أقل من مقتاته |
علقت بنات الدهر تطلب ساحتي | لما فضلت بنية في حالاته |
فالبيض ترميني ببيض رجالها | والدهر يطرقني بسود بناته |
وقال:
ألا ليت قومي والأماني كثيرة | شهودي والأرواح غير لوابث |
غداة تناديني الفوارس والقنا | ترد إلى حد الظبا كل ناكث |
أحارث إن لم تصدر الرمح قانيا | ولم تدفع الجلى فلست بحارث |
وقال:
أحسن من قهوة معتقة | بكف ظبي مقرطق غنج |
صوت قراع في وسط معمعة | قد صبغ الأرض من دم المهج |
وقال:
أما الخليط فمتهم أو منجد | فاذرف فهل لك غير دمعك منجد |
عرج على ربع بمنعرج اللوى | واسأله ما فعل الظباء الخرد |
أيام يدعوني الهوى فأجيبه | ومغازلي فيها الغزال الأغيد |
رحلوا فأخلق ربعهم وصبابتي | أبدا لأخلاق الربوع تجدد |
من كل شمس في الخدور إذا بدت | كادت لها الشمس المنيرة تسجد |
وتحالفاني حين زمت عيسهم | دمع يفيض وحسرة تتردد |
يا عاذلي كف الملام فإنه | لا يستطاع على الفراق تجلد |
وإذا الهموم تناصرت لم يفنها | إلا العذافرة الأمون الجلعد |
وأخو ملمات تسدد فعله | همم مثقفة وعزم محصد |
خرق إذا اقتحم الغبار رأيته | كالسيف إلا أنه لا يغمد |
وكان أبو أحمد عبد الله بن محمد بن ورقاء الشيباني قال قصيدة يهنئ بها سيف الدولة بظفره في بعض وقائعه ويفاخر فيها مضر ببكر وتغلب وذكر أيامها في الجاهلية والإسلام فعمل أبو فراس قصيدة يذكر فيها آباءه وأسلافه وأهله الأقربين في الإسلام ويرد على أبي أحمد في افتخاره بآبائه وأسلافه وأهله الأقربين في الإسلام وهي تزيد على 240 بيتا فانتخبنا شيئا منها في الغزل ووصف الناقة والآداب والحكم والحماسة وغيرها قال:
لعل خيال العامرية زائر | فيسعد مهجور ويسعد هاجر |
وإني على طول الشماس عن الصبا | احن وتصبيني إليها الجاذر |
وفي كلتي ذاك الخباء خريدة | لها من طعان الدارعين ستائر |
تقول إذا ما جئتها متدرعا | أزائر شوق أنت أم أنت ثائر |
تثنت فغصن ناعم أم شمائل | وولت فليل فاحم أم غدائر |
وقد كنت لا أرضى من الوصل بالرضى | ليالي ما بيني وبينك عامر |
فأما وقد طال الصدود فإنه | يقر بعيني الخيال المزاور |
تنام فتاة الحي عني خلية | وقد كثرت حولي البواكي السواهر |
وما هي إلا نظرة ما احتسبتها | بعدان صارت بي إليها المصاير |
ظللت بها والركب والحي كله | حيارى إلى وجه به الحسن حائر |
وما سفرت عن ريق الحسن إنما | نممن على ما تحتهن المعاجر |
ويا عفتي مالي وما لك كلما | هممت بأمر هم لي منك زاجر |
فيا نفس ما لاقيت من ألم | الجوى ويا قلب ما جرت عليك النواظر |
كان الحجى والصون والعقل والتقى | لدي لربات الحجال ضرائر |
وهن وان جانبت ما يبتغيه | حبائب عندي منذ كن أثاير |
وكم ليلة خضت الأسنة نحوها | وما هدأت عين ولا نام سامر |
فلما خلونا يعلم الله وحده | لقد كرمت نجوى وعفت سرائر |
وبت يظن الناس في ظنونهم | وثوبي مما يرجم الناس طاهر |
ولا ريبة إلا الحديث كأنه | جمان وهى أو لؤلؤ متناثر |
وكم ليلة ماشيت بدر تمامها | إلى الصبح لم يشعر بأمري شاعر |
أقول وقد ضج الحلي وأشرفت | -ولم أرو منها- للصباح بشائر |
أيا رب حتى الحلي مما نخافه | وحتى بياض الصبح مما نحاذر |
ولي فيك من فرط الصبابة آمر | ودونك من حسن التصون زاجر |
وراءك عني إنما عفة الفتى | إذا عف عن لذاته وهو قادر |
نفى الهم عني همة عدوية | وقلب على ما شئت منه مؤازر |
وأسمر مما ينبت الخط ذابل | وأبيض مما تطبع الهند باتر |
وقلب تقر الحرب وهو محارب | وعزم يقيم الجسم وهو مسافر |
ونفس لها في كل أرض لبانة | وفي كل حي أسرة ومعاشر |
إذا لم أجد في كل ارض عشيرة | فان الكرام للكرام عشائر |
ولاحقة الاطلين من نسل لاحق | أمينة ما نيطت عليه الحوافر |
من اللاء تأبى إن تعاند ربها | إذا حسرت عند المغار المآزر |
وخرقاء ورقاء بطئ كلالها | تكلف بي ما لا تطيق الأباعر |
غريرية صافت شقائق دابق | مدى قيظها حتى تصرم ناجر |
وحمضها الراعي بميثاء برهة | تناول من خضرافه وتغادر |
أقامت به شيبان ثمة ضمنت | بقية صفوان قراها المناضر |
وخوضها بطن السلوطح ريثما | أديرت بملحان الشهور الدوائر |
فجاء بكوماء إذا هي أقبلت | ظننت عليها رحلها وهي حاسر |
فيا بعد ما بين الكلال وبينها | ويا قرب ما يرجو عليها المسافر |
دع الوطن المألوف رابك أهله | وعد عن الأهل الذين تكاشروا |
فأهلك من أصفى وودك ما صفا | وإن نزجت دار وقلت نواصر |
تبوأت من قرمي معد كليهما | مكانا أراني كيف تبنى المفاخر |
لئن كان أصلي من سعيد نجاره | ففرعي بسيف الدولة القرم ناضر |
وما كان لولاه لينفع أول | إذا لم يزين أول المجد آخر |
لعمرك ما الأبصار تنفع أهلها | إذا لم يكن للمبصرين بصائر |
وهل ينفع الخطي غير مثقف | وتظهر إلا بالصقال الجواهر |
وكيف ينال المجد والجسم وادع | وكيف يحاز الحمد والوفر وافر |
أناضل عن أحساب قومي بفضله | وأفخر حتى لا أرى من يفاخر |
علي لابكار الكلام وعونه | مفاخر تفنيه وتبقى مفاخر |
أنا الحارث المختار من نسل حارث | إذا لم يسد في القوم إلا الأخاير |
فإن تمض أشياخي فلم يمض مجدها | ولا دثرت تلك العلا والمآثر |
نشيد كما شادوا ونبني كما بنوا | لنا شرف ماض وآخر غابر |
وفينا لدين الله عز ومنعة | ومنا لدين الله سيف وناصر |
إذا ذكرت يوما غطاريف وائل | فنحن أعاليها ونحن الجماهر |
وقال:
سلي عني سراة بني معد | ببالس عند مشتجر العوالي |
لقيناهم بأسياف قصار | كفين مؤونة الأسل الطوال |
وعادوا سامعين لنا فعدنا | إلى المعهود من شرف الفعال |
ونحن متى رضينا بعد سخط | أسونا ما جرحنا بالنوال |
وقال:
لنا بيت على عنق الثريا | بعيد مذاهب الأطناب سامي |
تظلله الفوارس بالعوالي | وتفرشه الولائد بالطعام |
وقال:
بأطراف المثقفة العوالي | تفردنا بأوساط المعالي |
وما تحلو مجاني العز يوما | إذا لم تجنها سمر العوالي |
ممالكنا مكاسبنا إذا ما | توارثها رجال عن رجال |
وقال من قصيدة:
وما كل طلاب من الناس بالغ | ولا كل سيار إلى المجد واصل |
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه | واني لها فوق السماكين جاعل |
وللوفر متلاف وللحمد جامع | وللشر تراك وللخير فاعل |
وقال:
إذا مررت بواد جاش غاربه | فاعقل قلوصك وانزل ذاك وادينا |
وان عبرت بناد لا تطيف به | أهل السفاهة فاجلس فهو نادينا |
تجفل الشول بعد الخمس صادية | إذا سمعن على الأمواه حادينا |
ويصبح الضيف أولانا بمنزلنا | نرضى بذاك ويمضي حكمه فينا |
وقال:
أطرح الأمر إلينا | واحمل الكل علينا |
إننا قوم إذا ما | صعب الأمر كفينا |
وإذا ما ريم منا | موضع الذل أبينا |
وإذا ما هدم العز | بنو العز بنينا |
وقال وقد أوقع ببني كلاب:
أبلغ بني حمدان في بلدانها | كهولها والغر من شبانها |
يوم طردت الخيل عن أظعانها | وسقت من قيس ومن جيرانها |
ذوي علاها وذوي طعانها | حتى إذا قل غنى شجعانها |
طاردني عنها وعن إتيانها | حرائر رغبت في صيانها |
استعمل الشدة في أوانها | وأغفر الزلة في إبانها |
وقال من أبيات:
سلي عني نساء بني معد | يقلن بما رأين وما سمعنه |
ألست أمدهم لذرى ظلال | وأوسعهم لدى الأضياف جفنه |
وأثبتهم لدى الحدثان جاشا | وأسرعهم إلى الفرسان طعنه |
متى ما يدن من أجل كتابي | أمت بين الأسنة والأعنة |
وقال:
لقد علمت سراة الحي أنا | لنا الجبل الممنع جانباه |
يفئ الراغبون إلى ذراه | ويأوي الخائفون إلى حماه |
وقال وقد أوقع ببني كلاب وأسر مصعبا الطائي وسألته أم بسام فصفح عن الأموال من أبيات:
جار نزعناه قسرا في بيوتكم | والخيل تعصب فرسانا بفرسان |
بالمرج إذ أم بسام تناشدني | بنات عمك يا حار بن حمدان |
فظلت اثني صدور الخيل ساهمة | بكل مضطغن بالحقد ملآن |
ونحن قوم إذا عدنا بسيئة | على العشيرة عقبنا بإحسان |
قال ابن خالويه: غزا الأمير سيف الدولة في سنة 339 وأوغل في بلد الروم وفتح صارخة واحرقها وهي مدينة بالروم بينها وبين القسطنطينية سبعة أيام وأوقع بالدمستق فهزمه واسر عدة من البطارقة وغيرهم وعاد ظافرا غانما فتبعه العدو فأخذ عليه الدرب فتخلى عن بعض السواد وقتل البطارقة وعاد فقال أبو فراس يصف الغزوة ويفتخر ويذكر غزواته بالروم من قصيدة وليست في الديوان المطبوع:
لا عز إلا بالحسام المخذم | وضراب كل مدجج مستلئم |
وقراع كل كتيبة بكتيبة | ولقاء كل عرمرم بعرمرم |
ولقد رضعت من الزمان لبانه | وعرفت كل معوج ومقوم |
وقطعت كل تنوفة لم يلقها | قدم ولم تقرع بباطن منسم |
وأهنت نفسي للرماح وانه | من لم يهن بين القنا لم يكرم |
ورأيت عمري لا يزيد تأخري | فيه ولا يفنيه فضل تقدمي |
ولقومي الشرف المنيع محله | فوق المجرة والسماك المرزم |
ورثوا الرياسة كابرا عن كابر | من عهد عاد في الزمان وجرهم |
ظفروا بها بالسيف أول مرة | وبقاؤها بالسيف أصبح فيهم |
نحن البحار بل البحار مياهها | ملح وموردنا لذيذ المطعم |
لما برزنا للدمستق مرة | ورأى بوادر خيلنا كالأسهم |
طلب النجاة بنفسه فتحكمت | في جيشه الأسياف أي تحكم |
ما كان بعض قلوبنا في جسمه | فيكون أثبت من هضاب يلملم |
لولا الجواد الأدهم الناجي به | أضحت قوائم رجله في الأدهم |
ولئن نجا فرجاله وحماته | ما بين مصفود وبين مكلم |
لبسوا الحديد بزعمهم وبودهم | إن لم يكن ذاك الحلي عليهم |
سل أهل خرشنة تجبك نساؤهم | كم ثاكل منها وكم من أيم |
عهدي بها والنار في جنباتها | وكأنها صدر المشوق المغرم |
كم ذات حجل ما رآها الناس قد | برزت لأعينهم بأنف مرغم |
ويقول فيها في مدح سيف الدولة:
يا ابن الذوائب من نزار والأولى | شادوا بيوت مناقب لم تهدم |
عز الأنام وأنت تعلم أنه | ما إن ينال العز من لم يعزم |
وأزرت صارخة الخيول فيالها | من زورة طلعت بطير اشأم |
أحرقت أهليها بها فتركتهم | في جمرها المتلهب المتضرم |
فكأنما عجلت ما قد أوعدوا | يوم القيامة من عذاب جهنم |
وملكت حصن عيون جيحان وقد | أعيا الورى في دهره المتقدم |
فكأنما امتدت يمينك صاعدا | في الجو حتى حزت بعض الأنجم |
حتى إذا ما آب جيشك قافلا | ضل الدليل عن الطريق الأقوم |
فتطرقوا بعض السواد تلصصا | والليل يسترهم بثوب مظلم |
ما قابلوك ولو رأوك تجاههم | أشبعت منهم كل نسر قشعهم |
والعود أحمد والليالي بيننا | وغدا نروح معقبين إليهم |
يا سيف سيف الدولة الماضي إذا | نبت السيوف وخان كل مصمم |
إرم الكتائب بي فإنك عالم | إني أخو الهيجاء غير مذمم |
وعلي إن ألقى الفوارس معلما | وعلو جدك عدتي وعرمرمي |
أنا سيفك الماضي وليس بقاطع | سيف إذا ما لم يشد بمعصم |
ويقول فيها في أسر داود بن عمار بن داود بن حمدان:
قل لابن عمار بن داود وما | قول العليم كقول من لم يعلم |
إن بت ترسف في الحديد فطالما | أمسيت توضع بالحديد إلى الكمي |
ولئن أصبت لقد أصبت من العدى | عدد الحصى وعفوت عفو المنعم |
قالوا الفداء ولا فداء بيننا | إلا بحكم المشرفي المخذم |
هيهات لا صلح وقد بقيت لنا | بيض رقيقات الظبي لم تثلم |
عزما بنا إن الحسام لكافل | بنفوسهم وشبا الأصم اللهذم |
صبرا أبا العباس أنا معشر | صبر على صرف الزمان المجرم |
يا سيف دين الله غير مدافع | أغضب لدين الله ربك واعزم |
فإذا سلمت فكل شيء سالم | وإذا بقيت فإننا في أنعم |
أعطيت من غنم الغنيمة غنمه | وجعلت مالك مال من لم يغنم |
وقال مفتخرا من قصيدة:
وقوفك في الديار عليك عار | وقد رد الشباب المستعار |
أبعد الأربعين محرمات | تماد في الصبابة واغترار |
وطال الليل بي ولرب دهر | نعمت به لياليه قصار |
وقال الغانيات سلا غلاما | فكيف به وقد شاب العذار |
وكم من ليلة لم أرو منها | حننت لها وارقني ادكار |
قضاني الدين ماطله ووافى | إلي بها الفؤاد المستطار |
إلى إن رق ثوب الليل عنا | وقالت قم فقد برد السوار |
وولت تسرق اللحظات نحوي | بملتفت كما التفت الصوار |
وقد عاديت ضوء الصبح حتى | لطرفي عن مطالعه أزورار |
ومضطغن يراود في عيبا | سيلقاه إذا سكنت وبار |
إذا ما العز أصبح في مكان | سموت له وان بعد المزار |
مقامي حيث لا أهوى قليل | ونومي عند من اقلي غرار |
أبت لي همتي وغرار سيفي | وعزمي والمطية والقفار |
ونفس لا تجاورها الدنايا | وعرض لا يرف عليه عار |
وقوم مثل من صحبوا كرام | وخيل مثل من حملت خيار |
وخيل خف جانبها فلما | ذكرنا بينها نسي الفرار |
وكم ملك نزعنا الملك عنه | وجبار بها دمه جبار |
فقد أصبحن والدنيا جميعا | لنا دار ومن تحويه جار |
إذا أمست نزار لنا عبيدا | فان الناس كلهم نزار |
وقال من قصيدة:
نعم تلك بين الواديين الخواتل | وذلك شاء دونهن وجامل |
فما كنت إذ بانوا بنفسك فاعلا | فدونكه إن الخليط لزائل |
كان ابنة القيسي في أخواتها | خذول تراعيها الظباء الخواذل |
قشيرية قترية بدوية | لها بين أثناء الضلوع منازل |
هوانا غريب شزب الخيل والقنا | لنا كتب والباترات رسائل |
أغرن على قلبي بخيل من الهوى | فطارد عنهن الغزال المغازل |
باسهم لفظ لم تركب نصالها | وأسياف لحظ ما جلتها الصياقل |
وقائع قتلى الحب فيها كثيرة | ولم يشتهر سيف ولا هز ذابل |
أراميتي كل السهام مصيبة | وأنت لي الرامي فكلي مقاتل |
وإني لمقدام وعندك هائب | وفي الحي سحبان وعندك بأقل |
يضل علي القول إن زرت دارها | ويعزب عني وجه ما أنا فاعل |
وحجتها العليا على كل حالة | فباطلها حق وحقي باطل |
تطالبني بيض الصوارم والقنا | بما وعدت جدي في المخايل |
ولا ذنب لي إن الفؤاد لصارم | وان الحسام المشرفي لفاصل |
وان الحصان الوالقي لضامر | وان الأصم السمهري لعاسل |
ولكن دهرا دافعتني خطوبه | كما دفع الدين الغريم المماطل |
وإخلاف أيام إذا ما انتجعتها | حلبت بكيات وهن حوافل |
ولو نيلت الدنيا بفضل منحتها | فضائل تحويها وتبقى فضائل |
ولكنها الأيام تجري كما جرت | فيسفل أعلاها وتعلو الأسافل |
لقد قل إن تلقى من الناس مجملا | وأخشى قريبا إن يقل المجامل |
ولست بجهم الوجه في وجه صاحبي | ولا قائل للضيف هل أنت راحل |
ولكن قراه ما تشهى ورفده | ولو سأل الأعمار ما هو سائل |
ينال اختيار الصفح عن كل مذنب | له عندنا ما لا تنال الوسائل |
لنا عقب الأمر الذي في صدوره | تطاول أعناق العدى والكواهل |
أصاغرنا في المكرمات أكابر | وآخرنا في المأثرات أوائل |
إذا صلت صولا لم أجد لي مصاولا | وان قلت قولا لم أجد من يقاول |
وقال من قصيدة وليست في الديوان المطبوع:
البين بين ما يجن جناني | والبعد جدد بعدكم أحزاني |
وبلى الرسوم الدارسات بذي الغضا | أغرى بي الكمد الذي أبلاني |
قل للديار بجانب الصمان | بلسان دمع لا بلفظ لسان |
آسي بان أبكيت عيني لا بكت | عين عليك بغير دمع قاني |
ولئن جزعت فلست أول جازع | لما فنيت وكل شيء فان |
أو ما رأيت غداة محنية اللوى | ما بي من البرحاء والأشجان |
ألوي اللوى بجميل صبري في اللوى | ودعا حنيني أبرق الحنان |
ولقد سألت الربع عن سكانه | لو كان يخبرني عن السكان |
وسؤال ما لا يستطيع جوابه | لمسائل ضرب من الهذيان |
ما بحت بالكتمان حتى عزني | فيض الدموع فبحت بالكتمان |
فعلام أكتم أو أسر صبابتي | وعلي من عيني لي عينان |
إن الغواني يوم منعرج اللوى | شردن طيب النوم عن أجفاني |
بيض كأمثال الدمى فتخالها | أقمار ليل في ذرى أغصان |
خالفت قول العاذلين على الهوى | ونهى غرام الحب من ينهاني |
ولئن سلوت عن الأحبة نائبا | ما غرد القمري في الأفنان |
فهراق فيك دمي حسام مكذب | عن قرنه وشبا سنان جبان |
وتنوفة قذف يحار بها القطا | جاوزتها بجلالة مذعان |
تطوي الفلاة بأربع مجدولة | وتنال شأو الريح بالذملان |
هذا وكم من غمة كشفتها | بشبا الظبا ونوافذ الخرصان |
متجردا فيها بغير مساعد | غير الجواد ومرهف وسنان |
فإذا بطشت بطشت ليثا باسلا | وإذا نطقت نطقت عن تبيان |
وإذا قصدت لحاجة لم يثنني | خوف الردى وتصرف الأزمان |
وإذا فخرت فخرت بالشم الأولى | شادوا المكارم من بني حمدان |
نحن الملوك بنو الملوك أولي العلا | ومعادن السادات من عدنان |
والمجد يعلم أننا أركانه | والبيت معتدل على الأركان |
قومي متى تخبرهم لم يحسنوا | غير اصطناع العرف والإحسان |
كم معدم أغنوا بفضل سماحهم | كرما وفكوا من أسير عاني |
وقال يفتخر وقد ظفر ببني نمير من أبيات:
لنا الدنيا فما شئنا حلال | لساكنها وما شئنا حرام |
وينفذ أمرنا في كل حي | فيقصيه ويدنيه الكلام |
ألم تخبرك خيلك عن مقامي | ببالس يوم ضاق بها المقام |
وولت تلتقي بعضا ببعض | لهم والأرض واسعة زحام |
أحلكم بدار الضيم قسرا | همام لا يقاس به همام |
وقال يفتخر من قصيدة وليست في الديوان المطبوع:
أما ودموعي بين تلك المعالم | وشوقي إلى تلك الخدود النواعم |
لقد أورثوني يوم بانوا صبابة | وناموا وجفني بعدهم غير نائم |
وأنى ينام الليل من بات همه | طلاب المعالي في شدوق الأراقم |
أدار الالى شطت بهم غربة النوى | سقتك الغوادي من متون الغمائم |
أبيني لنا أين الذين عهدتهم | ليالي ريب الدهر ليس بظالمي |
كفى حزنا إن غالني الدهر فيهم | برغمي وما هذا الزمان براغم |
غشوم فلا ذو الفضل ينجيه فضله | لديه ولا ذو النقص منه بسالم |
وإني إذا ما غالني بصروفه | صبور على روعاته غير حائم |
وإن امرأ لم يجعل الطرف حصنه | وسمر القنا أعوانه غير حازم |
ومن لم يشاهد كر قومي في الوغى | فها فليشاهد كرهم في المكارم |
متى ترمني الأيام منها بنكبة | تمزق فتسفر عن هزبر ضبارم |
ويوم تخال الرعد في جنباته | لشدة أصوات القنا والهماهم |
شفيت بعزم صادق غير كاذب | ورمح رديني وابيض صارم |
وفتيان صدق كالنجوم طوالع | على شزب جرد كرام سواهم |
ومن شاء فليفخر يجد فخر فاخر | ومن شاء فلينطق يجد نطق عالم |
وقال يفتخر:
ما كنت بالربع قبل اليوم وقافا | ولا لدار عفتها الريح وصافا |
حتى تولى الخليط المستقل بمن | كانوا وكنا أخلاء وآلآفا |
فمن يجير معنى القلب مكتئبا | سلت عليه عيون العين أسيافا |
ماذا على من جفا من غير ما سبب | لو إن طيف خيال منه بي طافا |
يا أيها الركب حثوا الناجيات بنا | طال التعلل إغذاذا وإيجافا |
ليس الكريم الذي يرضى بعيشته | ويستكين لريب الدهر إن وافى |
إني امرؤ ببني حمدان مفتخري | خير البرية أجدادا وأسلافا |
إن حالفتنا المعالي فهي قد علمت | كانت لآبائنا من قبل أحلافا |
من كل مشتهر بالصبر مدرع | ما هاب قط ولا ولى ولا خافا |
مستقبلا لوجوه القوم يطعنهم | حتى يبيحوه أصلابا وأكتافا |
كان آدم وصى قبل ميتته | بأن تكون عليه الناس أضيافا |
وقال يفتخر وقد قتل زيد بن منيع سيد بني جعفر ورماه النساء بأنفسهن فأطلق لهن الأموال والأسرى:
إباء إباء البكر غير مذلل | وعزم كحد السيف غير مفلل |
أأغضي على الأمر الذي لا أريده | ولما يقم بالعذر رمحي ومفصلي |
أبى اله والمهر المنيعي والقنا | وابيض وقاع على كل مفصل |
وفتيان صدق من غطاريف وائل | إذا قيل ركب الموت قالوا له انزل |
يسومهم بالخير والشر ماجد | جرور لأذيال الخميس المذيل |
له بطش قاس تحته قلب راحم | ومنع بخيل تحته بذل مفضل |
وعزمة خراج من الضيم فاتك | وفي أبي يأخذ الأمر من عل |
عزوف أنوف ليس يرغم انفه | جري متى يعزم على الأمر يفعل |
شديد على طي المنازل صبره | إذا هو لم يظفر أكرم منزل |
وكل محلاة السراة بضيغم | وكل معلاة الرحال باجدل |
تواصت بمر الصبر دون حريمها | فلما رأتنا أجفلت كل مجفل |
فبين قتيل بالدماء مضرج | وبين أسير في الحديد مكبل |
ومضى باقيها عند ذكر شخصيته وقال:
لمن الجدود الأكرمون | من الورى الاليه |
من ذا يعد كما أعد | من الجدود العالية |
من ذا يقوم لقومه | بين الصفوف مقاميه |
أحمي حريمي إن يباح | ولست أحمي ماليه |
ناري على شرف تأجج | للضيوف السارية |
يا نار إن لم تجلبي | ضيفا فلست بناريه |
والعز مضروب السرادق | والقباب لجاريه |
يجني ولا يجني عليه | ويتقي الجلى بيه |
المديح
قال في أهل البيت عليه السلام وليست في الديوان المطبوع:
شافعي "أحمد" النبي ومولا | ي "علي" و "البنت" و "السبطان" |
و "علي" و "باقر العلم" و "الصا | دق" ثم "الأمين" ذو التبيان |
و "علي" والخيران "علي" | "أبوه" و "العسكري" الداني |
والإمام "المهدي" في يوم لا | ينفع إلا غفران ذي الغفران |
وكان محمد بن سكرة الهاشمي العباسي -من شعراء اليتيمة- عمل قصيدة يفاخر بها الطالبيين وينتقص بها ولد علي عليه السلام ويتحامل فيها أولها.
بني علي دعوا مقالتكم | لا ينقص الدر وضع من وضعه |
فلما وقف عليها أبو فراس لم يجبه تنزها عن مناقضته ولسفاهة شعره فقال هذه القصيدة في أهل البيت عليهم السلام وسماها الشافية.
الدين مخترم والحق مهتضم | وفئ آل رسول الله مقتسم |
والناس عندك لا ناس فيحفظهم | سوء الرعاء ولا شاء ولا نعم |
إني أبيت قليل النوم أرقني | قلب تصارع فيه الهم والهمم |
وعزمة لا ينام الدهر صاحبها | إلا على ظفر في طيه كرم |
يصان مهري لأمر لا أبوح به | والدرع والرمح والصمصامة الخذم |
وكل مائرة الضبعين مسرحها | رمث الجزيرة والخضراف والعذم |
وفتية قلبهم قلب إذا ركبوا | يوما ورأيهم رأي إذا عزموا |
يا للرجال أما لله منتصر | من الطغاة ولا لله منتقم |
بنو علي رعايا في ديارهم | والأمر تملكه النسوان والخدم |
محلؤون فأصفى وردهم وشل | عند الورود وأوفى وردهم لمم |
فالأرض إلا على ملاكها سعة | والمال إلا على أربابه ديم |
وما السعيد بها إلا الذي ظلموا | وما الغني بها إلا الذي حرموا |
للمتقين من الدنيا عواقبها | وان تعجل منها الظالم الآثم |
لا يطغين بني العباس ملكهم | بنو علي موإليهم وان رغموا |
أتفخرون عليهم لا أبالكم | حتى كأن رسول الله جدكم |
وما توازن يوما بينكم شرف | ولا تساوت بكم في موطن قدم |
ولا لجدكم مسعاة جدهم | ولا نثيلتكم من أمهم أمم |
ليس الرشيد كموسى في القياس ولا | مأمونكم كالرضا إن أنصف الحكم |
قام النبي بها يوم الغدير لهم | والله يشهد والأملاك والأمم |
حتى إذا أصبحت في غير صاحبها | باتت تنازعها الذؤبان والرخم |
وصيرت بينهم شورى كأنهم | لا يعلمون ولاة الحق أين هم |
تالله ما جهل الأقوام موضعها | لكنهم ستروا وجه الذي علموا |
ثم ادعاها بنو العباس ملكهم | وما لهم قدم فيها ولا قدم |
لا يذكرون إذا ما معشر ذكروا | ولا يحكم في أمر لهم حكم |
ولا رآهم أبو بكر وصاحبه | أهلا لما طلبوا منها وما زعموا |
فهل هم مدعوها غير واجبة | أم هل أئمتهم في أخذها ظلموا |
أما علي فقد أدنى قرابتكم | عند الولاية إن لم تكفر النعم |
أينكر الحبر عبد الله نعمته | أبوكم أم عبيد الله أم قثم |
بئس الجزاء جزيتم في بني حسن | أباهم العلم الهادي وأمهم |
لا بيعة ردعتكم عن دمائهم | ولا يمين ولا قربى ولا ذمم |
ألا صفحتم عن الأسر بلا سبب | للصافحين ببدر عن أسيركم |
ألا كففتم عن الديباج ألسنكم | وعن بنات رسول الله شتمكم |
ما نزهت لرسول الله مهجته | عن السياط (السباب) فالأنزه الحرم |
ما نال منهم بنو حرب وان عظمت | تلك الجرائم إلا دون نيلكم |
كم غدرة لكم في الدين واضحة | وكم دم لرسول الله عندكم |
أأنتم آله فيما ترون وفي | أظفاركم من بنيه الطاهرين دم |
هيهات لا قربت قربى ولا رحم | يوما إذا أقصت الأخلاق والشيم |
كانت مودة سلمان له رحما | ولم يكن بين نوح وابنه رحم |
يا جاهدا في مساويهم يكتمها | غدر الرشيد بيحيى كيف ينكتم |
ذاق الزبيري غب الحنث وانكشفت | عن ابن فاطمة الأقوال والتهم |
باؤوا بقتل الرضا من بعد بيعته | وأبصروا بعض يوم رشدهم فعموا |
يا عصبة شقيت من بعدما سعدت | ومعشرا أهلكوا من بعدما سلموا |
لبئسما لقيت منهم وان بليت | بجانب الطف تلك الأعظم الرمم |
لا عن أبي مسلم في نصحه صفحوا | ولا الهبيري نجى الحلف والقسم |
ولا الأمان لأهل الموصل اعتمدوا | فيه الوفاء ولا عن عمهم حلموا |
أبلغ لديك بني العباس مالكة | لا يدعوا ملكها ملاكها العجم |
أي المفاخر أضحت في منابركم | وغيركم أمر فيهن محتكم |
وهل يزيدكم من مفخر علم | وبالخلاف عليكم يخفق العلم |
خلوا الفخار لعلامين إن سئلوا | يوم السؤال وعمالين إذ علموا |
لا يغضبون لغير الله إن غضبوا | ولا يضيعون حكم الله إن حكموا |
تبدو التلاوة من أبياتهم أبدا | ومن بيوتهم الأوتار والنغم |
يا باعة الخمر خلوا عن مفاخرة | لمعشر بيعهم يوم الفخار دم |
منكم علية أم منهم وكان لكم | شيخ المغنين إبراهيم أم لهم |
أم من تشادله الألحان سائرة | عليهم ذو المعالي أم عليكم |
إذا تلوا سورة غنى خطيبكم | قف بالديار التي لم يعفها القدم |
ما في منازلهم للخمر معتصر | ولا بيوتهم للشر معتصم |
ولا تبيت لهم خنثى تنادمهم | ولا يرى لهم قرد له حشم |
الركن والبيت والأستار منزلهم | وزمزم والصفا والحجر والحرم |
صلى الإله عليهم كلما سجعت | ورق فهم للورى ذخر ومعتصم |
وقال يمدح ابني سيف الدولة وهو خالهما ويذكر أخاهما الآخر وليست في الديوان المطبوع:
ابنان أم شبلان ذان فإنني | لأرى دماء الدارعين حلاهما |
تنبي الفراسة إن في ثوبيهما | ليثين تجتنب الليوث حماهما |
لم لا يفوقا الكمكارما | والسيدان كلاهما جداهما |
تلقى أبا الهيجاء في هيجاهما | ويزيد فضل أبي العلاء علاهما |
زدناهما شرفا رفيعا سمكه | ثبت الدعائم إذ تخولناهما |
ميزت بينهما فلم يتفاضلا | كالفرقدين تشاكلت حالاهما |
إني وإن كان التعصب شيمتي | لا أدفع الشرف الرفيع أخاهما |
أنى يقصر عن مكان في العلا | والمجد من أضحى أبوه أباهما |
لكن لذين بنا مكانا باذخا | لا يدعيه من الأنام سواهما |
طابا وطاب أخو الكرام أخوهما | والوالدان وطاب من رباهما |
وقال مادحا:
لله درك من قرم أخي كرم | لا ينطق المال إلا في تشكيه |
فالخيل يمسحها والبيض يثلمها | والسمر يحطمها والقرن يرديه |
وقال من قصيدة يظهر إنها في مدح ابن عم له ولعله سيف الدولة وليست في الديوان المطبوع:
قدك يا أيها الملح اللجوج | ليس من حكمها علي خروج |
عللينا بطيب ريقك يا من | بجنى النحل ريقها ممزوج |
لم يزدك الخلخال حسنا ولكن | بك زين الخلخال والدملوج |
عج بوادي الأراك نبك رسوما | دارسات وناد بالركب عوجوا |
يا بني العم قد أتانا ابن عم | في طلاب العلا صعود لجوج |
حازم عازم حروب سروب | طاعن ضارب خروج ولوج |
وخيول وغلمة ودروع | وسيوف وضمر ووشيج |
لك بحر من الندى كل بحر | من مجاري الندى لديه خليج |
فكفاك المحذور جمعا ووقاك | الذي بيته يؤم الحجيج |
وكتب إلى سيف الدولة:
قد ضج جيشك من طول القتال به | وقد شكتك إلينا الخيل والإبل |
وقد درى الروم مذ حاورت أرضهم | إن ليس يعصمهم سهل ولا جبل |
في كل يوم تزور الثغر لا ضجر | يثنيك عنه ولا شغل ولا ملل |
فالنفس جاهدة والعين ساهدة | والجيش منهمك والمال مبتذل |
توهمتك كلاب غير قاصدها | وقد تكنفك الأعداء والشغل |
حتى رأوك إمام الجيش تقدمه | وقد طلعت عليهم دون ما أملوا |
فاستقبلوك بفرسان أسنتها | سود البراقع والأكوار والكلل |
فكنت أكرم مسؤول وأفضله | إذا وهبت فلا من ولا بخل |
وقال يفتخر ويمدح سيف الدولة عقيب بعض الوقائع وقد أسر فيها أخواه:
ضلال ما رأيت من الضلال | معاتبة الكريم على النوال |
وإن مسامعي عن كل عذل | لفي شغل بحمد أو سؤال |
ولا والله ما بخلت يميني | ولا أصبحت أشقاكم بمالي |
ولا أمسي احكم فيه بعدي | قليل الحمد مذموم الفعال |
ولكني سأفنيه واقني | ذخائر من ثواب أو جمال |
وللوارث ارث أبي وجدي | جياد الخيل والأسل الطوال |
وما تجني سراة بني أبينا | سوى ثمرات أطراف العوالي |
أوينا بين أطناب الأعادي | إلى بلد من النصار خالي |
تمد بيوتنا في كل فج | به بين الأراقم والصلال |
نعاف قطونه ونمل منه | ويمنعنا الإباء من الزيال |
مخافة إن يقال بكل أرض | بنو حمدان كفوا عن قتال |
ومن عرف الخطوب ومارسته | أطاب النفس بالحرب السجال |
فإن يك إخوتي وردوا شباها | بأكرم موقف واجل حال |
فمن ورد المهالك لم ترعه | رزايا الدهر في أهل ومال |
وذا الورد المكدر جانباه | بما أوردت من عذب زلال |
أسيف الدولة المأمول إني | عن الدنيا إذا ما عشت سالي |
إذا قضي الحمام علي يوما | ففي نصر الهدى بيد الضلال |
إذا ما لم تخنك يد وقلب | فليس عليك خائنة الليالي |
وأنت أشد هذا الناس باسا | وأصبرهم على نوب القتال |
واهجمهم على جيش كثيف | وأغورهم على حي حلال |
وأنت أريتني خوض المنايا | وصبري تحت هبوات النزال |
فصبري في قتالك لا قتالي | وفعلي في فعالك لا فعالي |
وفي أرضاك إغضاب العوالي | وإكراه المناصل والنصال |
ضربت فلم أدع للسيف حدا | وجلت بحيث ضاق عن المجال |
وقلت وقد أظل الموت صبرا | وإن الموت عند سواك غالي |
ألا هل منكر ببني نزار | مقامي يوم ذلك أو مقالي |
ألم أثبت لها والخيل فوضى | بحيث تخف أحلام الرجال |
تركت ذوابل المران فيها | مخضبة محطمة الأعالي |
وعدت اجر رمحي عن مقام | تحدث عنه ربات الحجال |
فقائلة تقول أبا فراس | لقد حاميت عن حرم المعالي |
وقائلة تقول جزيت خيرا | أعيذ علاك من عين الكمال |
ومهري لا يمس الأرض زهوا | كأن ترابها قطب النبال |
كأن الخيل تعرف من عليها | ففي بعض على بعض تعالي |
علينا إن نغاور كل يوم | رخيص الموت بالمهج الغوالي |
فان عشنا ذخرناها لأخرى | وإن متنا فموتات الرجال |
الرثاء
قال يرثي الحسين ويمدح أمير المؤمنين عليا عليهما السلام من قصيدة كما في نسختين مخطوطتين من رواية ابن خالويه وأورد ابن شهراشوب في المناقب أبياتا منها وخلا عنها الديوان المطبوع:
يوم بسفح الدير لا أنساه | أرعى له دهري الذي أولاه |
يوم عمرت العمر فيه بفتية | من نورهم أخذ الزمان بهاه |
فكأن غرتهم ضياء نهاره | وكان أوجههم نجوم دجاه |
ومهفهف للغصن حسن قوامه | والظبي منه إذا رنا عيناه |
نازعته كأسا كان ضياءها | لما تبدت في الظلام ضياه |
والبدر منتصف الضياء كأنه | متبسم بالكف يستر فاه |
ظبي لو أن الفكر مر بخده | من دون لحظة ناظر أدماه |
ويقول في الرثاء:
واحتز رأسا طالما من حجره | أدته كفا جده ويداه |
يوم بعين الله كان وإنما | يملي لظلم الظالمين الله |
يوم عليه تغيرت شمس الضحى | وبكت دما مما رأته سماه |
لا عذر فيه لمهجة لم تنفطر | أو ذي بكاء لم تفض عيناه |
تبا لقوم تابعوا أهواءهم | فيما يسوءهم غدا عقباه |
أتراهم لم يسمعوا ما خصه | منه النبي من المقال أباه |
إذ قال يوم غدير خم معلنا | من كنت مولاه فذا مولاه |
لو لم تنزل فيه الأهل أتى | من دون كل منزل لكفاه |
من كان أول من حوى القرآن من | لفظ النبي ونطقه وتلاه |
من كان صاحب فتح خيبر من رمى | بالكف منه بابه ودحاه |
من عاضد المختار من دون الورى | من آزر المختار من آخاه |
من خصه جبريل من رب العلا | بتحية من ربه وحباه |
أظننتم إن تقتلوا أولاده | ويظلكم يوم المعاد لواه |
أو تشربوا من حوضه بيمينه | كأسا وقد شرب الحسين دماه |
أنسيتم يوم الكساء وأنه | ممن حواه مع النبي كساه |
يا رب إني مهتد بهداهم | لا اهتدي يوم الهدى بسواه |
اهوى الذي يهوى النبي وآله | أبدا وأشنأ كل من يشناه |
وقال يرثي أمه وقد توفيت وهو في الأسر ولا توجد في الديوان المطبوع ووجدت في نسختين في برلين وأخرى في أكسفورد وأخذ ت عن المستشرق دفوراك ولكننا وجدناها في نسختين عندنا مخطوطتين وفيهما زيادة عن نسخ برلين وأكسفورد الأبيات الثلاثة الأولى:
أيا أم الأسير سقاك غيث | بكره منك ما لقي الأسير |
أيا أم الأسير سقاك غيث | إلى من بالفدا يأتي البشير |
أيا أم الأسير سقاك غيث | تحير لا يقيم ولا يسير |
أيا أم الأسير لمن تربى | وقدمت الذوائب والشعور |
إذا ابنك سار في بر وبحر | فمن يدعو له أو يستجير |
حرام إن يبيت قرير عين | ولؤم إن يلم به السرور |
وقد ذقت الرزايا والمنايا | ولا ولد لديك ولا عشير |
وغاب حبيب قلبك عن مكان | ملائكة السماء له حضور |
ليبكك كل ليل قمت فيه | إلى أن يبتدي الفجر المنير |
ليبكك كل مضطهد مخوف | أجرتيه وقد قل المجير |
ليبكك كل يوم صمت فيه | مصابرة وقد حمي الهجير |
ليبكك كل مسكين فقير | أغثتيه وما في العظم رير |
أيا أماه كم هول طويل | مضى بك لم يكن منه نصير |
أيا أماه كم سر مصون | بقلبك مات ليس له ظهور |
أيا أماه كم بشرى بقربي | أتتك ودونها الأجل القصير |
إلى من اشتكي ولمن أناجي | إذا ضاقت بما فيها الصدور |
بأي دعاء داعية أوقى | بأي ضياء وجه استنير |
بمن يستدفع القدر الموخى | بمن يستفتح الأمر العسير |
يسلي عنك أنا عن قليل | إلى ما صرت في الأخرى نصير |
وقال يرثي أبا المرجى جابر بن ناصر الدولة:
الفكر فيك مقصر الآمال | والحرص بعدك غاية الجهال |
لو كان يخلد بالفضائل فاضل | وصلت لك الآجال بالآجال |
أو كنت تفدى لافتدك سراتنا | بنفائس الأرواح والأموال |
أعزز على سادات قومك إن ترى | فوق الفراش مقلب الأوصال |
والسمر عندك لم تدك صدورها | والخيل واقفة على الأطوال |
والسابغات مصونة لم تبتذل | والبيض سالمة مع الأبطال |
وإذا المنية أقبلت لم يثنها | حرص الحريص وحيلة المحتال |
ما للخطوب وما لأحداث النوى | أعجلن جابر غاية الإعجال |
وفجعن بالدر الثمين المنتقى | وفتكن بالعلق النفيس الغالي |
لما تسربل بالفضائل وارتدى | برد العلا واعتم بالإقبال |
وتشاهدت صيد الملوك بفضله | واري المكارم من مكان عالي |
أأبا المرجى غير حزني دارس | أبدا عليك وغير قلبي سالي |
ولئن هلكت فما الوفاء بهالك | ولئن بليت فما الوداد ببالي |
لا زلت مغدوق الثرى مطروقه | بسحابة مجرورة الأذيال |
وحجبن عنك السيئات ولم يزل | لك صاحب من صالح الأعمال |
وقال يرثي أبا وائل تغلب بن داود بن حمدان وقد توفي سنة 338 وليست في الديوان المطبوع:
أي اصطبار ليس بالزائل | وأي دمع ليس بالهامل |
أنا فجعنا بفتى وائل | لما فجعنا بأبي وائل |
المشتري الحمد بأمواله | والبائع النائل بالنائل |
ماذا أرادت سطوات الردى | في الأسد ابن الأسد الباسل |
كأنما دمعي من بعده | صوب عطايا كفه الهاطل |
ما أنا أبكيه ولكنما | تبكيه أطراف القنا الذابل |
دان إلى سبل العلى والندى | ناء عن الفحشاء والباطل |
أرى المعالي إذ قضى نحبه | تبكي بكاء الواله الثاكل |
الأسد الباسل والعارض | الهاطل عند الزمن الماحل |
سقى ثرى ضم أبا وائل | صوب سحاب واكف هامل |
لا در الدهر ما باله | حملني ما لست بالحامل |
كان ابن عمي إن عرى حادث | كالليث أو كالصارم الفاصل |
عمري لقد وكلني فقده | بالحزن في العاجل والآجل |
وكتب إلى سيف الدولة من الأسر يعزيه بأخته من أبيات:
هي الرزية إن ضنت بما ملكت | فيها الجفون فما تسخو على أحد |
أبكي بدمع له من حسرتي مدد | واستريح إلى صبر بلا مدد |
هذا الأسير المبقي لا فداء له | يفديك بالنفس والأهلين والولد |
وكتب إلى سيف الدولة من الأسر يعزيه بابنه أبي المكارم من أبيات:
هل تبلغ القمر المدفون رائعة | من المقال عليها للأسى حلل |
ما بعد فقدك في أهل ولا ولد | ولا حياة من الدنيا لنا أمل |
يا من أتته المنايا غير حافلة | أين العبيد وأين الخيل والخول |
أين الليوث التي حوليك رابضة | أين الصنائع أين الأهل ما فعلوا |
أين السيوف التي قد كنت اقطعها | أين السوابق أين البيض والأسل |
يا ويح خالك بل يا ويح كل فتى | مع كل هذا تخطى نحوك الأجل |
الروميات
قد عرفت إن أبا فراس أسر مرتين ولبث في الأسر الثاني أربع سنين وقد نظم في الأسر عدة قصائد هي من غرر شعره. ولا ريب إن الأسر اثر في نفس أبي فراس رقة زيادة على ما فيها. واسر وهو جريح بسهم بقي نصله في فخذه فاجتمع عليه مع الأسر والجراح طول المدة وتأخير سيف الدولة مفاداته وفرط الحنين إلى أهله وإخوانه فلا جرم إن تصدر قصائده وهو أسير عن قلب شجي ونفس رقيقة متألمة فتزداد رقة ولطافة وسلاسة وتؤثر في النفوس تأثيرا محزنا يكاد يبكي سامعها وتعلق بالحفظ لسلاستها وربما هاجت به عاطفة الحماسة في هذه الحال فيخرج بشعره إلى التحمس الفائق فأن ما هو فيه لم يكن لينسيه سوابقه في الإمارة والحروب ولم يكن ليفقده كبر النفس وعلو الهمة والصفات الغريزية التي فيه من هذا القبيل لذلك كانت رومياته مطبوعة بطابع يميزها عن باقي شعره. في اليتيمة قد أطلت عنان الاختيار من محاسن شعر أبي فراس (وما محاسن شيء كله حسن) وذلك لتناسبها وعذوبة مشاعرها ولا سيما الروميات التي رمى بها هدف الإحسان وأصاب شاكلة الصواب ولعمري إنها كما قرأته لبعض البلغاء لو سمعتها الوحش لأنست أو خوطبت بها الخرس لنطقت أو استدعي بها الطير لنزلت. ونحن نورد هنا رومياته كلها عدا ما مر منها في تضاعيف ما تقدم.
مراسلته سيف الدولة من الأسر
وقال أول ما أسر يسأل سيف الدولة المفاداة:
دعوتك للجفن القريح المسهد | لدي وللنوم القليل المشرد |
وما ذاك بخلا بالحياة وإنها | لأول مبذول لأول مجتدي |
وما الأمر مما ضقت ذرعا بحمله | وما الخطب إلا إن أقول له ازدد |
وما زال عني إن شخصا معرضا | لنيل الردى إن لم يصب فكأن قد |
ولكنني اختار موت بني أبي | على سروات الخيل غير موسد |
نضوت على الأيام ثوب جلادتي | ولكنني لم أنض ثوب التجلد |
وما أنا إلا بين أمر وضده | يجدد لي في كل يوم مجدد |
فمن حسن صبر بالسلامة واعد | ومن ريب دهر بالردى متوعد |
أقلب طرفي بين خل مكبل | وبين صفي بالحديد مصفد |
دعوتك والأبواب ترتج دوننا | فكن خير مدعو لأكرم مجتدي |
ومثلك من يدعى لكل عظيمة | ومثلي من يفدي بكل مسود |
أناديك لا إني أخاف من الردى | ولا أرتجي تأخير يوم إلى غد |
وقد حطم الخطي واخترم العدى | وفلل حد المشرفي المهند |
وآنفت موت الذل في دار غربة | بأيدي النصارى الغلف ميتة اكمد |
فلا تقعدن عني وقد سيم فديتي | فلست عن الفعل الكريم بمقعد |
وكم لك عندي من إياد وانعم | رفعت بها قدري وأكثرت حسدي |
تشبث بها أكرومة قبل فوتها | وقم في خلاصي صادق العزم واقعد |
فان مت بعد اليوم عابك مهلكي | معاب الزراريين مهلك معبد |
هم عضلوا عنه الفداء وأصبحوا | يهزون أطراف القريض المقصد |
ولم يك بدعا هلكه غير أنهم | يعابون إذ سيم الفداء فما فدي |
فلا كان كلب الروم أرأف منكم | وارغب في كسب الثناء المخلد |
ولا بلغ الأعداء إن يتناهضوا | وتقعد عن هذا العلاء المشيد |
أأضحوا على أسراهم بي عودا | وأنتم على أسراكم غير عود |
متى تخلف الأيام مثلي لكم فتى | شديدا على الباساء غير ملهد |
متى تخلف الأيام مثلي لكم فتى | طويل نجاد السلف رحب المقلد |
فما كل من شاء المعالي ينالها | ولا كل سيار إلى المجد يهتدي |
فإن تفقدوني تفقدوا شرق العدا | وأسرع عواد إليهم معود |
وإن تفقدوني تفقدوا لعلاكم | فتى غير مردود السنان ولا اليد |
يدافع عن أحسابكم بلسانه | ويضرب عنكم بالحسام المهند |
أقلني أقلني عثرة الدهر انه | رماني بسهم صائب النصل مقصد |
ولو لم تثق نفسي بمولاي لم أكن | لأوردها في نصره كل مورد |
ولا كنت ألقى الألف زرقا عيونها | بسبعين فيها كل أشأم أنكد |
ولا وأبي ما ساعدان كساعد | ولا وأبي ما سيدان كسيد |
وإنك للمولى الذي بك اقتدي | وأنت الذي أهديتني كل مقصد |
وأنت الذي بلغتني كل غاية | مشيت إليها فوق أعناق حسدي |
فيا ملبسي النعمى التي جل قدرها | لقد أخلقت تلك الثياب فجدد |
ألم تر إني فيك صافحت حدها | وفيك شربت الموت غير مصرد |
يقولون جانب عادة ما عرفتها | شديد على الإنسان ما لم يعود |
فقلت أما والله لا قال قائل | شهدت له في الخيل الأم مشهد |
ولكن سألقاها فأما منية | هي الظن أو بنيان عز مؤبد |
ولم أدر إن الدهر من عدد العدا | وإن المنايا السود ترمين عن يد |
بقيت على الأيام تحمي بنا الردى | ويفديك منا سيد بعد سيد |
بقيت ابن عبد الله ما ذر شارق | تروح إلى العز المبين وتغتدي |
بعيشة مسعود وأيام سالم | ونعمة مغبوط ومال مجدد |
ولا يحرمني الله قربك انه | مرادي من الدنيا وحظي ومقصدي |
ومن رومياته هذه القصيدة التي جمعت الغزل والحماسة والحكم وصفة أسره وتعليم الإباء وعزة النفس وغير ذلك مع كونها من غرر الشعر وهي ناقصة في الديوان المطبوع فلذلك أوردناها بتمامها، وقد قالها حينما بلغه إن الروم قالوا ما أسرنا أحدا ولم نسلب سلاحه غير أبي فراس وهي:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر | أما للهوى نهي عليك ولا أمر |
بلى أنا مشتاق وعندي لوعة | ولكن مثلي لا يذاع له سر |
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى | وأذللت دمعا من خلائقه الكبر |
تكاد تضئ النار بين جوانحي | إذا هي أذكتها الصبابة والفكر |
معللتي بالوصل والموت دونه | إذا مت عطشانا فلا نزل القطر |
حفظت وضيعت المودة بيننا | وأحسن من بعض الوفا ذلك الغدر |
بنفسي من الغادين في الحي غادة | هواي لها ذنب وبهجتها عذر |
تزيغ إلى الواشين في ولن لي | لأذنا بها عن كل واشية وقر |
بدوت وأهلي حاضرون لأنني | أرى إن دارا لست من أهلها قفر |
وحاربت قومي في هواك وإنهم | وإياي لولا حبك الماء والخمر |
فإن كان ما قال الوشاة ولم يكن | فقد يهدم الإيمان ما شيد الكفر |
وفيت وفي بعض الوفاء مذلة | لإنسانة في الحي شيمتها الغدر |
وقور وريعان الصبا يستفزها | فتأرن أحيانا كما يارن المهر |
تسائلني من أنت وهي عليمة | بحالي وهل حالي على مثلها نكر |
فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى | قتيلك قالت أيهم فهم كثر |
فقلت لها لو شئت لم تتعنتي | ولم تسألي عني وعندك بي خبر |
فقالت لقد أزرى بك الدهر بعدنا | فقلت معاذ الله بل أنت لا الدهر |
وما كان للأحزان لولاك مسلك | إلى القلب لكن الهوى للبلا جسر |
فأيقنت إن لا عز بعدي لعاشق | وأن يدي مما علقت به صفر |
وقلبت أمري لا أرى لي راحة | إذا البين إنساني ألح بي الهجر |
فعدت إلى حكم الزمان وحكمها | لها الذنب لا تجزي به ولي العذر |
كأني أنادي دون ميثاء ظبية | على شرف ظمياء حلأها الذعر |
تجفل حينا ثم تدنو كأنما | تراعي طلى بالواد أعجزه الحصر |
واني لنزال بكل مخوفة | كثير إلى نزالها النظر الشزر |
واني لجرار لكل كتيبة | معودة إن لا يخل بها النصر |
فاصدي إلى إن ترتوي البيض والقنا | واسغب حتى يشبع الذئب والنسر |
ولا أصبح الحي الخلوف بغارة | أو الجيش ما لم تأته قبلي النذر |
ويا رب دار لم تخفني منيعة | طلعت عليها بالردى أنا والفجر |
وحي رددت الخيل حتى تركته | هزيما وردتني البراقع والخمر |
وساحبة الأذيال نحوي لقيتها | فلم يلقها جافي اللقاء ولا وعر |
وهبت لها ما حازه الجيش كله | وأبت ولم يكشف لأبياتها ستر |
وما راح يطغيني بأثوابه الغنى | ولا بات يثنيني عن الكرم الفقر |
وما حاجتي في المال ابغي وفوره | إذ لم يفر عرضي فلا وفر الوفر |
أسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى | ولا فرسي مهر ولا ربه غمر |
ولكن إذا حم القضاء على امرئ | فليس له بر يقيه ولا بحر |
وقال أصيحابي الفرار أو الردى | فقلت هما أمران أحلاهما المر |
ولكنني امضي لما لا يعيبني | وحسبك من أمرين خيرهما الأسر |
يقولون لي بعت السلامة بالردى | فقلت أما والله ما نالني خسر |
وهل يتجافى الموت عني ساعة | إذا ما تجافى عني الأسر والصبر |
هو الموت فاختر ما علا لك ذكره | فلم يمت الإنسان ما حيي الذكر |
ولا خير في دفع الردى بمذلة | كما ردها يوما بسوءته عمرو |
يمنون إن خلوا ثيابي وإنما | علي ثياب من دمائهم حمر |
وقائم سيف فيهم دق نصله | وإعقاب رمح فيهم حطم الصدر |
سيذكرني قومي إذا جد جدهم | وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر |
فإن عشت فالطعن الذي تعرفونه | وتلك القنا والبيض والضمر الشقر |
وإن مت فالإنسان لا بد ميت | وإن طالت الأيام وانفسخ العمر |
ولو سد غيري ما سددت اكتفوا به | وما كان يغلو التبر لو نفق الصفر |
ونحن أناس لا توسط بيننا | لنا الصدر دون العالمين أو القبر |
تهون علينا في المعالي نفوسنا | ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر |
أعزبني الدنيا وأعلا ذوي العلا | وأكرم من فوق التراب ولا فخر |
وكتب إلى سيف الدولة من الدرب وقد اشتدت عليه علته:
هل تعطفان على العليل | لا بالأسير ولا القتيل |
باتت تقلبه الأكف | سحابة الليل الطويل |
يرعى النجوم السائرات | من الطلوع إلى الأفول |
فقد الضيوف مكانه | وبكته أبناء السبيل |
واستوحشت لفراقه | يوم الوغى سرب الخيول |
وتعطلت سمر الرماح | وأغمدت بيض النصول |
يا فارج الكرب العظيم | وكاشف الخطب الجليل |
كن يا قوي لذا الضعيف | ويا عزيز لذا الذليل |
قربه من سيف الهدى | في ظل دولته الظليل |
أو ما كشفت عن ابن | داود ثقيلات الكبول |
أما المحب فليس يصغي | في هواه إلى عذول |
يمضي بحال وفائه | ويصد عن قال وقيل |
لم أرو منه ولا شفيت | بطول خدمته غليلي |
الله يعلم أنه | أملي من الدنيا وسولي |
ولئن حننت إلى ذراه | لقد حننت إلى وصول |
لا بالقطوب ولا الغضوب | ولا المطول ولا الملول |
يا عدتي في النائبات | وظلتي عند المقيل |
أين المحبة والذمام | وما وعدت من الجميل |
أحمل على النفس الكريمة | في والقلب الحمول |
وكتب إلى سيف الدولة من الأسر:
وما كنت أخشى إن أبيت وبيننا | خليجان والدرب الأصم وآلس |
ولا إنني استصحب الصبر ساعة | ولي عنك مناع ودونك حابس |
ينافسني هذا الزمان وأهله | وكل زمان لي عليك منافس |
شريتك من دهري بذي الناس كلهم | فلا أنا مبخوس ولا الدهر باخس |
وملكتك النفس النفيسة طائعا | وتبذل للمولى النفيس النفائس |
تشوقني الأهل الكرام وأوحشت | مواكب بعدي عندهم ومجالس |
وربتما ساد الأماجد ماجد | وربتما زان الفوارس فارس |
رفعت عن الحساد نفسي وهل هم | لمن حسدوا لو شئت إلا فرائس |
أيدرك ما أدركت إلا ابن همة | يمارس في كسب العلى ما يمارس |
يضيق مكاني عن سواي لأنني | على قمة المجد المؤثل جالس |
سبقت وقومي بالمكارم والعلا | وان رغمت من آخرين المعاطس |
وكتب إليه سيف الدولة كتابا فيه كلام خشن وهو في الأسر لما بلغه إن بعض الأسرى قال إن ثقل هذا المال على الأمير كاتبنا فيه صاحب خراسان وغيره من الملوك وذلك حين قرروا مع ملك الروم إطلاق أسرى المسلمين بمال يحملونه فاتهم سيف الدولة أبا فراس بهذا القول لضمانه المال فكتب إليه: ومن يعرفك بخراسان فكتب إليه أبو فراس:
أسيف الهدى وقريع العرب | إلام الجفاء وفيما الغضب |
وما بال كتبك قد أصبحت | تنكبني مع هذي النكب |
وأنت الحليم وأنت الكريم | وأنت العطوف وأنت الحدب |
وما زلت تسعفني بالجميل | وتنزلني بالجناب الخصب |
وتدفع عن عاتقي الخطوب | وتكشف عن ناظري الكرب |
وإنك للجبل المشمخر | لي بل لقومك بل للعرب |
علا يستفاد وعاف يفاد | وعز يشاد ونعمى ترب |
وما غض مني هذا الأسئار | ولكن خلصت خلوص الذهب |
ففيم يقرعني بالخمول | مولى به نلت أعلى الرتب |
وكان عتيدا لدي الجواب | ولكن لهيبته لم أجب |
أتنكر إني شكوت الزمان | واني عتبتك فيمن عتب |
فلا تنسبن إلي الخمول | عليك أقمت فلم اغترب |
فألا رجعت فاعتبتني | وصيرت لي ولقولي الغلب |
وأصبحت منك فإن كان فضل | وان كان نقص فأنت السبب |
فما شككتني فيك الخطوب | ولا غيرتني عليك النوب |
وأشكر ما كنت في ضجرتي | واحلم ما كنت عند الغضب |
وإن خراسان إن أنكرت | علاي فقد عرفتها حلب |
ومن أين ينكرني الأبعدون | أمن نقص جد أمن نقص أب |
ألست وإياك من أسرة | وبيني وبينك فوق النسب |
وداد تناسب فيه الكرام | وتربية ومحل أشب |
ونفس تكبر إلا عليك | وترغب إلاك عمن رعب |
فلا تعدلن فداك ابن عمك | لا بل غلامك عما يجب |
وأنصف فتاك فإنصافه | من الفضل والشرف المكتسب |
لكنت الحبيب وكنت القريب | ليالي أدعوك من عن كثب |
فلما بعدت بدت جفوة | ولاح من الأمر ما لا أحب |
فلو لم أكن فيك ذا خبرة | لقلت صديقك من لم يغب |
وكتب إلى سيف الدولة من الأسر يعاتبه:
زماني كله غضب وعتب | وأنت علي والأيام ألب |
وعيش العالمين لديك سهل | وعيشي وحده بفناك صعب |
وأنت وأنت دافع كل خطب | مع الخطب الملم علي خطب |
إلى كم ذا العتاب وليس جرم | وكم ذا الاعتذار وليس ذنب |
فلا بالشام لذ بفي شرب | ولا في الأسر رق علي قلب |
فلا تحمل على قلب جريح | به لحوادث الأيام ندب |
أمثلي تقبل الأقوال فيه | ومثلك يستمر عليه كذب |
جناني ما علمت ولي لسان | -يقد الدرع والإنسان- عضب |
وزندي وهو زندك ليس يكبو | وناري وهي نارك ليس تخبو |
وفرعي فرعك السامي المعلا | وأصلي أصلك الزاكي وحسب |
لإسماعيل بي وبينه فخر | وفي إسحاق بي وبينه عجب |
وأعمامي ربيعة وهي صيد | وأخوالي بالصفر وهي غلب |
فدت نفسي الأمير أكان حظي | وقربي عنده ما دام قرب |
فلما حالت الأعداء دوني | وأصبح بيننا بحر ودرب |
ظللت تبدل الأقوال بعدي | وتبلغني اغتيابا ما يغب |
فقل ما شئت في فلي لسان | مليء بالثناء عليك رطب |
وقابلني بإنصاف وظلم | تجدني في الجميع كما تحب |
وكتب إلى سيف الدولة من الأسر وقد مضى عليه سنتان وهو مأسور من قصيدة:
أبي غرب هذا الدمع إلا تسرعا | ومكنون هذا الحب إلا تضوعا |
فحزني حزن الهائمين مبرحا | وسري سر العاشقين مضيعا |
وهبت شبابي والشباب مضنة | لأبلج من أبناء عمي أروعا |
أبيت معنى من مخافة عتبه | وأصبح محزونا وأمسي مروعا |
فلما مضى عصر الشبيبة كله | وفارقني شرخ الشباب فودعا |
تطلبت بين الهجر والعب فرجة | فحاولت أمرا لا يرام ممنعا |
وصرت إذا ما رمت في الحي لذة | تتبعتها بين الهموم تتبعا |
وها أنا قد حلى الزمان مفارقي | وتوجني بالشيب تاجا مرصعا |
فلو إن أسري بين عيش نعمته | حملت لذاك الشهد ذا السم منقعا |
ولكن أصاب الجرح جسما مجرحا | وصادف هذا الصدع قلبا مصدعا |
فلو إنني ملكت مما أريده | من العيش يوما لم أجد في موضعا |
أما ليلة تمضي ولا بعض ليلة | أسر بها هذا الفؤاد المفجعا |
أما صاحب فرد يدوم وفاؤه | فيصفي لمن أصفى ويرعى لمن رعى |
أفي كل دار لي صديق أوده | إذا ما تفرقنا حفظت وضيعا |
أقمت بأرض الروم عامين لا أرى | من الناس محزونا ولا متصنعا |
إذا خفت من أخوالي الروم خطة | تخوفت من أعمامي العرب أربعا |
وان أوجعتني من أعادي شيمة | لقيت من الأحباب أدهى وأوجعا |
ولو قد أملت الله لا رب غيره | رجعت إلى أعلا وأملت أوسعا |
لقد قنعوا بعدي من القطر بالندى | ومن لم يجد إلا القنوع تقنعا |
وما مر إنسان فاخلف مثله | ولكن يرجي الناس أمرا مرقعا |
تنكر سيف الدين لما عتبته | وعرض بي تحت الكلام وقرعا |
فقولا له من صادق الود إنني | جعلتك مما رابني منك مفزعا |
ولو إنني أكننته في جوانحي | لاورق ما بين الضلوع وفرعا |
فلا تغترر بالناس ما كل من ترى | أخوك إذا وضعت في الأمر أوضعا |
ولا تتقلد ما يروقك حليه | تقلد إذا حاربت ما كان أقطعا |
ولا تقبلن القول من كل قائل | سأرضيك مرأى لست أرضيك مسمعا |
فلله إحسان علي ونعمة | ولله صنع قد كفاني التصنعا |
أراني طرق المكرمات كما أرى | علي وأسعاني علي كما سعى |
فإن يك بطء مرة فلطالما | تعجل نحوي بالجميل وأسرعا |
وإن يجف في بعض الأمور فإنني | لأشكره النعمى التي كان أوزعا |
وأن يستجد الناس بعدي فلا يزل | بذاك البديل المستجد ممتعا |
وكتب إلى سيف الدولة من الأسر يعرفه خروج الدمستق إلى الشام في جموع الروم ويحثه على الاستعداد ويذكره أمره ويسأله تقديم فدائه:
أتعز أنت على رسوم مغاني | فأقيم للعبرات سوق هوان |
فرض علي لكل دار وقفة | تقضي حقوق الدار بالأجفان |
لولا تذكر من هويت بحاجز | لم أبك فيه مواقد النيران |
ولقد أراه قبل طارقة النوى | مأوى الحسان ومنزل الضيفان |
ومكان كل مهند ومجر كل | مثقف ومجال كل حصان |
نشر الزمان عليه بعد أنيسه | حلل الفناء وكل شيء فاني |
ربما وقفت فسرني ما ساءني | منه وأضحكني الذي أبكاني |
ورأيت في عرصاته مجموعة | أسد الشري وربارب الغزلان |
يا واقفان معي على الدار اطلبا | غيري لها إن كنتما تجدان |
منع الوقوف على المنازل طارق | أمر الدموع بمقلتي ونهاني |
فله إذا ونت المدامع أو جرت | عصيان دمعي فيه أو عصياني |
ولقد جعلت الحب سر مدامعي | ولغيره عيناي تنهملان |
أبكي الأحبة بالشام وبيننا | تلك الدروب وشاطئا جيحان |
وتحب نفسي العاشقين لأنهم | مثلي إلى كنف من الأحزان |
فضلت لدي مدامع فبكيت | للباكي بها وولهت للولهان |
مالي جزعت من الخطوب وإنما | أخذ المهيمن بعض ما أعطاني |
ولقد سررت كما هممت عشائري | زمنا وهناني الذي عزاني |
وأسرت في مجرى خيولي غازيا | وحبست فيما أشعلت نيراني |
يرمي بنا شطر البلاد مشيع | عنده الكريهة فائض الإحسان |
بلد لعمرك لم نزل زواره | مع سيد قرن أغر هجان |
وأنا الذي ملأ البسيطة كلها | ناري وطنب في السماء دخاني |
كان القضاء فلم تكن لي حيلة | غلب القضاء شجاعة الشجعان |
إن لم تكن طالت سني فان لي | رأي الكهول ونجدة الشبان |
قمن بما ساء الأعادي موقفي | والدهر يبرز لي مع الأقران |
يمضي الزمان وما عمدت لصاحب | إلا ظفرت بصاحب خوان |
يا دهر خنت مع الأصادق خلتي | وغدرت بي في جملة الإخوان |
لكن سيف الدولة القرم الذي | لم أنسه وأراه لا ينساني |
أيضيعني من لم يزل لي حافظا | كرما ويخفضني الذي أعلاني |
إني أغار على مكاني إن أرى | فيه رجالا لا تسد مكاني |
أو إن تكون وقيعة أو غارة | ما لي بها اثر مع الفتيان |
سيف الهدى من حد سيفك يرتجى | يوم يذل الكفر للايمان |
ولقد علمت وقد دعوتك إنني | إن نمت عنك أنام عن يقظان |
هذي الجيوش تجيش نحو بلادكم | محفوفة بالكفر والصلبان |
هذي الجيوش تجيش نحو بلادكم | من كل أروع ضيغم سرحان |
هذي الجيوش يفر منها الموت في | يوم الوغى وإثارة الشجعان |
ليسوا ينون فلا تنوا وتيقظوا | لا ينهض الواني بغير الواني |
قد أغضبوكم فانهضوا وتأهبوا | للحرب أهبة ثائر غضبان |
غضبا لدين الله إن لا تغضبوا | لا يشتهر في نصره سيفان |
حتى كان الوحي فيكم منزل | ولكم تخص فرائض القرآن |
ثم أشار إلى كثير من الوقائع ثم قال:
إنا لنلقى الخطب فيك وغيره | بموفق عند الحروب معان |
أصبحت ممتنع الحراك وربما | أصبحت ممتنعا على الأقران |
ولطالما حطمت صدر مثقف | ولطالما أرعفت أنف سنان |
ولطالما قدت الجياد إلى الوغى | قب البطون طويلة الارسان |
أعزز علي بان يخلى موقفي | ويخل ما بين الصفوف مكاني |
ما زلت أكلأ كل صدر موحش | أبدا بمقلة ساهر يقظان |
شلال كل عظيمة ذوادها | ضراب هامات العدى طعان |
إن يمنع الأعداء حد صوارمي | لا يمنع الأعداء حد لساني |
يا راكبا يرمي الشآم بجسرة | موارة شدنية مذعان |
أقر السلام من الأسير العاني | أقر السلام على بني حمدان |
أقر السلام على الذين بيوتهم | مأوى الكرام ومنزل الضيفان |
أقر السلام على الذين سيوفهم | يوم الوغى مهجورة الأجفان |
الصافحين عن المسيء تكرما | والمحسنين إلى ذوي الإحسان |
وقال وقد بلغه علة والدته بعدما قصدت حضرة سيف الدولة من منبج إلى حلب تكلمه في المفاداة وتتضرع إليه فلم يكن عنده ما رجت ولعله كان لسيف الدولة عذر سياسي في تأخير فدائه فان ما يغيب عن الإنسان لا يجوز الحكم عليه من جميع نواحيه ووافق ذلك إن البطارقة قيدوا بميافارقين فقيد هو بخرشنة ورأت الأمر قد عظم فاعتلت من الحسرة فبلغ ذلك أبا فراس فكتب إلى سيف الدولة:
يا حسرة ما أكاد أحملها | آخرها مزعج وأولها |
عليلة بالشام مفردة | بات بأيدي العدى معللها |
تمسك أحشاءها على حرق | تطفئها والهموم تشعلها |
إذا اطمأنت وأين أو هدأت | عن لها ذكره يقلقها |
تسأل عنه الركبان جاهدة | بأدمع ما تكاد تمهلها |
يا من رأى لي بحصن خرشنة | أسد شرى في القيود أرجلها |
يا من رأى لي الدروب شامخة | دون لقاء الحبيب أطولها |
يا من رأى لي القيود موثقة | على حبيب الفؤاد أثقلها |
يا أيها الراكبان هل لكما | في حمل نجوى يخف محملها |
قولا لها إن وعت مقالكما | فان ذكري لها ليذهلها |
يا أمتا هذه منازلنا | نتركها تارة وننزلها |
يا أمتا هذه مواردنا | نعلها تارة وننهلها |
أسلمنا قومنا إلى نوب | أيسرها في القلوب اقتلها |
واستبدلوا بعدنا رجال وغى | يود أدنى علاي أمثلها |
يا سيدا ما تعد مكرمة | إلا وفي راحتيك أكملها |
ليست تنال القيود من قدمي | وفي إتباعي رضاك احملها |
لا تتيمم والماء تدركه | غيرك يرضى الصغرى ويقبلها |
إن بني العم لست تخلفهم | إن غابت الأسد عاد أشبلها |
أنت سماء ونحن أنجمها | أنت بلاد ونحن أجبلها |
أنت سحاب ونحن وأبله | أنت يمين ونحن أنملها |
بأي عذر رددت والهة | عليك دون الورى معولها |
جاءتك تمتاح رد واحدها | فانتظر الناس كيف تقفلها |
سمحت مني بمهجة كرمت | أنت على يأسها مؤملها |
إن كنت لم تبذل الفداء لها | فلم أزل في رضاك أبذلها |
تلك المودات كيف تهملها | تلك المواعيد كيف تغفلها |
تلك العقود التي عقدت لنا | كيف وقد أحكمت تحللها |
أرحامنا منك لم تقطعها | ولم تزل جاهدا توصلها |
أين المعالي التي عرفت بها | تقولها دائبا وتفعلها |
يا واسع الدار كيف توسعها | ونحن في صخرة نزلزلها |
يا ناعم الثوب كيف تبدله | ثيابنا الصوف ما نبدلها |
يا راكب الخيل لو بصرت بنا | نحمل أقيادنا وننقلها |
رأيت في الضر أوجها كرمت | فارق فيك الجمال أجملها |
قد اثر الدهر في محاسنها | تعرفها تارة وتجهلها |
فلا تكلنا فيها إلى أحد | معلها محسن يعللها |
لا يفتح الناس باب مكرمة | صاحبها المستغاث يقفلها |
أينبري دونك الأنام لها | وأنت قمقامها ومعقلها |
وأنت إن جل حادث جلل | قلبها المرتجى وحولها |
منك تردى بالفضل أفضلها | منك أفاد النوال أنولها |
فإن سألنا سواك عارفة | فبعد قطع الرجاء نسألها |
إذ رأينا أولى الأنام بها | يضيعها جاهدا ويهملها |
لم يبق في الأرض أمة عرفت | إلا وفضل الأمير يشملها |
نحن أحق الورى برأفته | فأين عنا وكيف معدلها |
يا منفق المال لا يريد به | إلا المعالي التي يؤثلها |
أصبحت تشري مكارما فضلا | فداؤنا قد علمت أفضلها |
لا يقبل الله قبل فرضك ذا | نافلة عنده تنفلها |
وكتب معها بهذين البيتين:
قد عذب الموت بأفواهنا | والموت خير من مقام الذليل |
إنا إلى الله لما نابنا | وفي سبيل الله خير السبيل |
مراسلة والدته من الأسر
كتب إلى والدته بمنبج من أسر الروم:
لولا العجوز بمنبج | ما عفت أسباب المنية |
ولكان لي عما سألت | من الفدى نفس أبيه |
لكن أردت مرادها | ولو انجذبت إلى الدنية |
وارى محاماتي عليها | إن تضام من الحمية |
أمست بمنبج حرة | بالحزن من بعدي حرية |
لو كان يدفع حادث | أو طارق بجميل نيه |
لم تطرق نوب الحوادث | أرض هاتيك التقية |
لكن قضاء الله | والأحكام تنفذ في البرية |
والصبر يأتي كل ذي | رزء على قدر الرزيه |
لا زال يطرق منبجا | في كل غادية تحيه |
فيها التقى والدين | مجموعان في نفس زكيه |
يا أمتا لا تيأسي | لله ألطاف خفيه |
كم حادث عنا جلا | ه وكم كفانا من بليه |
أوصيك بالصبر الجميل | فإنه خير الوصية |
وكتب إلى والدته من الأسر يعزيها ويصبرها وقد ثقل من الجراح التي نالته ويئس من نفسه:
مصابي جليل والعزاء جميل | وظني إن الله سوف يديل |
وما زاد مني الأسر ما تريانه | ولكنني دامي الجراح عليل |
جراح وأسر واشتياق وغربة | أأحمل إني بعد ذا لحمول |
جراح تحاماها الأساة مخافة | وسقمان باد منهما ودخيل |
وأسر أقاسيه وليل نجومه | أرى كل شيء غيرهن يزول |
تطول بي الساعات وهي قصيرة | وفي كل دهر لا يسرك طول |
تناساني الأصحاب إلا عصابة | ستلحق بالأخرى غدا وتحول |
ومن ذا الذي يبقى على العهد أنهم | وان كثرت دعواهم لقليل |
اقلب طرفي لا أرى غير صاحب | يميل مع النعماء حيث تميل |
وصرنا نرى إن المتارك محسن | وإن صديقا لا يضر وصول |
تصفحت أقوال الرجال فلم يكن | إلى غير شاك للزمان وصول |
أكل خليل هكذا غير منصف | وكل زمان بالكرام بخيل |
نعم دعت الدنيا إلى الغدر دعوة | أجاب إليها عالم وجهول |
وفارق عمرو بن الزبير شقيقه | وخلى أمير المؤمنين عقيل |
فيا حسرتي من لي بخل موافق | أقول بشجوي مرة ويقول |
وإن وراء الستر أما بكاؤها | علي وإن طال الزمان طويل |
فيا أمتا لا تعدمي الصبر إنه | إلى الخير والنجح القريب رسول |
ويا أمتا لا تعدمي الصبر إنه | على قدر الرزء الجليل جميل |
ويا أمتا لا تحبطي الأجر إنه | على قدر الصبر الجميل جزيل |
ويا أمتا صبرا فكل ملمة | تجلى على علاتها وتزول |
تأسي كفاك الله ما تحذرينه | فقد غال هذا الناس قبلك غول |
أمالك في ذات النطاقين أسوة | بمكة والحرب العوان تجول |
أراد ابنها أخذ الأمان فلم تجب | وتعلم علما انه لقتيل |
وكوني كما كانت بأحد صفية | ولم يشف منها بالبكاء غليل |
ولو رد يوما حمزة الخير حزنها | إذا لعلتها رنة وعويل |
وما أثري يوم اللقاء مذمم | ولا موقفي عند الأسئار ذليل |
لقيت نجوم الليل صوارم | وخضت سواد الليل وهو خيول |
ولم ارع للنفس الكريمة خلة | عشية لم يعطف علي خليل |
ولكن لقيت الموت حتى تركتها | وفيها وفي حد الحسام فلول |
ومن لم يوق الله فهو ممزق | ومن لم يعز الله فهو ذليل |
ومن لم يرده الله في الأمر كله | فليس لمخلوق إليه سبيل |
وإن رجائيه وظني بفضله | على قبح ما قدمته لجميل |
مراسلته أخاه أبا الهيجاء من الأسر
لما أسر أبو فراس لحق أخاه أبا الهيجاء حرب بن سعيد بن حمدان جزع لأسره كما يلحق الأخ الوفي عند أسر أخيه السري فكتب إليه أبو فراس من الأسر هذه القصيدة العصماء يعذله على هذا الجزع ويفتخر ويذكر قوما عجزوا رأيه في الثبات فقد عرفت انه كان يمكنه الفرار فثبت تجنبا عن سوء الأحدوثة وهذه القصيدة فيها في الديوان المطبوع نقص كثير ونحن نذكر هنا أكثرها مع ما مر ويأتي منها وان لزم بعض التكرار لنفاسة مضامينها وفيها مقاصد متنوعة:
النسيب
أبثك إني للصبابة صاحب | وللنوم مذ بان الخليط مجانب |
علي لربع العامرية وقفة | فيملي علي الشوق والدمع كاتب |
ومن مذهبي حب الديار وأهلها | وللناس فيما يعشقون مذاهب |
الفخر
عنادي لدفع الهم نفس أبية | وقلب على ما شئت منه مصاحب |
وجرد كأمثال السعالي سلاهب | وخوص كأمثال القسي نجائب |
الاتكال على الله
إذا الله لم يحرزك فيما تخافه | فلا الدرع مناع ولا السيف قاضب |
ولا سابق مما تنخلت سابق | ولا صاحب مما تخيرت صاحب |
جوابه لمن لامه على الثبات
يقولون لي أقدمت في غير مقدم | وأنت امرؤ ما حنكته التجارب |
فقلت لهم لو لم ألاق صدورها | تناولني بالذم منهم عصائب |
رجال يذيعون العيوب وعندنا | أمور لهم مخزونة ومعائب |
تكاثر لوامي على ما أصابني | كان لم تنب إلا بأسري النوائب |
يقولون لم ينظر عواقب أمره | ومن لم يعن تجري عليه العواقب |
ألم يعلم الذلان إن بني الوغى | كذاك سليب بالرماح وسالب |
وإن وراء الحزم فيها ودونه | مواقف تنسى عندهن التجارب |
أرى ملء عيني الردى وأخوضه | إذ الموت قدامي وخلفي المقانب |
الحساد والأعداء
رمتني عيون الناس حتى أظنها | ستحسدني في الحاسدين الكواكب |
فلست أرى إلا عدوا محاربا | وآخر خير منه عندي المحارب |
فكم يطفئون المجد والله موقد | وكم ينقصون الفضل والله واهب |
ويرجون إدراك العلا بنفوسهم | ولم يعلموا إن المعالي مواهب |
ومضطغن لم يحمل السر قلبه | تلفت ثم اغتابني وهو هائب |
تردى رداء الذل لما لقيته | كما يتردى بالغبار العناكب |
ومن شرفي إن لا يزال يعيبني | حسود على الأمر الذي هو عائب |
القضاء والقدر
وهل يدفع الإنسان ما هو واقع | وهل يعلم الإنسان ما هو كاسب |
وهل لقضاء الله في الناس غالب | وهل من قضاء الله في الناس هارب |
العذر عن الأسر
علي طلاب العز من مستقره | ولا ذنب لي إن حاربتني المطالب |
وعندي صدق الضرب في كل معرك | وليس عليه إن نبون المضارب |
مدح سيف الدولة
إذا كان سيف الدولة الملك كافلا | فلا الحزم مغلوب ولا الحزن غالب |
وهل يرتجى للأمر إلا رجاله | ويسال صوب المزن إلا السحائب |
التنزه عن الدنايا
فلا تخش سيف الدولة القرم إنني | سواك إلى خلق من الناس راغب |
فما تلبس النعمى وغيرك ملبس | ولا تقبل الدنيا وغيرك واهب |
وما أنا من كل المطاعم طاعم | ولا أنا من كل المشارب شارب |
ولا أنا راض إن كثرن مكاسبي | إذا لم تكن بالعز تلك المكاسب |
ولا السيد القمقام عندي بسيد | إذا استنزلته من علاه الرغائب |
الإعتراف بإنعام سيف الدولة
علي لسيف الدولة القرم أنعم | أوانس لا ينفرن عني ربائب |
أأجحده إحسانه بي إنني | لكافر نعمي إن أردت موارب |
وما شك قلبي ساعة في وداده | ولا شاب ظني قط فيه الشوائب |
يؤرقني ذكرى له وصبابة | وتجذبني شوقا إليه الجواذب |
الحنين إلى أخيه
أيعلم ما ألقى نعم يعلمونه | علي الناي أحباب لنا وحبائب |
أأبقى أخي دمعا أذاق أخي عزا | أآب أخي بعدي من الصبر آيب |
سقى الله أرض الموصل المزن إنها | لمن حلها فرض له الحب لازب |
بنفسي وان لم ارض نفسي راكب | يسائل عني كلما لاح راكب |
فما ذاق بعدي لذة العيش ساعة | ولا ناب جفنيه من النوم نائب |
قريح مجاري الدمع مستلب | الكرى يقلقله هم من الشوق ناصب |
أخ لا يذقني الله فقدان مثله | وأين له مثل وأين المقارب |
تجاوزت القربى المودة بيننا | فأصبح أدنى ما يعد التناسب |
شكوى الزمان
رمتني الليالي بالفراق حسادة | وهن الليالي راميات صوائب |
وما كنت أخشى إن أرى الدهر حاسدي | كأن لياليه لدى الأقارب |
ولكنني في ذا الزمان وأهله | غريب وأفعالي لديه غرائب |
شرط الأخوة وحسن الرجاء
وأنت أخ تصفو وتصفي وإنما | الأقارب في هذا الزمان العقارب |
لعل الليالي إن يعدن فربما | تجلين أجلاء الغيوم المصائب |
ألا ليتني حملت همي وهمه | وان أخي ناء عن الهم عازب |
فمن لم يجد بالنفس دون حبيبه | فما هو إلا مأذق الحب كاذب |
تسليته لأخيه
أتاني مع الركبان انك جازع | وغيرك يخفى عنه لله واجب |
وما أنت ممن يسخط الله فعله | وان أخذت منه الخطوب السوالب |
وإني لمجزاع ولكن همتي | تدافع عني حسرتي وتغالب |
ورقبة حساد صبرت اتقاءها | لها جانب مني وللحزن جانب |
ولست ملوما لو بكيتك من دمي | إذا قعدت عني الدموع السواكب |
حسن الرجاء
ألا ليت شعري هل تبيت مغذة | تناقل بي يوما إليك الركائب |
فتعتذر الأيام من طول ذنبها | إلي ويأتي الدهر والدهر تائب |
وكتب أيضا إلى أخيه حرب بن سعيد من القسطنطينية:
لقد كنت أشكو البعد منك وبيننا | بلاد إذا ما شئت قربها الوخد |
فكيف وفيما بيننا ملك قيصر | ولا أمل يحيي النفوس ولا وعد |
مراسلته ابني سيف الدولة
كتب إلى أبي المكارم وأبي المعالي ابني سيف الدولة من الأسر يسألهما إن يكلما أباهما في فدائه:
يا سيدي أراكما | لا تذكران أخاكما |
أوجدتما بدلا به | يبني سماء علاكما |
أوجدتما بدلا به | يفري نحور عداكما |
ما كان بالفعل الجميل | بمثله أولاكما |
من ذا يعاب بما لقيت | من الورى الاكما |
لا تقعدا بي بعدها | وسلا الأمير أباكما |
وخذا فداي جعلت من | ريب المنون فداكما |
مراسلته محمد بن الأسمر من الأسر
كتب إليه أبو الحسن محمد بن الأسمر وهو في الأسر يوصيه بالصبر فأجابه بهذه الأبيات:
ندبت لحسن الصبر قلب نجيب | وناديت بالتسليم خير مجيب |
ولم يبق مني غير قلب مشيع | وعود على ناب الزمان صليب |
وقد علمت أمي بان منيتي | بحد سنان أو بحد قضيب |
كما علمت من قبل أن يغرق ابنها | بمهلكه في الماء أم شبيب |
لقيت من الأيام كل عجيبة | وقابلني دهري بوجه قطوب |
تجشمت خوف العار أعظم خطة | وأملت نصرا كان غير قريب |
رضيت لنفسي كان غير موفق | ولم ترض نفسي كان غير نجيب |
مراسلته غلاميه منصورا وصافيا من الأسر
كتب إلى غلامه منصور وهو في أسر الروم:
مغرم مؤلم جريح أسير | إن قلبا يطيق ذا لصبور |
وكثير من الرجال حديد | وكثير من القلوب صخور |
قل لمن حل بالشام طليقا | يفتدي قلبك الطليق الأسير |
أنا أصبحت لا أطيق حراكا | كيف أصبحت أنت يا منصور |
وكتب إليه أيضا:
أرث لصب بك قد زدته | على بلايا أسره أسرا |
قد عدم الدنيا ولذاتها | لكنه ما عدم الصبرا |
فهو أسير الجسم في بلدة | وهو أسير القلب في أخرى |
وكتب إلى غلاميه صاف ومنصور من الأسر وفيها دلالة على شدة بره بوالدته وشوقه لأصحابه وانه كان له أولاد صغار وإن سيف الدولة أسند إليه ذنبا:
لأيكم أذكر | وفي أيكم أفكر |
وكم لي على بلدة | بكاء ومستعبر |
ففي حلب عدتي | وعزي والمفخر |
وفي منبج من رضا | ه أنفس ما أذخر |
ومن حبها زلفة | بها يكرم المحشر |
وأصبية كالفراخ | أكبرهم أصغر |
يخيل لي أمرهم | كأنهم حضر |
وقوم ألفناهم | وغصن الصبا اخضر |
فحزني ما ينقضي | ودمعي ما يفتر |
ولا هذه أدمعي | ولا ذا الذي انشر |
ولكن إداري الدموع | واضمر ما اضمر |
مخافة قول الوشاة | مثلك ما يصبر |
فيا غفلتا كيف لا | أرجي كما احذر |
وماذا القنوط الذي | أراه واستشعر |
أما من بلاني به | على كشفه أقدر |
بلى إن لي سيدا | مواهبه أكبر |
فيا من غزر الدمع | وإحسانه أغزر |
بذنبي أوردتني | ومن فضلك المصدر |
وكتب إليهما في الأسر أيضا يستجفيهما:
هل تحسان لي رفيقا رفيقا | مخلص الود أو صديقا صدوقا |
لا رعى الله يا حبيبي دهرا | فرقتنا صروفه تفريقا |
كنت مولاكما وما كنت إلا | والدا محسنا وعما شفيقا |
فأذكر أني وكيف لا تذكراني | كلما أستخون الصديق الصديقا |
بت أبكيكما وان عجيبا | إن يبيت الأسير يبكي الطليقا |
بقية أشعاره في الأسر
وقال يذكر أسره ويصف مناظرة جرت بينه وبين الدمستق في الدين:
يعز على الأحبة بالشام | حبيب بات ممنوع المنام |
تبيت همومه والليل داج | تقلبه على وخز السهام |
يؤول به الصباح إلى ظلام | ويسلمه الظلام إلى الظلام |
وإني للصبور على الرزايا | ولكن الكلام على الكلام |
جروح ما يزلن يردن مني | على جرح قريب العهد دامي |
تأملني الدمستق إذ راني | فأبصر صبغة الليث الهمام |
أتنكرني كأنك لست تدري | باني ذلك البطل المحامي |
وإني إذ نزلت على دلوك | تركتك غير متصل النظام |
وكنت ترى الأناة وتدعيها | فأعجلك الطعان عن الكلام |
وبت مؤرقا من غير سقم | حمى جفنيك طيب النوم حامي |
ولا أرضى الفتى ما لم يكمل | برأي الكهل إقدام الغلام |
فلا هنئتها نعمى بأخذي | ولا وصلت سعودك بالتمام |
أما من أعجب الأشياء علج | يعرفني الحلال من الحرام |
وتكنفه بطارقة تيوس | تباري بالعثانين الضخام |
لهم خلق الحمير فلست تلقى | فتى منهم يسير بلا حزام |
وأصعب خطة واجل أمر | مجالسة اللئام على الكرام |
يريغون العيوب وأعجزتهم | وأي العيب يوجد في الحسام |
أبيت مبرأ من كل عيب | وأصبح سالما من كل ذام |
ومن أبقى الذي أبقيت هانت | عليه موارد الموت الزؤام |
ثناء طيب لا خلف فيه | وآثار كآثار الغمام |
وعلم فوارس الحيين إني | قليل من يقوم لهم مقامي |
وفي طلب الثناء مضى بجير | وجاد بنفسه كعب بن مام |
ألام على التعرض للمنايا | ولي سمع أصم عن الملام |
بنو الدنيا إذا ماتوا سواء | ولو عمر المعمر ألف عام |
ألا يا صاحبي تذكراني | إذا ما شمتما البرق الشامي |
إذا ما لاح لي لمعان برق | بعثت إلى الأحبة بالسلام |
وقال وهو في الأسر بعد علة عوفي منها وكان في فخذه نصل سهم له شعبتان أقام فيها ثلاثين شهرا فشقت فخذه حتى أخرج منها:
فلا تصفن الحرب عندي فإنها | طعامي مذ ذقت الصبا وشرابي |
وقد عرفت وقع المسامير مهجتي | وشقق عن زرق النصول اهابي |
ولججت في حلو الزمان ومره | وأنفقت من عمري بغير حساب |
وقال وهو في الأسر:
يا ليل ما أغفل عما بي | حبائبي فيك وأحبابي |
يا ليل نام الناس عن موجع | آب على مضجعه نابي |
هبت له ريح شامية | متت إلى القلب بأسباب |
أدت رسالات حبيب لنا | فهمتها من دون أصحابي |
وقال وهو في الأسر:
قناتي على ما تعلمين صليبة | وعودي على ما تعهدين صليب |
صبور على طي الزمان ونشره | وإن ظهرت للدهر في ندوب |
وان فتى لم يكسر الأسر قلبه | وخوض المنايا حده لنجيب |
وقال وهو في الأسر:
إن في الأسر لصبا | دمعه في الخد صب |
هو بالروم مقيم | وله بالشام قلب |
مستجدا لم يصادف | عوضا عمن يحب |
وقال وهو في الأسر:
ما للعبيد من الذي | يقضي به الله امتناع |
ذدت الأسود عن الفرائس | ثم تفرسني الضباع |
وقال وهو في الأسر وقد سمع حمامة تنوح على شجرة عالية:
أقول وقد ناحت بقربي حمامة | أيا جارتا هل بات حالك حالي |
معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى | ولا خطرت منك الهموم ببال |
أتحمل محزون الفؤاد قوادم | إلى غصن نائي المسافة عالي |
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا | تعالي أقاسمك الهموم تعالي |
تعالي تري روحا لدي ضعيفة | تردد في جسم يعذب بالي |
أيضحك مأسور وتبكي طليقة | ويسكت محزون ويندب سالي |
وما كل عين لا تفيض قريرة | ولا كل قلب لا ينوح بخالي |
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة | ولكن دمعي في الحوادث غالي |
وقال لما طال أسره يحمل على الشامتين ويصف منازله بمنبج ويتشوقها وكانت ولايته وإقطاعه وداره:
قف في رسوم المستجاب | وحي أكناف المصلى |
فالجوسق الميمون فالساقيا | بها فالنهر الأعلا |
تلك المنازل والملاعب | لا أراها الله محلا |
أوطنتها زمن الصبا | وجعلت منبج لي محلا |
حرم الوقوف بها علي | وكان قبل اليوم حلا |
حيث التفت رأيت ماء | سائحا ووجدت ظلا |
وتحل بالجسر الجنان | وتسكن الحصن المعلى |
يجلو عرائسه لنا | هزج الرياح إذا تجلى |
وإذا نزلنا بالسوا | جير اجتنينا العيش سهلا |
والماء يفصل بين زهر | الروض في الشطين فصلا |
كبساط وشي جردت | أيدي القيون عليه نصلا |
من كان سر بما عرا | ني فليمت ضرا وهزلا |
ما غض مني حادث | والقرم قرم حيث حلا |
أنى حللت فإنما | يدعونني السيف المحلى |
مثلي إذا لقي الأسئار | فلن يضام ولن يذلا |
لم أخل فيما نابني | من إن أعز وإن أجلا |
رعت القلوب مهابة | وملأتها فضلا ونبلا |
فلئن خلصت فإنني | شرق العدى طفلا وكهلا |
ما كنت إلا السيف زاد | على صروف الدهر صقلا |
ولئن قتلت فإنما | موت الكرام الصيد قتلا |
لا يشمتن بموتنا | إلا فتى يفنى ويبلى |
يغتر بالدنيا الجهول | وليس في الدنيا مملى |
وقال يذكر أسره وبعض حساده من قصيدة:
لمن جاهد الأعداء اجر المجاهد | وأعجز ما حاولت إرضاء حاسد |
ولم أر مثلي اليوم أكثر حاسدا | كأن قلوب الخلق لي قلب واحد |
ألم ير هذا الناس قبلي فاضلا | ولم يظفر الحساد مثلي بماجد |
أرى الغل من تحت النفاق فأجتني | من العسل الماذي سم الأساود |
واصبر ما لم يلبس الصبر ذلة | وألبس للمذموم حلة حامد |
وأعلم إن فارقت خلا عرفته | وحاولت خلا إنني غير واجد |
وهل نافعي إن عضني الدهر مفردا | إذا كان لي قوم طوال السواعد |
وهل أنا مسرور بقرب أقاربي | إذا كان لي منهم قلوب الأباعد |
لعمرك ما طرق المعالي خفية | ولكن بعض السير ليس بقاصد |
صبرت على اللأواء صبر ابن حرة | كثير العدا فيها قليل المساعد |
وطاردت حتى ابهر الجري أشقري | وضاربت حتى أوهن الضرب ساعدي |
خليلي ما أعددتما لمتيم | أسير لدى الأعداء جافي المراقد |
فريد عن الأحباب لكن دموعه | مثان على الخدين غير فرائد |
إذا كان غير الله للمرء عدة | أتته الرزايا من وجوه الفوائد |
فقد جرت الحنفاء قتل حذيفة | وكان يراها عدة للشدائد |
وجرت منايا مالك بن نويرة | عقيلته الحسناء أيام خالد |
عسى الله إن يأتي بخير فان لي | عوائد من نعماه خير عوائد |
فكم شال بي من قعر ظلماء لم يكن | لينقذني من قعرها حشد حاشد |
فإن عدت يوما عاد للحرب والعلا | وبذل الندى والمجد أكرم عائد |
مرير على الأعداء لكن جاره | إلى خصب الأكناف عذب الموارد |
منعت حمى قومي وسدت عشيرتي | وقلدت أهلي غر هذي القلائد |
خلائق لا يوجدن في كل ماجد | ولكنها في الماجد ابن الأماجد |
الإخوانيات
منها المراسلة بينه وبين بني ورقاء ومرت في أخباره معهم المراسلة بينه وبين أبي زهير مهلهل بن نصر بن حمدان قال أبو فراس وهو أول بيت قاله في صباه:
بكيت فلما لم أر الدمع نافعي | رجعت إلى صبر أمر من الصبر |
فاتصل هذا البيت بأبي زهير مهلهل بن نصر بن حمدان فكتب إليه بأبيات أولها (أيا ابن الكرام الصيد والسادة الغر) فأجابه أبو فراس بقوله من أبيات:
ألا ما لمن أمسى يراك وللبدر | وما لمكان أنت فيه وللقطر |
تجللت بالتقوى وأفردت بالعلا | وأهلت للجلى وحليت بالفخر |
لقلدتني لما ابتدأت بمدحتي | يدا لا أؤدي شكرها أخر العمر |
فان أنا لم أمنحك صدق مودتي | فمالي إلى المجد المؤثل من عذر |
أيا ابن الكرام الصيد جاءت كريمة | (أيا ابن الكرام الصيد والسادة الغر) |
وانك في عذب الكلام وجزله | لتغرف من بحر وتنحت من صخر |
ومثلك معدوم النظير من الورى | وشعرك معدوم النظير من الشعر |
كان على ألفاظه ونظامه | بدائع ما حاك الربيع من الزهر |
تنفس فيه الروض وأخضل بالندى | وهب نسيم الفجر يخبر بالفجر |
إلى الله أشكو من فراقك لوعة | طويت لها مني الضلوع على جمر |
فعد يا زمان القرب في خير عيشة | وأنعم بال ما بدا كوكب دري |
وعش يا ابن نصر ما استهلت غمامة | تروح إلى عز وتغدو على نصر |
وكتب إليه أبو زهير أيضا قصيدة أولها (بان صبري ببين ظبي ربيب) فأجابه أبو فراس بقوله:
وقفتني على الأسى والنحيب | مقلتا ذلك الغزال الربيب |
كلما عادني السلو رماني | غنج ألحاظه بسهم مصيب |
فاترات قواتل فاتنات | فاتكأت سهاما بالقلوب |
أيها المذنب المعاتب حتى | خلت إن الذنوب كانت ذنوبي |
كن كما شئت من وصال وهجر | غير قلبي عليك غير كئيب |
لك جسم الهوى وثغر الأقاحي | ونسيم الصبا وقد القضيب |
أنا في حالتي وصال وهجر | من جوى الحب في عذاب مذيب |
بين قرب منغص بصدود | ووصال منغص برقيب |
هل من الظاعنين مهد سلامي | للفتى الماجد الحصيف الأديب |
ابن عمي الداني على شحط دار | والقريب المحل غير القريب |
خالص الود صادق العهد أنس | في حضور محافظ في مغيب |
كل يوم يهدي إلى رياضا | جادها فكره بغيث سكوب |
بان صبري لما تأمل طرفي | بان صبري ببين ظبي ربيب |
فأجابه أبو زهير بقصيدة أولها (هاج شوق المتيم المهجور) فأجابه أبو فراس بقوله:
مستجير الهوى بغير مجير | ومضام النوى بغير نصير |
ما لمن وكل النوى مقلتيه | بانسكاب وقلبه بالزفير |
فهو ما بين عمر ليل طويل | يتلظى وعمر يوم قصير |
يا كثيبا من تحت غصن نضير | يتثنى من تحت بدر منير |
قد منحت الرقاد عين خلي | بات خلوا مما يجن ضميري |
إن لي مذ نأيت جسم مريض | وبكا ثاكل وذل أسير |
وردت منك يا ابن عمي هدايا | تتهادى في سندس وحرير |
بقواف ألذ من بارد الماء | ولفظ كاللؤلؤ المنثور |
محكم قصر الفرزدق والأخطل | عنه وفاق شعر جرير |
أنت ليث الوغى وحتف الأعادي | وغياث الملهوف والمستجير |
كم تحديتني أنت كبير السن | طب بكل أمر كبير |
وإذا كنت يا ابن عمي قد امتحت | جوابي قنعت بالميسور |
هاج شوقي إليك لما أتتني | (هاج شوق المتيم المهجور) |
وكتب إليه أبو زهير قصيدة أولها: (كتابي عن شوق إليك ووحشة) فأجابه أبو فراس بقوله:
أيا ظالما أضحى يعاتب منصفا | أتلزمني ذنب المسيء تعجرفا |
بدأت بتنميق العتاب مخافة | العتاب وذكرى بالجفا خيفة الجفا |
فوافى على علات عتبك صابرا | وإلفي على حالات ظلمك منصفا |
وكنت متى صافيت خلا منحته | بهجرانه وصلا ومن غدره وفا |
فهيج لي هذا الكتاب صبابة | وجدد لي هذا العتاب تأسفا |
فإن أدنت الأيام دارا بعيدة | شفى القلب مظلوم من العتب وأشتفى |
فإن كنت أقررت بالذنب تائبا | وان لم أكن أمسكت عنه تالفا |
وكتب إلى أبي زهير بقوله من أبيات:
هو الطلل العافي وهاتا معالمه | فبح بهوى من أنت في القلب كاتمه |
وما الغادة الحسناء صينت وإنما | أذيل من الدمع المصون كرائمه |
وما العيس سارت بالجاذر غدوة | إلا إنما صبري استقلت عزائمه |
وليس بذي وجد فتى كتم الهوى | وليس بصب من ثنته لوائمه |
وقفنا فسقينا المنازل أدمعا | هي الوبل والأجفان منها غمائمه |
وما الدمع يوما نافعا من صبابة | ولو فاض حتى يملأ الأرض ساجمه |
وكان عظيما عندي الهجر مرة | فلما رأيت البين هانت عظائمه |
وما لجمال الحي يوم تحملوا | تولت بمن زان الحلي معاصمه |
لقد جارت الأيام فينا بحكمها | ومن ينصف المظلوم والخصم حاكمه |
سل الدهر عني هل خضعت لحكمه | وهل راعني إصلاله وأراقمه |
وهل موضع في البر ما جئت أرضه | ولا وطئته من بعيري مناسمه |
ولا شعب إلا قد وردت نجوده | وإن بعدت أغواره وتهائمه |
وما صحبتني قط إلا مطيتي | وعضب حساب مخذم الحد صارمه |
وان انفراد المرء في كل مشهد | لخير من استصحاب من لا يلائمه |
إذا نزل الخطب الجليل فإننا | نصابره حتى تضيق حيازمه |
وان جاءنا عاف فانا معاشر | نشاطره أموالنا ونقاسمه |
بنينا من العلياء مجدا مشيدا | وما شائد مجدا كمن هو هادمه |
سل المجد عنا يعلم المجد إننا | بنا اطدت أركانه ودعائمه |
أخي وابن عمي يا ابن نصر نداء من | أقيمت لطول الهجر منك مأتمه |
فوا عجبا للسيف لما انتضيته | من الجفن لم يورق بكفك قائمه |
بليث إذا ما الليث حاد عن الوغى | وغيث إذا ما الغيث أكدت سواجمه |
تعلم أقيك السوء إن مدامعي | لبعدك مثل العقد أوهاه ناظمه |
وإني مذ زمت ركابك للنوى | شديد اشتياق عازب القلب هائمه |
وكتب إليه على هذا الوزن وهذه القافية من أبيات:
أما إنه ربع الصبا ومعالمه | فلا عذر إن لم يسفح الدمع ساجمه |
ونحن أناس يعلم الله أننا | إذا جمع الدهر الغشوم شكائمه |
إذا ولد المولود منا فإنما | الأسنة والبيض الرقاق تمائمه |
ألا مبلغ عني ابن عمي رسالة | يبث بها بعض الذي أنا كاتمه |
فيا جافيا ما كنت أخشى جفاءه | ولو كثرت عذاله ولوائمه |
كذلك حظي من زماني وأهله | يصارمني الخل الذي لا أصارمه |
وأنت وفي لا يذم وفاؤه | وأنت كريم ليس تحصى كرائمه |
أقيم به أصل الفخار وفرعه | وشد به ركن العلا ودعائمه |
أخو السيف يعديه نداوة كفه | فيحمر خداه ويخضر قائمه |
أعندك لي عتبى فأحمد ما مضى | وابني رواق الود إذ أنت هادمه |
فلا تحبسن عني الجواب موشحا | بعقد من الدر الذي أنت ناظمه |
المراسلة بينه وبين أخيه أبي الهيجاء
وكتب إلى أخيه أبي الهيجاء حرب بن سعيد:
حللت من المجد أعلا مكان | وبلغك الله أقصى الأماني |
فإنك لا عدمتك العلا | أخ لا كإخوة هذا الزمان |
صفاؤك في البعد مثل الدنو | وودك في القلب مثل اللسان |
كسونا إخوتنا بالصفا | كما كسيت بالكلام المعاني |
المراسلة بينه وبين أبي العشائر
وكتب إلى أبي العشائر الحسين بن علي بن الحسين بن حمدان وهو أبو زوجة أبي فراس عند أسره إلى بلد الروم من قصيدة:
أأبا العشائر إن أسرت فطالما | أسرت لك البيض الخفاف رجالا |
لما أجلت المهر فوق رؤوسهم | نسجت له حمر الشعور عقالا |
يا من إذا حمل الحصان على الوجى | قال اتخذ حبك التريك نعالا |
ما كنت نهزة أخذ يوم الوغى | لو كنت أوجدت الكميت مجالا |
حملتك نفس حرة وعزائم | قصرن من قلل الجبال طوالا |
أخذوك في كبد المضائق غيلة | مثل النساء تربب الرئبالا |
ألا دعوت أبا فراس أنه | ممن إذا طلب الممنع نالا |
وردت بعيد الفوت أرضك خيله | سرعا كأمثال القطا إرسالا |
زلل من الأيام فيك يقيله | ملك إذا عثر الزمان أقالا |
ومعود فك العناة مداوم | قتل العداة إن استغار أطالا |
ما زال سيف الدولة القرم الذي | يكفي الجسيم ويحمل الأثقالا |
بالخيل ضمرا والسيوف قواضبا | والسمر لدنا والرجال عجالا |
وغدا تزورك بالفكاك خيوله | متناقلات تنقل الأبطالا |
إن ابن عمك ليس يغفل انه | اجتاح الملوك وفكك الأغلالا |
وكتب إلى أبي العشائر الحسين بن علي بن الحسين بن حمدان أيضا وهو أسير بأرض الروم يذكر طلبه له ووصوله إلى مرعش في أثره ولم يلحقه:
نفى النوم عن عيني خيال مسلم | تأوب من أسماء والركب نوم |
ومر جملة منها عند الكلام على شعره وأدبه وأسلوبه يقول فيها:
وأترك إن أبكي عليك تطيرا | وقلبي يبكي والجوانح تلطم |
وإن جفوني إن ونت للئيمة | وان فؤادي إن سلوت لالأم |
سأبكيك ما أبقى لي الدهر مقلة | فان عزني دمع فما عزني دم |
وحكمي بكاء الدهر فيما ينوبني | وحكم لبيد فيه حول محرم |
وما نحن إلا وائل مهلهل | صفاء وإلا مالك ومتمم |
وإني وإياه لعين وأختها | واني وإياه لكف ومعصم |
تهين علينا الحرب نفسا عزيزة | إذا عاضنا عنها الثناء المتمم |
وندعو كريما من يجود بماله | ومن جاد بالنفس النفيسة أكرم |
وما الأسر غرم والبلاء محمد | وما النصر غنم والفرار مذمم |
لعمري لقد أعذرت لو إن مسعدا | وأقدمت لو إن الكتائب تقدم |
وما عابك ابن السابقين إلى العلى | تأخر أقوام وأنت مقدم |
دعوت خلوفا حين تختلف القنا | وناديت صما عنك حين تصمم |
إذا لم يكن ينجي الفرار من الردى | على حالة فالصبر أحجى وأحزم |
وما لك لا تلقى بمهجتك القنا | وأنت من القوم الذين هم هم |
ونحن أناس لا تزال سراتنا | لها مشرب مر المذاق ومطعم |
لعا يا أخي لأمسك السوء انه | هو الدهر في حاليه بؤسى وانعم |
وما ساءني إني مكانك عانيا | أسلم نفسي للأسار وتسلم |
طلبتك حين لم أجد لي مطلبا | وأقدمت حتى قل من يتقدم |
وما قعدت بي عن لحاقك همة | ولكن قضاء فأتني فيك مبرم |
فإن جل هذا الأمر فالله فوقه | وان عظم المطلوب فالله أعظم |
ولو إنني وفيت رزءك حقه | لما خط لي كف ولا قال لي فم |
المراسلة بينه وبين جابر
ابن ناصر الدولة
كتب إلى أبي المرجى جابر بن ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان من أبيات:
لو لم تقلدني الليالي منة | إلا مودته إذن لكفاها |
جربت منه خلائقا وطرائقا | لا يطلب الأخ من أخيه سواها |
فإذا تخيرت الجماعة كلها | أمسى وأصبح شيخها وفتاها |
أثني الضلوع على جوى وشفاؤها | إني أفاوضك الحديث شفاها |
على الزمان يعود وقتا عله | وعسى الليالي إن تديل عساها |
المراسلة بينه وبين القاضي
أبي الحصين الرقي
كتب إلى القاضي أبي الحصين علي بن عبد الملك الرقي القاضي قاضي سيف الدولة بحلب وقد عزم على المسير إلى الرقة من أبيات أولها:
يا طول شوقي إن كان الرحيل غدا | لا فرق الله فيما بيننا أبدا |
يا من أصافيه في قرب وفي بعد | ومن أخالصه إن غاب أو شهدا |
راع الفراق فؤادا كنت تؤنسه | وذر بين الجفون الدمع والسهدا |
لا يبعد الله شخصا لا أرى إنسا | ولا تطيب لي الدنيا إذا بعدا |
أضحى وأضحيت في سر وفي علن | أعده والدا إذ عدني ولدا |
ما زال ينظر في البر مجتهدا | فضلا وأنظم فيه الشعر مجتهدا |
حتى اعترفت وعزتني فضائله | وفات سبقا وحاز الفضل منفردا |
إن قصر الجهد عن إدراك غايته | فاعذر الناس من أعطاك ما وجدا |
فأجابه القاضي أبو حصين بقصيدة أولها:
الحمد لله حمدا دائما أبدا | أعطاني الدهر ما لم يعطه أحدا |
إن كان ما قيل من سير الركاب غدا | حقا فاني أرى وشك الحمام غدا |
لولا الأمير وأن الفضل مبدأه | منه لقلت بان الفضل منك بدا |
دام البقاء له ما شاء مقتدرا | يمضي أوامره إن حل أو عقدا |
يذل أعداءه عزا ويرفع من | والاه فضلا ويبقى للملا أبدا |
وانشد القاضي أبو حصين أبا فراس شعرا فاستحسنه وأنشده أبو فراس شعرا فاستجاده فقال أبو فراس:
من بحر شعرك اغترف | وبفضل علمك اعترف |
أنشدتني فكأنما | شققت عن در صدف |
شعرا إذا ما قسته | بجميع أشعار السلف |
قصرن دون مداه | تقصير الحروف عن الألف |
فأخر القاضي الجواب فكتب إليه أبو فراس:
ويد براها الدهر غير ذميمة | تمحو إساءته إلي وتغفر |
أهدى إلي مودة من صاحب | تزكو المودة في ثراه وتثمر |
علقت يدي منه بعلق مضنة | مما يصان على الزمان ويذخر |
لكنني من بعض أمر عاتب | والحر يحتمل الصديق ويصبر |
وإذا وجدت على الصديق شكوته | سرا إليه وفي المحافل أشكر |
ما بال شعري لا يرد جوابه | سبحان عندك بأقل لا اعذر |
وكتب القاضي أبو الحصين إلى أبي فراس:
آليت إني ما حييت | رهين شكر الحارث |
فإذا المنية أشرفت | أورثت ذلك وارثي |
من بعد سيدنا الأمير | وليس ذاك لثالث |
قال أبو فراس فما أمكنني إن آتي على هذه القافية بشعر أرضاه فأجبته على غيرها وقد عارضته إلى بالس ليكون الاجتماع بها فقلت:
لئن جمعتنا غدوة ارض بالس | فان لها عندي يدا لا أضيعها |
أحب بلاد الله ارض تحلها | إلي ودار تحتويك ربوعها |
أفي كل يوم رحلة بعد رحلة | تجرع نفسي حسرة وتروعها |
فلي أبدا قلب كثير نزاعه | ولي أبدا نفس قليل نزوعها |
فان تدنني الأيام منك فإنما | أبيح لنفسي خصبها وربيعها |
وان عاق أمر لم أجد غير نطفة | من الصبر أعصي حسرتي وأطيعها |
ولا زلت في الحالين لابس نعمة | تطيب مجانيها وتزكو فروعها |
رعى الله ما بيني وبينك إنها | علائق حب لا يرام منيعها |
كيف السبيل إلى طيف يزاوره | والنوم في جملة الأحباب هاجره |
أنا الذي إن صبا أو شفه غزل | فللعفاف وللتقوى مآزره |
ما بال ليلي لا تسري كواكبه | وطيف عزة لا يعتاد زائره |
يا ساهرا لعبت أيدي الفراق به | فالصبر خاذله والدمع ناصره |
إن الحبيب الذي هام الفؤاد به | ينام عن طول ليل أنت ساهره |
ما انس لا انس يوم البين موقفنا | والشوق ينهى البكا عني ويأمره |
وقولها ودموع العين وأكفة | هذا الفراق الذي كنا نحاذره |
هل أنت يا رفقة العشاق مخبرتي | عن الخليط الذي زمت أباعره |
وهل رأيت إمام الحي جارية | كالجؤذر الفرد تقفوه جاذره |
وأنت يا راكبا يزجي مطيته | يستطرق الحي ليلا أو يباكره |
إذا وصلت فعرض بي وقل لهم | هل واعد الوعد يوم البين ذاكره |
ما أعجب الحب يمسي طوع جارية | في الحي من عجزت عنه مساعره |
يا أيها العاذل الراجي أنابته | والحب قد نشبت فيه أظافره |
لا تتعبن فما يدري لحرقته | أأنت عاذله أم أنت عاذره |
وراحل أوحش الدنيا برحلته | وان غدا معه قلبي يسايره |
هل أنت مبلغه عني بأن له | حبا تمكن في قلبي يجاوره |
وإنني من صفت منه سرائره | وصح باطنه منه وظاهره |
وما أخوك الذي يدنو به نسب | لكن أخوك الذي تصفو ضمائره |
وإنني واصل من أنت واصله | وإنني هاجر من أنت هاجره |
ولست واجد شيء أنت عادمه | ولست غائب شيء أنت حاضره |
أبا حصين وخير القول أصدقه | أنت الصديق الذي طابت مخابره |
وافى كتابك مطويا على نزه | يحار سامعه فيه وناظره |
لولا اعتذار أخلائي بك انصرفوا | بوجه خزيان لم تقبل معاذره |
أين الخليل الذي يرضيك باطنه | مع الخطوب كما يرضيك ظاهره |
أما الكتاب فاني لست أذكره | إلا تبادر من دمعي بوادره |
يجري الجمان على مثل الجمان به | وينثر الدر فوق الدر ناثره |
والعين ترتع فيما خط كاتبه | والسمع ينعم فيما قال شاعره |
أنا الذي لا يصيب الدهر غرته | ولا يبيت على خوف مجاوره |
يمسي وكل بلاد حلها وطن | وكل قوم غدا فيهم عشائره |
وما تمد له الإطناب في بلد | إلا تضعضع باديه وحاضره |
إني لأرعى حمى الجبار مقتدرا | وأورد الماء قهرا وهو حاضره |
لي التخير مشتطا ومنتصرا | وللأفاضل بعدي ما أغادره |
وكيف ينتصف الأعداء من رجل | العز أوله والمجد آخره |
فمن سعيد بن حمدان ولادته | ومن علي بن عبد الله سائره |
القائل الفاعل المأمون نبوته | والسيد الذائد الميمون طائره |
بنى لنا العز مرفوعا دعائمه | وشيد المجد مشتدا مرائره |
فما فضائلنا إلا فضائله | ولا مفاخرنا إلا مفاخره |
زاكي الأصول كريم النبعتين ومن | زكت أوائله طابت أواخره |
لقد فقدت أبي طفلا فكان أبي | من الرجال كريم العود ناضره |
هو ابن عمي دنيا حين انسبه | لكنه لي مولى لا أناكره ما |
زال لي نجوة مما أحاذره | لا زال في نجوة مما يحاذره |
وإنما وقت الدنيا موقيها | منه وعمر للإسلام عامره |
هذا كتاب مشوق القلب مكتئب | لم يال ناظمه جهدا وناثره |
وقد سمحت غداة البين مبتدئا | من الجواب بوعد أنت ذاكره |
بقيت ما غردت ورق الحمام وما | استهل من واكف الوسمي باكره |
حتى تبلغ أقصى ما تؤمله | من الأمور وتكفى ما تحاذره |
فأجابه القاضي أبو حصين بقوله من قصيدة:
من واثب الدهر كان الدهر قاهره | ومن شكا ظلمة قلت نواصره |
إن كان سار فان الروح تذكره | والعين تبصره والقلب حاضره |
يا من أخالصه ودي وأمحضه | نصحي وتأتيه من وصفي جواهره |
أتى كتابك والأنفاس خافتة | والجسم مستسلم والسقم قاهره |
والطرف منكسر والشوق طارقه | والوجد باطنه والصبر ظاهره |
فانتاشني وأعاد الروح في بدني | وشد صدعا وكسرا أنت جابره |
منها في سيف الدولة:
حسبي بسيدنا فخرا أصول به | هو الفخور وما خلق يفاخره |
من ذا يطاوله أم من يماجده | أم من يساجله أم من يكاثره |
أم من يقاربه في كل مكرمة | أم من يناضله أم من يساوره |
الحرب نزهته وإلباس همته | والسيف عزمته والله ناصره |
والجود لذته والشكر بغيته | والعفو والعرف والتقوى ذخائره |
ومنها:
هذا جواب عليل لا حراك به | قد خانه فهمه بل مات خاطره |
يشكو إليك بعادا عنك أتلفه | وطول شوق ونيرانا تخامره |
إن كان قصر فيما قال مجتهد | فأنت بالعدل والإحسان عاذره |
وكان للقاضي أبي حصين ابنان أبو الحسن وأبو الهيثم فقتل أبو الحسن ثم أسر أبو الهيثم من حمص فكتب إليه أبو فراس من الأسر:
يا قرح لم يندمل الأول | فهل بقلبي لكما محمل |
جرحان في جسم ضعيف القوى | حيث أصابا فهو المقتل |
تقاسم الأيام أحبابا | وقسمها الأفضل فالأفضل |
فليتها إذ أخذت قسمها | عن قسمنا تغمض أو تغفل |
ففدية المأسور مقبولة | وفدية المقتول لا تقبل |
لا تعدمن الصبر في حالة | فإنه للخلق الأجمل |
وعشت في عز وفي نعمة | وجدك المقتبل المقبل |
وكتب إلى القاضي أبي الحصين عند أسر ابنه أبي الهيثم:
أيا راكبا نحو الجزيرة جسرة | عذافرة إن الحديث شجون |
من الموخدات الضمر اللاء وخدها | كفيل بحاجات الرجال ضمين |
تحمل إلى القاضي سلامي وقل له | إلا إن قلبي مذ حزنت حزين |
وإن فؤادي لافتقاد أسيره | أسير بأيدي الحادثات رهين |
أحاول كتمان الذي بي من الأسى | وتأبى غروب ستره وشؤون |
لعل زمانا بالمسرة ينثني | وعطفة دهر باللقاء تكون |
ألا لا يرى الأعداء فيك غضاضة | فللدهر بؤس قد علمت ولين |
وأعظم ما كانت همومك تنجلي | وأصعب ما كان الزمان يهون |
وفي بعض من يلقي إليك مودة | عدو إذا كشفت عنه مبين |
إذا غير البعد الهوى فهوى أبي | حصين منيع في الفؤاد حصين |
فلا برحت بالحاسدين كآبة | ولا رقات للشامتين عيون |
المراسلة بينه وبين محمد بن أفلح الكاتب
كتب محمد بن أفلح الكاتب إلى أبي فراس كتابا فيه نظم ونثر فاستحسن أبو فراس نظمه ونثره وأجابه بقوله:
وافى كتابك مطويا على نزه | تقسم الحسن بين السمع والبصر |
جزل المعاني رقيق اللفظ مونقه | كالماء يخرج ينبوعا من الحجر |
وروضة من رياض الفكر دبجها | صوب القرائح لا صوب من المطر |
كأنما نشرت يمناك بينهما | بردا من الوشي أو ثويا من الحبر |
ومر في أخباره المراسلة بينه وبين بني ورقاء.
الصفات والتشبيهات
قال يصف نارا في الشتاء:
لله برد ما أشد | ومنظر ما كان أعجب |
جاء الغلام بنارة | هوجاء في فحم تلهب |
فكأنما جمع الحلي | فمحرق منه ومذهب |
وقال يصف السحاب:
وزائر حببه إغبابه | طال على رغم الثرى اجتنابه |
جاءت به مسبلة هدابه | ركب حياة والصبا ركابه |
باك حنين رعده انتحابه | حتى إذا ما اتصلت أسبابه |
وضربت على الثرى قبابه | وامتد في أرجائه اطنابه |
وشرقت بمائه شعابه | جلي عن وجه الثرى اكتئابه |
وحليت في نورها رحابه | كأنما الماء انجلى منجابه |
وقال من قصيدة:
وكأنما فيها الثريا إذ بدت | كف تشير إلى الذي تهواه |
والبدر منتصف الضياء كأنه | متبسم بالكف يستر فاه |
وقال:
ويوم جلا فيه الربيع رياضه | بأنواع حلي فوق أثوابه الخضر |
كأن ذيول الجلنار مطلة | فضول ذيول الغانيات من الأزر |
وقال:
والجو ينثر درا غير منتظم | والأرض بارزة في ثوب كافور |
والنرجس الغض يحكي حسن منظره | صفراء صافية في كأس بلور |
وقال وقد عقد الجسر بمنبج
كأنما الماء عليه الجسر | درج بياض خط فيه سطر |
كأننا لما استتب العبر | أسرة موسى يوم شق البحر |
وقال يصف البرك والروض:
وكأنما البرك الملاء يحفها | أنواع ذاك الروض والزهر |
بسط من الديباج بيض فروزت | أطرافها بفراوز خضر |
وقال من قصيدة تقدمت:
والماء يفصل بين زهر | الروض في الشطين فصلا |
كبساط وشي جردت | أيدي القيون عليه نصلا |
وجلس يوما في البستان البديع والماء يتدرج في البرك فقال في وصفه وساقه ما اعتاده من رؤية آلة الحرب دائما إلى ذكر السيوف والدروع:
أنظر إلى زهر الربيع | والماء في برك البديع |
وإذا الرياح جرت عليه | في الذهاب وفي الرجوع |
نثرت على بيض الصفائح | بيننا حلق الدروع |
وقال يصف الجلنار:
وجلنار مشرف (مشرق) | على أعالي شجره |
كأن في رؤوسه | أحمره وأصفره |
قراضة من ذهب | في خرق معصفرة |
وقال:
وبقعة من أحسن البقاع | يبشر الرائد فيها الراعي |
بالخصب والمرتع والوساع | كأن ما يستر وجه القاع |
من سائر الألوان والأنواع | ما نسج الروم لذي الكلاع |
من صنعة الخالق لا الصناع | والماء ينحط من التلاع |
كما تسل البيض للقراع | وغرد الحمام للسماع |
وقال:
إلى إن بدا ضوء الصباح كأنه | مبادي نصول في عذار خصيب |
وقال يصف البازي:
كأن فوق صدره والهادي | آثار مشي الذر في الرماد |
وقال في الناقة:
كأن أعالي رأسها وسنامها | منارة قسيس قرابة هيكل |
ما قاله في الشيب
قال من قصيدة:
وقوفك في الديار عليك عار | وقد رد الشباب المستعار |
وقال:
وها أنا قد حلى الزمان مفارقي | وتوجني بالشيب تاجا مرصعا |
وقال من أبيات:
أخذت في تطلب العلات | لي لما رأت مشيب شواتي |
يا لشيب العذار والرأس ما | يفعل في العاشقين والعاشقات |
ظهرت في مفارقي شعرات | هن بغضنني إلى الغانيات |
عجل الشيب في عذاري وهذا | شاهد بالمشيب في لذاتي |
وقال:
شعرات في الرأس بيض وسود | حل رأسي جيشان روم وزنج |
وقال:
فما للغواني إذ علا الشيب مفرقي | يعللن قلبي بالأماني الكواذب |
أراهن يبدين الصدود عن الفتى | إذا ما بدا الشيب الذي في الذوائب |
وقال من قصيدة:
رأيت الشيب لاح فقلت أهلا | وودعت الغواية والشبابا |
وما إن شبت من كبر ولكن | لقيت من الأحبة ما أشابا |
بعثن من الهموم إلي ركبا | وصيرني الصدود له ركابا |
وقال من أخرى:
عذيري من طوالع في عذاري | ومن ود الشباب المستعار |
وثوب كنت ألبسه أنيق | اجرر ذيله بين الجواري |
وما زادت عن العشرين سني | فما عذر المشيب إلى عذاري |
وما استمتعت من داعي التصابي | إلى إن جاءني داعي الوقار |
فيا شيبي ظلمت ويا شبابي | لقد جورت منك بشر جار |
أمرت بقصه وكففت عنه | وقر على تحمله قراري |
وقلت الشيب أهون ما ألاقي | من الدنيا وأيسر ما إداري |
ولا يبقى رقيق الفجر حتى | يضم عليه منبلج النهار |
وكم من زائر بالكره مني | كرهت فراقه بعد المزار |
وقال:
ألم ينهك الشيب الذي حل نازلا | وللشيب بعد الجهل للمرء رادع |
وقال:
ما إن أن ارتاع | للشيب المفوف في عذاري |
واكف عن سبل الضلال | وأكتسي ثوب الوقار |
أم قد أمنت الحادثات | من الغوادي والسواري |
إني أعوذ بحسن عفو | الله من سوء اختياري |
ما قاله في الطيف والخيال
وقال:
أشاقك الطيف ألم طارقه | آخر ليل لم ينمه عاشقه |
وإنجاب من ثوب الظلام غاسقه | من بعد ما سر مشوقا شائقه |
وقال:
ألم بنا وجنح الليل داج | خيال زار وهنا من نوار |
أباخلة علي وأنت جار | وواصلة على بعد المزار |
وقال:
وطيف زارني وهنا وحيا | فقمت له على عيني ورأسي |
يصارمني نهارا وهو ليلا | يواصلني مواصلة اختلاس |
فيطعمني ويؤنسني هواه | فأهلك بين أطماع ويأس |
التشوق إلى الأهل والأوطان
قال بعد نزوله منبج من ارض الجزيرة يتشوق بلاد الروم وأصحابه بها:
أقناعة من بعد طول جفاء | بدنو طيف من حبيب نائي |
بأبي وأمي شادن قلت له | نفديك بالأمهات والآباء |
وجناته تجني على عشاقه | ببديع ما فيها من اللألاء |
بيض عليها حمرة فتوردت | مثل المدام مزجتها بالماء |
فكأنما برزت لنا بغلالة | بيضاء تحت غلالة حمراء |
كيف اتقاء لحاظه وعيوننا | طرق لاسهمها إلى الأحشاء |
صبغ الحيا خديه لون مدامعي | فكأنه يبكي بمثل بكائي |
كيف اتقاء جآذر يرميننا | بظبى الصوارم من عيون ظباء |
يا رب تلك المقلة النجلاء | حاشاك مما ضمنت أحشائي |
جازيتني بعدا بقربي في الهوى | ومنحتني غدرا بحسن وفائي |
جادت عراصك يا شآم سحابة | عراضة من أصدق الأنواء |
تلك المجانة والخلاعة والصبا | ومحل كل فتوة وفتاء |
أنواع زهر والتفاف حدائق | وصفاء ماء واعتدال هواء |
وخرائد مثل الدمى يسقيننا | كأسين من لحظ ومن صهباء |
وإذا أدرن على الندامى كأسها | غنيننا شعر ابن أوس الطائي |
(أراح إذا ما الراح كن مطيها | كانت مطايا الشوق في الأحشاء) |
فارقت حين شخصت عنها لذتي | وتركت أحوال السرور ورائي |
ونزلت من بلد الجزيرة منزلا | خلوا من الخلطاء والندماء |
فيمر عندي كل طعم طيب | من ريقها ويضيق كل فضاء |
الشام لا بلد الجزيرة لذتي | وقويق لا ماء الفرات منائي |
وأبيت مرتهن الفؤاد بمنبج | السوداء لا بالرقة البيضاء |
من مبلغ الندماء إني بعدهم | أمسي نديم كواكب الجوزاء |
ولقد رعيت فليت شعري من رعى | منكم على بعد الديار اخائي |
وقال يذكر أهله بالموصل:
سلام رائح غادي | على ساكنة الوادي |
على من حبها الهادي | إذا ما زرت والحادي |
أحب البدو من أجل | غزال فيهم بادي |
ألا يا ربة الحلي | على العاتق والهادي |
لقد أبهجت أعدائي | وقد أشمت حسادي |
بسقم ما له راق | وأسر ما له فادي |
فما انفك من ذكرا | ك في نوم وتسهاد |
بشوق منك معتاد | وطيف غير معتاد |
ألا يا زائر الموصل | حي ذلك النادي |
فبالموصل أخواني | وبالموصل اعضادي |
كفاني سطوة الدهر | جواد نسل أجواد |
وقاه الله فيما عاش | شر الزمن العادي |
شكوى الإخوان والزمان
يظهر من كثير من شعره تبرمه بالزمان وسخطه عليه وتبرمه بالإخوان ولا غرو فشكوى الزمان عادة أكثر أهل الهمم العالية والنفوس الكبيرة ونذكر هنا ما هو من هذا النوع مع ذكر أكثره في أثناء ما مر من شعره ولزوم بعض التكرير قال:
ولما تخيرت الأخلاء لم أجد | صبورا على حفظ المودة والعهد |
سليما على طي الزمان ونشره | أمينا على النجوى صحيحا على البعد |
ولما أساء الظن بي من جعلته | وإياي مثل الكف نيطت إلى الزند |
حملت إلى ظني به سوء ظنه | وأيقنت إني في الإخاء له وحدي |
وقال من قصيدة:
فلست أرى إلا عدوا محاربا | وآخر خير منه عندي المحارب |
وقال:
إلى الله أشكو ما أرى من عشيرة | إذا ما دنونا زاد حالهم بعدا |
ونغلب بالحلم الحمية فيهم | ونرعى رجالا ليس ترعى لنا عهدا |
وقال:
يمضي الزمان وما عمدت لصاحب | إلا ظفرت بصاحب خوان |
يا دهر خنت مع الأصادق خلتي | وغدرت بي في جملة الإخوان |
وقال:
صاحب لما أساء | اتبع الدلو الرشاء |
رب داء لا أرى منه | سوى الصبر شفاء |
أحمد الله على ما | سر من أمري وساء |
وقال من قصيدة:
في كل يوم صاحب أفارقه | وصاحب لم إبله أصادقه |
هذا زمان شرست خلائقه | وخبثت على الفتى طرائقه |
أعدى أعادي به أصادقه | اخلص من توده تنافقه |
فكل ما يسؤوه تفارقه | وكلما يسره توافقه |
إن طرقت من زمن طوارقه | أو عاق عن بعض هواه عائقه |
أنبأني بغله حمالقه
وقال من قصيدة تقدمت:
أما صاحب فرد يدوم وفاؤه | فيصفي لمن أصفى ويرعى لمن رعى |
أفي كل دار لي صديق أوده | إذ ما تفرقنا حفظت وضيعا |
أقمت بأرض الروم عامين لا أرى | من الناس محزونا ولا متصنعا |
وإن أوجعتني من أعادي شيمة | لقيت من الأحباب أدهى وأوجعا |
وقال من قصيدة:
أعيا علي أخ وثقت بوده | وأمنت في الحالات صولة غدره |
وخبرت هذا الدهر خبرة ناقد | حتى علمت بخيره وبشره |
لا اشتري بعد التجارب صاحبا | إلا وددت بأنني لم أشره |
من كل معتذر يقر بذنبه | فيكون أعظم ذنبه من عذره |
ويجئ طورا ضره في نفعه | جهلا وطورا نفعه في ضره |
فصبرت لم اقطع حبال وداده | وسترت منه ما استطعت بستره |
واخ أطعت فما رأى لي طاعتي | حتى خرجت بأمره عن أمره |
وتركت حلو العيش لم أحفل به | لما رأيت أعزه في مره |
وقال:
مالي أعاتب ما لي أين يذهب بي | قد صرح الدهر لي بالمنع واليأس |
أبغي الوفاء بدهر لا وفاء له | كأنني جاهل بالدهر والناس |
وقال:
يضن زماني بالثقات وإنني | بسري على غير الثقات ضنين |
ألا ليت شعري هل أنا الدهر وأجد | قرينا له حسن الوفاء قرين |
فأشكو ويشكو ما بقلبي وقلبه | كلانا على نجوى أخيه أمين |
وقال من قصيدة:
صبرت على اللأواء صبر ابن حرة | كثير العدى فيها قليل المساعد |
وقال من قصيدة تقدمت:
تدافعني الأيام عما أرومه | كما دفع الدين الغريم المماطل |
ولكنها الأيام تجري بما جرت | فيسفل أعلاه وتعلو الأسافل |
لقد قل من تلقى من الناس مجملا | وأخشى قريبا إن يقل المجامل |
وقال من قصيدة تقدمت:
بمن يثق الإنسان فيما ينوبه | ومن أين للحر الكريم صحاب |
وقد صار هذا الناس إلا أقلهم | ذئابا على أجسادهن ثياب |
الحكم والآداب والزهد والمواعظ
قال من أبيات تقدمت:
تعس الحريص وقل ما يأتي به | عوضا عن الإلحاح والإلحاف |
إن الغني هو الغني بنفسه | ولو أنه عاري المناكب حافي |
ما كل ما فوق البسيطة كافيا | وإذا قنعت فكل شيء كافي |
وقال من قصيدة مر جملة منها:
دع الوطن المألوف رابك أهله | وعد عن الأهل الذين تكاثروا |
فأهلك من أصفى وودك ما صفا | وان نزحت دار وقلت عشائر |
لعمرك ما الإبصار تنفع أهلها | إذا لم يكن للمبصرين |
بصائر وهل ينفع الخطي غير مثقف | وتظهر إلا بالصقال الجواهر |
وكيف ينال المجد والجسم وادع | وكيف يحاز الحمد والوفر وافر |
وقال من قصيدة مرت:
وما راح يطغيني بأثوابه الغنى | ولا بات يثنيني عن الكرم الفقر |
وما حاجتي في المال أبغي وفوره | إذا لم يفر عرضي فلا وفر الوفر |
هو الموت فاختر ما علا لك ذكره | فلم يمت الإنسان ما حيي الذكر |
ولا خير في دفع الردى بمذلة | كما ردها يوما بسوءته عمرو |
وقال:
غنى النفس لمن يعقل | خير من غنى المال |
وفضل الناس في الأنفس | ليس الفضل في الحال |
وقال من قصيدة مرت:
ومن لم يوق اله فهو ممزق | ومن لم يعز اله فهو ذليل |
ومن لم يرده الله في الأمر كله | فليس لمخلوق إليه سبيل |
وإن هو لم ينصرك لم تلق ناصرا | وان جل نصار وعز قبيل |
وإن هو لم يدلك في الأمر كله | ضللت ولو إن السماك دليل |
وقال ولا يوجدان في الديوان المطبوع:
أنا إن عللت نفسي | بطبيب ودواء |
عالم إن ليس إلا | بيد الله شفائي |
وقال:
أما يردع الموت أهل النهى | ويمنع عن غيه من غوى |
أما عالم عارف بالزمان | يروح ويغدو قصير الخطى |
فيا لاهيا آمنا والحمام | إليه سريع قريب المدى |
يسر بشيء كأن قد مضى | ويأمن شيئا كان قد أتى |
إذا ما مررت بأهل القبور | تيقنت انك منهم غدا |
وإن العزيز بها والذليل | سواء إذا سلما للبلى |
غريبين ما لهما مؤنس | وحيدين تحت طباق الثرى |
فلا أمل غير عفو الإله | ولا عمل غير ما قد مضى |
فإن كان خيرا فخير ينال | وان كان شرا فشر يرى |
وقال من أبيات:
نسيبك من ناسبت بالود قلبه | وجارك من صافيته لا المصاقب |
وأعظم أعداء الرجال ثقاتها | وأهون من عاديته من تحارب |
لقد زدت بالأيام والناس خبرة | وجربت حتى هذبتني التجارب |
وما الذنب إلا العجز يركبه الفتى | وما ذنبه إن حاربته المطالب |
ومن كان غير السيف كافل رزقه | فللذل منه لا محالة جانب |
وما أنس دار ليس فيها مؤانس | وما قرب دار ليس فيها مقارب |
وقال:
وكنت إذا جعلت الله | لي سترا من النوب |
رمتني كل حادثة | فاخطتني ولم تصب |
وقال من قصيدة مرت:
إذا الله لم يحرزك فيما تخافه | فلا الدرع مناع ولا السيف قاضب |
ولا سابق مما تنخلت سابق | ولا صاحب مما تخيرت صاحب |
وهل يدفع الإنسان ما هو واقع | وهل يعلم الإنسان ما هو كاسب |
وهل لقضاء الله في النفس غالب | وهل من قضاء الله في الناس هارب |
وقال:
يا معجبا بنجومه | لا النحس منك ولا السعادة |
الله ينقص ما يشاء | ومن يد الله الزيادة |
دع ما تريد وما أريد | فإن لله الإرادة |
وقال:
لا تؤثرن دنو دار | من حبيب أو معاشر |
أبقى لأسباب المودة | إن تزور ولا تجاور |
وقال:
هل ترى النعمة دامت | لصغير أو كبير |
أو ترى أمرين جاءا | أولا مثل أخير |
إنما تجري التصاريف | بتقليب الأمور |
ففقير من غني | وغني من فقير |
وقال:
المرء ليس بغانم في أرضه | كالصقر ليس بصائد في وكره |
أنفق من الصبر الجميل فإنه | لم يخش فقرأ منفق من صبره |
وأحلم إذا سفه الجليس وقل له | حسن المقال إذا أتاك بهجره |
وأحب أخواني إلي أبشهم | بصديقه في سره أو جهره |
لا خير في بر الفتى ما لم يكن | أصفى مشارب بره في بشره |
يا رب مضطغن الفؤاد لقيته | بطلاقة فملكت ما في صدره |
وقال:
ولا أرضى الفتى ما لم يكمل | برأي الكهل إقدام الغلام |
بنو الدنيا إذا ماتوا سواء | ولو عمر المعمر ألف عام |
وقال:
وأعظم ما كانت همومك تنجلي | وأصعب ما كان الزمان يهون |
وفي بعض من يلقي إليك مودة | عدوا إذا كشفت عنه مبين |
ألا ليت شعري هل أنا الدهر واجد | قرينا له حسن الثناء قرين |
وقال:
خفض عليك ولا تكن قلق الحشى | مما يكون وعلة وعساه |
فالدهر اقصر مدة مما ترى | وعساك إن تكفى الذي تخشاه |
وقال:
عرفت الشر لا للشر | لكن لتوقيه |
ومن لا يعرف الشر | من الناس يقع فيه |
وقال:
المرء نصب مصائب لا تنقضي | حتى يوارى جسمه في رمسه |
فمؤجل يلقى الردى في غيره | ومعجل يلقى الردى في نفسه |
وقال:
ما صاحبي إلا الذي من بشره | عنوانه في وجهه ولسانه |
كم صاحب لم أغن عن إنصافه | في عسره وغنيت عن إحسانه |
وقال:
ما كنت مذ كنت إلا طوع خلاني | ليست مؤاخذة الإخوان من شأني |
يجني الخليل فاستحلي جنايته | حتى أدل على عفوي وإحساني |
ويتبع الذنب ذنبا حين يعرفني | عمدا فاتبع إحسانا بإحسان |
إذا خليلي لم تكثر إساءته | فأين موضع إحساني وغفراني |
يجني علي وأحنو دائما أبدا | لا شيء أحسن من حان على جاني |
وقال:
لست بالمستضيم من هو دوني | اعتداء ولست بالمستضام |
رب أمر عففت عنه اختيارا | حذرا من أصابع الأيتام |
ابذل الحق للخصوم إذا ما | عجزت عنه قدرة الحكام |
وقال:
أحذر مقاربة اللئام فإنه | ينبيك عنها في الأمور مجرب |
قوم إذا أيسرت كانوا إخوة | وإذا تربت تفرقوا وتجنبوا |
اصبر على ريب الزمان فإنه | بالصبر تدرك كلما تتطلب |
وقال:
لن للزمان وان صعب | وإذا تباعد فاقترب |
لا تتعبن من غالب | الأيام كان لها الغلب |
وقال:
ليس جودا عطية بسؤال | قد يهز السؤال غير الجواد |
إنما الجود ما أتاك ابتداء | لم تذق فيه ذلة الترداد |
وقال:
إذا كان فضلي لا أسوع نفعه | فافضل منه إن أرى غير فاضل |
ومن أضيع الأشياء مهجة عاقل | يجوز على حوبائها حكم جاهل |
وقال في المزاح وكتبهما على ظهر الجزء الذي فيه الطردية:
أروح القلب ببعض الهزل | تجاهلا مني بغير جهل |
أمزح فيه مزح أهل الفضل | والمزح أحيانا جلاء العقل |
وقال وليست في الديوان المطبوع:
الدهر يومان ذا ثبت وذا زلل | والعيش طعمان ذا مر وذا عسل |
كذا الزمان فما في نعمة بطر | للعارفين وما في نقمة فشل |
وما الهموم وان حاذرت ثابتة | ولا السرور وان أملت متصل |
فما الأسى بهموم لا بقاء لها | وما السرور بنعمى سوف تنتقل |
والمرء يفنى ولا تفنى مآربه | تشب فيه اثنتان الحرص والأمل |
وقال:
ألا فاصبري لخطوب الزمان | وكوني على حكمه صابره |
فنقصان حظك في هذه | برجحان حظك في الآخرة |
فما أنت في ذاك مغبونة | وإن سادت المحن الحاضرة |
فصفقة من باع دار البقاء | بدار الفناء هي الخاسرة |
وقال:
كيف يرجى الصلاح من أمر قوم | ضيعوا الحزم فيه أي ضياع |
فمطاع المقال غير سديد | وسديد المقال غير مطاع |
وقال:
أيا قلبي أما تخشع | أيا علمي أما تنفع |
أما حقي أن أنظر | في الدنيا وما تصنع |
إذا شيعت أمثالي | إلى ضيق من المضجع |
أما أعلم إن لا بد | لي من ذلك المصرع |
أيا غوثاه بالله | لهذا الأمر ما أفظع |
وقال:
يا من أتانا بظهر الغيب قولهم | لو شئت غاظتكم منا الأقاويل |
لكن أرى إن في الأقوال منقصة | ما لم تشد الأقاويل الأفاعيل |
وقال من قصيدة:
لا أصحب الخوف ولا أرافقه | والموت حتم كل حي ذائقه |
ما أنا إن رمت النجاة سابقه | وصاحب لم إبله أصادقه |
إني على علاته أرافقه | اصفي له الود ولا أماذقه |
يأمنني وان بدت بوائقه | ويضمر السوء وحسبي خالقه |
وقال:
في الناس إن فتشتهم | من لا يعزك أو تذله |
فأترك مجاملة اللئيم | فان فيها العجز كله |
وقال:
الحر يصبر ما أطاق تصبرا | في كل آونة وكل زمان |
ويرى مساعدة الكرام مروءة | ما سلمته نوائب الحدثان |
ما كلف الإنسان إلا وسعه | والله نص به على الإنسان |
وإذا نبا بي منزل فارقته | والله يلطف بي بكل مكان |
وإذا تغير صاحب صارمته | وصرفت عنه عند ذاك عناني |
وقال:
فعل الجميل ولم يكن من قصده | فقبلته وقرنته بذنوبه |
ولرب فعل جاءني من فاعل | أحمدته وذممت ما يأتي به |
ما كان من الحكم بيتا واحدا
إذا كان غير الله للمرء عدة | أتته الرزايا من وجوه الفوائد |
ويبقى اللبيب له عدة | لوقت الرضا في أوان الغضب |
عداوة ذي القربى أشد مضاضة | على المرء من وقع الحسام المهند |
عفافك عني إنما عفة الفتى | إذا عف عن لذاته وهو قادر |
وما أخوك الذي يدنو به سبب | لكن أخوك الذي تصفو ضمائره |
وإذا المنية أقبلت لم يثنها | حرص الحريص وحيلة المحتال |
تلك سجايا من الليالي | للبؤس ما يخلق النعيم |
وإن انفراد المرء في كل مشهد | لخير من استصحاب من لا يلائمه |
إذا لم يكن ينجي الفرار من الردى | على حالة فالصبر أحجى واحزم |
وأنا لنرمي الجهل بالجهل مرة | إذا لم نجد منه على حاله بدا |
في الحسد
لا باد أعداؤك بل خلدوا | حتى يروا فيك الذي يكمد |
ولا خلوت الدهر من حاسد | فإنما السيد من يحسد |
وقال وليسا في الديوان المطبوع:
تتقول الحساد في تكذبا | ويقال في المحسود ما لا يفعل |
يتطلبون إساءتي لا ريبتي | إن الحسود بما يسوء موكل |
وقال:
رمتني عيون الناس حتى أظنها | ستحسدني في الحاسدين الكواكب |
ما يجري مجرى الأمثال
من شعره
قال من قصيدة مرت:
وما كل طلاب من الناس بالغ | ولا كل سيار إلى المجد واصل |
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه | وإني لها فوق السماكين جاعل |
أصاغرنا في المكرمات أكابر | وآخرنا في المأثرات أوائل |
وقال من قصيدة مرت:
معللتي بالوصل والموت دونه | إذا مت عطشانا فلا نزل القطر |
ونحن أناس لا توسط بيننا | لنا الصدر دون العالمين أو القبر |
تهون علينا في المعالي نفوسنا | ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر |
ولا خير في دفع الردى بمذلة | كما ردها يوما بسوءته عمرو |
هو الموت فاختر ما علا لك ذكره | فلم يمت الإنسان ما حيي الذكر |
سيذكرني قومي إذا جد جدهم | وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر |
ولو سد غيري ما سددت اكتفوا به | وما كان يغلو التبر لو نفق الصفر |
وقال من قصيدة مرت:
كذاك الوداد المحض لا يرتجى له | ثواب ولا يخشى عليه عقاب |
إذا الخل لم يهجرك إلا ملالة | فليس له إلا الفراق عتاب |
إذا لم أجد في بلدة ما أريده | فعندي لأخرى عزمة وركاب |
وما كل فعال يجازى بفعله | ولا كل قوال لدى يجاب |
ورب كلام مر فوق مسامعي | كما طن في لوح الهجير ذباب |
فليتك تحلو والحياة مريرة | وليتك ترضى والأنام غضاب |
وليت الذي بيني وبينك عامر | وبيني وبين العالمين خراب |
إذا صح منك الود فالكل هين | وكل الذي فوق التراب تراب |
وقال من قصيدة مرت:
ومن مذهبي حب الديار وأهلها | وللناس فيما يعشقون مذاهب |
فكم يطفئون المجد والله موقد | وكم ينقصون الفضل والله واهب |
وهل يدفع الإنسان ما هو واقع | وهل يعلم الإنسان ما هو كاسب |
وهل يرتجى للأمر إلا رجاله | ويسأل صوب المزن إلا السحائب |
فمن لم يجد بالنفس دون حبيبه | فما هو إلا مأذق الحب كاذب |
وما أنا من كل المطاعم طاعم | ولا أنا من كل المشارب شارب |
ولا السيد القمقام عندي بسيد | إذا استنزلته من علاه الرغائب |
وقال من قصيدة مرت:
يريغون العيوب وأعجزتهم | وأي العيب يوجد في الحسام |
بنو الدنيا إذا ماتوا سواء | ولو عمر المعمر ألف عام |
وقال:
وما نحن الأوائل ومهلهل | صفاء وإلا مالك ومتمم |
وندعو كريما من يجود بماله | ومن جاد بالنفس النفيسة أكرم |
وقال من قصيدة:
فما كل من شاء المعالي ينالها | ولا كل سيار إلى المجد يهتدي |
يقولون جانب عادة ما عرفتها | شديد على الإنسان ما لم يعود |
الأمثال من شعره في بيت واحد
وما يغنيك من همم طوال | إذا قرنت بأموال قصار |
عسفت بها عواري الليالي | أحق الخيل بالركض المعار |
لقد قنعوا بعدي من القطر بالندى | ومن لم يجد إلا القنوع تقنعا |
فرميت منك بغير ما أملته | والمرء يشرق بالزلال البارد |
دع ما أريد وما تريـ | ـد فإن لله الإرادة |
أقلب طرفي لا أرى غير صاحب | يميل مع النعماء حيث تميل |
إذا ما لم تخنك يد وقلب | فليس عليك خائنة الليالي |
لا يثبت العز على فرقة | غيرك بالباطل مخدوع |
إن قصر الجهد عن إدراك غايته | فاعذر الناس من أعطاك ما وجدا |
تلك سجايا من الليالي | للبؤس ما يخلق النعيم |
لا أطلب الرزق الدنيء مناله | قوت الهوان أقل من مقتاته |
وإذا المنية أقبلت لم يثنها | حرص الحريص وحيلة المحتال |
لقد قل إن تلقى من الناس مجملا | وأخشى قريبا إن يقل المجامل |
شعره في القصص والأخبار
كان أبو فراس ضليعا بالتواريخ والأخبار عالما بالقصص والآثار في الجاهلية والإسلام عارفا بأخبار العرب والفرس والروم وغيرهم ولا غرو فهو جليس مكتبة سيف الدولة الحافلة بألوف المجلدات في جميع الفنون التي كانت بإدارة الخالديين وفيها كتاب الأغاني وأمثاله وتلميذ ابن خالويه وغيره من علماء حضرة سيف الدولة المكتظة بفحول العلماء لذلك كثرت الإشارة في شعره إلى القصص والأخبار قال:
ومضطغن يحاول في عيبا | سيلقاه إذا سكنت وبار |
وأحسب أنه سيجر حربا | على قوم بنون لهم صغار |
كما خزيت براعيها نمير | وجر على بني أسد يسار |
وقال يخاطب سيف الدولة:
فإن مت بعد اليوم عابك مهلكي | معاب الزراريين مهلك معبد |
هم عضلوا عنه الفداء وأصبحوا | يهزون أطراف القريض المقصد |
ولم يك بدعا هلكه غير أنهم | يعابون إذ سيم الفداء فما فدي |
وقال يخاطب والدته:
وفارق عمرو بن الزبير شقيقه | وخلى أمير المؤمنين عقيل |
أمالك في ذات النطاقين أسوة | بمكة والحرب العوان تجول |
أراد ابنها أخذ الأمان فلم تجب | وتعلم علما انه لقتيل |
وكوني كما كانت بأحد صفية | ولم يشف منها بالبكاء غليل |
ولو رد يوما حمزة الخير حزنها | إذا لعلتها رنة وعويل |
وقال:
كما علمت من قبل إن يهلك ابنها | بمهلكه في الماء أم شبيب |
وللعار خلى رب غسان ملكه | وفارق دين اله غير مصيب |
وقال:
وقد جرت الحنفاء قتل حذيفة | وكان يراها عدة للشدائد |
وجرت منايا مالك بن نويرة | عقيلته الحسناء أيام خالد |
وقال من قصيدة مرت في الإخوانيات:
وحكمي بكاء الدهر فيما ينوبني | وحكم لبيد فيه حول محرم |
وقال: وفي طلب الثناء مضى بجير | وجاد بنفسه كعب بن مام |
فبنو كلاب وهي قل أغضبت | فدهت قبائل مسهر بن قنان |
وبنو عباد حين أحرج حارث | جروا التحالف في بني شيبان |
خلوا عديا وهو صاحب ثأرهم | كرما ونالوا الثأر بابن أبان |
والمسلمون بشاطئ اليرموك لما | أحرجوا عطفوا على باهان |
وحماة هاشم حين أحرج صيدها | جروا البلاء على بني مروان |
والتغلبيون احتموا من مثلها | فعدوا على العادين بالسلان |
وبغى على عبس حذيفة فاشتفت | منه صوارمهم ومن ذبيان |
وسراة بكر بعد ضيق فرقوا | جمع الأعاجم عن أنوشروان |
أبقت لبكر مفخرا وسمالها | من دون قومهما يزيد وهاني |
المانعين العنقفير بطعنهم | والثائرين بمقتل النعمان |
معانيه المبتكرة
أو شبه المبتكرة
منها قوله:
فآب برأس القرمطي أمامه | له جسد من أكعب الرمح ضامر |
وقوله:
كنت استصعب الجفاء فلما | بعدوا سهل البعاد الجفاء |
وقوله في وصف الخدود:
بيض عليها حمرة فتوردت | مثل المدام مزجتها بالماء |
فكأنما برزت لنا بغلالة | بيضاء تحت غلالة حمراء |
صبغ الحيا خديه لون مدامعي | فكأنه يبكي بمثل بكائي |
كيف اتقاء لحاظه وعيوننا | طرق لأسهمها إلى الأحشاء |
وقوله:
وأكتم الوجود وقد أصبحت | عيناي عينيه على قلبي |
قد كنت ذا صبر وذا سلوة | فاستشهدا في طاعة الحب |
وقوله:
إن يك غاب ليلة فجميل | ليس بد للبدر من إن يغيبا |
وقوله:
إلى إن بدا ضوء الصباح كأنه | مبادي نصول في عذار خضيب |
وقوله:
وما ضاقت مذاهبه ولكن | يهاب من الحمية إن يهابا |
وقوله:
غريب وأهلي حيث ما كر ناظري | وحيد وحولي من رجالي عصائب |
وقوله يخاطب سيف الدولة لما أوقع ببني نمير فخرجت إليه ابنة ماغت ووقعت على ركابه فصفح ورد السلب:
وقد خلط الخوف لما طلعت | دل الجمال بذل الرعب |
وقد رحن من مهجات القلوب | بأوفر غنم وأعلى نشب |
فإن لا يجدن برد القلوب | فلسنا نجود برد السلب |
وقوله:
إن الغزالة والغزالة أهدتا | وجها إليك إذا طلعت وجيدا |
وقوله:
إن الغزالة والغزالة | في ثناياه وجيده |
وقوله:
لم أبح بالوداع جهرا ولكن كان | جفني فمي ودمعي كلامي |
وقوله:
لطيرتي بالصداع نالت | فوق منال الصداع مني |
وجدت فيه اتفاق سوء | صدعني مثل صدعني |
وقال وليست في الديوان المطبوع:
يا ليلة لست أنسى طيبها أبدا | كأن كل سرور حاضر فيها |
كأن سود عناقيد تكتمها | أهدت سلافتها خمرا إلى فيها |
وقال:
وإنساني نعاسي فيه حتى | ظننت بان تسهادي نعاسي |
وقال:
سقى ثرى حلب ما دمت ساكنها | يا بدر غيثان منهل ومنبجس |
أسير عنها وقلبي في المقام بها | كان قلبي لفقد السير محتبس |
مثل الحصاة التي ترمي بها أبدا | إلى السماء فترقى ثم تنعكس |
من أنواع البديع
الجناس.
سكرت من لحظة لا من مدامته | ومال بالنوم عن عيني تمايله |
وما السلاف دهتني بل سوالفه | ولا الشمول أزدهتني بل شمائله |
ألوي بعزمي أصداع لوين له | وغال قلبي بما تحوي غلائله |
الجناس ولزوم ما لا يلزم
لحبك من قلبي حمى لا يحله | سواك وعقد ليس خلق يحله |
وقد كنت أطلقت المنى لي موعدا | ووقت لي وقتا وهذا محله |
ففي أي حكم بل وفي أي مذهب | تحل دمي والله ليس يحله |
الجناس أيضا:
البين بين ما يجن جناني | والبعد جدد بعدكم أحزاني |
المقابلة:
له بطش قاس تحته قلب راحم | ومنع بخيل تحته ذيل مفضل |
الجمع.
علا يستفاد وعاف يفاد | وعز يشاد ونعمى ترب |
لك جسم الهوى وثغر الأقاحي | ونسيم الصبا وقد القضيب |
أنت مروي الظما ومؤتم أولاد | الأعادي ومثكل الأمهات |
بحر السماحة والبلاغة | والمكارم والبصائر |
بين السوابغ والسوابق | والمهندة البواتر |
فاضل كامل أديب أريب | قائل فاعل جميل بهيج |
حازم عازم حروب سلوب | طاعن ضارب خروج ولوج |
محرب همه حسام صقيل | وجواد محرب عنجوج |
وخيول وغلمة ودروع | وسيوف وضمر ووشيج |
بمنعة مسعود وأيام سالم | ونعمة مغبوط ومال مجد |
حسن النسق.
سفرن بدورا وانتقبن أهلة | ومسن غصونا والتفتن جاذرا |
بالخيل ضمرا والسيوف قواضبا | والسمر لدنا والرجال عجالا |
التقسيم.
أخذت دمعك من خدي وجسمك من | خصري وسقمك من طرفي الذي سقما |
الجمع والمقابلة.
خالص الود صادق العهد انس | في حضور محافظ في مغيب |
التتميم.
إمارة لم تأتمر محجوبة | لم تبتذل مخدومة لم تخدم |
منتخبات من طرديته
ما العمر ما طالت به الدهور | العمر ما تم به السرور |
أيام عزي ونفاذ أمري | هي التي أحسبها من عمري |
ما أجور الدهر على بنية | وأغدر الدهر بمن يصفيه |
لو شئت مما قد قللن جدا | عددت أيام السرور عدا |
انعت يوما مر لي بالشام | ألذ ما مر من الأيام |
دعوت بالصقار ذات يوم | عند انتباهي سحرا من نومي |
قلت له اختر سبعة كبارا | كل نجيب يرد الغبارا |
يكون للأرنب منها اثنان | وخمسة تفرد للغزلان |
وأجعل كلاب الصيد نوبتين | ترسل منها اثنين بعد اثنين |
بالله لا تستصحبوا ثقيلا | واجتنبوا الكثرة والفضولا |
واخترت لما وقفوا طويلا | عشرين أو فويقها قليلا |
عصابة أكرم بها عصابة | معروفة بالفضل والنجابة |
ثم قصدنا صيد عين باصر | مظنة الصيد لكل خابر |
جئناه والشمس قبيل المغرب | تختال في ثوب الأصيل المذهب |
وأخذ الدراج في الصياح | مكتنفا من سائر النواحي |
في غفلة عنا وفي ضلال | ونحن قد زرناه بالآجال |
يطرب للصبح وليس يدري | إن المنايا في طلوع الفجر |
حتى إذا أحسست بالصباح | ناديتهم حي على الفلاح |
نحن نصلي والبزاة تخرج | مجردات والخيول تسرج |
فقلت للفهاد امض وانفرد | وصح بنا إن عن ظبي واجتهد |
فلم يزل غير بعيد عنا | إليه يمضي ما يفر منا |
وسرت في صف من الرجال | كأننا نزحف للقتال |
حتى تمكنت فلم أخط الطلب | لكل حتف سبب من السبب |
ثم دعوت القوم هذا بازي | فأيكم ينشط للبراز |
زين لرائيه وفوق الزين | ينظر من نارين في غارين |
كأن فوق صدره والهادي | آثار مشي الذر في الرماد |
ثم عدلنا نحو نهر الوادي | والطير فيه عدد الجراد |
أدرت شاهينين في مكان | لكثرة الصيد مع الإمكان |
توازيا واطردا إطرادا | كالفارسين التقيا أو كادا |
فجدلا خمسا من الطيور | فزادني الرحمن في سروري |
خيل نناجيهن كيف شينا | طيعة ولجمها أيدينا |
خير من النجاح للإنسان | إصابة الرأي مع الحرمان |
ثم عدلنا نطلب الصحراء | نلتمس الوحوش والظباء |
عن لنا سرب ببطن وادي | يقدمه أقرن عبل الهادي |
قد صدرت عن منهل روي | من غبر الوسمي والولي |
ليس بمطروق ولا بكي | ومرتع مقتبل جني |
رعين فيه غير مذعورات | بقاع واد وافر النبات |
مر عليه غدق السحاب | بواكف منهمل الرباب |
لما رآنا مال بالأعناق | نظرة لا صب ولا مشتاق |
ما زال في خفض وحسن حال | حتى أصابته بنا الليالي |
سرب حماه الدهر ما حماه | لما رآنا ارتد ما أعطاه |
فلم نزل سبع ليال عددا | أسعد من راح وأحظى من غدا |
دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 4- ص: 307