الشيخ حبيب بن طالب بن علي
ابن أحمد بن جواد البغدادي الكاظمي مسكنا الشيبي المكي أصلا - كما وجدناه بخطه - نزيل جبل عامل.
كان حيا سنة 1269، والله أعلم كم عاش بعدها.
شاعر مجيد متفنن خفيف الروح، يجمع شعره الرقة والانسجام وأنواع الطرائف، إلا أنه غير مهذب. أصله من العراق من بلد الكاظمين عليهما السلام (الكاظمية). سكن جبل عامل ومدح أمراءها حمد البك وأبناء عمه في القرن الثالث عشر وأعيانها، ثم عاد إلى الكاظمية وتوفي هناك. ولا تزال ذريته في جبل عامل إلى اليوم. ذكره الشيخ محمد آل مغنية في كتابه (جواهر الحكم) فقال: الشاعر المفلق الذي إذا خطب أعجب وإذا أنشد أطرب، لم أر في عصري افكة من هذا الشاعر المجيد، وكان اسرع الناس بديهة وأذكى قريحة، رأيته مرارا لا يتوقف في كتابة ما أراد من الشعر والإملاء، سريع البديهة حسن المحاضرة، صاحب أجوبة مسكتة، جزل الكلام، إذا تكلم أعجب كل سامع. ينشئ القصيدة الطويلة في الوقت القصير، وشعره كثير لا يكاد يحصى، من السهل الممتنع. تعلق أولا على أمير عامل وأحد رجال الدنيا المرحوم حمد البك أيام خموله ثم لما نبه الدهر من شأن البك وحكم جبل عامل وصارت له الرياسة المطلقة وحارب عسكر إبراهيم باشا في نواحي صفد وأطراف جبل عامل مدحه بقصيدته الطنانة. (تأتي) في ترجمة حمد البك. ومن طرائفه أنه مدح محمد بك الأسعد بقصيدة كان قد مدح بها غيره فلما رآها عاتبه في ذلك. فقال: البرذعة برذعتي واضعها على أي دابة شئت. وكان له ولد رضيع وأمه نائمة - وهي زوجة الشيخ عبد النبي الكاظمي تزوجها بعد وفاته - فجعل الولد يبكي وأراد إيقاظها ونسي اسمها فجعل يصيح يا أم الولد يا زوجة الشيخ حبيب حتى انتبهت.
أشعاره في أهل البيت عليهم السلام
بني النبي لكم في القلب منزلة | بها لغير ولاكم قط ما جنحا |
يلومني الناس في تركي مديحكم | وكم زجرت بكم من لامني ولحا |
عذرا بني المصطفى إن عنكم جمحت | قريحتي وهي مثل الزند مقتدحا |
فلا أرى الوهم والافهام مدركة | ما عنون الذكر من أسراركم مدحا |
سبقتم الناس في علم ومعرفة | والأمر تم بكم ختما ومفتتحا |
إلى إن يقول:
لكنما الناس في عشواء خابطة | ليلا وآثاركم في المعجزات ضحى |
إن شاهدوا الحق فيما لا تحيط به | عقولهم جعلوا للحق منتزحا |
تجارة الله لم تبذل نفائسها | إلا لمن كان عن غش الهوى نزحا |
وربما خاضت الألباب إذ شعرت | و مضامن النور دون الستر قد لمحا |
فآض كل على دعوى مكاشفة | توهما إن باب الستر قد فتحا |
شاموا ظواهر آيات لها وقفت | ألبابهم غير إن الوهم قد شرحا |
وهم على خوض ما ألفوه من أثر | كمثل أعمش من بعد رأى شبحا |
فليس يدري لتشعيب الظنون به | أسانحا ما رأى أم بارحا سرحا |
إن المدى لبعيد والسراة غدت | فيه كلالا وكل في السرى دلحا |
وكلما شيم من آثار معجزة | فإنها رشح ما عن فيضكم طفحا |
فالحجب عن سعة الآثار ما بخلت | والحكم في صفة الأسرار ما سمحا |
إلى إن يقول:
ورب مدح لقوم عنكم جنحوا | أنشدته حيث عذري كان متضحا |
نأتي من الوصف ما لا يدركون له | معنى ولا شربوا من كأسه قدحا |
ولو اتيناهم في حق وصفهم | لأوهم الناس إن الروم قد فتحا |
فأين هم عن مدى القوم الذين لهم | صنع المهيمن ممن خف أو رجحا |
وله يرثي الحسين عليه السلام في سنة 1250:
خل النسيب فلست بالمرتاد | لهو الحديث بزينب وسعاد |
ما لي وكاعبة تكلفني الهوى | شتان بي مرادها ومرادي |
دعني وفيض محاجري فلقد غدت | تقري ضيوف الهم نار فؤادي |
واذكر مصاب الطف فهي رزية | فصم الضلال بها عرى الإرشاد |
يوم أصاب الشرك فيه حشى الهدى | بمسدد الأضغان والأحقاد |
يوم غدا فيه على رغم العلا | رأس الحسين هدية ابن زياد |
يوم رمي سبط النبي بعصبة | جبلت على ما سن ذو الأوتاد |
آلت على إن لا تغادر للنبي | بقية واتت بكل فساد |
أبدت خفايا حقدها واستظهرت | في كربلا بضمائر الأغماد |
نشرت صحائف غدرها واستقبلت | وجه الهدى بصفائح وصعاد |
فترى الحسين مشمرا عن ساعد | الإيمان مدرعا دلاص رشاد |
و بكفه قلم الحتوف فلم يزل | يمحو سطور الشرك والالحاد |
في عصبة رأت المنية منية | في الله فانتهزت منال مراد |
فرماحها لحشى الصدور مشوقة | وسيوفها لدم الرقاب صوادي |
لله أكبر يا ليوم في الورى | لبست به الأيام ثوب سواد |
يوم به نكسن أعلام الهدى | حتى تداعى شمله ببداد |
يوم به عجت بنات محمد | من مبلغ عنا النبي الهادي |
يا جد لو أبصرت ما بلغ العدى | منا وما نالته آل زياد |
أما الحسين ففي الوهاد واننا | في الأسر والسجاد في الأصفاد |
يا جد ما آووا ولا راعوا ولا | ادكروا بأن الله بالمرصاد |
أهون بكل رزية إلا التي | صدعت بعاشوراء كل فؤاد |
لك في جوانحنا زعازع لم تزل | منها تصب من الجفون غوادي |
مولاي يا من حبه وولاؤه | حرزي ومدخري ليوم معادي |
أينال مني من علمت شفاءه | ويريد بي سوءا وأنت عمادي |
وعليكم صلى المهيمن ما سرت | نيب الفلا وحدا بهن الحادي |
وقال لما ورد الكاظمية زائرا وقد ركب دجلة:
وافت إليكم تجوب الماء حاملة | نارا من الشوق لا يطفأ لها لهب |
حتى ترى الطور والأنوار تشمله | من نار موسى وفيه السر محتجب |
وقال لما زار سأمراء:
لله تربك سأمراء فاح به | ريح النبوة إشماما وتعبيقا |
هنئت يا طرف فيما متعتك به | يد المواهب تأييدا وتوفيقا |
لم يطرق العقل بابا من سرائرهم | إلا وكان عن الأفهام مغلوقا |
وفي المعاجز والآثار تبصره | لرائم غرر الأيضاح تحقيقا |
هذا الكتاب فسله عنهم فبه | صراحة المدح مفهوما ومنطوقا |
أبصر بعينك واسمع واعتبر وزن | المعقول واختبر المنقول توثيقا |
وجل بطرفك إيمانا وميسرة | وطف بسعيك تغريبا وتشريقا |
فهل ترى العروة الوثقى بغيرهم | حيث الولاء إذا بالغت تدقيقا |
وهل ترى نار موسى غير نورهم | وهل ترى نعتهم في اللوح مسبوقا |
وهل ترى صفوة الآيات معلنة | لغيرهم ما يؤدد الفكر تشقيقا |
قوم إذا مدحوا في كل مكرمة | قال الكتاب نعم أو زاد تصديقا |
أضحى الثناء لهم كالشمس رأد ضحى | وبات في غيرهم كذبا وتلفيقا |
إني وان قل عن أوصافهم خطري | وهل ترى زمنا ينتاش عيوقا |
تعسا لقوم تعامت عن سنا شهب | أيضاحها طبق الأكوان تطبيقا |
إن الإمامة والتوحيد في قرن | فكيف يؤمن من يختار تفريقا |
يا من إليهم حملت الشوق ممتطيا | أقتاب دجلة لا خيلا ولا نوقا |
الماء يحملني والنار احملها | من لاعج الوجد تبريحا وتشويقا |
أنتم رجائي وشوقي كل آونة | وأنتم فرجي مهما أجد ضيقا |
في يوم لا والد يغني ولا ولد | ولا يفرج وفر المال تضييقا |
ونحن في هذه الدنيا لحبكم | نرعى على الضيم جبريا وزنديقا |
من بين مبدي عداء لا نطيق له | ردا وآخر حقدا يخزر الموقا |
وقال يمدح الإمام الرضا عليه السلام:
أبا الحسن الرضا قصدتك منا | قلوب قد وردن نداك هيما |
ولاحت قبة كالشمس تمحو | أشعتها عن القلب الهموما |
فلم تر غير حبكم نجاة | ولم تر غير فضلكم نعيما |
إلى إن يقول:
ألستم خير أهل الأرض طرا | وخير من ارتدى الشرف العميما |
ولو بكم استجارت آل عاد | لما عادت لياليها حسوما |
ألستم في الورى كسفين نوح | ومن ركب السفين نجا سليما |
تبصر من تبصر في ولاكم | فلم يعد الصراط المستقيما |
ومن جاب الفيافي في ولاكم | فلا بأس يخاف ولا جحيما |
ولما توفي حسين بك السلمان وقام بالحكم بعده ولده ثامر بك من أمراء جبل عامل، قال يرثي الفقيد ويهنئ الجديد:
الحمد لله هذا الدهر قد سمحا | بطالع نجمه ليل النحوس محا |
فأي زند من العليا به قدحا | من بعد ما صب من صاب العنا قدحا |
واي باب بها صعب الهموم دحا | فعاد غب الرثا أنشأ به مدحا |
شكر يدوم بحمد الله ما برحت | شمس النهار وبدر المجد ما برحا |
بثامر دوح هذا المجد قد ينعت | أزهاره وهزار البشر قد صدحا |
فان يكن غاب عنا للعلا قمر | فليهنك اليوم هذا البدر متضحا |
وان يكن ساخ منا في الثرى علم | فليهنك اليوم طود للسما طمحا |
وان يكن غاض للعافين بحر ندى | فليهنك اليوم بحر للندى طفحا |
يوم بيوم وكم لله من منن | لم ينقض الحزن حتى أعقب الفرحا |
بشارة للمعالي وهي موجبة | شكر الإله وكم أسدى لنا منحا |
بجبهة الصبح منه سيرة وضحت | بالعدل حتى نرى الليل البهيم ضحى |
وعزمة منه دون السيف قد فتحت | بابا من العز قبل اليوم ما فتحا |
واستدرك الغاية القصوى التي | امتنعت عن كل ساع إلى ادراكها طمحا |
ولا تزال بحفظ الله محتجبا | عن كل سوء وباب العز مفتتحا |
وله أيضا، وقد جاءت القضاة لإصلاح الحال بين الشيخ حسين السلمان وبين ابن عمه الشيخ حمد البيك من أمراء جبل عامل. فلما وردوا إلى حضرة حسين بيك السلمان ذكرهم اختلافاتهم وكشف عن حالتهم. وكان الخلاف بينهم قائما على قدم وساق، فوعظهم ووبخهم وأصلح فيما بينهم:
أتتك القضاة أبا ثامر | ليقضوا صلاحا وينفوا احتجاجا |
فجالوا بغيهب آرائهم | فكانوا الظلام وكنت السراجا |
وصالوا وصلت على كيدهم | فكانوا السقام وكنت العلاجا |
فكنت النصير لدين الهدى | وكنت البصير إذا الغي راجا |
فشربك في الدين عذب الفرات | وأسقيتهم منك ملحا أجاجا |
وله في مدح جبع وآل الحر الكرام ويخص منهم الشيخ أحمد والشيخ سعيد:
أبا الفردوس وجدك أم جباع | وفي كلتيهما تهوى الخلودا |
ولو كنت المخير في خلودي | فعن جبع وحقك لن أحيدا |
أأعدل (بالمشارع) ما سواها | وقد اخذت على الصفو العهودا |
بأشجار وانهار وروض | تقيم لصادق الدعوى شهودا |
وقد شهدت (برأس العين) عيني | غصونا خلتها حملت عقودا |
قطوف دانيات لو تراها | خضعت لها ركوعا أو سجودا |
على ماء تسيل به خدود | تذكرنا السوالف والخدودا |
يردن مياهها آرام نجد | وفي غاباتها ضمت أسودا |
وفي حسنات آل الحر تمحى | كبائرها وان كثرت عديدا |
فحسبك أحمد المختار منها | سنام المجد والعز المشيدا |
يجرد من حديد الفكر عضبا | يفل به المعاضل لا الحديدا |
فيكشف غامض المطوي منه | ويبرزه فتحتقر النضيدا |
وتخبرني السعادة عن صحيح | بما دانت ولم تخطئ سعيدا |
ولا برحت بآل الحر تسمو | دعائم للمكارم لن تميدا |
وقال متغزلا:
ما لآرام رامة وظباها | حين سلت على القلوب ظباها |
حين قامت على القدود شهود | أثبتت أنها عضون نقاها |
وقال:
أهيل الكرخ لي قلب معنى | أسير في يد الأشواق عاني |
وأين حشاشتي مني ولبي | هما عني وحقك ظاعنان |
أمن حق المروءة إن تركتم | فؤادي فيكم رهن الأماني |
أمن حق المروءة إن جعلتم | من الأحلام أيام التداني |
وقال أيضا:
بنو الأيام قد ملكوا | وأي الطرق قد سلكوا |
فكم شادوا وكم سادوا | وكم أحيوا وقد هلكوا |
فان تجمع كما جمعوا | إلا فانظر لما تركوا |
وتلك الحال دائرة | وفيها قد جرى الفلك |
وقال أيضا:
وقد تمنع الأيام مثلي حقوقه | وتعطي بليد القوم ما قد تمناه |
ولي آية في الصبر لو أنها بدت | لأيوب لم يشك المهيمن بلواه |
تغربت عن بغداد لا عن ملالة | ولكن للإنسان ما قدر الله |
وقال أيضا يمدح بعض أهل أصفهان:
اسقنا والرفاق عند رياض | ضحكت عن مباسم الأقحوان |
ثم قل للحبيب عن قلب صب | لعبت فيه أعين الغزلان |
هل سمعت الحمام ليلة بتنا | كيف غنى بدوحه فشجاني |
والصبا هب والندامى نشاوى | كيف قاد الهوى إليك عناني |
وحديث الغرام أطيب شيء | حدثتنا الجفون عند التداني |
فهي تملي على الفؤاد حديثا | والهوى كاتب بغير بنان |
فاخذنا نطالع الخد لثما | وبأيدي العفاف معتنقان |
وبدا الساقيان ينشد كل | (مرضي من مريضة الأجفان) |
أيها الساقيان: بالله قوما، | عللاني بذكرها عللاني |
واعرفا بنت كرمة واذكراها | واسقيا الحب صرفها واسقياني |
واحملاني إلى القيان ومرا | فإذا ما وصلتما القياني |
أيها البالغ الكمال كمالا | قاصر في المديح فيك لساني |
غير إني أقول قولا وجيزا | ثابتا عن قواطع البرهان |
منتهى العلم والتقى والمعالي | والندى والأمان والإيمان |
صاغها بارئ الخلائق جسما | فقضاها بهيكل الإنسان |
ومحل حواه سام فأمسى | كعبة الوفد مشعر الركبان |
فهي دار وبالحقيقة كنز | قد حوى ما يجل عن تبيان |
وعجيب لها السماك محل | كيف صار المحل في أصفهان |
وقال يمدح بعض الأمراء ويعرض بذم غيره:
إن كنت والناس في الناسوت متحدا | فالعود والعود ذا ند وذا حطب |
إن الجواهر تصدأ بالسنين ولا | يصدأ ثناك وان مرت به الحقب |
بلغت كالشمس أوصاف العلا كملا | فان قلاك لها شأن فلا عجب |
قد يهجر الشمس من أودى به رمد | ويكره الماء من أودى به الكلب |
من بات يقرع ناب الليث مقتحما | لا يأمنن ففي أنيابه العطب |
رميته حجرا من قبل ذاك رمى | داود فيه فذل القوم وانقلبوا |
وقام يسري إلى الجوزاء مجتهدا | توهما أنها التفاح والعنب |
لا قرب الله رذلا كله حمق | وباعد الله نذلا كله كذب |
أبا المكارم لا زالت يداك على | أيدي العداة وفي أحشائها لهب |
وقال يعاتب حمد البك صاحب تبنين ويظهر الانحياز إلى خصمه حسين بيك السلمان صاحب بنت جبيل ويمدحه:
يا بيك عندي للعتاب لسان | فيه لغيرك صارم وسنان |
يوليك بالعتبي مدائح شاكر | وإن استمر لحظة النقصان |
تعطي وتمنع حسبما يقضي به | حكم اللبيب وحدسك الميزان |
وافى إليك الجاعدون بنظمهم | شعرا له تتعاكف الديدان |
فحبوتهم منك الجزيل ولم تزل | تحبوهم ما جادك الإمكان |
وجعلت بينهم وبيني قسمة | يعنو لها الإنصاف والاذعان |
لهم الغباوة والفسالة والعطا | والفضل لي والمدح والحرمان |
هذا الذكاء وذا العطاء و هذه | شيم الكرام وهكذا العرفان |
أنت الحكيم بكل ما تأتي به | ما رسططاليس و ما لقمان |
من كان مثلك لا عدمت حياته | أفديه مما سامه الحدثان |
يا بحر عشر بعدها خمس مضت | لك مركب سار ولي أشطان |
ما إن اجر به ليعلو موطئي | إلا وجر برجلي الخذلان |
فاصح ما ألفيت إن وعودكم | مثل السراب ومثلي الظمآن |
تغري بنا الأوهام في أطماعها | حرصا على الموهوم وهو عيان |
إن خاب متجرها أعادت ثانيا | فكأنما مرغوبها الخسران |
فالله يجزي عنكم أوهامنا | خيرا وجاد شبابها الريعان |
لكم بها حسن الثناء مؤبدا | ولنا بهن مذلة وهوان |
ورسمت إن تقربي لك باعث | قطعي صدقت وفي النوى الرجحان |
فليشكر الرحمان من هو عنكم | ناء ويغني عنكم السلوان |
ولقد سألتك بالذي فلق النوى | وبمن أتى في حقه القرآن |
إلا أجبت عن السؤال فإنني | انا للجواب العاطش الغرثان |
إن لم تكن لي في الحياة وأنت في | زمن له في راحتيك عنان |
فهل ادخرتك للمعاد إذا سعى | بي مالك أو صدني رضوان |
أم في غد في القبر أنشد مدحكم | للمنكرين فينتهي رومان |
أم في الصراط تمدني بفوارس | فتهابك النيران والخزان |
ولعل رأيك إن تكون مواصلا | في يوم لا دنيا ولا سكان |
بعناكم دينا لنشري منكم | دنيا فلا الدنيا ولا الإيمان |
هذا جزاء الطامعين بأنهم | خانت بهم أوهامهم إذ خانوا |
فلو أنني استغفرت قدر مدائحي | لكم أتاني العفو والغفران |
ما إن أقمت لكم صلاة مدائح | إلا وكرر للقنوت أذان |
أنا في المديح وأنت حين قطعتني | كل له في صنعه اتقان |
ومن العجائب إن ذاتي جردت | أدبا وجرد ذاتك العرفان |
ويضيع مثلي عند مثلك؟ إن ذا | أمر تضل بمثله الأذهان |
لكنما حظي وجودك نائم | هذا وهذا ساهر يقظان |
فتباعد الضدان في حاليهما | ولكل حال حجة وبيان |
ما شد ضبعي في الورى إلا الذي | قد شق نبعة دوحه سلمان |
لأروع الشهم الهمام الأريحي | اللوذعي الضارب الطعان |
وله يمدح مصطفى بك طوقان:
دعن شرح الحديث عن الثقات | وحدث بالكؤوس عن السقاة |
ففي شرح المدام حديث وجد | يترجمه نشيد الساجعات |
حكت عن عهد بقراط فأملت | عن الراووق عن ماء الحياة |
سكرنا بالصفات وما شربنا | كأن الذات أمست في الصفات |
وروض تغمز الأزهار فيه | على الندماء ألحاظ الوشاة |
تطوف بنا القلوب على بدور | تطوف ببيت شمس النيرات |
ولي عين أقول إذا استهلت | دعوها فهي تتلو المرسلات |
وجسم قد كساه الحب ثوبا | عليه طراز أي النازعات |
فرحنا في يد النسمات نهبا | أسارى للحاظ الفاتكات |
وهل بسوى مديح البيك تشفى | قلوب من صروف الحادثات |
كأن من العناية في يديه | طلاسم للموالي والعداة |
ففيها للموالي أي حرز | يقيه من سهام النائبات |
وللأعداء قاضية المنايا | على حد الشفار الماضيات |
إذا نامت عيون القوم سلت | لها الأحلام قاطعة الشباة |
فيعدو الرعب في الأوهام منها | فيقتل قبل عدو الصافنات |
فهذي المرهفات البيض سلت | وصلت فوق هامات العداة |
وهذا السيف يعلن فيك شكرا | لما توليه من وفر الصلات |
وقد غذيته الجريال حتى | ظننا أنه بعض العفاة |
وما يشكوه إلا المال نهبا | على أيدي الوفود الحاشدات |
أبا الفياض قد وافتك بكر | المدائح بالعقود الزاهرات |
وفيك تنافس الشعراء مدحا | بابكار المعاني الساميات |
ولو نظموا بمدحك مقتضاه | لجاءوا بالنجوم المشرقات |
وقال وكتبها إلى بعض إخوانه من السفر يعتذر عن عدم الوداع:
إني سألت فؤادي قبل بينهم | هل تستطيع لدى التفريق توديعا |
ففر عني من خوف تقطعه | يد الصبابة بالأشجان تقطيعا |
وكتب إليهم أيضا:
إني سألت فؤادي قبل فرقتهم | يا قلب هل أنت للتوديع ذو جلد |
ففر عني فرار الطير حين رأى | حبلة الصيد قد مدت ولم يعد |
وقال:
بي أغيد تفضح الديجور طلعته | ويعطس الصبح من رياه إذ نشقا |
كافور غرته مع مسك طرته | صبح وليل على فرق قد اتفقا |
كم ليلة بات يسقيني وأشربها | حمراء حتى أرتني ضوءها الشفقا |
فخلت ليلي زقا والصباح طلا | عنه قد انحل خيط الفجر فاندلقا |
وقال أيضا:
أقول وقد رمت الوداع فأسرعت | عجالا بهم تلك الجياد السوابق |
قفوا ودعوا صبايكا فؤاده | يطير اشتياقا وهو في الصدر خافق |
فأتبعتهم عيني لأطلب أثرهم | فردت بفيض والنوى لا تسابق |
فودعت روحي ثم قلت أسرعي لهم | واني بكم إن قدر الله لاحق |
وقال:
إلا قل لمن في دار سلمى إليكم | سفكتم دماء واستجزتم محرما |
واحرمتمونا الماء والماء عندنا | وفزتم على بعد ومتنا من الظما |
فيا ليتكم متم وطالت حياتكم | لكي تعلموا تلك الحياة وذا المما |
وقال أيضا:
عليكم أهيل الحي مني تحية | صفت وصفاها من صفاودي المحض |
تحية صب يسبق الريح خطوها | وليس يباري ومضها البرق في الومض |
محب يرى إن المحبة ذمة | وان مراعاة الوداد من الفرض |
يعم شذاها الخافقين بنفحة | ويختص فيها صاحب الخلق الغض |
وقال يهنئ علي بك الأسعد بإمارته الجديدة بعد عمه حمد البك ويعزيه به إذ تخلف بعده:
بشراك غاض الحزن عن متأسف | أودى بمهجته جوى المتلهف |
صبغ البكاء ثيابه من دمعه | فيروح بين مطرز ومفوف |
حزنا على من قد شربت بقربه | راح الصفا بمزاج راح قرقف |
حتى قضى فعرفت ما صنع القضا | بجفون أسوان ومهجة مدنف |
وقد اتنشت غب الذبول خميلة | ينعت بوارق كل مجد مشرف |
فتراجعت تلك السنون وأهلها | بمهذب لبس العلا ومقذف |
سار على متن النجوم بعزة | نجمت بأيمن طالع وتصرف |
ريان من ماء الكمال يزينه | علم ابن روزبة وحلم الأحنف |
بحلاوة المستطرفين ورقة | المتقشفين وعفة المتصوف |
ومقذف غير إن لم يخط العلا | متقرب العزمات غير مسوف |
فغدت به الدنيا عروسا غضة | تختال في جلباب عيش مترف |
من عد للجلى وكل ملمة | غوث الصريخ بها وغيث المعتفي |
فالناس تمرح في ربيع مخصب | منه وتسقى من عهاد موكف |
وقال - وهو بأصفهان - يتشوق إلى جبل عامل:
(سامر يلحو وأشواق تلح) | هاجها من ظن إن العذل نصح |
نهب الصبر ادكاري سرحة | عند (لبنان) لها في القلب سرح |
لست أنساها ليال سلفت | ألف صبح لي بها والدهر صلح |
وشموس الراح تجلى كلما | غاب صبح قام يجلو الكاس صبح |
ومغان نقلت عنها الصبا | خبر الند وفيه طال شرح |
فضضت جيد الربى أزهارها | وعليه من سقيط الطل رشح |
نقط الطل على أوراقها | وله في الرمل اسقاط وطرح |
يغمز الدهر علينا طرفه | فلنا شطح وللورقاء صدح |
كلنا في الغصن إلا اننا | ما علينا لو نروم الوصل جنح |
ليت شعري، والأماني سلوة، | هل لها وصل وهل للهم نزح |
فإلى كم ومنائي عهدها | يثبت العزم وكف الحظ تمحو |
يا اوداي بسفحي (عامل) | إن شوقي عامل والدمع سفح |
هل وفى بالعهد من بعدكم | مدمع سح وقلب لا يصح |
هاكم دمعي فقد أشهدته | وله في الخد تعديل وجرح |
من لمشتاق لكم من بعدكم | (بات ساهي الطرف والشوق يلح) |
فكرة تمضي وتأتي فكرة | (والدجى إن يمض جنح يأت جنح) |
حارب الجفن الكرى ليتهما | عرفاني هل يرى للسلم جنح |
لا رعاني المجد إن لم يرني | ولخيلي في ربي (لبنان) سبح |
ومن (القبلي) من شاطئه | خبر المجد وعندي فيه شرح |
برجال لم يشنهم لو ولا | فيهم يلفى بغير العرض شح |
آل همدان هم لا غيرهم | وكفاهم من أمير النحل مدح |
قد أبت إلا المعالي مسلكا | ولهم في متجر الإيمان ربح |
كم لهم في الدين من سابقة | ساقها أيد من الله وفتح |
وقال يمدح الوزير مشير أيالة صيدا محمد أمين باشا سنة 1268:
إن حدد الناس الجهات فليس | للوجه الذي لك في العلا تحديد |
قد حزتها ذاتها فكنت بعقدها | جيدا بنورك عقدها والجيد |
وان ادعاها الأجنبي فإنما | فيها محلك قائم وشهيد |
من يبلغ الشرف المنيف فهكذا | أو لا فكل مكابر مردود |
أين البزاة من البغاث وأين من | ملح الأجاج السائغ المورود |
إن الإمارة كالعقيلة مهرها | كرم الطباع وبيتها التسديد |
لا كالذي بحث التراب وظنه | ملك الكنوز وما له مرصود |
جليت عليك وأنت من أكفائها | قدما وللنسب القديم تعود |
ما نال غيرك شأوها ومقامها | ولديك منها موثق وعهود |
قل للمطاول من علاك محله | الأدنى وكيف يكابر المشهود |
ومكارم تفني الزمان وإنما | لك في يد الذكرى بهن خلود |
تعطي الكثير وما حويت قليله | وتجود فضلا بعدها وتجود |
لم يلهك السكر القديم كمن مضى | كلا ولا رقصت لديك الغيد |
لم تهو إلا الراقصات إذا الوغى | فيها تساوى الليث والرعديد |
ومن الغواني البيض عند نشيدها | بصليلها الترجيع والترديد |
ومن الرماح اللدن كل مثقف | تصغي لصوت صريره فتميد |
أغناك عن صوت الغناء صريرها | وعن القدود المائسات القود |
لانت بمرهفك الصعاب كأنما | أعطاك حكمة سره داود |
وأصبت بالرأي السديد مواقع | البيض الحداد فخافك الجلمود |
قد ضاع شعري في سواك وضاء في | علياك فهو اللؤلؤ المنضود |
نبهت كلي في ثناك فكنت لي | متنبها والجاهلون رقود |
ومددت ضبعي حين بت سواكم | حبلي، فنعم المنهل المورود |
وحمدت ربي حين شتت شملهم | هيهات شمل الظلم كيف يعود |
أوليتني النعم التي لا ينقضي | شكري لها وعلى الزمان تزيد |
يا دوحة الشرف المنيع وقد سمت | فرعا وثابت أصلها ممدود |
قل للحسود الغمر جاء أميننا | فأربع على ضلع وأنت طريد |
يولي حديث المكرمات بسابق | فالمجد منه سابق وجديد |
لا زلتم والعز في أكنافكم | أبدا وورق علاكم غريد |
وقال يمدح الأمير حمد البك بن محمد بن محمود بن الشيخ ناصيف بن نصار العاملي السالمي ويعتذر إليه ويستشفع بجدنا السيد علي:
أين الظباء من الحسان الخود | في العطف منها والفروع السود |
أين الورود من الخدود وأين من | خمر الرضاب لها ابنة العنقود |
لكنما لعب الكلام بألسن | الشعراء في التشبيه و التحديد |
فعدلت عن غزلي بغزلان النقى | ومها العقيق وحاجر وزرود |
لمديح من عقد اللواء على الولا | ء له الزمان وقد مشى بجنود |
في بيض مرهفة وسود وقائع | و نفوذ رأي في الزمان سديد |
قد نابذت جيش المكارم فانثنت | عن كل ظل من ذراه مديد |
حمد العلا من طوقت آلاؤه | بالفضل منه كل عاطل جيد |
مستدرك الأمد البعيد بأقرب | الايحاء دون تكلف المجهود |
فكان دائرة المدار قضت له | فيما يرى من موعد ووعيد |
يقضي بأحكام العلاء وسمعه | يستن بين العذل والتفنيد |
يدنو لأخطار الزمان وعزمه | ناء ونوء نداه غير بعيد |
يعطي الرغائب مبدئا ويعيدها | أكرم بأفضل مبدئ ومعيد |
لم تثنه نار الكفاح عن الندى | كلا ولا عن عزمه بصدود |
يعطي ويلقى والعداة كأنها | وفد العفاة ولات حين وفود |
يغري ويغرب خلقه وجنانه | لطف النسيم وقسوة الجلمود |
متبسما عند الكفاح وسيفه | يذري العقيق على خدود البيد |
فالقضب تركع بالحني على الشوى | والهمام خاضعة له بسجود |
وسما على كرم الطباع بأربع | جبلت مع الإيمان والتوحيد |
في عدل كسرى في شجاعة رستم | في جود حاتم في ذكاء لبيد |
يا صاحب الغايات قد أدركت ما | جاز المدى ووطئت كل شديد |
إن كانت العتبى تقدم لي بها | ذنب فان العفو عين ورود |
وشفيع ذنبي عين آل محمد | أعني عليا كهف كل طريد |
العالم البحر الذي لا ينثني | عن كل وجه للعلاء حميد |
يا من بهم دوح المكارم يانع | أبدا وورق المدح في تغريد |
حمد الإله الناس عند ولائكم | وتوسلوا بمحمد المحمود |
جعل المهيمن عيدكم وهلاله | البادي الأغر علي أسعد عيد |
وقال يرثي السيدة زينب زوجة حمد البك واحدى عقائل بني الأسعد ويعزيه عنها ويعزي ابن أخيه علي بك الأسعد ويذكر تاريخ وفاتها، وقد توفيت سنة 1263 ودفنت بجوار نبي الله يوشع عليه السلام:
قصدوا المسير وأزعموا إن يذهبوا | واستحسنوا دار البقا فتأهبوا |
لبسوا لها بيض الثياب كأنها | أحسابهم وبها ارتدوا وتنقبوا |
وذكا بهم طيب الحنوط وذكرهم | عبق ومن طيب الأفاوه أطيب |
وتزودوا للسير من أعمالهم | ما زينوا فيه القصور وطيبوا |
نزلوا بها متنعمين وغادروا | بين القلوب لواعجا تتقلب |
وفقيدة الأيام أورث فقدها | رزءا تهون النائبات ويصعب |
ويتيمة ردت إلى صدف الثرى | ولها إلى الملأ العلي تقرب |
ما هذه الغبراء وجه أديمها | بحر فكيف به اليتيمة ترسب |
وعجبت للنعش الصموت وقد سرى | والجو مضطرب الجهات مقطب |
هل يعلم القوم الذين سروا به | للقبر من حملوا به وتنكبوا |
قد كاد ينطق نعشها لكنما | هو أعجم وهي المكارم تعرب |
لولا صراخ الحاسرات وراءه | ونداوءها حتى أجابت يثرب |
لسمعت للحدباء رنة واجد | أسفا تنوح على الفقيد وتندب |
فمن المعزي الليث نجل محمد | حمدا له تعزى العلاء وتنسب |
فطن تخط له البصيرة مظهرا | في مرقب الإيمان لا يتحجب |
صبرا لماتمها وان عز العزا | فالصبر أولى باللبيب وانسب |
إن المنية لا تطيش سهامها | أبدا وليس من المنية مهرب |
ولو إن هذا السهم يدرأ بالفدا | لفدا فقيدك دارع ومدرب |
خلق البرية للفناء فكلنا | نغدو إلى هذا المقر ونذهب |
إن كان قد عز السلو فإنه | بك يا علي ليستطاب فيعذب |
الأروع الندب الكريم الأريحي | أبو المكارم والسليل الأنجب |
سقيا لقبر أنت مضمر سره | فيه النزاهة والعفاف مغيب |
هي زينب شمس وذا تاريخها | نادى وقد وردت ليوشع زينب |
وقال يمدح الشيخ حسين السلمان بقصيدة منها:
وهل بسوى الحسين ينال رشد | له الخريث قد ضل السبيلا |
وأخمد وقد صالية شبوب | بها لم يبرد الماء الغليلا |
وبت يد الهوان وبت رأيا | برى بحديدة السيف الصقيلا |
ألم تسمع بيوم الجسر لما | تجاسرت الفوادح إن تصولا |
به مدت رواق الشر قوم | على روح تحاول إن تميلا |
وعاد الناس بالآراء تسعى | لغايتها ولم تجد الوصولا |
تجاذبه باشطان غلال | شددت برأسها خطبا مهولا |
فكان المستجار لها حسين | فأسكنها مع الآساد غيلا |
ومد لها مدى الأيام ظلا | على مستنجد النعما ظليلا |
وقد بسط العناية من قدير | له كف حوت فضلا جزيلا |
بها خضع الملوك له فأمست | تمنى من مكارمه قبولا |
ألم تنس البليت وقد تسامت | توثب للعناية لن تزولا |
كما أهدى المليك له احتفالا | تفائس تصحب النصر الجميلا |
وكم ملك تمناها وفيها | نرى شرف السنا جيلا فجيلا |
فأي مدرع بالحزم يلقى | لشاو يأخذ الجوزا مقيلا |
أبو الشبلين ثامرها المرجى | وسلمان وحسبك إن تقولا |
وقال يمدح الشيخ حسين السلمان ويذكر بناءه (السراية) في بنت جبيل، ويمدح ولده ثامر بك:
هنيئا للمشيد بالمشاد | وما رفع العماد من العماد |
هنيئا في مكررها هنيئا | هنيئا لا يؤول إلى نفاد |
إلا فاهنأ حسين بما أجدت | لك الأيام من شرف المهاد |
هنيئا كلما يبدو صباح | باشراق كوجهك للعباد |
هنيئا كلما انهلت سحاب | كراحك بالرغائب والتلاد |
هنيئا كلما ومضت بروق | بمثل ظباك آونة الجلاد |
هنيئا كلما ابتسمت رياض | كوجهك عند مشتبك الصعاد |
هنيئا ما همت كفاك جودا | بانواء المواهب لا العهاد |
هنيئا ما علت نار بليل | كمثل ظباك في مهج الأعادي |
لكم وقف الثناء بكل ربع | وسال نداكم في كل وادي |
وقد أحكمتم عقد المعالي | على أيدي السوابغ والحداد |
وكل مثقف عال طرير | يهز بكف أروع ذي سداد |
فلا تعزى لغيركم انتسابا | على رغم المكابر والمعادي |
ملأت مسامع الأيام | ذكرا بأفواه المكارم والأيادي |
فكم قلدت بالإحسان جيدا | وكم عاف حملت على الجياد |
وذكرك والنجوم مدى الليالي | سواعد في البلاد وفي العباد |
تؤمن كل جارحة إذا ما | دعا قلبي لعزك بازدياد |
ومتع بالبقا بأجل عز | سليلك صاحب المجد المشاد |
طويل الباع ثامر من إليه | سعى الاقبال يمرح في القياد |
فكان محله كمحل نور | العيون الناظرات من السواد |
وقال يمدح علي بك الأسعد ويذكر بناء قصره في قلعة تبنين:
علي أنت للأمراء فخر | وأنت بدارة العلياء بدر |
رفعت بهامة الجوزاء قصرا | ولم ير قبله في النجم قصر |
كأن القلعة الشماء منه | سماء كواكب والقصر فجر |
تبدى عن شروق علاك صبحا | فأدى فرضه المجد المقر |
وأديت الصلاة به ابتهالا | وتسبيحي به حمد وشكر |
سما صرحا فصرح فيه معنى | له في دارة العيوق سر |
تسامى شاهقا في الجو حتى | يخال له على الأفلاك وتر |
فهذا المهرجان فقم لنجلي | عرائس عيشنا فالعيد دهر |
وقال وقد بلغه إن الشيخ عطوي غدار اتسعت دنياه بعد ما كان فقيرا، فأرسل إليه هذه الأبيات:
يا من غدوت على الأيام طبالا | والدهر يرقص ألوانا وأشكالا |
بالله هل صفقت أيامكم طربا؟ | من حيث وافتك بالانعام ايصالا |
فكلنا في عنا الافلاس مرتهن | وكلنا لم يزل يسترحم المالا |
بالله إن صافت الأقدار حالكم | فانفخ بزمرك كي تصفى لنا حالا |
وبشرونا بانعام الزمان لكم | لعلنا إن نرى من شأنكم فالا |
. . . على الضر والاعصار إن ذهبا | وكن على هامة الافلاس بوالا |
وقال في شكوى الزمان:
أشكو إلى الله ما لاقيت من زمني | حالا تفرق بين الجفن والوسن |
لفظت عزمي بأطراف النوى بطرا | فرحت ألطم وجه الريح بالغين |
حتى استقر النوى في أرض (عاملة) | فخيرتني بين الذل والشجن |
كأنما حين قام العيس يصدع بي | نشز الآكام وطي المهمة الحزن |
كنت المشوق (لقانا) أم (جوية) أم | (لدير قانون) لا حيا بها سكني |
فليت شعري ما ذا كان باعثها | عن نفخة أرتعيها في ربي عدن |
أكنت قبل النوى اشتاق (ترمسها) | أم قادني الشوق (للبلوط) والشعن |
أم (للبليلة) لا بلت لها غلل | أم (بقلة الفول) عنها كنت غير غني |
أم (للسميد) بلحم الني منجبلا | ورب واضع زيت فيه يكرمني |
أم كان قد مر بي دهر فعودني | (بربورة) طبخت بالماء واللبن |
أم (للمدبس) إذ يعلو معتقة | من عهد افلاط بين النتن واللخن |
ما قرقرت بطنها إلا فست نتنا | على اللحى دفعا من ريحها النتن |
وله في شكوى الزمان أيضا:
متى ترجو من الدنيا صلاحا | وأولها وآخرها فساد |
كمثل التتن: أوله دخان | بلا نفع وآخره رماد |
وله في مثل ذلك:
يظل محاربي زمن كنود | وعرضي من رذائله سليم |
يسايرني الهوان به كأني | فقيه وهو فلاح لئيم |
وقال بديهة عن لسان أحد الأدباء وقد باع برذونه واشترى بثمنه جبة:
انظر إلى الدهر وأفعاله | وقبح ما يصنع بالحر |
يعاكس الحر بآماله | حتى يرد الغمز للصدر |
قد كان برذوني الذي بعته | يحملني في موقع الضر |
أحوجني العسر إلى يسر | كحاجة المذنب للعذر |
إذ اقبل البرد بسلطانه | وليس عندي مانع القر |
فبعته وابتعت لي جبة | ترد ميت البرد للنشر |
كأنما الأيام في مزحها | تضحك باليسر على العسر |
لا يحتسى الشهد بها مرة | حتى تديف الشهر بالمر |
كحال برذون لنا قد مضى | كنت عليه صاحب القصر |
وكنت اختال على ظهره | فصار يختال على ظهري |
وببالي إن هذه القضية مسبوقة، والبيت الأخير ليس للشيخ حبيب.
وقال راثيا من اسمه محمد الأمين - ويرجح أنه والد جدنا:
أناخوا قليلا في الديار وعرجوا | على المنزل الأعلى الذي هو أبهج |
أقاموا فما غير المحامد منزل | وساروا وما غير الإنابة منهج |
وحدث عنهم صادق القيل منطق | إذ لجلج المنطيق لا يتلجلج |
سوابق آثار ترينا مقامهم | بروضة نعمى صفوها ليس يمزح |
لها أسرجوا خيل المنايا وبادروا | مصابيح في أوج المكارم تسرج |
لهم من نعيم الخلد راح وراحة | ونار لنا بين الضلوع تؤجج |
بكل يد للمكرمات محمد | أمين على التقوى وفيها متوج |
أقام قليلا ثم بادر مسرعا | لدى ربها للروح والقدس معرج |
صفا شربه السلسال فيها وشربنا | به كدر في مرة العيش يمزج |
فمن مبلغ مني رسالة وامق | إلى كوكب فوق الغريين يسرج |
يلم بطوافين لله عكف | من الملأ العلوي تهوي وتعرج |
أبا حسن لي في حماك وديعة | امنت عليها ما يخاف ويزعج |
فأنت الذي لا يختشي الضيم جاره | وعند عظيمات الشدائد تفرج |
هنيئا لمن أمسى لتربك لاثما | ويوم القضا من ذلك الترب يخرج |
فما غيركم للخير فيها وسيلة | ولا بسواكم للشفاعة منهج |
وقال يرثي الشيخ علي شمس الدين العاملي والد الشيخ مهدي شمس الدين من قصيدة:
أعلي شمس الدين بعدك أصبحت | مكسوفة والمجد بعدك أجدع |
حملت بك الأعناق كل فضيلة | منها إلى عين الحقائق مشرع |
رفعت بك الإيمان يصحبه الهدى | فيقل لو إن المجرة مضجع |
ولقد وقفت على ثراك مسلما | تسليم من هو للحياة مودع |
فبكيت حتى كل شيء رق لي | ورثيت حتى كل عضو مدمع |
عظم المصاب فأي رزء اتقي | من بعده ومسرة أتوقع |
وقال:
وعد المحبوب وصلا | في سحير بعد هجر |
فحبست الدمع حتى | قلت هذا الفجر فاجر |
وقال:
يا من أناط على العيون تمائما | فمن المنيط على القلوب تمائما |
تخشى العيون وسهم حائل | بين القلوب ومنه سل صوارما |
لو كنت أعطيت القلوب أمانها | من مقلتيك لما اغتدين غنائما |
لم تأخذ الأبصار منك نعيمها | حتى أقمت على القلوب مآتما |
وقال يذكر أصفهان:
قل للحبيب وللخليط المؤنس | نفسي الفداء لذات ذاك المجلس |
من لي بتلك وكيف بي لو عن لي | ذكراهم ومدار تلك الأكؤس |
أواه من طمع يكلف للنوى | نفسا يعللها المنى بالأنفس |
فتروح تذرع بالسرى بيد الفلا | وتشق بالتسهاد توب الحندس |
تبني له الآمال فوق ذرى السهى | بيتا وتكسوه ثياب السندس |
حتى إذا أخذ النوى أطرافه | هزئت وقالت يا رقيع تنفس |
تسعى النفوس إلى المنى ولربما | يجني ثمار الغرس من لم يغرس |
ما في الأماني راحة لكنما | هي راحة صفعت قفاء المفلس |
أما تسل عن أصفهان وما جرى | فالغيث دمعي والبروق تنفسي |
إذ شمت مالا ارتضي وألفت ما | لا أقتضي وحسوت ما لم احتس |
ما غبت عن نحس الوجوه تطلبا | دفع الأذى إلا وقعت بأنحس |
ماذا أروم من العلا في معشر | جعلت اهاب الضأن زين الأرؤس |
تبتاع فضلات الأنام بأوفر | وتبيع فضل الأكملين بأبخس |
صم إذا حدثتهم أو حدثوا | خرس وهل يجديك صوت الأخرس |
فأروح لا مستأنسا بحديثهم | أبدا ومن لي بالحديث المؤنس |
مالي أرى الآمال إن ضاحكتها | يوما تلقتني بوجه أعبس |
ما بال حظي كلما نبهته | من نومه يأوي لحال اوكس |
قد كنت أطمع في الجواري برهة | فحظيت لكن بالجواري الكنس |
كم كنت أرعاها كأني حارس | والهم يرعاني لغير تحرس |
وطني يعز علي إلا أنه | ألف السهام البعد من جور القسي |
إن جئتم دار السلام فبلغوا | عني السلام أولي المحل الأقدس |
واشرح لهم متن الصحيفة قائلا | إني حملت صحيفة المتلمس |
وله قصائد في مدح عمنا السيد محمد الأمين ذكرت في ترجمته.
وقال هذه الأرجوزة يصف بها رحلته إلى العراق:
أحمد خير منعم وهاب | معلل الأشياء بالأسباب |
ثم الصلاة للنبي المرسل | وآله الغر ذوي الفضل الجلي |
وبعد لما زم رحلي للسفر | مصاحبا في السير أمجادا غرر |
لقوله وهو الذي يسير | فيه اشات لمن يعتبر |
وليس للإنسان إلا ما سعى | به اعتبار واضح لمن وعى |
نؤم بالسير الهداة البررة | آل النبي والولاة السفره |
من بهم قد أعلن الكتاب | والحق قد أوضح والصواب |
وغاية المقصد لثم تربهم | والفوز بازديارهم وقربهم |
فلثم ذاك الترب من أرض النجف | قد ضمن الفوز منالا والشرف |
ولثم ترب كربلا أكرم بها | من تربة للفضل فيها المنتهى |
أحببت إن أثبت ما قد حصلا | مرتبا ومنزلا فمنزلا |
فحين سرنا من بلاد (عامله) | بحمد خير منعم والشكر له |
فبدء سيري كان من (تبنين) | غب وداع الطرف الأمين |
ذاك السري الأريحي الأمجد | والعلم الفذ العلي الأسعد |
قد عمني بفيضه إحسانا | كالغيث جاد وبله هتانا |
حتى وفدت بالمسير (الطيبة) | لخير من حاز النعوت الطيبة |
ذاك الهمام اللوذعي الأنجد | محمد الأسعد وهو الأوحد |
فنالني من بره الإنعام | وعم غيري الفضل والاكرام |
وثم كان ملتقى الرفاق | أصحابنا القصاد للعراق |
فضمنا النادي الزكي المعتبر | بالصفو والأنس بذي الوجه الأغر |
بليلة طاف السرور والصفا | فيها علينا واغتنمنا الشرفا |
وكان في المجلس شيخ فاضل | له بعلم الرمل باع طائل |
سألت منه إن يخوض الرملا | ويلحظ الاشكال شكلا شكلا |
فما يرى ينطق عن هذا السفر | فبان نجح ومنال وظفر |
عدا ثلاث في بيوتات النسا | منكوسة ما بين عل وعسى |
وقد نهضنا عند ضوء الفجر | نفري الفلا من مهمه وقفر |
حتى وردنا الشق وهو منبع | صاف كعين الديك صرف يلمع |
حط لديه الركب في الفلاة | وبات بالانس إلى الغداة |
وهاجنا صوت رفيق معجب | ينشد الرفاق شعرا يطرب |
والكل منا في الهيام والجوى | تشب في احشائه نار النوى |
حتى إذا ضاء الصباح وانجلى | سار المطي طاويا نشر الفلا |
وقد وردنا العصر للديماس | في منزل خال من الايناس |
وبكر الركب إلى الشآم | ولا تسل عن ذلك المقام |
كل يؤم طامعا تكييشا | يبحث في جيوبنا تفتيشا |
حتى وردنا حارة (الخراب) | من الشام مركز الأنجاب |
وقد تلاقينا بنعم الملتقى | مع فتية ترعى المعالي والتقى |
عن موعد كان لنا من (عامله) | يجمعنا لولا اختلاف القافلة |
وقد توافينا بيوم واحد | في الشام بلغة المقاصد |
وبدء من أمعن بالاكرام | جواد آل حمزة اللحام |
نعم الجواد الأروع الجواد | نعم الفتى عزت له الأنداد |
مهذب الأخلاق غير مائل | عن سنن المجد إلى التكاسل |
قد بسط الأخلاق بالمعروف | وكل معنى حسن ظريف |
حين تلقى سمعه ورودي | كانإلينا أول الوفود |
حتى إذا وافى مقري لم يدع | إن حمل الأسباب طرا ورجع |
لم يك إلا في حماه منزلي | ونعم دار كان فيها معقلي |
فاختلف الأصحاب والإخوان | ومن له في الأدب اقتران |
ونحن في اخفض عيش وصفا | مع جيرة تمزح بالحلم الوفا |
ودأبنا بعد تمام الأنس | نضرب للتحميل طبل العرس |
فالبعض يختار المسير ممعنا | قلاطة والبعض يختار الونى |
والبعض يختار السرى إلى حلب | وبعضهم في لقم الشول رغب |
ومانع السير على الجهات | جميعها تعرض العتات |
إذ عاثت اللصوص والغزاة | بكل وجه وهم العصاة |
وقد أشار بعض إخوان الصفا | وهو الذي حاز كمالا ووفا |
إن نكتري بغال جند الدولة | لما لهم من منعة وصوله |
فاختير هذا الرأي فاكترينا | كما أشار ذو السدا علينا |
وكان في البين المشير واسطه | على شروط قررت ورابطه |
وقد بقينا في دمشق شهرا | مرادفا لليلتين أخرى |
ونحن في اليوم نسير أو غدا | وكل يوم نستجد موعدا |
حتى إذا ما أذن الله لنا | في السير سرنا وانتهى ذاك الونى |
وصحبنا تسع وعشرون عدد | بين ذكور وإناث وولد |
وقد سرينا من دمشق عصرا | (براه ذي الحجة أرخ يسرا) |
سنة 1263
حتى وردنا الخان عند المغرب | ثلاث ساعات بوخد المركب |
وبكر الركب إلى القطيفه | عن كدة مسرعة عنيفه |
بها أقمنا ليلة ونافله | منتظرين لعميد القافلة |
ثم ارتحلنا قبل ضوء الفجر | حتى وردنا النبك بعد الظهر |
ودون خان النبك كان المنزل | وهو لعمري للفساد معقل |
بها أقمنا ليلة وليله | حتى أتى العميد يزجي خيله |
وفي الصباح جد وخد السير | نمعن بالجد إلى القصير |
وقد وردناه قبيل المغرب | والكل نشوان بخمر التعب |
وجد في الصبح مسير القافلة | حتى أتينا حمص عند القائلة |
بها أقمنا ليلة وثانيه | وصحبنا للسير غير وانية |
وقد توافينا بيوم واحد | مع خل صدق وخليل ماجد |
قد جد يسعى من بلاد عامله | لأرض فوعة لأمر كان له |
فجد بالالحاح إن نمضي معه | لفوعة لعل فيها منفعه |
وفي صباح الثالث الركب ارتحل | إلى حماه والعصير قد وصل |
حتى إذا ارتحنا من الاعياء | قمنا نزيل الرنق بالصفاء |
نطوف في خلالها تفرجا | وقد سلكنا منهجا فمنهجا |
كم جنة صح بها النعيم | إلا النعامى والصبا سقيم |
وللنواعير حنين موجع | لكل قلب بالنوى يصدع |
تدور سعيا وتئن كمدا | كأنها تطلب ألفا فقدا |
خاطبتها ولي فؤاد قد حوى | نار الجوى وبالفراق قد ذوى |
قلت لها وللنوى اختلاق | لك الحنين ولي الفراق |
فأين أنت والغرام والهوى | الكل لي وأنت تبدين الجوى |
فأين نار القلب منك والشجن | من نار قلبي حين فارقت الوطن |
ثم قصدنا بعدها شيخونا | صبحا فجئنا الخان قائلينا |
وقد وجدنا في الطريق جندا | يقارب الألف خيولا عدا |
سألت من بعضهم استفهاما | فقال من بغداد نبغي الشام |
ومن أمر ما وجدنا جهدا | في الركب تركي يضاهي القردا |
مقلد طنبوره نهارا | والليل ينهي ضربه الأوتارا |
غناه صوت الدب إذ ما أحرجا | وهو أبح كيف يروي الهزجا |
وضربه للعود كال. . . | من جوف متخوم من الاخلاط |
فصوته ووجهه وبشره | برد الشتا وليله وضره |
قيل الغناء يدفع الآلاما | وصوت هذا يجلب الأسقاما |
يورث داء السل والزحير | ويغلب البرد على المحرور |
فليلة الخان حوت كل الأذى | بريحه ورمله وصوت ذا |
ثلاثة نلنا بها غثاثه | وبالغت في ضرنا الثلاثة |
ثم ارتحلنا بعد للمعره | وهي لعمري للصلاح ضره |
بها وجدنا رجلا مجنونا | وقد تسمى بينهم دحنونا |
يقول من ذا يبتغي الرضوانا | يفعل بي فيدخل الجنانا |
وعين الفعل بسبع عشره | ويكثر الفوز لمن قد كثره |
يكبس النساء والرجالا | والكل منهم طالب منالا |
يرجون من تكبيسه الشفاء | ويدعون كم أزاح داء |
هذا الذي منهم بدا علانيه | والله أدرى بالتي في الثانية |
فقبح الله بني المعره | وشبهها في الناس ألف مره |
ثم ارتحلنا عند ضوء الفجر | حتى اتوا سرمين بعد الظهر |
وفي الصباح قصد الركب حلب | وسرت للفوعة من أجل الإرب |
وصاحبي الفذ الحسين المنتقى | ومن بحمص كان فيه الملتقى |
حتى نزلنا بالهمام المتقي | محمد ابن الفاضل الحبر التقي |
وقد حبينا منه بالإكرام | والبر والإحسان والإنعام |
وما عجيب منهم الأفضال | لحالة موروثة تدال |
وهو يزيد البشر آنا آنا | ويتبع الحسنى له إحسانا |
وقد أقمنا عنده ثلاثا | وزاد في ايناسه اكتراثا |
ثم توادعنا وسرنا صبحا | مع صحبة حوت تقى ونجحا |
حتى وردنا حلبا عصيرا | وكم شهدنا جامعا وديرا |
ثم تلاقينا مع الرفاق | وانضم مشتاق إلى مشتاق |
فلم نجد في حلب ما ينتقى | غير الشقاق والنفاق والشقا |
وقد رأينا جامعا عظيما | مزخرفا منوعا قديما |
تتيه فيه العين والألباب | وكم تليه خوخة وباب |
مرمره في الأرض صفو الماء | يريك شكل الطير في السماء |
وكم به من منبع وساقيه | وبركة لها سقوف واقية |
يجري إليها الماء صاف يلمع | كذاك منها لسواها يسرع |
ترى صفاء الماء في الرخام | كأنه الخيال في الأوهام |
ولا أزيد وصفه خوف الملل | فاعتبر الجامع في حسن العمل |
تسعة أيام أقمنا عددا | ثم ارتحلنا حيث نبغي المقصدا |
سرنا صباحا حيث طاب السرى | حتى وردنا اخترين عصرا |
وقاصرون بعدها ونزبا | كلا اتيناها نزولا مغربا |
ثم وردنا لبراجيك ضحى | وقد تعسفنا عبورا وانتحا |
بها أقمنا ليلة ثم إلى | نحو هربزان قصدنا منزلا |
فضل في طريقنا الدليل | وما له إلا النجا سبيل |
فثم أم الركب بوغزلانا | ظهرا وما أطيبه مكانا |
لنشأة الأمواه والأزهار | للطير تغريد على الأشجار |
بها أقمنا لغروب الشمس | على ارتياح وصفا وأنس |
ثم سرينا الليل سيرا صبحا | حتى وردنا هربزان صبحا |
ويومه الثاني ارتحلنا فجرا | حتى وردنا نحو (ارفا) ظهرا |
بها شهدنا بركة الخليل | تجري بها الحيتان كالخيول |
فلو وزنت الماء والحيتانا | زادت على مياهها رجحانا |
كأنها السطور حشو الطرس | آمنة من صائد ومس |
والمنجنيق اثره مبين | يخبر عما ارتكب اللعين |
ومات في الركب شقي محرب | يدعى غزالا وهو كلب أجرب |
فعوق الركب عن المسير | ضحى إلى إن حل في القبور |
فكان ذا عن البكور عذرا | لذا وردنا جلمان ظهرا |
ثم سرينا في الدجى وشيكا | حتى الغروب فوردنا نيكا |
وحينما طير الثريا جنحا | سرنا فجئنا لسويرك ضحى |
فأخبرت ناس لهم درايه | بحالة اللصوص والسعايه |
بأن قوما من عتاة العرب | هم مائتان ولنا في طلب |
كانوا لنا مرتقبين مذ سرى | ركب لنا فخيبت إن تظفرا |
وقد بقي عميدنا محتارا | ليلا يرى المسير أم نهارا |
من أي وجه يأخذ الطريقا | وهو بسكر الفكر لن يفيقا |
حتى استقر الرأي عن نهوك | إن يسري الركب إلى شرموك |
خرافة
وفي سويرك شهدنا آية | ثابتة بالنقل والدرايه: |
إن بها من عصبة المختار | ستة أجسام بلا تواري |
أجسامهم على مرور الحجج | باقية تنمو بطيب الأرج |
واحدهم شيخ كبير أشيب | يدعى عليا وهو فيهم معطب |
مبضع الصدر طعين الخاصره | باد لعيني ناظر وناظره |
وابنان في جنبيه وابنتان | وزوجة له على البيان |
وهم على مرتفع كالمصطبة | أجسادهم مصفوفة مرتبه |
هذا ونحن حين جئنا للمحل | شمناه صدقا مثلما الرائي نقل |
سوى الجسوم كل جسم جعلا | خلال تابوت رفيع اعتلى |
ثلاثة كنا به تماما | قد التمسنا من يلي الأجساما |
إن يفتح التابوت للمشاهده | وبعد بذل الجهد والمراوده |
قد قابل التابوت بالتعظيم | وقارن الآداب بالتسليم |
وكان تابوت علي مثلما | يدعى وقد كان الغطا مسنما |
فمذ تجلى النور من حجابه | واسفر البدر بلا نقابه |
مددت طرفي نحوه تأملا | رأيته بالقطن قد تزملا |
سوى قليل من محياه بدا | وسائر الجسم عن العين ارتدى |
ورام إن يكشف عن كل الجسد | لكي نراه عن ثبات معتمد |
فمد واحد يديه عاجلا | خلاله فاغتاظ ذاك قائلا: |
ما هذه حسن سجايا وأدب | وأغلق الباب وما نلنا الإرب |
ثم رجعنا لمحط القافلة | وقد أخذنا كلما نحتاج له |
حتى إذا أربى الظلام سترا | سرنا لشرموك فجئنا عصرا |
بها أقمنا ليلة وأخرى | لم نلف إلا برة وبرا |
وقد وجدنا عندها حماما | بلا وقيد لاهبا ضراما |
به اغتسلنا وجميع من حضر | ثم تهيأنا إلى حيث السفر |
حتى إذا ما كان قبل الفجر | سرنا فجئنا الخان بعد الظهر |
وكان نزل من بني الأكراد | بالقرب منه عيبة الفساد |
تغتنم الفرصة في الحرام | والكل عاط جذر اللئام |
وحولنا الأجناد كل محترس | يشبه ذا اللبدة حين يفترس |
والخان مدعو بخان كفر | منه ارتحلنا لديار بكر |
وقد نزلنا ثم بئس المنزل | خان لأرذال الطغام معقل |
وصاحب الخان لئيم الذات | منغمس بأرذل الصفات |
يدعى بعبد الله في الاسماع | وهو عبيد الخزي والأطماع |
كم رام فينا عثرة وما ظفر | وكم لتأييد الإله من عبر |
فنقمة الله عليه أبدا | ما هبت الريح على طول المدى |
والرأي قد اجمع منا في السرى | بدجلة والحال قد تعذرا |
لصادر التحريج في الأكلاك | وضبطها لذخرة الأتراك |
وثم آلات حروب وعدد | لنحو بغداد لأمر قد ورد |
ونحن في أمر السرى حيارى | انكتري ظهرا أو اصطبارا |
واختزلت جماعة منا على | مسيرها برا ليأس حصلا |
فعندها شمرت عن ساق الهمم | أشد للسعي وللجهد الحزم |
نظمت مدحا للوزير أحمدا | أبديت من بعد الثناء المقصدا |
فمذ تلاها باعتناء وابتهر | أوما باحضاري لشخص وأمر |
ومذ رآني أظهر التعظيما | وأكثر الآداب والتسليما |
أومأ إلى جانبه لمجلسي | بطلق وجه بالجمال مكتسي |
وكان لي بالصحبة ندب أغر | وهو الحسين الماجد الفذ الأبر |
فأخرج التوقيع بالمطلوب | في غاية المأمول والمرغوب |
وأرسل التابع للديوان | توصية باللطف والإحسان |
بكل ما نريد إن لا يمتنع | من كلك أو عبرة أو مجتمع |
وحين قمنا قام للإجلال | يشير بالمعروف والأفضال |
حتى أتينا صاحب الديوان | فبلغ المأمور باللسان |
ما قاله الندب الوزير، وأمر | فجئ بالكلاك حالا فحضر |
فبلغ الأمر وأوصوه بما | أوصى به الفذ الوزير مكرما |
فثم بادرنا لخير نقله | من ذلك الخان لشاطي الدجله |
به أقمنا عن تعلات الونى | خمسا وليس السير فيها ممكنا |
وعلة الإمهال للأماني | نسري مع الاكلاك للأمان |
وقد أقمنا في ديار بكر | سبعا وعشرا في هنا وضر |
ثم سرينا نقتفي التوكلا | على الرؤوف البرنبغي الموصلا |
وكان ماء دجلة ضعيفا | وسيرنا كان به عنيفا |
كم شعبة للماء فيه تفترق | لضعفه ونحن فيها نخترق |
فجزرة تأتي عقيب جزره | يستوقف الكلاك فيها العبرة |
حتى وردنا الحصن بعد الظهر | رابع يوم من ديار بكر |
وهو الذي يدعى بحصن كيفا | وقد بدا عالي الذرا كنيفا |
والنهر في واديه يجري سائلا | مدفقا كالسهم يرمي صائلا |
بيوته تسمو على ارتفاع | مبثوثة كالوشم في الذراع |
فبعضها تحت وبعضها عمل | وبعضها جامع دين مختزل |
فكم بها من جامع قديم | ومدرس أعد للتعليم |
وكم قصور رفعت وصرح | يطول فيها إن وصفت شرحي |
قديمة الآثار من عهد القدم | تنبئ عن ثروة من صاروا رمم |
وأهلها جميعهم أكراد | دأبهم الشقاق والفساد |
وما لبثنا دون إن شرينا | ما نبتغي وبالوحي سرينا |
من ثم كان الماء في ازدياد | فارتاحت الأنفس في المهاد |
حتى وردنا بعدها الجزيرة | وهي لعمري بلدة خطيره |
وقد خلت من نضرة ومن شجر | ومن قصور ترتقى ومن أثر |
وما بها سوى المياه دائره | مثل الغواة حول بنت حاسره |
رخيصة الأسعار خذ ولا تسل | اللحم والسمن كثير والعسل |
وأهلها في الخفض والليانة | كأنها العانة في المثانه |
وهم من القوم الأولى عنها كشف | غطاؤها ومن رآها يعترف |
بها أقمنا ليلة وأخرى | ثم سرينا حيث طاب المسرى |
حتى وردنا موصلا في الخامس | وهي لعمري مجمع النفائس |
وقد نزلنا الخان حول الجسر | فزال عنا فيه كل عسر |
لما به من نشأة ولطف | يطول شرحي فيه حين وصفي |
بالجانب الشرقي زرنا يونسا | في نينوى طابت هناك مغرسا |
وقبره على كثيب مشرف | منوع التحسين بالتزخرف |
معظم بناؤه رحب الحرم | زواره كثيرة جم الخدم |
مختلف الوضيع والشريف | وموئل الأقيال والضعيف |
فليس يخلو قبره من زائر | بكل إن ذاهب وغابر |
ثم قفلنا نبتغي المنالا | نزور جرجيس ودانيالا |
قبراهما بالجانب الغربي | جئنا إليهما بغير عي |
حتى أتينا دانيالا أولا | وقد رأينا مرقدا مبجلا |
معظم الشعار في الآثار | منوع الاشكال في الاستار |
رحب المكانين ضريح وحرم | خلاله الزوار كثر والخدم |
بقربه قبر أويس القرني | خلال سرداب قديم قد بني |
ثم قصدنا بعده جرجيسا | وقد رأينا مرقدا نفيسا |
معظم الشعار في البناء | سامي الذرا متسع الأرجاء |
أستاره من الحرير السندسي | بعض وبعض من حرير أنفس |
قد زاد بذل المال في اصطناعه | مع سعة الضريح وارتفاعه |
وما يلي الضريح رحب والحرم | يكثر فيه الزائرون والخدم |
متصلا بجامع أعظم به | من جامع بصنعه ورحبه |
ثم انثنينا بعد انهاء الوطر | من الصلاة والدعاء والنظر |
نطوف في المدينة اعتبارا | نعتبر الأحوال والآثارا |
فكم بها من اثر قديم | وكم بها من معبد عظيم |
وهي لعمري بلدة عظيمه | أحوالها باللطف مستقيمه |
فماؤها دجلة والهواء | فيها لكل علة شفاء |
زاهية الجنات بالأشجار | لكثرها رخيصة الأسعار |
وخبزها مثل صدور غيد | مهفهفات كاعبات رود |
أشهى إلى العين من الرقاد | من ناعس بالغ في السهاد |
كذلك القمير كالزنود | منهن والتفاح كالخدود |
والضرب الماذي كالرضاب | من فم من تهوى من الأحباب |
أحلى من الوصل عقيب الهجر | ومن منال القصد بعد الصبر |
ولا أطيل الشرح في حسن الثمر | فعن جنان الخلد قد ذاع الخبر |
سبعة أيام بها أقمنا | ثم إلى تكريت قد عزمنا |
حتى إذا تمت ليال أربعة | جئنا لتكريت بخفض ودعه |
وهي لعمري بلدة سخيفه | وأهلها كالدود وسط جيفه |
وما بها شيء يسر الناظر | به سوى البطيخ وهو وافر |
كذا النساء كالظباء في الحور | والحسن والرجال أمثال البقر |
بها أقمنا ليلة أخرى | ثم سرينا فوصلنا عصرا |
لنحو سأمراء فابتدرنا | سرعان للمزار فاغتسلنا |
والكل منا شيق طروب | للشوق في أحشائه وجيب |
نلثم بالعيون والشفاه | وبالخدود الترب والجباه |
حتى وردنا مغرب الشموس | وموضع التهليل والتقديس |
نمرغ الخدود بالوجين | ونمسح الدموع باليمين |
حتى إذا جئنا بترتيب العمل | فرضا ونفلا ودعاء قد حصل |
ثنى بنا القصد إلى السرداب | للثم ترب الأرض والأعتاب |
ثم قضينا العمل المرتبا | من كل ما فيه إليه ندبا |
صلى الإله ما سرى ريح الصبا | على أمام في فناه غيبا |
وقد أقمنا ليلتين واقتضى | مسيرنا منها إلى أبي الرضا |
حتى إذا ما كان يوم الرابع | بدا لنور الطهر أسنى لامع |
يلوح للقبة من بعيد | فعندها شرعت في قصيدي |
قصيدته في حمد البك
ومن شعره قصيدة تتجاوز مائة بيت، نظمها في انتصار حمد البك المحمود على جيوش إبراهيم باشا يرد بعضها في ترجمة حمد البك المحمود.
دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 4- ص: 541