أبو شجاع عضد الدولة فناخسرو شاهنشاه ابن ركن الدولة أبي علي بن بويه الديلمي

ولد بأصفهان في ذي القعدة سنة 324وتوفي يوم الاثنين ثامن شوال سنة 371عن سبع وأربعين سنة وأحد عشر شهرا وثلاثة أيام ببغداد ونقل إلى مقبرته بالنجف فدفن فيها.

كانت إمارته في العراق خمس سنين ونصفا، وفي أيامه عمرت بغداد وأخر الخراج، ورفع الجباية عن قوافل الحجاج وكثر إدرار الأرزاق والرسوم والصلات للقراء والفقهاء وأهل الأدب، وهذا لم يجتمع في زمن من الأزمان كما اجتمع في الدولة البويهية.

وهو أول من خوطب بالملك شاهنشاه وأول من خطب له على المنابر مع الخلفاء وأول من ضرب الطبل على بابه أوقات الصلوات الخمس، وعمر المشهد العلوي، فقد جاء في تاريخ طبرستان وريان ومازندران:

وعمر الأمير عضد الدولة فناخسرو من آل بويه مشهد أمير المؤمنين عليه السلام في النجف ومشهد الحسين عليه السلام في كربلاء ومشهد موسى والجواد عليهما السلام في بغداد ومشهد العسكريين عليهما السلام في سامراء عمارة كثيرة وكتب اسمه على باب مشهد علي بن أبي طالب عليه السلام وكتب هناك وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد وفي موسم عاشوراء والغدير والمواقف الأخرى كان يحضر في المشاهد ويقوم بالمراسم التي يقوم بها الشيعة ودفن في النجف وقال مولانا أولياء الله قد وصلت إلى هناك ورأيت اسم الخليفة الناصر وابنه المستنصر الإمامي المذهب مكتوبا على تلك العمارة "اه".

وعن زينة المجالس من جملة آثار عضد الدولة الباقية إلى يومنا هذا أنه بنى حوضا في اصطخر فارس له سبع درجات لو نزح منه ألف رجل في كل يوم مدة سنة لم ينقص منه إلا درجته.

ومن آثاره السد الذي بناه على فم ماء (كربار) بشيراز المشهور بسد عضد وسد الأمير إسحاق لا نظير له لأنه سد الماء مع هذه العظمة والسرعة وبنى عمارة عالية عليه لعبور عامة الناس وعمل عليه عدة طواحين والماء مشرف فوق هذه العمارة فيصب إلى أسفل، كما هو المشهور في الألسنة أن عضد الدولة جعل جبلا فوق البحر وبحرا فوق الجبل.

وقال السيد علي بن طاوس في كتاب فرج الهموم: ومن العلماء بالنجوم عضد الدولة بن بويه وكان منسوبا إلى التشيع ولعله كان يرى مذهب الزيدية "اه" وهذا غريب منه فلم يذكر أحد عن عضد الدولة أنه كان يرى مذهب الزيدية وغيره بل كان إماميا اثني عشريا ومثله في الغرابة قوله كان منسوبا إلى التشيع فتشيع عضد الدولة أشهر من نار على علم.

وفي أنوار الربيع: روي أنه مما أنشد الصاحب بن عباد عضد الدولة قصيدته الملقبة باللاكنية لكثرة ما فيها من لفظة لكن أولها:

فلما بلغ إلى قوله فيها:

قال عضد الدولة يكفي الله تطيرا من قوله تغلب. وله ألف أبو علي الفارسي كتاب الإيضاح في النحو، وقد كان عضد الدولة أديبا شاعرا فمن شعره قوله:

وقوله:

وله في الخيري:

وعضد الدولة هو أشهر ملوك بني بويه صيتا وأعظمهم صولة وأغزرهم علما وأرفعهم أدبا وأوسعهم تدبيرا وأجلهم شأنا، ولذلك بلغت الحكومة البويهية ذروة ازدهارها على عهده. وكانت ولادته حين كان أبوه ركن الدولة صاحب أصفهان والري (طهران وضواحيها) وهمدان وربحان وجميع عراق العجم وجرجان وطبرستان. (كركان ومازندران حاليا).

ولما كان أخوه الأكبر علي الملقب (عماد الدولة) قد اتخذ مقر حكومته مدينة (شيراز) قاعدة أيالة فارس جنوب إيران وكان عقيما وقد اشتد به مرض الكلى سنة 337وشعر بدنو أجه أنفذ إلى أخيه ركن الدولة يطلب منه أن ينفذ إليه ابنه (عضد الدولة فناخسرو) ليجعله ولي عهده ووارث مملكته بفارس وسائر أرجاء جنوب إيران فجاء عضد الدولة في هذه السنة إلى شيراز ولما يبلغ من العمر الثالثة عشرة فاستقبله عمه (عماد الدولة) في جميع عسكره وأجلسه في داره على السرير ووقف هو بين يديه وأمر الناس بالسلام عليه والانقياد له.

وفي جمادى الآخرة سنة 338مات (عماد الدولة) عن سبع وخمسين سنة وبقي عضد الدولة وعمره 14سنة وحده فاختلفت أصحابه، مما اضطر والده (ركن الدولة) للمجيء إلى شيراز للأخذ بيد ابنه والتعاون مع (الصيمري) وزير أخيه معز الدولة الذي كان قد أرسله - من بغداد - إلى شيراز لمساعدة ابن أخيه (عضد الدولة) وقد اتفق هذان على تقرير حكومة (عضد الدولة) وبقيا في شيراز مدة تسعة أشهر.

عضد الدولة في حروبه وفتوحه

وأخذ عضد الدولة الذي لم يكن قد لقب بعد بهذا اللقب بجيشه إلى كرمان استولى عليها في رمضان سنة 357وأقطعها ولده أبا الفوارس شرف الدولة، وفي عام (360) ثارت على عضد الدولة كرمان فأخمد الثورة في السنة نفسها. وتفصيل ذلك أن القفص والبلوص - بلوج - (ومسكنهم أيالة بلوجستان على الحدود الإيرانية - الباكستانية الآن) ومعهم أبو سعيد البلوصي وأولاده تحالفوا على معارضة عضد الدولة فضم عضد الدولة إلى (كوركير ابن جستان) (عابد بن علي) فسارا بجيشهما إلى جيرفت والتقوا فيها مع البلوصي في عاشر صفر سنة 360فاقتتل الفريقان ثم هزم القفص ومن معهم فقتل (5000) من وجوههم وشجعانهم وقتل ابنان لأبي سعيد وأسر جماعة منهم بينهم أبو الليث ثم سار (عابد بن علي) يتتبع آثارهم ليستأصلهم فأوقع بهم عدة وقائع وأثخن فيهم وانتهى إلى هرمز فملكها واستولى على بلاد التين ومكران (جنوب غربي إيران على ساحل بحر عمان) وأسر من رجالهم ونسائهم وذراريهم وطلب الباقون الأمان وبذلوا تسليم معاقلهم وجبالهم على أن يدخلوا في السلم وينزعوا شعار الحرب ويقيموا حدود الإسلام من الصلاة والزكاة والصوم ثم سار عابد إلى طوائف أخرى يعرفون بالخرمية والجاشكية (سكان جاسك في بلوجستان) يخيفون السبيل في البحر والبر فأوقع بهم وقتل كثيرا منهم وأنفذهم إلى عضد الدولة، فاستقامت تلك الأرض مدة من الزمن لعضد الدولة ثم لم يلبث البلوص إن عادوا إلى ما كانوا عليه من سفك الدم وقطع الطريق فلما فعلوا ذلك تجهز عضد الدولة وسار إلى كرمان في ذي العقدة سنة 360فلما وصل السيرجان (مدينة بكرمان) رأى فسادهم وما فعلوه من قطع الطريق بكرمان وسجستان وخراسان فجرد عابدين علي في عسكر كثيف من الديلم والجبل والترك والعرب والكرد وغيرهم وأمره باتباعهم فلما أحسوا به أوغلوا في الهرب إلى مضايق ظنوا أن العسكر لا يتوغلها فأقاموا آمنين فسار في أثرهم فلم يشعروا إلا وقد أطل عليهم فلم يمكنهم الهرب فصبروا يومهم وهو 19ربيع الأول سنة 361 ثم انهزموا آخر النهار وقتل أكثر رجالهم وسبى الذرارى والنساء وبقي القليل وطلبوا الأمان فأجيبوا إليه ونقلوا عن تلك الجبال وأسكن عضد الدولة مكانهم الأكرة والزارعين حتى طبقوا تلك المواضع بالعمارات والمزارع وطهرت تلك الجبال منهم.

ومما يذكر أن عضد الدولة قبض في هذه السنة على (كوركير بن جستان) قبضا فيه إبقاء وموضع للصلح.

وفي ربيع الأول سنة 362استولى عضد الدولة على عمان (على ساحل الخليج) وجبالها بواسطة وزيره أبو القاسم المطهر بن محمد إذ عندما مات عمه معز الدولة ببغداد سنة (356) غلب الزنج على عمان وقتلوا ابن نبهان الطائي الذي كان يدعو لعضد الدولة وأمروا عليهم ابن حلاج فسير عضد الدولة جيشا من كرمان إلى عمان بطريق البحر بقيادة أبي حرب طغان فخرج أبو حرب إلى البر من المراكب وسارت المراكب في البحر من ذلك المكان فتوافوا على صحار قصبة عمان فخرج إليهم الزنج واقتتل الطرفان قتالا شديدا في البحر والبر فظفر أبو حرب واستولى على صحار وانهزم أهلها. ثم اجتمع الزنج في (بريم) فسار إليهم أبو حرب فأوقع بهم قتلا وأسرا. وبعد ذلك ثار أهالي جبال عمان وهم من الشراة وجعلوا لهم أميرا اسمه ورد بن زياد وجعلوا لهم خليفة اسمه حفص بن راشد فاشتدت شوكتهم فسير عضد الدولة المطهر بن محمد وزيره في البحر فبلغ نواحي حرفان من أعمال عمان فأوقع بأهلها وأثخن فيهم وأسر، وسار منها إلى (ما) وهي على أربعة أيام من صحار فقاتل من بها وأقع بهم وقعة عظيمة قتل فيها وأسر كثيرا من رؤسائهم وانهزم أميرهم واتبعهم المطهر إلى (نزوى) فانهزموا منه وقتل (ورد) وانهزم حفص إلى اليمن فصار معلما، وسار المطهر إلى (الشرق) فأوقع بسكانها وبذلك استقامت عمان جميعها لعضد الدولة في أوائل سنة 363.

وفي هذه السنة كتب ركن الدولة إلى ابنه عضد الدولة يأمره بالسير إلى بغداد للاجتماع بابن عمه عز الدولة بختيار بن معز الدولة مع الوزير أبي الفتح ابن العميد لمساعدته ضد الأتراك الذين كانوا قد ثاروا ضده أما عضد الدولة فقد وعد بالمسير ولكنه انتظر ببختيار الدوائر طمعا في ملك العراق.

كما أن بختيار توالت كتبه إلى ابن عمه عضد الدولة يستنجده ويستعين به على الأتراك الذين ثاروا ضده فسار عضد الدولة في عساكر فارس متجها نحو بغداد واجتمع به أبو الفتح ابن العميد وزير أبيه ركن الدولة في عساكر الري بالأهواز وساروا جميعا إلى واسط (في العراق) واجتمع فيها عضد الدولة ببختيار وسار عضد الدولة إلى بغداد في الجانب الشرقي (الرصافة) وأمر بختيار أن يسير في الجانب الغربي (الكرخ) فلقيه (الفتكين) والأتراك الذين كانوا قد استولوا على بغداد وطردوا منها بختيار بين نهر ديالى والمداين (جنوبي بغداد) فاقتتلوا قتالا شديدا وانهزم الأتراك فقتل منهم خلق كثير ووصلوا إلى نهر ديالى فعبروا على جسور كانوا عملوها عليه فغرق منهم أكثرهم من الزحمة. وكانت هذه الوقعة في 14 جمادى الأول من سنة 364 كما غرق وقتل في هذا الحادث كثير من العيارين الذين أعانوا الأتراك في القتال. ثم سار الأتراك إلى تكريت وسار عضد الدولة فنزل بظاهر بغداد ثم دخلها بعد أن علم هرب الأتراك إلى تكريت ونزل بدار المملكة التي كان قد أنشأها عنه معز الدولة في الشماسيه بجانب الرصافة وجعلها مقر حكومته وكان الأتراك قد أخذوا الخليفة (عبد الكريم الطائع لله) معهم كارها فسعى عضد الدولة حتى رده إلى بغداد فوصلها في 8 رجب سنة 364 في المساء وخرج عضد الدولة فلقيه في الماء وسار مع الخليفة حتى أنزله بدار الخلافة. وكان عضد الدولة قد طمع في العراق وإنما خاف أباه ركن الدولة فأثار عضد الدولة جند بختيار ضده لأنه كان قد استضعف بختيار، مما اضطر بختيار إلى استعمال الغلظة نحو جنده بإشارة من عضد الدولة لظنه أنه مشفق عليه ولكن ذلك أدى إلى اضطراره إلى الاستعفاء من الإمارة وإغلاق باب داره وصرف كتابه وحجابه، وقد استمر شغب الجند ضد بختيار مدة ثلاثة أيام وفي النهاية قبض عضد الدولة على بختيار في 26 جمادى الآخرة 364 وسر الخليفة الطائع مما جرى على بختيار لأنه كان نافرا منه. أما عضد الدولة فبعد أن أعاد الخليفة إلى بغداد أنفذ إليه مالا كثيرا وغيره من الأمتعة والفرش وغير ذلك. ولما قبض عضد الدولة على عز الدولة بختيار متوليا البصرة، فلما بلغه سجن أبيه امتنع على عضد الدولة فكتب إلى عمه ركن الدولة والد عضد الدولة بما جرى على والده ببغداد من عضد الدولة ومن أبي الفتح ابن العميد، فلما سمع بذلك ركن الدولة وهو بالري (طهران الحالية) ألقى نفسه عن سريره إلى الأرض وتمرغ عليها وامتنع من الأكل والشرب عدة أيام ومرض مرضا لم يشف منه باقي حياته. وكان محمد بن بقية بعد بختيار قد خدم عضد الدولة وضمن له مدينة واسط وأعمالها فلما صار إليها خلع طاعة عضد الدولة وخالف عليه وأظهر الامتعاض لخلع بختيار وكان عمران بن شاهين صاحب البطيحة بالعراق فطلب مساعدته وحذره مكر عضد الدولة فأجابه عمران إلى ما التمس. وكان عضد الدولة قد ضمن سهل بن بشر وزير (الفتكين) بلد الأهواز وأخرجه من حبس بختيار فكاتبه محمد بن بقية واستمالة فأجابه، فلما عصى ابن بقية أنفذ إليه عضد الدولة جيشا قويا فخرج إليهم ابن بقية في إحماء ومعه عسكر قد سيره إليه عمران بن شاهين فانهزم أصحاب عضد الدولة أقبح هزيمة. وكاتب ابن بقية ركن الدولة والد عضد الدولة بحاله وحال بختيار فكتب ركن الدولة إليه وإلى المرزبان وغيرهما يأمرهم بالثبات والصبر ويعرفهم أنه على المسير إلى العراق لإخراج عضد الدولة على عضد الدولة وتجاسر عليه الأعداء حيث علموا إنكار أبيه عليه وانقطعت عنه موارد فارس والبحر ولم يبق بيده إلا مدينة بغداد وطمع فيه العامة واشرف على ما يكره، فرأى إنفاذ أبي الفتح ابن العميد برسالة إلى أبيه ركن الدولة يعرفه ما جرى له وما فرق من الأموال وضعف بختيار وأنه إن أعيد إلى حاله خرجت المملكة والخلافة عنه ويسأله ترك نصرة بختيار، ثم قال لأبي الفتح ابن العميد فإن أجاب والدي إلى ما تريد منه وإلا فقل له غني أضمن منه إعمال العراق وأحمل أحيه منها كل سنة ثلاثين ألف ألف درهم وأبعث بختيار وأخويه إليه فإن اختاروا بقوا عنده وإن اختاروا بعض بلاد فارس سلمه إليهم ووسع عليهم وإن أحب (يعني أباه) أن يحضر إلى العراق لتدبير الخلافة وإرسال بختيار إلى أحري وعودة عضد الدولة إلى فارس فالأمر له، وقال لابن العميد: فإن أجاب والدي إلى ما ذكرت وإلا فقل له أيها السيد الوالد أنت مقبول الحكم والقول ولكن لا سبيل آخر إطلاق هؤلاء القوم بعد مكاشفتهم وإظهار العداوة وسوف يقاتلونني بغاية ما يقدرون عليه فتنتشر الكلمة ويختلف أهل هذا البيت أبدا. فإن قبلت ما ذكرته فأنا العبد الطائع وإن أبيت وحكمت بانصرافي فإني سأقتل بختيار وأخويه وأقبض على كل من اتهمه بالميل إليهم وأخرج عن العراق وأترك البلاد سائبة ليدبرها من اتفقت له. فخاف ابن العميد أن يسير بهذه الرسالة وأشار أن يسير بها غيه ويسير هو بعد ذلك ويكون كالمشير على ركن الدولة بإجابته على ما طلب. فأرسل عضد الدولة رسولا بهذه الرسالة وسير بعده ابنا لعميد على الجهازات وعددها(100) فلما حضر الرسول عند ركن الدولة وذكر بعض الرسالة وثب عليه ركن الدولة ليقتله فهرب من بين يديه ثم رده بعد أن سكن غضبه وقال قل لفلان - يعمي عضد الدولة - خرجت إلى نصرة ابن أخي أو الطمع في مملكته - وبعد أن ذكر شيئا عن فتوته مع أعدائه قال - تريد أن تمن أنت على بدرهمين أنفقتهما أنت علي وعلى أولاد أخي ثم تطمع في ممالكهم وتهددني بقتلهم فعاد الرسول ووصل ابن العميد محجبه ركن الدولة عنه ولم يسمع حديثه وهدده بالهلاك وأنفذ إليه من يقول له، فوالله لأصلبن أمك وأهلك على باب دارك ولأبيدن عشيرتك ومن يتصل بك عن وجه الأرض ولأتركنك وذلك الفاعل - يعني عضد الدولة - تجتهدان جهدكما ثم لا أخرج إليكما إلا في ثلاثمائة جهازة وعليها أحرجال ثم أثبتوا إن شئتم فوالله لا أقاتلكما إلا بأقرب الناس إليكما. وكان ركن الدولة يحب أخاه معز الدولة والد عز الدولة بختيار حبا جما لأنه رباه فكان عنده بمنزلة الولد وكان يقول إنني أرى أخي معز الدولة كل ليلة في منامي يعض على أنامله ويقول: يا أخي هكذا ضمنت لي أن تخلفني في أهلي وولدي. ثم أن الناس سعوا لابن العميد وتوسطوا الحال بينه وبين ركن الدولة وقالوا إنما تحمل ابن العميد هذه الرسالة ليجعلها طريقا للخلاص من عضد الدولة والوصول إليك لتأمر بما تراه فأذن له بالحضور عنده فاجتمع به وضمن له إعادة عضد الدولة إلى فارس وتقرير بختيار بالعراق فرده ركن الدولة إلى عضد الدولة وعرفه جلية الحال. فلما رأى عضد الدولة انحراف الأمور عليه من كل ناحية أجاب إلى المسير إلى فارس وإعادة بختيار إلى إمارة الأمراء في بغداد فأخرجه من محبسه وخلع عليه وشرطه عليه أن يكون نائبه عنه بالعراق ويجعل أخاه أبا إسحاق أمير الجيش لضعف بختيار، ورد إليهم عضد الدولة جميع ما كان لهم وسار إلى فارس في شوال سنة 306 استقر في شيراز وأمر أبا الفتح ابن العميد وزير أبيه ركن الدولة أن يلحقه بعد ثلاثة أيام. فلما سار عضد الدولة أقام ابن العميد عند بختيار متشاغلا باللذات وبما بختيار يغري به من اللعب واتفقا باطنا على أنه إذا مات ركن الدولة سار إليه ووزر له واتصل ذلك كله بعضد الدولة فكان سبب هلاك وقتل أبي الفتح ابن العميد بأمر من عضد الدولة سنة 366 على يد مؤيد الدولة، أما بختيار فاستقر ببغداد ولم يف لعضد الدولة بالعهد. وفي هذه السنة حصل اضطراب جديد في كرمان ضد عضد الدولة. فقد كان طاهر بن الصمة من أهالي الخرمية قد ضمن من عضد الدولة البلاد فاجتمع عليه أموال كثيرة فطمع فيها وكان عضد الدولة عندئذ في العراق وكانت كرمان خالية من العساكر التي كانت تقاتل في عمان. وكاتب طاهر هذا بعض الأمراء في خراسان للاستيلاء على كرمان. فلما علم عضد الدولة بذلك كتب إلى وزيره المطهر بن محمد في عمان بالمسير إلى كرمان ووصل إليها وأوقع في طريقه وفيها بأهل العبث والفساد وقتلهم ومثل بهم وجرى اقتتال شديد بين الجانبين قرب مدينة(بم) بأيالة كرمان وقتل فيها طاهر ومن آزره. كما جرى قتال على باب (جيرفت) غلب فيها المطهر على خصومه واستطاع بذلك إصلاح أمور كرمان وإعادة الهدوء إليها لعضد الدولة. وفي سنة 365 اشتد المرض على ركن الدولة وخاف عضد الدولة أن يموت والده وهو على حال غضبه معه، فأرسل إلى أبي الفتح ابن العميد وزير والده يطلب منه أن يتوصل مع أبيه إلى إحضاره عنده وإناطة ولاية العهد إليه. فسعى ابن العميد في ذلك فأجابه إليه ركن الدولة وكان ركن الدولة قد شعر في تحسن في صحته فسار من الري إلى أصفهان التي وصلها في جمادى الأولى سنة 365 وأحضر ولده عضد الدولة من فارس (شيراز) وجمع عنده أيضا سائر أولاده بأصفهان فعمل الوزير ابن العميد دعوة عظيمة حضرها ركن الدولة وأولاده والقواد والأجناد فلما فرغوا من الطعام عهد ركن الدولة إلى ولده عضد الدولة بالملك بعده. وجعل لولده فخر الدولة بالملك بعده. وجعل لولده فخر الدولة أبي الحسن على همدان وأعمال الجبل كرمانشاه ولوده مؤيد الدولة أصفهان الوري وأعمالها وجعلها في هذه البلاد بحكم أخيهما عضد الدولة ومقره (شيراز) على أن يكون صاحب فارس وكرمان والعراق وخلع عضد الدولة على سائر الناس ذلك اليوم الأقبية والأكسية على زي الديلم وحياه القواد وإخوته بالريحان على عادتهم مع ملوكهم وأوصى ركن الدولة أولاده بالاتفاق ثم سار عن أصفهان في رجب 365 نحو الري وفيها توفى المحرم سنة 366 وكان عمره قد زاد على السبعين. ولما كانت العادة قد جرت وقتئذ أن يتخذ أمير الأمراء الذي يرأس البيت البويهي مقامه في بغداد وكان يمارس الحكم فيها باسم الخليفة، فقد تجهز عضد الدولة وسار يطلب العراق وكان يد علم عن عز الدولة بختيار ومحمد بن بقية من استمالة أصحاب الأطراف كحسنويه الكردي وفخر الدولة أخيه وأبي تغلب بن حمدان صاحب الموصل وعمران بن شاهين صاحب البطيحة وغيرهم والاتفاق على معاداته ولما كان يقولونه من الشتم له. وكان عضد الدولة علم بأن بختيار قد توجه إلى واسط ثم إلى الأهواز لمحاربته بإشارة من ابن بقية، فسار عضد الدولة من فارس نحوه فالتقى به قي ذي القعدة من هذه السنة واقتتلا وخان بعض عسكر بختيار وانتقلوا إلى عضد الدولة فانهزم بختيار وأخذ ماله ومال ابن بقية ونهبت الأثقال ولما وصل بختيار عائدا إلى واسط حمل إليه ابن شاهين صاحب البطيحة مالا ولاحا وغير ذلك من الهدايا النفيسة. أما عضد الدولة فبعد أن استولى على الأهواز وهزم بختيار سير جيشه إلى البصرة فملكها وكان أهلها قد اختلفوا فيما بينهم فكانت (مضر) تهوى عضد الدولة وتميل إليه ومالت (ربيعة) إلى بختيار فلما انهزم بختيار ضعفت ربيعة وقويت مضر وكتبوا عضد الدولة لتسليم المدينة فدخلها وأقام مدة فيها وأقام بختيار بواسط واحضر ما كان له ببغداد والبصرة من مال وغيره ففرقه في أصحابه. وبعد مدة جرت اتصالات بين عضد الدولة وبختيار بشأن ثم ترك بختيار واسط وعاد إلى بغداد وبقي فيها مدة تربو على السنة سار خلالها عضد الدولة إلى واسط وعاد منها إلى البصرة فأصلح بين ربيعة ومضر وكانوا في الحروب نحو 120 سنة. وفي أوائل سنة 376 عاد عض الدولة من البصرة إلى واسط ثم سار إلى بغداد وأرسل إلى بختيار يدعوه إلى طاعته وأن يسير عن العراق إلى أي جهة أراد وضمن مساعدته بما يحتاج إليه من مال وسلاح فأجاب بختيار بالموافقة فأنفذ له عضد الدولة خلعة فلبسها وأرسل إليه يطلب منه محمد بن بقية فسمل بختيار عينيه ليلة الجمعة لثلاث خلون من ربيع الأول سنة 367 وأنفذه إلى عضد الدولة ثم خرج بختيار من بغداد حاملا معه ما كان قد جهزه به عضد الدولة قاصدا الشام. فدخل عضد الدولة بغداد وخطب له بها ولم يكن قبل ذلك يخطب لأحد ببغداد وضرب على بابه ثلاثة نوب ولم تجري بذلك عادة من تقدمه، ثم أمر بأن يلقى محمد بن بقية بين قوائم الفيلة لتقتله ففعل به ذلك وخبطته الفيلة حتى قتلته وصلب على رأس الجسر في 6 شوال من سنة 367 يوم الجمعة. فرثاه أبو الحسين الأنباري بقصيدته المعروفة التي مطلعها:

وبقي ابن بقية مصلوبا إلى أيام صمصام الدولة بن عضد الدولة فأنزل من جذعه و دفن. وسار بختيار ومعه حمدان بن ناصر الدولة بن حمدان قاصدين الشام فلما صارا بعكبرا حسن أنه حمدان قصد الموصل فسار بختيار نحوها فكان عضد الدولة قد خلفه بعدم قصد ولاية أبي تغلب بن حمدان وهي الموصل لمودة بينها. فلما وصل بختيار إلى تكريت أتته رسل أبي تغلب تسأله أن يقبض على أخيه حمدان ويسلمه له وإذا فعل ذلك سار بنفسه وعساكره إليه وقاتل معه عضد الدولة وأعاده إلى ملكه بغداد. فقبض بختيار على حمدان وسلمه لنواب بن تغلب فحبسه في قلعة له وسار بختيار إلى الحديثة واجتمع مع أبي تغلب صاحب الموصل وسارا جميعا نحو العراق وكان مع أبي تغلب نحو عشرين ألف مقاتل. بلغ ذلك عضد الدولة فسار عن بغداد نحوهما فالتقوا بقصر الجص بنواحي تكريت في 18 شوال سنة 367 فجزهما عضد الدولة وأسر بختيار وأحضر عند عضد الدولة فلم يأذن له بإدخاله إليه وأمر بقتله فقتل وخلص من أصحابه وذلك بمشورة أبي الوفاء طاهر بن إبراهيم. واستقر ملك عضد الدولة بعد ذلك، وكان عمر بختيار 36 سنة. وكان بختيار ضعيف الإرادة وكان أبوه معز الدولة المتوفي سنة 356 قد أوصاه بطاعة ابن عمه عضد الدولة لأنه أكبر منه سنا وأقوم بالسياسة ولكنه لم يفعل بنصيحة أبيه. وحيث أن قدم عضد الدولة رسخت في بغداد بعد قتل بختيار وهزيمة أبي تغلب وأصبح أمير الأمراء سنة 367 سار عضد الدولة نحو الموصل فملكها وما يتصل بها في 12 ذي القعدة سنة 367. وسار أبو تغلب فضل الله بن ناصر الدولة من همذان ومعه المزربان بن بختيار وأبو إسحاق وأبو طاهر ابنا الدولة ووالدتهما وهي أم بختيار إلى نصيبين فسير عضد الدولة سرية عليهما حاجبه أبو حرب طغان إلى جزيرة ابن عمر وسرية أخرى عليها أبو الوفاء طاهر بن محمد على طريق سنجار. أما أبو تغلب فقد سار مجدا في الهرب حتى وصل ميافارقين وأقام بها ثم سار نحو بدليس ثم الحسنية من أعمال الجزيرة وصعد إلى قلعة (كواشي أما أبو الوفاء فقد عاد ميافارقين ولما اتصل بعضد الدولة كل ذلك سار بنفسه لمقاتلة أبي تغلب فلم يدركه وعاد إلى الموصل. أما تغلب فقد هرب من بدليس إلى بلاد الروم ثم عاد إلى (آمد) وأقام بها مدة ثم تركها لما علم بمسير أبي الوفاء إليها. واستولى أبو الوفاء على (آمد) ثم على سائر نواحي ديار بكر. وقصده أصحاب أبي تغلب وأهله مستأمنون إليه فأمنهم وأحسن إليهم وعاد إلى الموصل. أما أبو تغلب نفسه فإنه لما قصد الرحبة أنفذ رسولا من بني حمدان إلى عضد الدولة يستعطفه ويسأله الصفح والصلح فرحب عضد الدولة بالرسول والرسالة ولكنه اشترط شروطا لم يقبلها أبو تغلب الحمداني الذي سار إلى الشم إلى العزيز بالله صاحب مصر وكان كل ذلك سنة 368 وقد قتل أبو تغلب في صفر من سنة 369. وكان متولي ديار مضر تغلب بن حمدان بن سلامة البرقعيدي فأنفذ إليه سعد الدولة بن سيف الدولة من حلب جيشا فجرت بينهم الحروب وكان سعد الدولة قد كاتب عضد الدولة وعرض نفسه عليه فأنفذ عضد الدولة النقيب أبا أحمد والد السيدين المرتضى والرضي إلى البلاد التي بيد ابن سلامة فتسلمها بعد حرب شديدة ودخل إليها في الطاعة. فأخذ عضد الدولة لنفسه الرقة ورد باقيها إلى سعد الدولة ثم استولى عضد الدولة على الرحبة وقلعة (كوشي) وقلعة (هرور والمليصي) وغيرها من الحصون. ولما فرغ من الاستيلاء على جميع أعمال أبي تغلب الحمداني استخلف أبا الوفاء على الموصل وعاد إلى بغداد في سلخ ذي القعدة من سنة 368 واستقبله الخليفة الطائع لله وجمع كبير من الجند. وهكذا استولى عضد الدولة على ملك بني حمدان. كما أن جميلة بنت ناصر الدولة وأخت أبي تغلب أسرت من حلب وأرسلت إلى أبي الوفاء نائب عضد الدولة في الموصل فأرسلها هذا إلى بغداد فاعتقلت في حجرة بدار عضد الدولة.

وفي محرم سنة 369 توفي عمران بن شاهين صاحب البطيحة فولي مكانه ابنه الحسن بن عمران بن شاهين وتجددا لعضد الدولة طمع في أعمال البطيحة فجهز العساكر مع وزيره المطهر بن محمد وسار المطهر إلى البطيحة في صفر من تلك وجرت عدة وقائع بين الحسن والمطهر استظهر فيها الحسن على المطهر مستعينا بفتح السدود التي كان يقيمها المطهر على الماء، ثم اتهم بعض رجال المطهر إياه بأنه يكاتب الحسن سرا فخاف المطهر أن تنقص منزلته عند عضد الدولة من جراء هذه التهمة ويشمت به أعداؤه كأبي الوفاء فعزم على الانتحار فأخذ سكينا وقطع شرايين ذراعه فخرج منه الدم بغزارة فدخل فراشه ثم صاح فدخل الناس فرأوه على تلك الحال وطنوا أن أحدا فعل ذلك ثم مات ونقل إلى بلده كازرون (مدينة بأيالة فارس) فدفن فيها. وانفرد نصر هارون بوزارة عضد الدولة بعد انتحار المطهر.

وفي رجب من هذه السنة أرسل عضد الدولة جيشا إلى بني شيبان وكانوا قد أكثروا الغارات على البلاد وعقدوا بينهم وبين أكراد (شهرزور) مصاهرات وكان شهرزور ممتنعة على الملوك فأمر عضد الدولة جيوشه بالاستيلاء عليها لينقطع طمع بني شيبان فيها فاستولى جيش عضد الدولة غليها وهرب بنو شيبان منها وسار الجيش في طلب بني شيبان وأوقع بهم وقعة عظيمة قتل من بني شيبان فيها خلق كثير ونهبت أموالهم وسبيت نساؤهم وأسر منهم (800) أسير حملوا إلى بغداد.

وفي هذه السنة استولى عضد الدولة على (سرماج) وما يتصل بها من أملاك حسنوية ين الحسين الكردي وقلاعها التي كانت قد نوزعت بين أولاده بعد وفاته في أوائل هذه السنة وكف عادية الأكراد من بلاده.

وفي هذه السنة سار عضد الدولة إلى بلاد الجبل (كرمانشاه) فاستولى عليها. وكان سبب ذلك أن بختيار بن معز الدولة كان يكاتب ابن عمه فخر الدولة (أخي عضد الدولة) بعد موت ركن الدولة ويدعوه للاتفاق معه على عضد الدولة فأجابه إلى ذلك واتفقا وعلم عضد الدولة بذلك. فكتم الأمر إلى الآن. وبعد فراغ عضد الدولة من أعدائه الذين مر ذكرهم راسل أخويه فخر الدولة ومؤيد الدولة وقابوس ابن وشمكير معاتبا فخر الدولة لمعارضته ومناوئته ونسيان عهد أبيه ثم استمالته وشاكرا مؤيد الدولة على طاعته له وطالبا إلى قابوس بحفظ العهود. فأجاب فخر الدولة جواب المناظر المناوئ وأجاب قابوس جواب المراقب المتهيب، وعندما تسلم عضد الدولة جواب فخر الدولة عزم على المسير من بغداد إلى الجبل وإصلاح أعمال أخيه قيها. فسارت عساكره نحو الجبل وأقام هو بظاهر بغداد ثم سار هو أيضا نحو الجبل ووصلته الأخبار بتسليم عساكره همذان واستئمان عدد كبير من قواد فخر الدولة وحسنويه ووصل إلى عضد الدولة أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه وزير فخر الدولة ومعه جماهير أصحابه فخاف عندئذ فخر الدولة من أخيه وخرج من همذان هاربا إلى الديلم وخرج منها إلى جرجان فنزل على شمس المعالي قابوس بن وشمكير والتجأ إليه فأمنه وآواه. فملك عضد الدولة ما كان بيد فخر الدولة (همدان والري)وما بينهما من البلاد وسلمها إلى أخيه الآخر مؤيد الدولة وجعله خليفته ونائبه فيها. ونزل الري واستولى على تلك النواحي. ثم عرج عضد الدولة إلى ولاية حسنويه الكردي فقصد نهاوند والدينور وقلعة سرماج وملكها كلها. وقد اشتد على عضد الدولة في هذا السفر مرض الصرع الذي كان قد أصيب به في الموصل كما أنه صار كثير النسيان لا يذكر الشيء إلا بعدد جهد كبير ولكنه كتم كل ذلك.

وفي هذه السنة أيضا أرسل عضد الدولة جيشا إلى الأكراد الهكاريه من أعمال الموصل فأوقع بهم وحصر قلاعهم واستسلم الأكراد الذين كانوا معتصمين فيها ونزلوا مع العسكر إلى الموصل ولكن مقدم الجيش غدر بهم وصلبهم على جانبي الطريق من (معلثايا) إلى الموصل.

وفي هذه السنة ورد رسول العزيز بالله صاحب مصر إلى عضد الدولة. وقيها أيضا قبض على محمد بن عمر العلوي وأنفذه إلى فارس وأرسل إلى الكوفة فقبض أمواله وسلاحه واصطنع عضد الدولة أخاه أبا الفتح أحمد وولاه الحج بالناس. وفيها تجددت المصاهرة بين الخليفة الطائع لله وعضد الدولة حيث تزوج الخليفة ابنة عضد الدولة وكان غرض هذا من هذه المصاهرة أن تلد ابنته ولدا ذكرا فيجعله ولي عهده فتكون الخلافة في ولد لهم فيه نسب وكان الصداق مائة ألف دينار. وتم الزفاف في سنة 370ه وكان معها من الجواهر شيء لا يحصى.

وفي هذه السنة حدثت فتنة عظيمة بين عامة شيراز من المسلمين والمجرس نهبت فيها دور المجوس وخرجوا وقتل منهم جماعة. فسمع عضد الدولة بالخبر فسير إليهم من جمع كل من له أثر ذلك وضربهم وبالغ في تأديبهم وزجرهم. وفي هذه السنة فقبض عضد الدولة على النقيب أبي أحمد الحسين لموسوي والد الشريفين المرتضى والرضي لأنه اتهم بأنه يفشي الأسرار وأن عز لدولة بختيار ترك عنده عقدا ثمينا فأنكر إفشاءه للأسرار واعترف بالعقد فأخذه منه عضد الدولة وعزله عن نقابة الطالبين. كما قبض على أخيه أبي عبد الله وعلى قاضي القضاة أبي محمد وسير هذا إلى فارس واستعمل على قضاء القضاة أبا سعد بشر بن الحسين وكان مقيما بفارس واستناب على القضاء ببغداد.

وفي هذه السنة طلب عضد الدولة من الخليفة الطائع أن يجدد عليه الخلع والجواهر وأن يزيد في إنشائه (تاج الدولة) فأجابه إلى ذلك وخلع عليه في أنواع الملابس ما لم يتمكن معه من تقبيل الأرض بين يدي الخليفة وفوض إليه ما وراء بابه من الأمور ومصالح المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها.

وفي سنة 370أرسل الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد إلى عضد الدولة بهمذان رسولا من عند أخيه مؤيد الدولة يبذل له الطاعة والموافقة فالتقاه عضد الدولة بنفسه وأكرمه وأقطع أخاه مؤيد الدولة همذان وغيرها وأقام عند عضد الدولة إلى أن عاد إلى بغداد فره إلى مؤيد الدولة فأقطعه أقطاعا كثيرة وسير معه عسكرا يكون عند مؤيد الدولة في خدمته. وفيها استولى عضد الدولة على قلاع أبي عبد الله المري بنواحي الجبل وكان منزله بسنده وله فيها مساكن نفيسة.

وفي هذه السنة وردت على عضد الدولة هدية من صاحب اليمن فيها قطعة واحدة من عنبر وزنها(56) رطلا. وفيها عاد عضد الدولة من همذان إلى بغداد فلما وصلها بعث إلى الخليفة الطائع لله ليتلقاه فما وسع هذا التخلف ولم تجر عادة بذلك أبدا أمر قبل دخوله أن من تكلم أو دعا له قتل فما نطق مخلوق فأعجبه ذلك.

وفي جمادى الآخرة من سنة 371استولى عضد الدولة على جرجان وطبرستان وأجلى عنها صاحبها قابوس بن وشمكير وسبب ذلك أن فخر الدولة أخاه عندما انهزم لحق بقابوس والتجأ إليه فأرسل عضد الدولة إلى قابوس بن وشمكير بأنه يبذل له الرغائب من البلاد والأموال والعهود في سبيل تسليم فخر الدولة له فامتنع قابوس من ذلك. فجهز عضد الدولة أخاه مؤيد الدولة وسيره ومعه العساكر والأموال إلى جرجان فالتقى بقابوس بنواحي مدينة أسترابادي فاقتتلا من الصبح حتى الظهر فانهزم قابوس وأصحابه في جمادي الأولى ونظم قابوس بعد هزيمته أبياتا هي:

وفي هذه السنة قبض عضد الدولة على القاضي أبي علي المحسن بن علي التنوخي وألزمه وعزله عن أعماله التي كان يتولاها. وفيها أفرج عن أبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي الكاتب وكان القبض عليه سنة 376وكان سبب قبضه انه كان يكتب عن بختيار كتبا في معنى الخلف الواقع بينه وبين عضد الدولة، وفيها أرسل عضد الدولة القاضي أبا بكر محمد الطيب الأشعري المعروف بابن الباقلاني إلى ملك الروم في جواب رسالة وردت منه. فلما وصل إلى الملك قيل له: ليقبل الأرض بين يديه فلم يفعل فقيل لا سبيل إلى الدخول إلا مع تقبيل الأرض أصر على الامتناع فعمل الملك بابا صغيرا يدخل منه القاضي منحنيا ليهم الحاضرين أنه قبل الأرض. فلما أرى القاضي الباب علم ذلك فاستدبره ودخل منه فلما جاءه استقبل الملك وهو قائم فعظم عندهم محله.

وفي أوائل هذه السنة أرسل عضد الدولة ولده شرف الدولة أبو الفوارس إلى كرمان مالكا لها وذلك فبل أن يشتد به مرض الصرع الذي توقاه الله به. وهكذا بلغت الدولة البويهية في عهد عضد الدولة أوج عظمتها وتمكن عضد الدولة بذلك من توحيد المملكة كلها تحت سلطانه مستوليا على جميع ما كان يسيطر عليه أباؤه وأعمامه من أملاك وأضاف عليها الموصل والجزيرة وغيرهما.

أوصافه

قال الخضري في محاضراته (لم يقم في آل بويه من يماثل عضد الدولة جرأة وإقداما ولكن عاقلا فاضلا حسن السياسة كثير الإصابة شديد الهيبة بعيد الهمة ثاقب الرأي محبا للفضائل واهبا باذلا في موضع العطاء مانعا في موضع الحزم ناظرا في عواقب الأمور) وكان لا يعول في أموره إلا على القضاة وهو أول أمير من أمراء آل بويه خوطب بالملك و(الشاهنشاه) وأول من خطب له على المنابر مع الخلفاء في بغداد وغيرها من البلدان الإسلامية. وأول من ضرب الطبل على بابه أوقات الصلوات الخمس. وكان يلقب (تاج الدولة) و(شمس القلادة) ولقب في البداية بلقب (عضد الدولة). كما أن الصابي أضاف كتابه (التاجي) في (أخبار) و(محاسن بني بويه) إلى لقب تاج الملة وكان عضد الدولة أمره بوضع مثل هذا التأليف.

وكان عضد الدولة معدودا من الفرسان والدهاة. وكان شديد العقوبة على الكبيرة والصغيرة، ونذكر على سبيل المثال الحوادث التالية المنقولة عنه:

أنه كان يحب جاريته فألهته عن تدبير الممكلة فأمر بتغريقها فأغرقت واستراح منها وتفرغ لإدارة شؤون المملكة.

بلغه أن غلاما له أخذ لرجل بطيخة فضربه بسيفه فقطعه نصفين.

3 - أنه كان بقصره جماعة من الغلمان يحمل إليهم مشاهراتهم من الخزانة فأمر أبا النصر خوا شاذة أن يتقدم إلى الخازن بأن يسلم جامكية الغلمان إلى نقيبهم في شهر قد بقي منه ثلاثة أيام. قال أبو نصر فأنسيت ذلك أربعة أيام فسألني عضد الدولة عن ذلك فقلت أمس استهل الشهر والساعة محمل المال وما مهنا ما يوجب شغل القلب فقال المصيبة بما لا تعلمه من الغلط أكثر منها في التفريط. ألا تعلم إنا ذا أطلقنا لهم ما لهم قبل محله كان الفضل لنا عليهم فإذا أخرنا ذلك عنهم حتى استهل الشهر الآخر حضروا عند عارضهم وطالبوه فيعدهم فيحضرونه في اليوم الثاني فيعدهم ثم يحضرونه في اليوم الثالث ويبسطون ألسنتهم فتضيع المنة وتحصل الجرأة ونكون إلى الخسارة أقرب منا إلى الربح.

4 - وكان عضد الدولة لا يعول إلا على الكفاءة ولا يجعل للشفاعات طريقا إلى معارضة من ليس من جنس الشافع ولا فيما يتعلق به. حكى عنه أن مقدم جيشه أسفار بن كردويه شفع في بعض أبناء العدول ليتقدم إلى القاضي ليسمع تزكيته ويعدله. فقال له ليس هذا من أشغالك إنما الذي يتعلق بك الخطاب في زيادة قائد ونقل مرتبة جندي وما يتعلق بهم. وأما الشهادة وقبولها فهي إلى القاضي وليس لنا ولا لك الكلام فيه.

5 - وكان عضد الدولة يخرج في ابتداء كل سنة شيئا كثيرا من الأموال للصدقة والبر في سائر بلادة ويأمر بتسليم ذلك إلى القضاء ووجوده الناس ليصرفوه إلى المستحقين. وكان يوصل إلى العمال المتعطلين ما يقوم بهم ويحاسبهم به إذا علموا.

علمه وأدبه وحبه لهما وللعلماء

وكان عضد الدولة بالإضافة إلى السياسية وإدارته الحكيمة فاضلا محبا للفضلاء والعلماء والأدباء لا يخلو مجلسه منهم، وكان يجلس معهم ويعارضهم في المسائل فقصده العلماء في كل بلد. وكان يحترمهم وبعظم بالأخص منهم الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان المتوفى سنة 413غابة التعظم وقد أخذ عنه العلم والفقه وكان يزوره في داره بموكبه العظيم. كما كان عضد الدولة معدودا من الفقهاء والمحدثين والشعراء والنحاة، وقد صنف له الرئيس أبو الحسن علي بن العباس المجوسي الفارسي المتوفى سنة 384 تلميذ أبي ماهر موسى بن سيار الطبيب كتاب (كامل الصناعة) الطبية المسمى الملكي في الطب، وهو الكتاب الذي لزم الناس درسه إلى أن ظهر كتاب (القانون) لابن سينا فمالوا إليه وتركوا الملكي، كما صنف له الشيخ أبو علي الفارسي كتب (الإيضاح والتكملة) في النحو وكذا ألف له كتاب الحجة في القراءات وقصده فحول الشعراء في عصره ومدحوه بأحسن المدائح ومنه أبو الطيب المتنبي وفيه يقول من قصيدة:

#أبا شجاع بفارس عضد الدو - له فنا خسورا شهنشاها

وكان عضد الدولة معدودا من الشعراء والكتاب حتى أن السيوفي قال عنه أنه كان أحد الضليعين في العربية وآدابها.

ويروى له:

وقيل أنه لم ير عضد الدولة بعد إنشاده لهذه الأبيات يوم سعد وسعود ومات بعدها بمدة وجيزة. ومن شعره أيضا لما أرسل إليه أبو تغلب بن حمدان يعتذر عن مساعدة بختيار ويطلب الأمان:

وأما في النثر فقد حكي أن أبا منصور أفتكين التركي متولي دمشق كتب إلى عضد الدولة يقول إن الشام قد صفا أمرها وأصبحت في يدي وزال عنها حكم صاحب مصر وأن قويتني بالأموال والمدد حاربت القوم في مستقرهم فكتب له عضد الدولة. غرك فصار قصار ذلك ذلك فأخش فاخش فاحش فعلك بهذا تهدى قال ابن الأثير "وكان عضد الدولة محبا للعلماء والفقهاء وأدر الأموال والأرزاق عليهم وعلى المؤذنين والقراء وأهل الأدب والفقراء والغرباء والضعفاء الذين كانوا يأوون إلى المساجد وهدأ الناس من الفتن وأجرى الجرايات على الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والمفسرين والنحاة والشعراء والنسابين والأطباء والحساب والمهندسين وأذن لوزيره نصر بن هرون وكان نصرانيا في عمارة البيع والأديرة وإطلاق الأموال لفقرائهم" "اه".

كل هذا بالإضافة إلى إطلاقه الصلات لأهل البيوتات والشرف والضعفاء من المجاورين بمكة والمدينة والأقطار الأخرى.

وكان عضد الدولة يتخذ من العلماء وأصحاب الأدب ندماء يستنريد منهم علما وأدبا منهم أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه صاحب كتاب (تجارب الأمم) المتوفى سنة 421بأصفهان. فإنه اتصل في أول أمره بخدمة عضد الدولة وصار من ندمائه ورسله إلى نظرائه وكان خازنا له أثيرا عنده كاتما لأسراره.

الإصلاح والعمران على عهده

وكانت سنوات حكم عضد الدولة ملأى بالأعمال العمرانية والإنشائية والإصلاحات سواء كان ذلك في العراق وخاصة منها بغداد أو في إيران وفي سائر الأقطار الإسلامية. ففي بغداد زاد نهر دجلة سنة 368وأشرف الناس على الهلاك فشرع عضد الدولة سنة 369 بتعمير بغداد وكانت قد تهدمت بتوالي الفتن والحرق والغرق والزلزال عليها، ومما ذكره ابن الأثير في هذا الصدد أن عضد الدولة عمر مساجد بغداد وأسواقها وألزم أصحاب الأملاك الخراب على عمارتها وجدد ما دثر من الأنهار وأعاد حفرها وتسويتها - إلى أن يقول - وبنى سورا حول أبنية المشهد الكاظمي وبنى أيضا سورا على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وجدد حصارها الذي كان قد أقامه سنة 236إسحاق بن محمد الجعدي.

وقد اشتهر عضد الدولة أيضا بكثرة ما أنشأه من الأبنية والملاجئ ودور العجزة، ومنها القصر الضخم الذي أقامه في الناحية التي تعرف اليوم في بغداد بأرض الصرافية الواقعة بين الجسر الحديد ومحلة العيواضية التي هي من ضمنها. وقد ألحق به مساحة شاسعة من الأرض فجعلها بستانا للقصر وراء هذا البستان واستخرج نهرا خاصا من الخالص ولكي يعبر هذا النهر البقعة المنخفضة في سبيله، محافظا على مستواه، قام بتعلية الأرض لتسيير النهر فوقها، وقد استخدم عضد الدولة الفيلة في دوس الأرض المعلاة والدور المنقوضة التي اشتراها بأغلى الأثمان والتي أصبحت ضمن البستان وبنى على الجميع مسناة وبعد أن فتح النهر بنى عضد الدولة جوانبه بالآجر والكلس والنوره وأجرى الماء فيه حتى وصل إلى بستان القصر الجديد وقدرت نفقات هذه الأعمال بخمسة ملايين درهم، وقد عرف هذا البستان والقصر وحواليها بدار المملكة البويهية. وفي يوم الخميس 12 محرم سنة 368 فتح الماء الذي استخرجه عضد الدولة من الخالص إلى داره وبستان الزاهر.

ومن المنشآت التي بقيت على مر الزمن معروفة باسم عضد الدولة هو (المستشفى العضدي) الكبير الذي أنشأه عضد الدولة في بغداد الغربية (جانب الكرخ) في موضع قصر الخلد الذي كان متهدما وكانت مساحته (25) ألف آجره وقد استغرق بناء هذا المستشفى ثلاث سنوات فقد شرع في بنائه سنة 368وتمت عمارته سنة 371 ووقف عضد الدولة عليه أوقافا كثيرة وعمل له أرحاء بالزبيدية من نهر عيسى ووقفها عليه. وأنشأ حول المستشفى سوقا سمي بسوق المارستان وأنشئت حوله سوقا واسعة تمتد من محلة باب البصرة في الجنوب إلى محلة الشارع في الشمال وكانت تعرف بمحلة المارستان. وقال عبد الله بن جبرائيل بن بختيشوع الطبيب النصراني أنه (لما عمر عضد الدولة المارستان الجديد الذي على طرف الجسر(وهو جسر المارستان العضدي) من الجانب الغربي من بغداد كانت الأطباء الذين جمعهم فيه من كل موضع وأمر الراتب منه 24طبيبا منهم والدي جبرائيل بن عبيد الله بن بختيشوع وقد أصعد مع عضد الدولة من شيراز ورتب من جملة الطبائعيين في المارستان).

وقال ابن الجوزي في حوادث سنة 372(وفي يوم الخميس لثلاث خلون من صفر وقيل لليلة خلت في ربيع الآخر فتح المارستان (المستشفى) الذي أنشأه عضد الدولة في الجانب الغربي من مدينة السلام ورتب فيه الأطباء والمعالجون والخزان والبوابون والوكلاء والناظرون ونقلت إليه الأدوية والأشربة والفرش والآلات من كل ناحية).

أما في غير بغداد فقد أقام عدة منشآت وجسور هامة مدة حكمه في شيراز وغيرها. فقد ذكر مؤلف (زينة المجالس) إن عضد الدولة كان قد بنى حوضا في اصطخر فارس له سبع درجات لو نزح منه ألف رجل في كل يوم مدة سنة لم ينقص منه إلا درجة) وقد شاهد المؤلف هذا الحوض ومن منشآته أيضا السد الذي بناه على فم ماء (كربار) المعروف بسد بند أمير في أيالة فارس سنة 365وأقامه من الحجر والساروج وهو لا زال قائما للآن. ويعرف أيضا بسد أمير إسحاق أو سد عضد الدولة. وبنى عليه عمارة عالية لعبور عامة الناس منه وعمل عليه أيضا عدة طواحين والماء مشرف فوق هذه العمارة فيصب إلى أسفل. واشتهر عندئذ أن عضد الدولة جعل جبلا فوق البحر وبحرا فوق الجبل. كما أنشأ عضد الدولة في شيراز مارستانا (مستشفى) على غرار مارستان بغداد.

ومن إصلاحاته أيضا كما ذكر ابن الأثير إصلاح الطريق من العراق إلى مكة وإصلاح الآبار في طريق الحج وبناء الرباطات فيه وأداؤه الخدمات الجليلة للحرمين الشريفين بمكة والمدينة ورفع الجباية عن قوافل الحجاج.

حملت بأمره الكسوة الكثيرة أيضا لأهل الشرف والمقيمين بمدينة الرسول وغيرهم من ذوي الفاقات ومدت لهم الأقوات من البر والبحر.

إقامة المشهد العلوي وإصلاحاته في النجف

أما المشهد العلوي وإقامة القبة على قبر الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام وإصلاح شؤون مدينة النجف فقد بالغ عضد الدولة في إجراء التعميرات والإصلاحات فيهما. وبدأ بذلك سنة 368وبعد أن استقرت الأحوال له في بغداد فإنه (أي عضد الدولة) شرع بتعمير هذا المشهد وأقام عمارة عظيمة على قبر الإمام علي عليه السلام وأنفق عليه أموالا كثيرة وستر الوفيرة وبنى عليه قبة بيضاء. وفيها يقول ابن الحجاج الشاعر:

وجاء في كتاب (إرشاد القلوب) إن السلطان عضد الدولة جاء إلى النجف وأقام فيها قريبا من سنة هو وعساكره وأتى بالصناع والأساتذة من مختلف الأطراف وخرب العمارة السابقة وصرف أموالا جزيلة وعمر عمارة جليلة حسنة وهي العمارة التي كانت قبل عمارة اليوم. وجاء في (عمدة الطالب) (إن العمارة هذه التي أوقف عليها عضد الدولة أموالا طائلة بقيت حتى سنة 753عندما احترقت) وكتب جنبها (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد).

وكان عضد الدولة يزور في كل سنة المشهد العلوي بموكبه العظيم وقد جاء في (فرحة الغري) عن زيارته للمشهد سنة371بعد وصفه لزيارته المشهد الحسيني بكربلاء ما نصه (وخرج عضد الدولة من كربلاء وتوجه إلى الكوفة لخمس بقين من جمادى الأولى سنة 371 ودخلها وتوجه إلى المشهد الغروي يوم الاثنين ثاني يوم وروده وزار الحرم الشريف وطرح في الصندوق دراهم فأصاب كل واحد منهم واحدا وعشرين درهما وكان عدد العلويين (700) اسم وفرق على المجاورين وغيرهم خمسمائة وألف درهم وعلى المترددين خمسمائة وألف درهم وعلى الناحية ألف درهم وعلى الفقهاء والفقراء ثلاثة آلاف درهم وعلى المرتبين من الخازن والبواب على يد أبي الحسن العلوي وعلى يد أبي القاسم بن أبي عابد وأبي بكر بن سيار). وأنشد أبو إسحاق الصابي يمدح عضد الدولة في هذه الزيارة بهذه الأبيات:

هذا وقد شاهد الرحالة ابن بطوطة عمارة عضد الدولة على المشهد العلوي سنة 727 فقال في وصفها: (دخلنا من باب الحضرة حيث القبر الذي يزعمون أنه قبر علي عليه السلام وبإزائه المدارس والزوايا والخوانق معمورة أحسن عمارة وحيطانها بالقشاني وهو شبه الزلج عندنا لكن لونه أشرق ونقشه أحسن ويدخل من باب الحفرة إلى مدرسة عظيمة يسكنها الطلبة والصوفية من الشيعة ولكل وارد عليها ضيافة ثلاثة أيام من الخبز واللحم والتمر، ومن تلك المدرسة يدخل إلى باب القبة). وبعد أن أشار ابن بطوطة إلى الاستئذان وتقبيل العتبة قال (وهي من الفضة وكذلك العضادتان ثم يدخل الزائر القبة وفي وسطها مصطبة مربعة مكسوة بالخشب عليه صفائح الذهب المنقوشة المحكمة العمل مسمرة بمسامير الفضة قد غلب على الخشب بحيث لا يظهر منه شيء وارتفاعها دون القامة - إلى أن يقول - وللقبة باب آخر عتبته أيضا من الفضة يفضي إلى مسجد وله أبواب أربعة عتبتها فضة. . وكان عضد الدولة أول من عين السادن والخدمة للمشهد المقدس بعد إتمام العمارة وأجرى لهم الأرزاق وبالغ بلزوم تنظيم شؤون الحضرة المقدسة، وقد قدم العلويين على غيرهم في سدانة المشهد وخدمته. أما اهتمام عضد الدولة بقصبة النجف وعمرانها والاعتناء بساكنيها من اللاجئين إلى قبر الإمام علي عليه السلام فحدث عنه ولا حرج. فقد كان أول من قام بتحصينها ورد العادين عليها من أعراب البادية وغيرهم، فإنه في الوقت الذي كان يقوم بتعمير المشهد العلوي وإقامة القبة عليه حصن المدينة ببناء سور منيع حوله وهو أول من أقام السور عليها، ووسع البلدة حيث أصبحت حول المرقد المطهر بلاد صغيرة محيطة به وشجع العلويين وغيرهم للشخوص إلى النجف والسكن حول مشهد الإمام علي عليه السلام، وقد ذكر بعض المؤرخين أن عدد نفوس النجف عند زيارة عضد الدولة سنة 371 كان ما يقرب من(6000) نسمة هم من الشيعة الخلص وبينهم العلويون (1700) نسمة. ولما كان الماء أساس العمران وكانت النجف محرومة منه لأنها تقع في أرض مرتفعة عن الكوفة ونهر الفرات فقد كان عضد الدولة من الأوائل الذي فكر في إيصال الماء إلى هذه المدينة، فإن أول ما قام به في هذا المضمار أنه أصلح قناة عرفت بقناة آل (أعين) كانت قد حفرت في النجف سنة (250) ولكنها تهدمت بمرور الأيام، فأصلحها عضد الدولة وأجرى الماء فيها فعرفت بقناة (عضد الدولة) أو (قناة آل بويه) كما بنى المهدم منها وأحكمها أشد من الأول وبقيت قرونا طوالا تسقي النجف وأهلها بأعذب الماء. وبالإضافة إلى ذلك فقد أراد عضد الدولة أن يجري الماء من الفرات إلى النجف تحت الأرض لأن أرض النجف مرتفعة لا يمكن أن يصل الماء إليها على وجه الأرض فحفر إلى جهة الشمال، فنبعت في أثناء الحفر عين منعت من مواصلة الحفر لكن ماءها ليس بشروب فاكتفى بها للانتفاع بها بغير الشرب وساق ماءها إلى آبار عميقة محكمة البناء ووصل بينها بقنوات محكمة يسير فيها الفارس فيجري الماء من بئر إلى بئر ثم يخرج منه إلى جهة المغرب.

إقامة المشهد الحسيني وعنايته بكربلاء

ولم يكن اهتمام عضد الدولة بمشهد الإمام الحسين عليه السلام بالحائر بأقل من مشهد أبيه عليه السلام في النجف، فإنه جدد حرم الحسين عليه السلام على أنقاض ما كان قد بني من قبل وبنى حوله أروقة متناسقة منتظمة وشيد على القبر المهطر قبة على شكل دائرة واتخذ حوله مسجدا وبنى بجانبه دورا للسكن ووسع الحائر وكسا الصندوق الموجود على القبر المطهر بالخشب الساج ووضع عليه الديباج والطنافس الحريرية وأنار القبر بالقناديل المذهبة وأوقف له موقوفات كثيرة. وفي زيارته للمشهد الحسيني لبضع بقين من جمادى الأول سنة 371 وضع في الصندوق دراهم فرقت على العلويين فأصاب كل منهم 32 درهما وكلن عددهم (1200) اسم وتبرع بعشرة آلاف درهم وزعت على العوام والمجاورين وفرق على أهل الحائر مائة ألف رطل من التمر والدقيق و(500) قطعة من الثياب وأعطى الناظر عليهم ألف درهم، وقد أكمل هذا البناء في شهر جمادى الأول سنة 371 بعد عمل دام ثلاث سنوات حيث كان قد بدأ به عام 369 وبقيت هذه العمارة على المشهد الحسيني حتى سنة 407 عندما احترق مشهد الحسين عليه السلام في ربيع الأول من هذه السنة وكان السبب في ذلك إن القوام أشعلوا شمعتين كبيرتين فسقطا في جوف الليل على التآزير فاحترقتا. وقال الخواجه حميد الدين في تاريخه: إن عضد الدولة عثر على كنوز مملوءة بالذهب والفضة فصرفها كلها على تعمير المشهدين الحسيني والعلوي في كربلاء والنجف (كذا). هذا وكان عضد الدولة يزور كل سنة المشهدين الحسيني والعلوي مدة حكمه في بغداد مؤديا الزيارة لهما وليشرف بنفسه على البناء والعمران في المشهدين المقدسين وشؤون السكان وخاصة العلويين منهم. أما بالنسبة للمدينة (كربلاء) فقد وجه عضد الدولة عناية فائقة نحو تمصيرها وتوسيعها حتى بنى لها سورا عاليا قدرت مساحته آنذاك (2400) قدم وشق لها قناة لسقي أهاليها فباتت كربلاء على عهده زاهرة عامرة، وأنشأ حول المرقد المقدس العمارات والخانات وبالغ في تشييد الأبنية حول المشهد وأسكنها كثيرا من القبائل العربية والبيوتات العلوية وغيرهما من الموالين لآل البيت عليهم السلام، وأخذت المدينة بالتوسع شيئا فشيئا حتى تلاصقت العمارات بتوالي الأيام وقد بلغ عدد سكان المدينة في أواخر أيام عضد الدولة 2200 نسمة من العلويين عدا غيرهم من المسلمين، وكانت المدينة هذه تضم بين جدران سورها ثلاثة أحياء يدعى الأول (محلة آل فايز) والثاني (محلة آل زحيك) والثالث (محلة آل عيسى) نسبة إلى الأسر العلوية التي كانت تسكنها. وقد دافع عضد الدولة عن كربلاء بجيوشه مرارا عديدة حيال هجمات المعتدين. من ذلك أن ضبة بن محمد الأسدي العيني الذي كان قد حكم مدينة عين التمر (شفائا حاليا) الواقعة غربي كربلاء مدة 32 سنة والذي هجاه المتنبي قد أغار عام 369 على مدينة كربلاء ونهبها وحمل أهلها أسارى إلى قلعته في عين التمر فبلغ الخبر إلى عضد الدولة وهو في بغداد فمشى إليه بجيش يقارب ال 10 آلاف فارس وهاجم عين التمر وحاصر القلعة التي ألقى ضبة نفسه وجواده من أعلى سورها وترك أهله وماله فيها فتحطم جواده وتهشم ونجا هو بنفسه وولى هاربا مع بعض حاشيته إلى البادية. فاستولى عضد الدولة على القلعة وأخذ أهلها إلى كربلاء ووهبهم لخدمة المشهد الحسيني عليه السلام كما أرجع إلى كربلاء أهلها وكان كل ما كان قد سلب منهم وعين أحد العلويين رئيسا لعين التمر لرعاية شؤونها. وقد كان ذلك يوم الجمعة لليلتين خليتا من ذي الحجة سنة 369. هذا وقد ازدهرت كربلاء في عهد عضد الدولة وتقدمت معالمها الدينية والسياسية والاقتصادية فاتسعت تجارتها وتقدمت زراعتها وأينعت علومها وآدابها وتخرج خلال ذلك منها علماء فطاحل وشعراء مجيدون.

عنايته بمشهد الكاظميين ومشهد العسكريين

ولم يترك عضد الدولة مشهد الإمامين الجوادين في مقابر قريش بضواحي بغداد من العناية والاهتمام فإنه كان يزور قبريهما الطاهرين في كل شهر مرة على الأقل مع أفراد حاشيته ورجال جيشه. وقد بنى في عام 367 سورا على ضريحي الإمامين الهمامين عليه السلام وحول أبنية المشهد وقبتيه اللتين كان قد أقامهما عمه معز الدولة سنة 336 على قبري الإمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد عليهما السلام. كما زاد عضد الدولة من التعمير داخل المشهد وخارجه وأضاف إلى التزيينات والأضوية والفرش أضعافا مضاعفة. وعمر المساجد والأسواق التي كانت مقامة حول المشهد والتي تدمرت بتوالي الفتن والغرق في بغداد وضواحيها. وكان هذا المشهد وحواليه قد أصبحت شبه قرية عامرة. وقام عضد الدولة بتعمير مشهد الإمامين العسكريين في سامراء وخاصة عمارة الروضة والأروقة ووسع الصحن وشيد سورا للبلد الذي أخذ بالاتساع وكان ذلك عام 368.

وفاة عضد الدولة وقبره

توفي عضد الدولة ببغداد يوم الاثنين الثامن من شهر شوال سنة 372 عن 47 سنة و11 شهرا وثلاثة أيام بعلة ما انتابه من مرض الصرع فضعفت قوته عن دفعه فخنقه ومات. ودفن بدار الملك في بغداد ثم نقل أوائل سنة 373 إلى مشهد أمير المؤمنين عليه السلام في النجف بناء على وصيته حيث دفن تحت قدمي الإمام عليه السلام، وقد نقل عنه أنه حينما وافته المنية ردد (ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه) كما كان قد أوصى أن تنحت على صخرة قبره (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) فنفذت هذه الوصية، كما كتب على لوح قبره ما يلي: (هذا قبر عضد الدولة وتاج الملة أبي شجاع بن ركن الدولة أحب مجاورة هذا الإمام المعصوم لطمعه في الخلاص يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وصلواته على محمد صلى الله عليه وسلم وعترته الطيبين). وقد بني على قبر عضد الدولة الواقع من جهة الغرب من مشهد الإمام عليه السلام قبة عظيمة بقيت حتى هدمها السلطان سليمان العثماني لما دخل العراق سنة 940 وجعلها تكية للبكتاشية وهي باقية حتى الآن على هذا الشكل وبابها في الجهة الغربية من الصحن الشريف. وفد ذكر بعض الثقاة المعمرين أنه ظهر للعيان حوالي سنة 1315 أو 1316 قبر عضد الدولة عند قلع رخام الأرض وعلى صخرة منقوش عليها آية {وكلبهم بسط ذراعيه بالوصيد} ومرسوم بعد ذلك اسم فناخسرو وعضد الدولة وهي الصخرة التي كان قد أوصى أن تنحت على قبره. أما مدة حكمه في إمارته وسلطنته كلها منذ توليه إمارة شيراز فهي 34 سنة، ومدة حكمه في العراق بلغت الخمسة الأعوام والنصف. ومما يذكر أنه لما توفي عضد الدولة جلس ابنه صمصام الدولة (أبو كاليجار) للعزاء فأتاه الخليفة الطائع لله معزيا ولما بلغ خبر وفاته بعض العلماء وهو سليمان السجستاني وعنده جماعة من أعيان الفضلاء كالقومسي والنوشجاني والقاسم غلام زحل وابن المقداد والعروضي والأندلسي والصيمري، تذاكروا الكلمات العشر التي قالها الحكماء العشرة عند وفاة الإسكندر. ويروي أنه لما توفي عضد الدولة قبض على نائبه أبي الريان من الغد فأخذ من فمه رقعة فيها:

فلما وقف عبد الله بن سعدان على الرقعة قال لحاجبه إمض وسله عنها ففعل فقال: هذه رقعة أنفذها أبو الوفاء طاهر ابن محمد إلي عند القبض عليه ولست أحسن قول الشعر.

أولاده

خلف عضد الدولة ثلاثة أولاد هم: صمصام الدولة (أبو كاليجار)، و شرف الدولة، وبهاء الدولة.

وقام هؤلاء الثلاثة بعد عضد الدولة بإدارة شؤون الدولة ببغداد لكنهم لم يقوموا بأعباء الحكم كما قام به والدهم فبدأت تظهر الفتن في بغداد والعراق على أثر تنافس الأخوة الثلاثة للاستحواذ على أمر المملكة. وهكذا تدهورت الأحوال بعد عضد الدولة في العراق وأخذت قوة الدولة البويهية تنحط نتيجة للحروب التي دامت بين الأخوة الثلاثة وسوء الحكم. وامتد ذلك إلى سائر البلدان الإسلامية.

ملحق بهذه الترجمة

وممن أشار إلى عضد الدولة،الثعالبي في كتابه (يتيمة الدهر) من محاسن أهل العصر، حيث قال عنه في الجزء الثاني منه: عضد الدولة أبو شجاع فنا خسرو ابن ركن الدولة كان على ما كان له في الأرض، وجعل إليه من أزمة البسط والقبض وخص به من رفعة الشأن وأوتي من سعة السلطان يتفرغ للأدب، ويتشاغل بالكتب ويؤثر مجالسة الأدباء على منادمة الأمراء ويقول شعرا كثيرا يخرج منه ما هو شرط هذا الكتاب من الملح والنكت. وما أدرى كم فصل بارع ووصف رائع قرأته للصاحب في وصف عضد الدولة. فمن ذلك - وأما قصيدة مولانا فقد جاءت ومعها عزة الملك وعليها رواء الصدق وفيها سيما العلم وعندها لسان المجد ولها صيال الحق. ومنه لا غرو إذا فاض بحر العلم على لسان الشعر أن ينتج ما لا عين وقعت على مثله ولا أذن سمعت بشبهه. ومنه - لو استحق شعر أن يعبد لعذوبة مناهله وجلالة قائلة لكانت قصيدته هي إلا أني أتخذتها عند امتناع ذلك قبلة أوجه إليها صلوات التعظيم وأقف عليها طواف الإجلال والتكريم. ومنه - شعر قد حبس خدمته على فكره ووقف كيف شاء على أمره فهو يكتب في غرة الدهر ويشرخ جبهتي الشمس والبدر. ثم من أراد أن ينظر في أخبار عضد الدولة ويقف على محاسن آثاره فليتأمل الكتاب التاجي من تأليف أبي إسحاق الصابي لتجتمع له مع الإحاطة بها بلاغة من تسهل له حزونها ولا ينته متونها وإطاعته عيونها. حدثني أبو بكر الخوارزمي قال: كان ينادم عضد الدولة بعض الأدباء والظرفاء ويحاضر بالأوصاف والتشبيهات ولا يحضر شيء من الطعام والشراب وغيرها. إلا وأنشد فيه لنفسه أو لغيره شعرا حسنا. فبينما هو ذات يوم معه على المائدة ينشد كعادته إذ قدمت له بهطة فنظر عضد الدولة كالأمر إياه بأن يصفها فارتج عليه، وغلبه سكوت معه خجل فارتجل عضد الدولة وقال:

وأنشدني محمد بن عمر الزاهر - قال - أنشدني أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف. قال أنشدني عضد الدولة لنفسه في أبي تغلب عند اعتذاره إليه من معاودة بختيار عليه والتماسه كتاب الأمان منه:

ومما ينسب إليه وأنا أشك فيه أبيات يتداولها القوالون وهي:

إلى أن يقول الثعالبي:

وقال ابن الأثير: في هذه السنة 369 شرع عضد الدولة بعمارة بغداد، وكانت قد خربت بتوالي الفتن فيها، وعمر مساجدها وأسواقها وأدر الأموال على الأئمة والمؤذنين والعلماء والقراء والغرباء والضعفاء الذين يأوون إلى المساجد، وألزم أصحاب الأملاك الخراب بعمارتها، وجدد ما دثر من الأنهار وأعاد حفرها وتسويتها، وأطلق مكوس الحجاج وأصلح الطريق من العراق إلى مكة شرفها الله تعالى، وأطلق الصلات لأهل البيوتات والشرف والضعفاء المجاورين بمكة والمدينة، وفعل مثل ذلك بمشهد علي والحسين عليهما السلام، وسكن الناس من الفتن وأجرى الجرايات على الفقهاء والمحدثين والمتكلمين والمفسرين والنحاة والشعراء والنسابين والأطباء والحساب والمهندسين. وأذن لوزيره نصر هارون - وكان نصرانيا - في عمارة البيع والديرة وإطلاق الأموال لفقرائهم. وقال ابن الأثير أيضا بعد ذكره موت عضد الدولة: كان يخرج في ابتداء كل سنة شيئا كثيرا من الأموال للصدقة والبر في سائر بلاده ويأمر بتسليم ذلك إلى القضاة ووجوه الناس ليصرفوه إلى مستحقيه. وكان يوصل إلى العلماء المتعطلين ما يوم بهم ويحاسبهم إذا عملوا، وكان محبا للعلوم وأهلها، مقربا لهم محسنا إليهم، وكان يجلس معهم ويعارضهم في المسائل، فقصده العلماء من كل بلد وصنفوا له الكتب، ومنها: الإيضاح في النحو، والحجة في القراءات، والملكي في الطب، والتاجي في التاريخ إلى غير ذلك، وعمل المصالح في سائر البلاد كالبيمارستانات والقناطر، وغير ذلك من المصالح العامة. إلا أنه أحدث في آخر أيامه رسوما جائزة في المساحة والضرائب على بيع الدواب وغيرها من الأمتعة وزاد على ما تقدم ومنع من عمل الثلج والقز وجعلهما متجرا للخاص. وكان يتوصل إلى أخذ المال من كل طريق.

  • دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 8- ص: 415