أبو الطيب المتنبي أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الكندي، أبو الطيب المتنبي: الشاعر الحكيم، واحد مفاخرالادب العربي. له الامثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة. وفي علماء الادب من يعده اشعر الاسلاميين. ولد بالكوفة في محلة تسمى ’’كندة’’ واليها نسبته. ونشأ بالشام، ثم تنقل في البادية يطلب الادب وعلم العربية وايام الناس. وقال الشعر صبيا. وتنبأ في بادية السماوة (بين الكوفة والشام) فتبعه كثيرون. وقبل ان يستفحل امره خرج اليه لؤلؤ (امير حمص ونائب الاخشيد) فأسره وسجنه حتى تاب ورجع عن دعواه. ووفد على سيف الدولة ابن حمدان (صاحب حلب) سنة 337 هـ ، فمدحه وحظى عنده. ومضى إلى مصر فمدح كافور الاخشيدي وطلب منه ان يوليه، فلم يوله كافور، فغضب أبو الطيب وانصرف يهجوه. وقصد العراق، فقرئ عليه ديوانه. وزار بلاد فارس فمر بأرجان ومدح فيها ابن العميد وكانت له معه مساجلات. ورحل إلى شيراز فمدح عضد الدولة ابن بويه الديلمي وعاد يريد بغداد فالكوفة، فعرض له فاتك بن أبي جهل الاسدي في الطريق بجماعة من اصحابه ومع المتنبي جماعة ايضا، فأقتتل الفريقان فقتل أبو الطيب وابنه محسد وغلامه مفلح، بالنعمانية بالقرب من دير العاقول(في الجانب الغربي من سواد بغداد) اما ’’ديوان شعره - ط) فمشروح شروحا وافية. وقد جمع الصاحب ابن عباد لفخر الدولة ’’نخبة من امثال المتنبي وحكمه - ط) وتبارى الكتاب قديما وحديثا في الكتابة عنه، فألف الجرجاني (الوساطة بين المتنبي وخصومه - ط) والحاتمي (الرسالة الموضحة في سرقات أبي الطيب وساقط شعره - خ) والبديعي (الصبح المنبي عن حيثية المتنبي - ط) والصاحب ابن عباد (الكشف عن مساوئ شعر المتنبي - ط) والثعالبي (أبو الطيب المتنبي ما له وما عليه - ط) والمتيم الافريقي (الانتصار المنبي عن فضل المتنبي) وعبد الوهاب عزام (ذكرى أبي الطيب بعد ألف عام - ط) وشفيق جيري (المتنبي - ط) وطه حسين (مع المتنبي - ط) جزآن، ومحمد عبد المجيد (أبو الطيب المتنبي، ما له وما عليه - ط) ومحمد مهدي علام (فلسفة المتنبي من شعره - ط) ومحمد كمال حلمي (أبو الطيب المتنبي - ط) ومثله لفؤاد البستاني، ولمحمود محمد شاكر.

  • دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 1- ص: 115

أبو الطيب المتنبي اسمه أحمد بن الحسين
(تتمة)
في مشتركات الكاظمي: ومنهم أبو الطيب ولم يذكره شيخنا مشترك بين الرازي المتكلم صاحب الكتب الكثيرة أستاذ أبي محمد العلوي وكان مرجئا والصرام وكان وعيديا قال الشيخ الطوسي رأيت ابنه أبا القاسم وكان فقيها وسبطه أبا الحسن وكان من أهل العلم وبين ابن علي بن بلال أخي أبي طهر ’’اه’’.

  • دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 2- ص: 370

أبو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن

ابن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي المعروف بالمتنبي وقيل هو أحمد بن الحسين بن مرة بن عبد الجبار حكاه ابن خلكان وابن حجر في الميزان

ولد بالكوفة في محلة كندة وقتل سنة 354 بضيعة قرب دير العاقول قرب النعمانية آبيا من فارس إلى بغداد ودفن هناك.

نسبه

(الجعفي) بضم الجيم وسكون العين المهملة وبعدها فاء هذه النسبة إلى القبيلة وأبو القبيلة المنسوب إليه المسمى جعفي أيضا ككرسي وهو جعفي بن سعد العشيرة بن مذحج واسمه مالك بن أردد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد ابن كهلان وإنما قيل له سعد العشيرة لأنه كان يركب في ثلثمائة من ولده وولد ولده فإذا قيل له من هؤلاء قال عشيرتي مخافة العين عليهم (والكندي) قال ابن خلكان نسبة إلى محلة بالكوفة تسمى كندة نسب إليها لأنه ولد بها وليس هو من كندة التي هي قبيلة بل هو جعفي القبيلة (أه).

أبوه وأمه

في أنساب السمعاين: كان والد المتنبي جعفيا وأمه همدانية صحيحة النسب وكانت من صلحاء الناس الكوفيات: وقال كان السيد أبو الحسن محمد بن يحيى العلوي الزيدي يقول: كان المتنبي وهو صبي ينزل في جواري بالكوفة وكان أبوه يعرف بعيدان السقا يسقي لنا ولأهل المحلة (أه) (أقول) اسم أبيه الحسين وعيدان لقب لقب به وإلى كون أبيه سقاء أشار بعض الشعراء في هجو المتنبي بقوله:

فنسب إليه بيع الماء باعتبار أبيه وقال السمعاني: سئل المتنبي عن نسبه قال: أنا رجل أحفظ القبائل وأطوي البوادي وحدي ومتى انتسبت لم آمن أن يأخذني بعض العرب بمطالبة بينها وبين القبيلة التي انتسبت إليها وما دمت غير منتسب إلى أحد فأنا أسلم على جميعهم ويخافون لساني (أه).

أقوال العلماء فيه

قال بن خلكان: وهو من أهل الكوفة وقدم الشام في صباه وجال في أقطاره واشتغل بفنون الأدب ومهر فيها، وكان من المكثرين في نقل اللغة والمطلعين على غريبها وحوشيها، ولا يسأل عن شيء إلا استشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر حتى قيل إن الشيخ أبا علي الفارسي صاحب الإيضاح والتكملة قال له يوما كم لنا من المجموع على وزن فعلى (يعني بكسر الفاء وسكون العين) فقال المتنبي في الحال: حجلى وظربى، قال الشيخ أبو علي: فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهذين الجمعين ثالثا فلم أجد، وحسبك من يقول أبو علي في حقه هذه المقالة، وحجلى جمع حجل وهو الطائر الذي يسمى القبج، والظربى جمع ظربان على مثال قظران وهي دويبة منتنة الرائحة (أه).

وقال الثعالبي في اليتيمة: وهو وهو إن كان كوفي المولد فهو شامي المنشأ وبها تخرج ومنها خرج نادرة الفلك وواسطة عقد الدهر في صناعة الشعر، ثم هو شاعر سيف الدولة المنسوب إليه المشهور به، إذ هو الذي جذب بضبعه ورفع من قدره ونفق سعر شعره وألقى عليه شعاع سعادته حتى سار ذكره مسير الشمس والقمر وسافر كلامه في البدو والحضر، إلى آخر ما يأتي عند الكلام على شعره.

وفي لسان الميزان: نشأ بالكوفة وأقام بالبادية وتعانى الأدب ونظر في أيام الناس ونظم الشعر حتى بلغ الغاية إلى أن فاق أهل عصره وانقطع إلى ابن حمدان فأكثر المدح فيه، ثم دخل مصر ومدح كافورا، ثم ورد إلى العراق وجالس بها أهل الأدب وقرئ عليه ديوان شعره وسمع منه ديوانه أبو الحسين محمد بن أحمد بن القاسم المحاملي قال أبو علي التنوخي: حدثني أبو الحسن محمد بن يحيى العلوي قال: كان والد أبي الطيب يلقب عيدان بفتح المهملة وسكون التحتانية، فنشأ أبو الطيب وتصحب الأعراب وأكثر من ملازمة الوارقين فذكر بعضهم أنه رأى معه كتابا من كتب الأصمعي نحو ثلاثين ورقة فأطال النظر فيه، فقيل له:

إن كنت تريد حفظه فسيكون بعد شهر قال: فإن كنت حفظته في هذه المدة قلت فهو لك، فأخذت الدفتر من يده فسرده، ثم أسلبه فجعله في كمه، قال: وكان يخرج إلى بادية كلب، فأقام فيهم فادعى أنه علوي ثم ادعى النبوة ثم أخذ فحبس طويلا واستتيب وكان لؤلؤ أمير حمص خرج إليه فقاتله وشرد من معه من قبائل العرب وكان بعد ذلك إذا ذكر له ذلك ينكره ويجحده (أه).

سبب تلقيبه بالمتنبي

قال التعالبي في اليتيمة: يحكى أنه تنبأ في صباه وفتن شرذمة بقوة أدبه وحسن كلامه (أه) وفي الصبح المنبي عن حيثية المتنبي للشيخ يوسف البديعي المتوفى سنة 1073 عن أبي عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي ما محصله: أن أبا الطيب قدم اللاذقية سنة 320 ونيف وأظهر له دعوى النبوة فقال له: إن هذا أمر عظيم أخاف عليك منه فقال بديها:

وأنه أخبره بأنه يوحى إليه وأن له معجزة هي حبس المطر وأنه واعده على الخروج في يوم مطير إلى الصحراء فنظر إلى نحو مائتي ذراع في مثلها ما فيه قطرة مطر فأقر بنبوته وبايعه قال:

وأخذ بيعته لأهله ثم صح عد ذلك أن البيعة عمت مدينة في الشام، وذلك بأصغر حيلة تعلمها من بعض العرب: وهي صدحة المطر يصرفه بها عن أي مكان أحب بع أن يحوي بعضا وينفث في الصدحة التي لهم، قال أبو عبد الله وقد رأيت كثيرا منهم بالسكون وحضرموت والسكاسك من اليمن يفعلون هذا ولا يتعاظمونه حتى أن من المطر وهو ضرب من السحر وسألت المتنبي بعد ذلك هل دخلت السكون قال نعم أما سمعت قولي:

فقلت: من ثم استفاد ما جوزه على طعام أهل الشام.

قرآنه

وأنه زعم أنه أنزل عليه قرآن، وهذا بعض ما فيه:

والنجم السيار والفلك الدوار والليل والنهار إن الكافر لفي أخطار امض على سنتك واقف أثر من كان قبلك من المرسلين فإن الله قامع بك زيغ من ألحد في الدين وضل عن السبيل.

وأنه كان يزعم أن الأرض تطوى له ويمخرق بذلك على الأعراب لأنه كان قويا على السير عارفا بالبوادي "أه".

وقال ابن خلكان: إنما قيل له المتنبي لأنه ادعى النبوة في بادية السماوة وتبعه خلق كثير من بني كلب وغيرهم فخرج إليه لؤلؤ أمير حمص نائب الإخشيد فاسره وتفرق أصحابه وحبسه طويلا ثم استتابه وأطلقه، وقيل غير ذلك وهذا أصح "أه".

وذكر السمعاني في الأنساب نحوا مما ذكره ابن خلكان (أقول) إن الثعالبي لم يحقق دعواه النبوة بل اقتصر على نسبتها إلى الحكاية كما سمعت، ثم ذكر الثعالبي كما يأتي أنه هم بالخروج على السلطان ودعا قوما إلى بيعته فبلغ خبره إلى والي البلدة فحبسه وقيده ولم يقل أن ذلك من أجل دعوى النبوة بل كلامه دال على أنه من أجل إرادته الخروج على السلطان، وأما ما ذكره صاحب الصبح من أن تنبأه كان باللاذقية فينا فيه ما ذكره غيره كابن خلكان والسمعاني من أن تنبأه كان ببادية السماوة عند بني كلب، وكلاب، ثم ما حكاه من سحر المطر ومنعه عن المكان الذي يراد وأن ذلك شائع باليمن حتى من الرعاة لا يقبله عقل ولم يثبت أن السحر يغير الحقائق وإنما يغطي على الأبصار كما يرشد إليه قوله تعالى (سحروا أعين الناس). وقولع تعالى (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) وأما الأبيات التي زعم أنه أنشدها عندما خوفه العاقبة وهي قوله "أبا عبد الإله إلخ" ففي ديوانه أنه أنشدها عندما عذله على ما كان شاهده من تهوره وليس فيها إشارة إلى أن هذا التهور كان بدعوى النبوة وإلا كان اللازم ذكر ذلك كما هي العادة في دواوين الشعراء فالأرجح أنه عذبه على تهورهفي طلب الإمارة وإرادة الخروج على السلطان والأبيات نفسها تدل على ذلك ولو كان عذله على دعوى النبوة وخوفه العاقبة لكان ينبغي أن يقول له في الأبيات: إني إن قتلت في سبيل دعوى النبوة أكون شهيدا سعيدا لأن ذلك شأن من يدعي الصدق في دعوة النبوة، فلما لم يتعرض لشيء من ذلك واقتصر على ذكر شجاعته وعدم مبالاته بالموت وأن الزمان لو تهابه يقظه ونوما كما أن الشعر الذي زعم أنه أنشده عندما بايعه بالنبوة من قوله "أي محل إلخ" لا يناسب المقام لأنه ليس فيه إلا الفخر والحماسة المتناهية واحتقار كل عظيم فلا يناسب إنشاده عقيب البيعة بالنبوة بل المناسب أن يقول: سأمضي في القيام بأعباء النبوة التي بعثت بها غير مبال بالمصائب، فهذه الأبيات أيضا ترشد إلى أنه قالها معبرا عما في نفسه من الطموح إلى الإمارة والخروج على السلطان وليس في الديوان أنه قالها عندما بايعه بالنبوة ولو كان كذلك لذكر، على أن قوله إن بيعته عمت كل مدينة بالشام مستبعد في العادة بل مقطوع بكذبه فإن صح أنه ادعى النبوة فبالبادية بين الأعراب لا في المدن لا سيما أن الوجه الذي استند إليه في عمومها للمدن قد عرفت فساده ومن ذلك يتطرق الشك إلى أصل دعواه النبوة خصوصا أنه كان ينكر ذلك ويقول إنه سمي بالمتنبي لشعر قاله ففي اليتيمة حكى أبو الفتح عثمان بن جني قال سمعت أبا الطيب يقول إنما لقبت بالمتنبي لقولي:

ونخلة توجد في كثير من النسخ بالخاء المعجمة والظاهر أن الصواب كونها نحلة بالحاء المهملة وهي القرية التي بقرب بعلبك فإنه كان يتردد كثيرا إلى تلك البلاد فلعله أقام بها مدة وقد نزل على علي بن عسكر ببعلبك فخلع عليه وحمله ومدحه المتنبي كما في ديوانه وفي معجم البلدان نحلة قرية بينها وبين بعلبك ثلاثة أميال إياها عني أبو الطيب فيما أحسب بقوله:

وفي الصبح المنبي قال أبو علي (يعني الفارسي) قيل للمتنبي على من تنبأت قال على الشعراء فقال لكل نبي معجزة فما معجزتك قال هذا البيت:

(تشيعه)

قال ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان ذكره ابن الطحان في ذيل الغرباء وقال: كان يتشيع وقيل كان ملحدا "أه" أقول المسارعة إلى نسبة الإلحاد والتكفير يجرأ عليها الكثير فباؤوا بسخطه تعالى وما في بعض أشعاره مما يشف عن قلة المبالاة بالدين لا يوجب الإلحاد واستظهر تشيعه القاضي نور الله في مجالس المؤمنين وذكره السيد يوسف ابن يحيى الحسني اليماني في كتابه نسمة السحر بذكر من تشيع وشعر وحكى فيه الحزم بتشيعه عن والده السيد يحيى فقال أخبرني القاضي العلامة أبو محمد أحمد بن ناصر ابن محمد بن عبد الحق عن والدي رحمه الله أن أبا الطيب كان يتحقق بولاء أمير المؤمنين علي عليه السلام تحققا شديدا وأن له فيه عدة قصائد سماها العلويات وإنما حذفت من أكثر نسخ ديوانه لشدة التعصبات في المذاهب فلذا ذكرته (أه).

وجزم بتشيعه الأستاذ ماسينيون المستشرق الإفرنسي مستدلا ببعض ما يأتي وهو رجل متتبع جدا.

ونحن نوافق على استظهار تشيعه ويمكن أن يستفاد تشيعه من أمور:

أنه من أهل الكوفة الذين عرفوا بالتشيع وغلب عليهم كما عرف أهل البصرة بضده وغلب عليهم قال أبو تمام:

وحكى الذهبي في ميزان الميل عن الاعتدال عن يحيى ابن معين أن حفص بن غياث اجتمع إليه البصريون فقالوا لا تحدثنا عن ثلاثة أشعث بن الملك وعمرو بن عبيد وجعفر ابن محمد فقال أما أشعث فهو لكم وأنا أتركه لكم وأما عمرو فأنتم أعلم به وأما جعفر فلو كنتم بالكوفة لأخذتكم النعال المطرقة (أه) وفي نسمة السحر يقوي تشيعه أنه كوفي والكوفة أحد معادن الشيعة (أه).

إن قبيلة جعفي التي ينسب إليها المتنبي وأبوه معروفة بالتشيع ففيها من رجال الشيعة جابر الجعفي من أصحاب الباقر والصادق عليهما السلام والمفضل بن عمر الجعفي من أصحاب الصادق عليه السلام وولده محمد بن المفضل ابن عمر من أصحاب الكاظم عليه السلام ونقلت جريدة القبس في عدد 1108 عن ماسينيون المستشرق الإفرنسي المقدم ذكره أنه جعل من جملة الأدلة على تشيع المتنبي إن قبيلة جعفي التي ينتسب إليها عيدان السقا والد المتنبي عرفت بصبغتها الشيعية وعدا ذلك فقد أنجبت هذه القبيلة أربعة من رؤساء الشيعة الغلاة وهم جابر ومفضل وولده محمد وعمر بن الفرات (أه) أقول عمر بن الفرات من أصحاب الرضا عليه السلام ونسب إلى الغلو لكن لم أجد من وصفه بالجعفي.

إن محلة كندة التي ولد فيها أبو الطيب هي محلة عرف أهلها بالتشيع وهذا أيضا مما جعله الأستاذ ماسينيون من أدلة تشيعه وقد عرفت في صدر الترجمة قول ابن خلكان أنه منسوب إلى المحلة لا إلى القبيلة لكن الظاهر أن تسمية تلك المحلة بكندة لسكنى قبيلة كندة بها وكندة أيضا معروفة بالتشيع ومنها حجر بن عدي الكندي الصحابي شهيد مرج عذرا وقيس بن فهدان الكندي الشاعر الشيعي المشهور وغيرهما ولا تنافقي غلبة التشيع في كندة شذوذ الأشعث ابن قيس وأولاده.

إن والدة المتنبي همدانية صحيحة النسب من صلحاء النساء الكوفيات كما مر عن السمعاني وتشيع قبيلة همدان أشهر من نار على علم حتى قال فيها أمير المؤمنين علي عليه السلام.

فقد رضع المتنبي التشييع مع اللبن كما قال الشاعر:

وهذا أيضا مما جعله الأستاذ ماسينيون من أدلة تشيع المتنبي وهو ثالث الأمور التي ذكرها.

ما جاء في أشعاره فقد سمعت ما رواه صاحب نسمة السحر عن والده أن للمتنبي عدة قصائد في مدح أمير المؤمنين علي عليه السلام أسماها العلويات حذفت من ديوانه وسواء صحت هذه الرواية أم لم تصح ففيما نقل من شعره في هذا المعنى كفاية. فمنه وقد عوتب على تركه مدح أمير المؤمنين علي عليه السلام نقله أبو الفتح الكراحكي في كنز الفوائد وذكره البرقوقي في شرح ديوان المتنبي مما ساتدركه من ذيل لشرح الواحدي المطبوع في أوروبا وفي رسالة جمعها الأستاذ عبد العزيز الراجكوتي الهندي جمعها من أربع نسخ خطية. وذكره صاحب نسمة السحر قائلا إنه رأى في بعض أخباره أنه آخر شعر قاله وقد عوتب في ترك مديح أهل البيت لا سيما أمير المؤمنين علي عليه السلام قالوا جميعا إنه قال حين عوتب على ذلك وليست في ديوانه.

وقوله لما كانت الشام بيد الإخشيد محمد بن طغج فسار إليها سيف الدولة فافتتحها وهزم عساكر الإخشيد في صفين أورده البرقوقي في شرح ديوان المتنبي فيما استدركه من ذيل لشرح الواحدي المطبوع في أوروبا وفي رسالة جمعها الأستاذ عبد العزيز الراجكوتي الهندي جمعها من أربع نسخ خطية وأورده صاحب نسمة السحر بذكر من تشيع وشعر فقالوا قال المتنبي وليست في ديوانه.

وقوله في القصيدة التي يمدح بها أبا القاسم طاهر ابن حسين بن طاهر العلوي:

#فحييت خير ابن لخير أب بها لأشرف بيت في لؤي بن غالب

فقوله هو ابن رسول الله وابن وصيه، وقوله خير ابن لخير أب كالصريح في التشيع وباقي الأبيات عليها مسحة حب وولاء. وقوله في القصيدة التي يمدح بها محمد ابن عبيد الله العلوي المشطب التي أولها:

يقول فيها:

ولا أدل على التشيع من قوله خير قريش أبا.

وفي نسمة السحر: في شعره إشارات إلى تشيعه فمنه ما قاله في قصيدة كتب بها إلى سيف الدولة وهو بفارس بحضرة عضد الدولة يجيبه عن كتاب:

وبركة اسمه لموافقته اسم علي عليه السلام (أه) وهو أبو الحسن علي.

وقوله كما في مجالس المؤمنين عن سيد المتألهين حيدر ابن علي الآملي أنه نسبه إليه في كتاب جامع الأنوار (وليست في ديوانه).

وقوله كما في مجالس المؤمنين عن الشيخ عبد الجليل الرازي في كتاب نقض الفضائح أنه نقل عنه قال في مدحه عليه السلام (وليست بديوانه):

وقال وأوردهما علي بن عيسى الإربلي في كشف الغمة بزيادة بيت في أولهما وتغيير يسير هكذا:

وأما عدم وجود أكثر هذه الأشعار في ديوانه فغير غريب بعد ما رأيناه أنه أسقط من كشكول البهائي لما طبع جملة من الشعر الذي في أهل البيت وبعدما حرف كتاب مكارم الأخلاق عند طبعه.

(ابتداء أمره)

قال الثعالبي في اليتيمة: ذكرت الرواة أن أباه سافر به من الكوفة إلى بلاد الشام فلم يزل ينقله من باديتها إلى حضرها ومن مدرها إلى وبرها ويسلمه إلى المكاتب ويردده في القبائومخايله نواطق الحسنى عنه وضوامن النجح فيه حتى توفي أبوه وقد ترعرع أبو الطيب وشعر وبرع.

(طلبه إمارة)

قال وبلغ من كبر نفسه وبعد همته أن دعا إلى بيعته قوما من رائشي نبله على الحداثة من سنه والغضاضة من عوده وحين كاد يتم له أمر دعوته تأدى خبره إلى والي البلدة ورفع إليه ما هم به من الخروج فأمر بحبسه وتقييده "أه".

وفي الصبح المنبي لما اشتهر أمره وشاع ذكره وخرج بأرض سليمة من عمل حمص في بني عدي قبض عليه ابن علي الهاشمي في قرية يقال لها كوتكين وأمر النجار بأن يجعل في رجله وعنقه قرميتين من خشب الصفصاف فقال (وليست في ديوانه):

قال ولما اعتقل كتب إلى الوالي من الحبس:

وكتب إليه من الحبس كما في اليتيمة والصبح قصيدته التي أولها:

يقول فيها في مدحه:

ومنها في استعطاف ذلك الأمير والتنصل مما قذف به:

أي أنما تجب الحدود على البالغ وأنا صبي لم تجب علي الصلاة بعد، وهذا من باب المبالغة ويوضحه البيت الذي بعده:

قال الثعالبي: ومن شعره في الحبس ما كتب به إلى صديق له قد كان أنفذ إليه مبرة، وفي الصبح المنبي أنه سجان الوالي الممدوح بالقصيدة السابقة:

(أقول) قوله "غير اختيار" البيت: يكشف عن علو نفسه وشدة أنفته المتجاوزة حد الاعتدال، فأي غضاضة عليه في قبول بر صديقه حتى يقول إنه قبله عن غير اختيار وأنه بمنزلة الجيفة: "والجوع يرضي الأسود بالجيف".

(ما كان فيه من الضيق قبل اتصاله بسيف الدولة)

وكان في أول أمره في ضنك وشدة قبل اتصاله بسيف الدولة قال الثعالبي في اليتيمة: وكان كثيرا ما يتجشم أسفارا بعيدة أبعد من آماله ويمشي في مناكب الأرض ويطوي المناهل والمراحل ولا زاد إلا من ضرب الحراب على صفحة المحراب ولا مطية إلا الخف أو النعل كما قال:

وكما قال في شكوى الدهر ووصف الخف:

وكما قال يصف قدرته على المشي:

وشتان ما بين حاله هذه والحال التي قال فيها:

قال: وكان قبل اتصاله بسيف الدولة يمدح القريب والغريب ويصطاد الكركي والعندليب، قال ويحكى أن علي ابن منصور الحاجب لم يعطه على قصيدته فيه إلا دينارا واحدا، فسميت الدينارية وهي التي أولها:

يقول فيها:

(أه) (وبالجملة) فقد كان قبل اتصاله بسيف الدولة في حال سيئة، وسيف الدولة هو الذي أعلى شأنه وشهر أمره وأظهر محاسن شعره.

طموح المتنبي إلى معالي الأمور والرياسة والولاية

كان هذا الطموح فيه في كل حالاته وفي جميع أدوار حياته من صغره إلى كبره بالغا إلى الغاية، فكان معجبا بنفسه ويلهج دائما في أشعاره بالحرب والقتال ولا يرى أن أحدا يشبهه في هذا الكون، ففي ديوانه أنه قيل له وهو في المكتب: ما أحسن هذه الوفرة فقال:

وقال في صباه من أبيات:

وقال أيضا في صباه من أبيات:

وقال أيضا في صباه:

وقال أيضا في صباه من قصيدة:

وفي اليتيمة: ما زال في برد صباه إلى أن أخلق برد شبابه وتضاعفت عقود عمره يدور حب الولاية والرياسة في رأسه ويظهر ما يضمر من كامن وسواسه في الخروج على السلطان والاستظهار بالشجعان والاستيلاء على بعض الأطراف ويستكثر من التصريح بذلك في مثل قوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وإن عمرت جعلت الحرب والدة=والسمهري أخا والمشرقي أبا

وقوله وهو يرثي جدته أم أمه التي ماتت فرحا بوصول كتابه إليها وكانت يئست منه فلما وردها كتابه قبلته وحمت لوقتها وغلب الفرح على قلبها فقتلها وليست هذه الحال حال حماسة وفخر بل حال حزن وانكسار وهو مع ذلك يقول:

لئن لذ يوم الشامتين بيومها=لقد ولدت مني لأنفهم رغما

وإني من قوم كأن نفوسهم=بها أنف أن تسكن اللحم والعظما

وقد تكرر حماسه وإعجابه بنفسه واستحقاره عظيم الأمور في شعره بحيث لا تكاد تخلو قصيدة له من أي نوع كانت من ذلك قوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

واستقصاء ذلك يطول به الكلام.

وتظهر في شعر المتنبي القسوة والغطرسة وقلة الرحمة حيث يقول:

اتصاله ببني حمدان

وأوله بأبي العشائر

في الصبح المنبي عن ياقوت الرومي أنه قال لم يزل المتنبي بعد خروجه من الاعتقال في خمول وضعف حال في بلاد الشام حتى اتصل بأبي العشائر (وهو الحسن بن علي ابن الحسن بن الحسين بن حمدان العدوي) وكأنه ابن ابن أخي سيف الدولة وكان والي أنطاكية من قبل سيف الدولة ومدحه بعدة قصائد أولها يقول فيها:

يقول فيها:

وله فيه مدائح كثيرة منها قوله لما أوقع بأصحاب با قيس من قصيدة:

وقال يمدحه من قصيدة أولها:

يقول فيها:

وأراد أبو العشائر سفرا فقال يودعه:

وضرب أبو العشائر مضربه على الطريق وكثرت سؤاله فقال أبو الطيب:

ومما يدلنا على شراسة خلق أبي الطيب واستخفافه بالناس حتى الأمراء ومن يغدق عطاءه عليه أنه أغضب أبا العشائر حتى أرسل غلمانه ليوقعوا بالمتنبي، فلحقوه بظاهر حلب ليلا، فرماه أحدهم بسهم فقال: خذه وأنا غلام أبي العشائر لكن أبا الطيب ما عتم أن اعتذر، فقال:

اتصاله بسيف الدولة

في ديوانه قال يمدح سيف الدولة ويذكر إيقاعه بعمرو ابن حابس وبني ضبة سنة 321 ولم ينشده إياها وسن أبي الطيب يومئذ 18 سنة، وسن سيف الدولة يقرب من ذلك.

منها:

منها:

وهذه القصيدة كما يظهر من تاريخ نظمها كانت قبل سجنه بسبب إرادة الخروج علي السلطان أو دعوى النبوة إن صحت فسيأتي أن وروده اللاذقية وإظهاره ذلك كل سنة 320 ونيف وإن لم يكن نظمها قبل ذلك ففي سنته، ويظهر من قول جامع الديوان إنه لم ينشده إياها أن ذلك كان قبل اتصاله بسيف الدولة، فالظاهر أنه نظمها لينشده إياها فلم يتيسر له ذلك فبقيت في طي الكتمان، ثم حدث عليه بعد ذلك ما حدث في السجن والمتاعب التي عرضت ثم اتصل بسيف الدولة في أنطاكية بعد نظم هذه القصيدة بإحدى عشرة سنة بعد اتصاله بأبي العشائر، وقد عرفت قول الثعالبي أنه كان قبل اتصاله بسيف الدولة يمدح القريب والغريب ويصطاد الكركي والعندليب وأن جائزته كانت على بعض قصائده المسماه بالدينارية دينارا واحدا، وعرفت قوله إن سيف الدولة هو الذي جذب بضبعه. ورفع من قدره ونفق سعر شعره وألقى عليه شعاع سعادته ومن هنا يعلم أن المتنبي لولا اتصاله بسيف الدولة كان خامل الذكر مجهول القدر خامد الفكر متروك الشعر وأن الذي رفع مناره وسير في الدنيا أشعاره وطير ذكره في الخافقين هو سيف الدولة بمدحه له ولولا ما أقامه في حضرة سيف الدولة لم يراسله كافور ولم يخطب مدحه ابن العميد ولم يطلبه عضد الدولة ولم يتهالك في استمداحه الصاحب والوزير المهلبي وأمثالهم فيتمنع عن مدحهم.

فالمتنبي قبل اتصاله بسيف الدولة كما أخبر هو عن نفسه يقطع المسافات البعيدة على رجليه لا راحلة له ولا فرس غير نعله وخفه ولا خادم غير كفه يرى نفسه سعيدا أجازه علي بن منصور الحاجب على قصيدة بدينار ويبذل شعره لكل طالب من أمير وصعلوك فلا يجد له مشتريا ولا يبخل به على أمثال ابن كيغلغ كما بخل به بعد اتصاله بعضد الدولة أما سيف الدولة فلم يكن خامل الذكر مجهول القدر وكانت حضرته مملوءة بشعراء عصره وعلمائه وأدبائه واجتمع ببابه من الشعراء ما لم يجتمع لغير الخلفاء ويتيمة الدهر جلها في ذكر شعرائه ومادحيه فلم تكن نباهة شأنه واشتهار ذكره بحاجة إلى شعر المتنبي.

قال الثعالبي لما انخرط المتنبي في سلك سيف الدولة ودرت له أخلاف الدنيا على يده كان من قوله فيه:

وفي الصبح المنبي أن سيف الدولة لما قدم أنطاكية قدم أبو العشائر المتنبي إليه وأثنى عليه وعرفه منزلته من الشعر والأدب.

وفي ديوان المتنبي أن سيف الدولة أبا الحسن علي ابن عبد الله بن حمدان العدوي عند منصرفه من الظفر بحصن برزويه وعودته إلى أنطاكية جلس في فازة من الديباج عليها صورة ملك الروم وصور وحش وحيوان فقال أبو الطيب يمدحه. وقال صاحب الصبح المنبي أن المتنبي اشترط على سيف الدولة أول اتصاله به أن لا ينشده مديحه إلا هو قاعد وأن لا يكلف ثقيل الأرض بين يديه فنسب إلى الجنون ودخل سيف الدولة تحت هذه الشروط ولم يذكر ذلك صاحب اليتيمة ولا هو مذكور في الديوان والاعتبار يقضي ببطلان ذلك فالمتنبي كان في ذلك الوقت في أوائل ظهوره وإن كان حصل له شيء من المال فمن جوائز الحمدانيين عشيرة سيف الدولة وعماله فكيف يتعاظم على سيف الدولة هذا التعاظم ويقبل سيف الدولة ذلك منه والذي كان لا يجلس في مجلس كافور ولا ينشده إلا قائما ويقول:

كما يأتي كيف لا يقبل أن ينشد في مجلس سيف الدولة إلا قاعدا فقال أبو الطيب يمدح سيف الدولة في جمادى الأولى سنة 337 من قصيدة:

يحكى أنه أنشد في مجلس المعتمد بن عباد اللخمي صاحب أشبيلبة هذا البيت فجعل يردده استحسانا له وكان في مجلسه محمد بن عبد الجليل بن وهون الأندلسي فأنشد ارتجالا:

منها في وصف الفازة:

ومنها في وصف الجيش:

ومنها يصف ما لاقاه من المتاعب حتى وصل إليه:

ولما عزم سيف الدولة على الرحيل عن أنطاكية قال أبو الطيب يمدحه من قصيدة:

ويدل مطلع القصيدة وقوله نحن من ضايق الزمان إلخ وقوله ولنا عادة الجميل إلخ على أن أبا الطيب بقي في أنطاكية ولم يسافر إلى حلب مع سيف الدولة ولكن تواريخ القصائد الأخر التي في رثاء والدة سيف الدولة والتي في جملة من وقائعه الواقعة تلك التواريخ سنة 337 تدل على أن أبا الطيب سافر من أنطاكية إلى حلب في هذه السنة عقيب سفر سيف الدولة.

وقال يمدحه عند رحيله من أنطاكية وقد كثر المطر:

ولازم المتنبي سيف الدولة وبقي في حضرته نحو ثماني سنين من سنة 337 إلى سنة 345.

وقال يمدح سيف الدولة ويهنئه بعيد الأضحى سنة 342 من قصيدة وأنشده إياها في ميدانه بحلب وهما على فرسيهما:

وقال يمدحه بعد دخول رسول ملك الروم إليه:

دروع لملك الروم هذي الرسائل=يرد بها عن نفسه ويشاغل

يقول فيها:

وفيها يقول:

وقال يمدحه وقد جلس لرسول ملك الروم وقد ورد يلتمس الفداء من قصيدة:

وقال في سيف الدولة في قصيدة:

وقال يمدح سيف الدولة من قصيدة:

وقال يهنئ سيف الدولة بالشفاء من مرض من أبيات:

قال يمدحه من قصيدة ويذكر نهوضه إلى ثغر الحدث لما بلغه أن الروم أحاطت به وبذلك في جمادى الأول سنة 344.

وقال يمدحه وقد أحدث بنو كلاب حدثا فأوقع بهم وملك الحريم فأبقى عليهن وأنشده إياها في جمادى الأخرى سنة 343.

وأمر سيف الدولة غلمانه أن يلبسوا وقصد ميافارقين في خمسة آلاف من الجند وألفين من غلمانه ليزور قبر والدته في شوال سنة 338، فقال المتنبي من قصيدة:

وظفر بسيف الدولة في بعض الغزوات وذلك أنه عبر آلس وهو نهر عظيم ونزل على صارخة وخرشنة وهما مدينتان بالروم فأحرق ربضهما وكنائسهما وقفل غانما فلما صار على آلس راجعا وافاه الدمستق فصافه الحرب فهزمه وأسر بطارقته وقتل ثم سار فواقعه في موضع آخر فهزمه أيضا، ثم واقعه على نهر آخر وقد مل أصحابه السفر وكلوا من القتال واجتاز أبو الطيب ليلا بقطعة من الجيش نيام بين قتلى، فقال يذكر الحال وما جرى في الدرب من الخيانة من قصيدة:

وأراد سيف الدولة قصد خرشنة فعاقه الثلج، فقال المتنبي:

وفي الصبح المنبي: إن سيف الدولة استنشد أبا الطيب يوما قصيدته التي مدحه فيها وقد سار لبناء الحدث، وتعرف بالحدث الحمراء لحمرة بيوتها وقلعتها على جبل يسمى الأحيدب وذكر إيقاعه بالدمستق عليها وكشفه وقتله خلقا من أصحابه وأسره صهره وابن بنته وإقامته على الحدث إلى أن بناها، وذلك في يوم الثلاثاء لتسع خلون من رجب سنة 343، وهذا أكثرها:

ولما بلغ المتنبي إلى قوله فيها: وقفت وما في الموت والبيت الذي بعده. قال سيف الدولة قد انتقدتهما عليك كما انتقد على امرئ القيس قوله:

فبيتاك لم يلتئم شطراهما كما لم يلتئم شطرا بيتي امرئ القيس وكان ينبغي له أن يقول:

وكان ينبغي لك أن تقول:

فقال المتنبي إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا وهو أعلم بالشعر منه قد أصاب فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا، ومولانا يعلم أن الثوب لا يعلمه البزاز كما يعرفه الحائك، فإن البزاز يعلم جملته والحائك يعرف تفاصيله، وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد، والشجاعة في منازلة الأعداء بالسماحة في شرائه الخمر للأضياف، وأنا كذلك لما ذكرت الموت في صدر البيت الأول أتبعته بذكر الردى في آخره ليكون أحسن تلاؤما، ولما كان وجه الجريح المنهزم عبوسا وعينه باكية قلت "ووجهك وضاح وثغرك باسم" لأجمع بين الأضداد في المعنى. فأعجب سيف الدولة بقوله ووصله بخمسين دينارا من دنانير الصلات وفيها خمسمائة دينار.

ما جرى بين المتنبي وابن خالويه

في الصبح المنبي قال ابن بابك: حضر المتنبي مجلس أبي أحمد ابن نصر البازيار وزير سيف الدولة وهناك أبو عبد الله بن خالويه النحوي، فتماريا في أشجع السلمي وأبي نواس البصري، فقال ابن خالويه أشجع أشعر إذ قال في الرشيد:

فقال المتنبي لأبي نواس ما هو أحسن في بني برمك وهو:

وقال عبد المحسن بن علي بن كوجك إن أباه حدثه قال: كنت بحضرة سيف الدولة وأبو الطيب اللغوي وأبو عبد الله بن خالويه النحوي، وقد جرت مسألة في اللغة تكلم فيها ابن خالوية مع أبي الطيب اللغوي والمتنبي ساكت، فقال له سيف الدولة: ألا تتكلم يا أبا الطيب فتكلم فيها بما قوى حجة أبي الطيب اللغوي وضعف قول ابن خالويه، فأخرج ابن خالويه من كمه مفتاحا حديدا ليلكم به المتنبي قال له المتنبي: اسكت ويحك فإنك أعجمي وأصلك خوزي فما لك وللعربية، فضرب وجه المتنبي بذلك المفتاح فأسال دمه على وجهه وثيابه، فغضب المتنبي لذلك إذ لم ينتصر له سيف الدولة لا قولا ولا فعلا، فكان ذلك أحد أسباب فراقه سيف الدولة. (أقول) ما يظهر من صدر القصة من أن ابن خالويه أراد لكمه بالمفتاح لمجرد انتصاره لأبي الطيب اللغوي بعيد فلا بد أن يكون أساء القول في ابن خالويه حتى أهاج غضبه وأخرج المفتاح ليضربه، ولعله من سنخ قوله إنك أعجمي وأصلك خوزي.

وفي لسان الميزان: يقال إن ابن خالويه قال له في مجلس سيف الدولة لولا أنك جاهل ما رضيت أن تدعى المتنبي ومعنى المتنبي كاذب والعاقل لا يرضى أن يدعى الكاذب، فأجابه بأن لا أرضى بهذا ولا أقدر على دفع من يدعوني به، واستمرت بينهما المشاجرة إلى أن غضب ابن خالويه فضربه بمفتاح فخرج من حلب إلى مصر.

ما جرى للمتنبي مع الأمير أبو فراس الحمداني

في الصبح المنبي قال ابن الدهان في المآخذ الكندية قال: قال أبو فراس لسيف الدولة: إن هذا المتشدق كثير الإدلال عليك وأنت تعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار على ثلاث قصائد ويمكن أن تفرق مائتي دينار على عشرين شاعرا يأتون بما هو خير من شعره.

(أقول): ولكن سيف الدولة كان يعلم أن هؤلاء العشرين شاعرا ليس فيهم من يستطيع أن يقول مثل قول المتنبي في الميمية السابقة:

وكذلك أبو فراس لم يكن ليخفى عليه ذلك، ولكن غطرسة المتنبي دعت أبا فراس أن يقول فيه ذلك، ودعت سيف الدولة أن يميل إلى قبوله.

قال: فتأثر سيف الدولة من هذا الكلام وعمل فيه وكان المتنبي غائبا وبلغته القصة فدخل على سيف الدولة وأنشده الأبيات التي أولها:

فأطرق سيف الدولة ولم ينظر إليه كعادته، فخرج المتنبي من عنده متغيرا، وحضر أبو فراس وجماعة من الشعراء فبالغوا في الوقيعة بحق المتنبي، وانقطع أبو الطيب بعد ذلك ونظم القصيدة التي أولها:

هكذا في الصبح المنبي ولكن المفهوم من ديوان المتنبي أن قوله لهذه القصيدة الميمية سابق على الأبيات البائية المشار إليها وأن سبب قوله القصيدة الميمية أنه جرى له خطاب مع قوم متشاعرين وظن الحيف عليه والتحامل وأنه قال الأبيات البائية مستعتبا من القصيدة الميمية، وهذا أقرب إلى الصواب- يقول فيها:

وفي الصبح المنبي أنه لما أنشدها وجعل يتظلم من التقصير في حقه هم جماعة بقتله في حضرة سيف الدولة لشدة إدلاله وإعراض سيف الدولة عنه فلما وصل في إنشاده إلى قوله:

قال أبو فراس مسخت قول دعبل وادعيته وهو:

فقال المتنبي:

فعلم أبو فراس أنه يعنيه فقال ومن أنت يا دعي كندة حتى تأخذ أعراض الأمير في مجلسه، واستمر في إنشاده ولم يرد عليه إلى أن قال:

فزاد ذلك أبا فراس غيظا وقال قد سرقت هذا من عمرو ابن عروة بن العبد في قوله:

قال المؤلف: في قوله: (بأنني خير من تسعى به قدم) دعوى الفضل على الأنبياء والرسل فضلا عن سيف الدولة.

ولما وصل إلى قوله:

قال أبو فراس وماذا أبقيت للأمير إذا وصفت نفسك بالشجاعة والفصاحة والرياسة والسماحة تمدح نفسك بما سرقته من كلام غيرك وتأخذ جوائز الأمير أما سرقت هذا من قول الهيثم بن الأسود النخعي الكوفي المعروف بابن عريان العثماني:

فقال المتنبي:

فقال أبو فراس وهذا سرقته من قول معقل العجلي:

وغضب سيف الدولة من كثرة مناقشته في هذه القصيدة وكثرة دعاويه فيها فضربه بالدواة التي بين يديه فقال المتنبي في الحال:

فقال أبو فراس أخذت هذا من قول بشار:

فلم يلتفت سيف الدولة إلى ما قال أبو فراس وأعجبه بيت المتنبي ورضي عنه في الحال وأدناه إليه وقبل رأسه وأجازه بألف دينار ثم أردفه بألف أخرى فقال المتنبي (وليسا في ديوانه):

وإذا تأملنا في هذه القصيدة الميمية وجدنا أن سيف الدولة قم حلم كثيرا عن المتنبي فإنه أراد أن يعاتبه بها لكنه بهذا العتاب هجاه هجوا مرا وافتخر عليه حتى ادعى أنه فوقه في كل شيء، فنسبه إلى الجور عليه وعدم إنصافه وأنه لا يميز بين الشحم والورم والأنوار والظلم وأنه يتطلب له العيوب فلا يجد، وأن ساوى بين البزاة والرخم وأنه يساوي بين جيد الشعر ورديه وأن بلاده شر البلاد عليه وكسبه فيها شر كسب، وأي هجاء أمر من هذا، وادعى عن نفسه أنه خير من يمشي على قدم ولم يستثن سيف الدولة بل عمت دعواه بظاهرها الأنبياء والمرسلين، وهذا لا يقال بحضرة الملوك والأمراء ولا يحتملونه، وافتخر بالشجاعة والفصاحة والبلاغة إلى الغاية وتهدده بمفارقته وأنه سيندم على فراقه وأنه هو الذي سبب فراقه. ولئن جوزنا في شعراء سيف الدولة أنهم حسدوه- وقديما كان في الناس الحسد- لا يجوز ذلك في حق أبي فراس فهو لم يكن شاعرا يطلب بشعره الجوائز كما يطلبها المتنبي، بل هو كما قال عن شعره:

فعلى أي شيء يحسد المتنبي أعلى مكانته من سيف الدولة وليس لأحد منه مكانة أبي فراس، وهو يخاطبه بسيدي حين تكلم في إجازة أبيات قال: ليس لها إلا سيدي، أم على جوائزه وليس أبو فراس ممن يستجدي بشعره والحسد إنما يكون بين المتشاركين في صنعة واحدة وما دعا أبا فراس إلى الكلام عليه أمام سيف الدولة بحضوره وفي غيابه إلا عجرفته وسوء أدبه وكفرانه النعمة فهو بعدما كان يجوب القفار على قدميه في طلب الرزق فلا يجد لبضاعته مشتريا ويقتنع من الجائزة على قصائده بدينار إن وجده، وبعدما أدر عليه سيف الدولة بعد أبي العشائر العطايا وأغدق له الجوائز ومنحه ألوفا من الدنانير صار يستطيل على سيف الدولة وينسبه إلى التقصير في حقه وخفر ذمته ويفتخر عليه ويمتن عليه ويهدده بالمفارقة وحصول الندم ويستطيل على ابن عمه وصهره وقائد جيشه ووزير حربه وشاعره المفلق أبي فراس ويهجوه بحضرته ويقول إن شحمه ورم ولم يمدحه طول إقامته ولو بيت من الشعر ومدح من هو دونه وأبو فراس هو الذي قيل فيه بدئ الشعر بملك وختم بملك بدئ بامرئ القيس وختم بأبي فراس، ولم يؤخذ على أبي فراس بشيء فهو كالدر المنظوم والذهب المسبوك والفضة المصفاة كما أخذ على المتنبي، وهو لا يقصر عن المتنبي في محاسنه ولا يشاركه في مقابحه، كل هذا وسيف الدولة يحلم عنه وهو لا يزداد إلا تماديا حتى أنه في آخر إنشاده لهذه الميمية التي هي الطامة الكبرى ترضاه وقبل رأسه وأجازه بألفي دينار فلم يثنه ذلك عن عزمه وفارقه، ولسنا نمنع أن يكون الشعراء الذين كانوا بحضرة سيف الدولة- غير أبي فراس- كانوا يحسدونه، لكننا لا نبرئ المتنبي من حسده لهم وفيهم فحول الشعراء وقادة النظم والنثر فإنه كان مجبولا على حب التفوق واحتقار من سواه أيا كان فقد كان الأولى به أن يتألفهم لا أن يستطيل عليهم ويتهددهم بأن ضحكه لهم ليس إلا كضحك الأسد وينسبهم للجهل ويصفهم بأنهم زعانف وأنهم لا عرب ولا عجم.

وفي ديوانه أنه لما أنشد هذه القصيدة الميمية وانصرف اضطرب المجلس وكان نبطي من كبراء كتابه يقال له أبو الفرج السامري فقال له: دعني أسعى في ذمه، فرخص له في ذلك، وفيه يقول أبو الطيب:

وكأنه أرعوى بعض الإرعواء فقال مستعتبا من القصيدة الميمية:

ولما رضي عنه قال يمدحه بهذه القصيدة:

وفي اليتيمة لما أنشد سيف الدولة هذه القصيدة وناوله نسختها وخرج نظر فيها سيف الدولة فلما انتهى إلى قوله:

وقع تحت أقل قد أقلناك وتحت أنل يحمل إليه من الدراهم كذا وتحت أقطع قد أقطعناك الضيعة الفلانية ضيعة ببلاد حلب وتحت إحمل يقاد إليه الفرس الفلاني وتحت عل قد فعلنا وتحت سل قد فعلنا فاسل وتحت أعد أعدناك إلى حالك من حسن رأينا وتحت زد يزاد وتحت أدن قد أدنيناك وتحت سر قد سررناك. قال ابن جني فبلغني عن المتنبي أنه قال إنما أردت سر من السرية فأمر له بجارية وتحت صل فعلنا. قال وحكى لي بعض إخواننا أن المعقلي وهو شيخ كان بحضرته ظريف قال له وحسد المتنبي على ما أمر له به يا مولاي قد فعلت به كل شيء سالكه فهلا قلت له لما قال لك هش بش هه هه هه يحكي له الضحك فضحك سيف الدولة وقال له وذلك أيضا ما تحب وأمر له بصلة.

وذكر القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني في كتاب الوساطة أن أبا الطيب نسج على منوال ديك الجن حيث قال:

(مفارقته لسيف الدولة وسببها)

مر عن علي بن كوجك أن أحد أسباب فراقه سيف الدولة ما جرى بينه وبين ابن خالويه ومر أن سيف الدولة تغير عليه لكثرة إدلاله وأن أبا فراس أنف من ذلك وتكلم فيه مع سيف الدولة فأثر فيه كلامه فقال المتنبي الأبيات التي أولها (ألا ما لسيف الدولة اليوم عاتبا) وأن سيف الدولة غضب من كثرة مناقشته في الميمية وكثرة دعاويه وأنه ضرب بدواة كانت بين يديه ثم رضي عنه وبالجملة يفهم من مجموع ما تقدم تغير سيف الدولة عليه بسبب عجرفته كما يشير إليه أيضا ما مر من أنه لما أنشد القصيدة الميمية اضطرب المجلس لما اشتملت عليه من التظلم من سيف الدولة ونسبته إلى عدم الإنصاف وعدم معرفة الرجال والتفرقة بينها وافتخاره الافتخار المتجاوز الحد وتهديده له بالمفارقة وأن سيف الدولة سيندم إذا فارقه وغير ذلك، ومن التأمل في الميمية السابقة يظهر أنه كان قد حدث نفسه بمفارقته في ذلك الحين وصرح به في قوله:

وقوله:

وفي الصبح المنبي أنه لما عزم أبو الطيب على الرحيل من حلب وذلك في سنة 346 لم يجد بلدا إليه أقرب من دمشق لأن حمص كانت من بلاد سيف الدولة فسار إلى الشام وألقى بها عصى تسياره.

(سفره إلى مصر واتصاله بكافور)

وكان بدمشق يهودي من أهل تدمر يعرف بابن ملك من قبل كافور ملك مصر فالتمس من المتنبي أن يمدحه فثقل عليه فغضب ابن ملك وجعل كافور الأخشيدي يكتب في طلب المتنبي من ابن ملك فكتب إليه ابن ملك إن أبا الطيب قال لم أقصد العبد وإن دخلت مصر فما قصدي إلا ابن سيده ونبت دمشق بأبي الطيب فسار إلى الرملة فحمل إليه أميرها الحسين بن طغج هدايا نفيسة وخلع عليه وحمله على فرس بموكب ثقيل وقلده سيفا وكان كافور الأخشيدي يقول لأصحابه أترونه يبلغ الرملة ولا يأتينا وأخبر المتنبي أنه وجد عليه ثم كتب كافور يطلبه من أمير الرملة فتوجه إلى مصر.

(كافور الإخشيدي)

وكافور هذا عبد أسود خصي مثقوب الشفة السفلى بطين قبيح القدمين ثقيل البدن لا فرق بينه وبين الأمة وكان لقوم مصريين يعرفون ببني عياش يستخدمونه في مصالح السوق وكان ابن عياش يربط في رأسه حبلا إذا أراد النوم فإذا أراد منه حاجة جذبه بالحبل لأنه كان ثقيل النوم وكان غلمان ابن طغج يصفعونه في الأسواق فيضحك فقالوا هذا الأسود خفيف الروح وكلموا صاحبه في بيعه فوهبه لهم ومات سيده أبو بكر بن طغج وولده صغير وتقيد الأسود بخدمته وأخذت البيعة لولد سيده وتفرد الأسود بخدمته وخدمة والدته فقرب من شاء وبعد من شاء فنظر الناس إليه من صغر هممهم وخسة أنفسهم فتسابقوا إلى التقرب إليه وسعى بعضهم ببعض حتى صار الرجل لا يأمن أهل داره على أسراره وصار كل عبد بمصر يرى أنه خير من سيده ثم ملك الأمر على ابن سيده وأمر أن لا يكلمه أحد من مماليك أبيه ومن كلمه أتلفه.

فلما كبر ابن سيده جعل يبوح بما في نفسه وهو على الشراب ففزع منه كافور وسمه فقتله وخلت له مصر وإلى ذلك يشير المتنبي في هجوه لكافور بقوله:

(وصول أبو الطيب إلى مصر)

ولما قدم عليه أبو الطيب بمصر أخلى له دارا و خلع عليه وحمل إليه آلافا من الدراهم فقال يمدحه هكذا في ديوانه وفي الصبح المنبي أن كافورا لما ورد عليه المتنبي بمصر أمر له بمنزل ووكل به جماعة وأظهر التهمة له وطالبه بمدحه فلم يمدحه فخلع عليه فقال أبو الطيب يمدحه في جمادى الآخرة سنة 346 من قصيدة أولها:

وهذا البيت- كما قيل- أحسن ما مدح به ملك أسود:

وقال يمدحه في سلخ شهر رمضان سنة 346

وفي الصبح المنبي أنه كان يقف بين يدي كافور وفي رجليه خفان وفي وسطه سيف ومنطقة ويركب بجاجبين من مماليكه وهما بالسيوف والمناطق وكان لا يجلس بمجلس كافور فأرسل إليه من قال له قد طال قيامك يا أبا الطيب في مجلس كافور يريد أن يعلم ما في نفسه فقال ارتجالا:

وقاد إليه كافور فرسا فقال يمدحه من قصيدة:

وفي الصبح المنبي: من رام معرفة مراد أبي الطيب في هذين البيتين فعليه يقول ابن الرومي:

وهذا البيت إشارة إلى ما كان يكتبه ابن ملك اليهودي إلى كافور بحق المتنبي كما مر.

وقال يمدحه في شوال سنة 347 من قصيدة:

ومن قوله في هذه القصيدة يستزيده في العطاء ويطلب منه أن يقطعه ضيعة أو يوليه ولاية:

وهذا من أحسن ما قيل في طلب الزيادة والاعتذار عن الممدوح.

قال أبو الفتح بن جني: لما قرأت على أبي الطيب هذا البيت قلت له: لم تزد على أن جعلته أبا زنة- وهو القرد- فضحك أبو الطيب: فإنه بالذم أشبه منه بالمدح. ومنها في وصف شعره:

واتصل بأبي الطيب وهو في مصر أن قوما نعوه في مجلس سيف الدولة بحلب، فقال ولم ينشدها كافورا:

وهذا البيت من أعظم الهجاء وأبلغه.

قال ابن جني: لما سمع سيف الدولة هذا البيت قال: سار وحق أبي.

ومن تأمل شعره بعد فراق سيف الدولة علم أنه كان كثيرا ما يتحاشى أن يقول فيه سوءا ثم تغلبه نفسه فيفوه ببعض الشيء من ذلك كقوله:

وقوله:

وقد قال: "فراق ومن فارقت غير مذمم" وكان يظهر منه الندم على فراق سيف الدولة وقد كان يظهر من سيف الدولة مثل ذلك فقد أرسل ولده إليه إلى الكوفة ليعود ومدحه المتنبي ورثى بعض مستوراته. وقد قال في ما مدح به كافورا.

فقد صرح بأن الليالي تقرب إليه البغيض وتنائي عنه الحبيب وما عرض إلا بكافور وسيف الدولة. والحدالى موضع بالشام وعرب جبل هناك. وكذلك البيت الأخير كاد يصرح فيه بأن سيف الدولة كان أجفى به من كافور وأن طريقه إلى سيف الدولة أهدى من طريقه إلى كافور.

وأصابته وهو بمصر حمى فقال يصفها من قصيدة ويعرض بالرحيل عن مصر وذلك في ذي الحجة سنة 348:

وقال يمدح كافورا من قصيدة وأنشده إياها في شوال سنة 349 وهي آخر ما مدحه به:

وفي الصبح المنبي فقطع أبو الطيب بعد إنشاد هذه القصيدة لا يلقى الأسود إلا أن يركب فيسير معه في الطريق وعمل على الرحيل وقد أعد له كل ما يحتاج إليه على ممر الأيام بلطف ورفق ولا يعلم به أحد من غلمانه وهو يظهر الرغبة في المقام وطال عليه التحفظ فخرج ودفن الرماح في الرمال وحمل الماء على الإبل لعشر ليال وتزود لعشرين.

وقال في يوم عرفة من سنة 350 يهجو كافورا:

وكتب إلى عبد العزيز بن يوسف الخزاعي في بلبيس يطلب منه دليلا فأنفذه إليه فمدحه بأبيات وهذا وغيره يدل على أن جملة من الناس كانوا قد علموا بخروجه ولم يخبروا به كافورا.

وقدم أبو شجاع فاتك الأخشيدي المعروف بالمجنون من الفيوم إلى مصر فوصل أبا الطيب وحمل إليه هدية قيمتها ألف دينار فقال يمدحه من قصيدة:

وتوفي أبو شجاع فاتك بمصر سنة 350 فقال أبو الطيب يرثيه بعد خروجه منها ويهجو كافورا من قصيدة:

قال بالكوفة يرثيه ويذكر خروجه من مصر من قصيدة:

سبب الوحشة بين كافور وأبي الطيب

في الصبح المنبي: أن أبا الطيب سأل كافورا أن يوليه صيدا من بلاد الشام أو غيرها من بلاد الصعيد، فقال له كافور: أنت في حال الفقر وسوء الحال وعدم المعين سمت نفسك إلى النبوة، فإن أصبت ولاية وصار لك أتباع فمن يطيقك. ثم وقعت الوحشة بينهما ووضع كافور عليه العيون والأرصاد خوفا من أن يهرب، وأحس المتنبي بالشر.

قال الوحيدي: كنت بمصر وبها أبو الطيب ووقفت من أمره على شفا الهلاك ودعتني نفسي لحب أهل الأدب إلى أن أحثه على الخروج من مصر فخشيت على نفسي أن يشيع ذلك عني وكان هو مستعدا للهرب وإنما فات أظافير الموت ومخالب المنية من قرب وهو جنى ذلك من بيت شريف أهل وزارة ورئاسة ومن العلم والأدب بموضع جليل وهو باب الملك فأتى من غير بابه وأنشده القصيدة اليائية التي أولها:

وهذا الابتداء مما تمجه الأسماع فقبح ابن حرابة أثره ثم لم يزل يذكر سواد كافور دارا بإزاء الجامع الأعلى على البركة:

#فكان يقول ابن حرابة: إنه هزئ بكافور في هذه الأبيات ويسهل على الناس في أمر لونه ويحسنه له.

قال الوحيدي كان المتنبي يعلم أن ذكر السواد على مسامع كافور أمر من الموت فإذا ذكر لون السواد بعد ذلك فقد أساء إلى نفسه وعرضها للقتل والحرمان وكان من إحسان الصنعة وإجمال الطلب أن لا يذكر لونه وله عنه مندوحة ولكن الرجل كان يسيء الرأي وسوء رأيه أخرجه من حضرة سيف الدولة وشدة تعرضه لعداوة الناس وقد ذكر سواد كافور في عدة مواضع وكان اللائق أن لا يذكره إلا كقوله:

وهذا في أعلى طبقات الإحسان ومن هذه القصيدة قوله:

ومن قوله في كافور الذي ألم فيه بذكر السواد قوله:

خروج المتنبي من مصر قاصدا الكوفة

في الصبح المنبي: وفي يوم العيد سار من مصر هاربا وأخفى طريقه فلم يؤخذ له أثر حتى قال بعض أهل البادية هبه سار فيها فما محا أثره وقال بعضهم إنما علم طريقا تحت الأرض وتبعته البادية والحاضرة من سائر الجوانب وبذل كافور في طلبه ذخائر الرغائب وكتب إلى عماله في سائر أعماله وكاتب سائر قبائل العرب في طلبه. ودخل أبو الطيب إلى موضع يعرف بنخل (لعله الذي فيه قلعة النخل) بعد أيام وسار حتى قرب من النقاب فرأى رائدين لبني سليم على قلوصين فركب الخيل وطردهما حتى أخذهما فذكروا له أن أهلهما أرسلوهما رائدين فاستبقاهما ورد عليهما القلوصين وسلاحهما وسارا معه حتى توسط بيوت بني سليم آخر الليل فضرب له ملاعب رئيس بني سليم خيمة بيضاء وذبح له ثم سار إلى اليفع فنزل ببادية معن فذبح له وسار إلى أن دخل حسمى وهي أرض كثيرة النخل وطابت له حسمى فأقام بها شهرا وكان نازلا بها عند وردان بن ربيعة الطائي فاستغوى عبيده وأجلسهم مع امرأته فكانوا يسرقون له الشيء بعد الشيء من رحله هكذا في الصبح المنبي ولبس في الديوان أنه أجلسهم مع امرأته ويمكن أن يكون صاحب الصبح أخذه من قول المتنبي الآتي (أشذ بعرسه عني عبيدي) ولا دلالة فيه لا مكان أن يكون جرى فيه على مذاهب الشعراء في الهجو بالباطل والحق، وظهر لأبي الطيب فساد عبيده وكان وردان يرى عند أبي الطيب سيفا مستورا فسأله أن ينظره فأبى لأنه كان على قائمة مائة مثقال من الذهب وكان سيفا ثمينا فجعل الطائي يحتال على العبيد طمعا في السيف لأن بعضهم أخبره به فلما أنكر أبو الطيب أمر العبيد واطلع على مكاتبة كافور قبائل العرب في طلبه تقدم إلى الجمال فشد عليها أسبابه والقوم لا يعلمون برحيله وأخذ العبيد السيف فدفعه إلى عبد آخر وجاء ليأخذ فرس أبي الطيب فتنبه له وضربه أبو الطيب بالسيف فأصاب وجهه وأمر الغلمان فأجهزوا عليه وكان هذا العبد أشد من معه فقال أبو الطيب في ذلك أبياتا أولها:

وقال أيضا يهجو وردان بن ربيعة:

ثم لما توسط بسيطة وهي أرض تقرب من الكوفة رأى بعض عبيده ثورا فقال هذه منارة الجامع ونظر آخر نعامة فقال وهذه نخلة فضحك أبو الطيب وقال:

وصول المتنبي إلى الكوفة

وسار أبو الطيب حتى دخل الكوفة في ربيع الأول سنة 351 ونظم هذه المقصورة منازل طريقه ويهجو كافورا منها:

وأناخ المتنبي ركابه بالكوفة وركز به رماحه كما قال في هذه القصيدة، وعاد إلى وطنه الأصلي ومسقط رأسه ونزل بين أهله وعشيرته وأقام نحوا من سنتين، وثمانية أشهر من أوائل سنة 351 إلى أوائل 354 وأنفذ إليه سيف الدولة ابنه من حلب إلى الكوفة ومعه هدية، فقذال يمدحه وكتب بها إليه من الكوفة سنة 352، أي بعد وروده الكوفة بسنة يقول فيها:

وتوفيت أخت سيف الدولة بميافارقين فورد خبرها إلى الكوفة، فقال أبو الطيب يرثيها ويعزيه بها من قصيدة وأرسلها إليه من الكوفة سنة 352:

يقول فيها:

وأنفذ إليه سيف الدولة كتابا بخطه إلى الكوفة يسأله المسير إليه، فأجابه بقصيدة وأنفذها إليه في ميافارقين، وذلك في ذي الحجة سنة 353 منها:

خروج المتنبي من الكوفة إلى بغداد

ثم توجه من الكوفة في أواخر سنة 353 أو أول سنة 354 إلى مدينة السلام بغداد لأن كتاب سيف الدولة ورد عليه إلى الكوفة في ذي الحجة سنة 353 كما مر وفي صفر سنة 354 ورد على ابن العميد بارجان متوجها من بغداد كما يأتي فسفره من الكوفة إلى بغداد إما في ذي الحجة سنة 54 أو بعده وتدل قصة الحاتمي الآتية معه على أنه كان أناس يقرأون عليه ديوانه في بغداد فلا بد أن يكون بقي في بغداد نحو شهرين أو أكثر ولا يتم ذلك إلا بكون سفره في ذي الحجة وكان ورد المتنبي إلى بغداد في أيام سلطنة معز الدولة ابن بويه ووزارة الوزير المهلبي له وخلافة المطيع العباسي.

ولا يخلو كلام المؤرخين هنا من شيء من التنافي فإنه يظهر من قصة الحاتمي مع المتنبي الآتية أن قصد المتنبي من الرحلة إلى بغداد كان هو مدح الوزير المهلبي والانضمام إليه والمقام لديه ولكن يدل كلام الخوارزمي الآتي المنقول في اليتيمة أن المتنبي ترفع عن مدح المهلبي ذهابا بنفسه عن مدح غير الملوك فالتنافي بين الكلامين ظاهر. ثم إذا كان ترك مدح الوزير المهلبي ذهابا بنفسه عن مدح غير الملوك فما باله لم يمدح معز الدولة وهو ملك على أن تعليل عدم مدحه للمهلبي بأنه كان يذهب بنفسه عن مدح غير الملوك ليس بصحيح فقد مدح ابن العميد وهو ليس بملك بل وزير وإذا كان المتنبي لا يريد مدح معز الدولة ولا المهلبي فما الذي جاء به إلى بغداد وهو لا يجيء إلى بلد إلا لمدح واستفادة مال فمن الذي كان يريد مدحه في بغداد غير هذين فظاهر الحال يدل على أنه ما قصد بغداد إلا لمدح أحد هذين وكلام الحاتمي يدل على أنه كان قصده مدح المهلبي ولعله لما عرف عنه من الجود دون معز الدولة وإذا كان الأمر كذلك فما الذي صرفه عن مدح المهلبي وأفسد الحال بينه وبينه حتى احتاج إلى أن يخرج من بغداد شبه الهارب كما ستعرف لا يظهر سبب ذلك واضحا من كلام المؤرخين وتعليل غيظ المهلبي منه بعدم مدحه له لا يكاد يصح لما عرفت فلا بد أن يكون هناك سبب آخر أوجب فساد الحال بينه وبينه، وتدل قصة الحاتمي الآتية على أن معز الدولة ووزيره كانا ناقمين على المتنبي محبين للوقيعة فيه، ويدل على ذلك أيضا ما سيأتي من أنه اتخذ الليل جملا، وخرج من بغداد مراغما للمهلبي، فذلك يدل على أن خروجه من بغداد كان شبيها بالهرب أما الخليفة العباسي فلم يكن له من الشأن في تلك الأيام ما يحمل المتنبي على مدحه.

قصة الحاتمي مع المتنبي

والحاتمي: هو أبو علي محمد بن الحسن بن المظفر الكاتب اللغوي البغدادي والحاتمي نسبة إلى أحد أجداده، كان أديبا لغويا إخباريا فاضلا من حذاق أهل اللغة والأدب، شديد العارضة، حسن التصرف في الشعر، موف على كثير من شعراء عصره، له عدة تصانيف منها الموضحة يصف فيها ما جرى بينه وبين المتنبي ويظهر سرقاته وعيوب شعره، ومنها الحاتمية في مدح المتنبي عملها بعدما وفد على المتنبي ورأى فصاحته وحسن براعته.

قال الحاتمي: لما ورد أحمد بن الحسين المتنبي مدينة السلام منصرفا من مصر ومتعرضا للوزير المهلبي بالتخييم عليه والمقام لديه، التحف رداء الكبر، وأذال ذيول التيه، وصعر خده، ونأى بجانبه، وكان لا يلقى أحدا إلا ويزدريه، يخيل إليه أن العلم مقصور عليه، والشعر بحر لم يغترف نمير مائه غيره، وروض لم يجن نواره سواه، فعبر على ذلك مديدة أجررته رسن الجهل فيها فظل يمرح في تيهه، حتى تخيل أنه السابق الذي لا يجارى وثقلت وطأته على أهل الأدب، فطأطأ كل منهم رأسه وخفض جناحه وطامن على التسليم له جاشه، وتخيل الوزير المهلبي أن أحدا لا يقدر على مساجلته ومجاراته ولا يقوم بشيء من طاعنه، وللرؤساء مذاهب في تعظيم من يعظمونه، وساء معز الدولة أحمد بن بويه أن يرد عن حضرة عدوه سيف الدولة رجل فلا يكون في مملكته أحد يماثله في صناعته، ولم يكن هناك مزية يتميز بها أبو الطيب من الهجين الجذع من أبناء الأدب، فضلا عن العتيق القارح إلا الشعر، فنهدت له متتبعا عواره ومتعقبا آثاره ومقلما أظفاره ومطفئا ناره ومهتكا أستاره ومذيعا أسراره وناشرا مطاويه وممزقا جلباب مساويه، متحينا أن تجمعنا دار يشار إلى ربها فأجري أنا وهو في مضمار يعرف فيه السابق من المسبوق فلما لم يتفق ذلك قصدت موضعه وتحتي بغلة سفواء وبين يدي عدة من الغلمان، فألفيت هناك فتية تأخذ عنه شيئا من شعره، فحين أوذن بحضوري واستأذن عليه لدخولي نهض عن مجلسه مسرعا إلى بيت بإزائه وأعجلته نازلا عن البغلة وهو يراني لانتهائي بها إلى حيث أخذها طرفه ودخلت فأعظمت الجماعة قدري وأجلسوني في مجلسه، وإذا تحته عباءة بالية قد أكلها الدهر فهي رسوم خالية فلما جلست أقبل وعليه سبعة أقبية كل منها بلون في أشد ما يكون من الحسن يحفها فضل اللباس والوقت أحر أيام الصيف فنهضت فوفيته حق السلام غير مشاح له في القيام مع علمي أنه لم يدخل المخدع إلا لئلا ينهض عند موافاتي وحين لقيته تمثلت بقول الشاعر:

فتمثل بقول الآخر:

فجلست وجلس وأعرض عني ساعة لا يعيرني فيها طرفه ولا يسألني عما قصدت له، فكدت أتميز غيظا ولمت نفسي على قصده واستخففت رأيي في زيارة مثله وهو مقبل على جماعة يقرأون عليه أشياء من شعره، وكل منهم يوقظه ويغمزه ويومي إليه بما يجب عليه أن يفعله ويعرفه من مكاني وهو يأبى إلا ازورارا ونفارا، ثم ثنى بصره إلي فوالله ما زادني على أن قال: أيش خبرك فقلت خير لولا ما جنيت على نفسي من قصدك وكلفت قدمي في المصير إلى مثلك، ثم تحدرت عليه تحدر السيل إلى القرار، وقلت له: ابن لي– عافاك الله- مم تيهك وخيلاؤك وعجبك وما الذي يوجب ما أنت عليه من التجبر والتنمر هل لك نسب في الأبطح تبحبحت به بحبوحة الشرف وتوسطت به واسطة السلف، أو علم أصبحت به علما يومى إليه وتقف الهمم عليه أو سلطان تسلطت بعزه هل أنت إلا وتد بقاع يا لله! استنت الفصال حتى القرعى وإني أسمع جعجعة ولا أرى طحنا وإنك لو قدرت نفسك بقدرها لما عدوت أن تكون شاعرا مكتسبا.

فامتقع لونه وغص بريقه وجحظت عيناه وسقط في يده، وجعل يلين في الاعتذار، فقلت يا هذا! إن جاءك شريف في نسبه تجاهلت نسبه أو عظيم في أدبه صغرت أدبه أو متقدم عند سلطانه خفضت منزلته، فهل المجد تراث لك دون غيرك، كلا والله! لكنك مددت الكبر سترا على نقصك، وضربته رواقا دون جهلك. فعاود الاعتذار وأخذت الجماعة في الرغبة إلي في مياسرته، وقبول عذره، وأنا على شاكلة واحدة في تقريعه وتوبيخه، وهو يؤكد الأقسام أنه لم يعرفني، فأقول: يا هذا ألم أستأذن عليك باسمي ونسبي أما في هذه الجماعة من يعرفك بي لو كنت جهلتني، وهب أن ذلك كذلك ألم ترني ممتطيا بغلة رائعة وبين يدي غلمان عدة، أما شاهدت لباسي أما شممت نشري أما راعك من أمري ما أتميز به عن غيري وهو في أثناء ما أكلمه يقول: خفض عليك أرفق أكفف من غربك أردد من سورتك استأن فإن الأناة من شيم مثلك، فلان شماسي بعض الليان وأعرضت عنه ساعة ثم قلت له: أشياء تختلج في صدري من شعرك أحب أن أراجعك فيها، قال وما هي؟ قلت أخبرني عن قولك:

أهكذا يمدح الملوك وعن قولك:

أهكذا ترثى أم ملك أما والله لو قلت هذا البيت في أدنى عبيدها لكان قبيحا وأخبرني عن قولك:

أهكذا تنسب بالمحبوبين وعن قولك في هجاء ابن كيغلغ:

أما في أفانين الهجاء التي أبدعها الشعراء مندوحة عن هذا الكلام الرذل الذي يمجه كل سمع ويعافه كل طبع وعن قولك:

أفتعلم مرئيا يتناول النظر لا يقع عليه اسم شيء وما أراك نظرت إلا إلى قول جرير:

فأحلت المعنى عن جهته وعبرت عنه بغير عبارته وعن قولك:

فاستعرت الظلع لظنونك وهي استعارة قبيحة وتعجبت من غير متعجب لأن من أعجز وصفه لم يستنكر قصور الظنون وتحيرها في معانيه وإنما أخذته من قول أبي تمام:

وعن قولك تمدح كافورا:

أمدح هو أو ذم قال مدح قلت إنك جعلته بخيلا لا يوصلك إلى خيره من جهته وشبهت نفسك في وصولك إلى ما وصلت إليه منه بشربك من ماء يعجز الطير ورده (وأخبرني) عن قولك في وصف كلب وظبي:

فأي شيء أعجبك من هذا الوصف عذوبة لفظه أم لطف معناه أما قرأت رجز ابن هانئ وطرد ابن المعتز أما كان هناك من المعاني التي ابتدعها هذان الشاعران وغرر الألفاظ ما تتشاغل به عن بنيات صدرك فأقبل علي وقال أين أنت من قولي:

وقولي في صفة جيش:

وقولي:

وقولي:

وفيها أصف كتيبة:

وقولي:

وقولي (ذكره الخفاجي في الريحانة ولم يذكره ياقوت في المعجم):

أما يكفيك إحساني في هذه عن إساءتي في تلك فقلت ما أعرف لك إحسانا فيما ذكرت وإنما أنت سارق متبع وآخذ مقصر أما قولك كأن الهام إلخ فمأخوذ من قول منصور النميري:

وأما قولك في فيلق فنقلته نقلا لم تحسن فيه من قول الناجم:

والناجم أخذه من قول أرسطو في آخر مقالته: قد تكلمت بكلام لو مدحت به الدهر لما دارت علي صروفه (وأما) قولك لو تعقل الشجر إلخ فهذا معنى قد تداولته الشعراء قال الفرزدق:

وقال أبو تمام:

وقال البحتري:

وأما قولك وما اعتمد الله إلخ فنظرت فيه إلى قول رجل في بعض أمراء الموصل وكان قد عزم على السير فاندق لواؤه:

وأما قولك وملمومة إلخ فمن قول أبي نواس:

وأما قولك (الناس ما لم يروك أشباه) فمن قول علي بن نصر بن بسام في رثاء عبيد الله بن سليمان:

فقوله قد استوى الناس هو قولك الناس ما لم يروك أشباه.

كذافي معجم الأدباء (وفي الريحانة): وأما قولك ما كنت آمل (البيت) فمأخوذ من قول ابن المعتز:

فقال بعض من حضر: ما أحسن قوله (قوموا انظروا إلخ) فقال المتنبي أسكت ما فيه حسن إنما أخذه من قول النابغة الذبياني:

فقلت إن أخذه فقد أحسن الأخذ وأخفاه فقال الرجل أجل فقال المتنبي لابنه يا محسد خذ بيده وأخرجه فرفقت به إلى أن تركه، قلت وأما قولك (الدهر لفظ وأنت معناه) فمنقول من قول الأخطل في عبد الملك بن مروان:

وأخذه الأخطل من قول النابغة وهو أول من ابتكره:

وأخذه أبو تمام فأحسن بقوله:

فقال ومن أبو تمام قلت الذي سرقت شعره فأفسدته بقولك:

فأخذت البيت الأول من قول بكر بن النطاح:

وأخذت البيت الثاني فأفسدته من قول أبي تمام:

فأفسدته بجعلك للشرف قرنا لأن الروق القرن فقال إنها استعارة قلت لكنها خبيثة فقال أقسم بالله ما قرأت شعرا قط لأبي تمامكم هذا فقلت هذه سوءة لو سترتها كان أولى قال السوءة قراءة شعر مثله أليس هو القائل:

والقائل:

والقائل:

والقائل:

والقائل:

والقائل:

والقائل:

وقوله:

أقول لقرحان من البين لم يصب=رسيس الهوى بين الحشا والترائب

ما قرحان البين أخرس الله لسانه فقلت من الدليل على قراءتك شعره تتبعك مساويه وهل يصم أبا تمام ما عددته من سقطاته وهو القائل في النونية:

نوالك رد حسادي فلولا=وأصلح بين أيامي وبيني

فهلا اغتفرت الأول لهذا البيت الذي لا يستطاع الإتيان بمثله وأما قوله (تسعين ألفا البيت) فله خبر لو استقريت صحفه لأقصرت عن تناوله بالطعن فيه ثم قصصت الخبر وقلت في هذه القصيدة ما لا يستطيع أحد من متقدمي الشعراء وأمراء الكلام الإتيان بمثله قال وما هو قلت لو قال قائل إن أحدا لم يبتدئ بأوجه ولا أحسن ولا أحضر من قوله:

لما عنف في ذلك وفيها يقول:

وفيها يقول:

وفيها يقول:

وفيها يقول:

وفيها يقول:

وفيها يقول:

وأما قوله (أقول لقرحان من البين) فإنه يريد رجلا لم يقطعه أحبابه ولم يبينوا عنه قبل ذلك وإذا كانت حاله كذلك كان موقع البين أشد عليه وأفت في عضده والأصل في هذا أن القرحان الذي لم يجدر قط قال جرير (وكنت من زفرات البين قرحانا) وفي هذه القصيدة من المعاني الرائعة والتشبيهات والاستعارات البارعة ما يغتفر معه هذا البيت وأمثاله على أنا ابنا عن صحة معناه ومن محاسن شعره قوله:

فبهره مما أوردته ما قصر عنان عبارته فما زاد على أن قال أكثرت علي من ذكر أبي تمام لا قدس الله روحه فقلت لا قدس الله روح السارق منه والواقع فيه ولكن ما الفرق في كلام العرب بين التقديس والقداس والقداس والقادس فقال (وايش) غرضك قلت المذاكرة فقال بل المهاترة ثم قال التقديس التطهير وكل هذه الألفاظ تؤول إليه فقلت له ما أحسبك أنعمت النظر في اللغة ولو عرفتها ما جمعت بين هذه المعاني مع تباينها فالقداس بتشديد الدال حجر يلقى في البئر ليعلم كثرة مائها من قلته حكى ذلك ابن الأعرابي والقداس الجمان حكى ذلك الخليل واستشهد بقوله (كنظم قداس سلكه متقطع) والقادس السفينة قال الشاعر يصف ناقة:

(الهادي) العنق (والمتلع) من أتلع إذا مد عنقه متطاولا (والقادس) السفينة (والأردمون) جمع أردم وهو الملاح الحاذق فلما علوته بالكلام قال يا هذا إنا نسلم لك أمر اللغة فقلت كيف تسلمها وأنمت ابن بجدتها وأبو عذرتها فشرعت الجماعة الحاضرة في إعفائه وقبول عذره وكنت قد بلغت شفاء نفسي وعلمت أن الزيادة عن الحد الذي انتهيت إليه ضرب من البغي فقمت وقام مشيعا لي إلأى الباب فأقسمت عليه حتى رجع وانتهى الخبر إلى الوزير المهلبي فأتتني رسله ليلا فأتيته وأخبرته بالقصة فكان من سروره وابتهاجه بما جرى ما بعثه على مباكرة معز الدولة فقال له أعلمت ما كان من فلان والمتنبي فقال نعم قد شفى منه صدورنا.

وفي اليتيمة عن أبي بكر الخوارزمي وفي الصبح المنبي وربما زاد أحدهما عن الآخر: أنه لما قدم أبو الطيب بغداد وترفع عن مدح الوزير المهلبي ذهابا بنفسه عن مدح غير الملوك شق ذلك على المهلبي فأغرى به شعراء بغداد حتى نالوا من عرضه وتباروا في هجائه، وفيهم ابن الحجاج وابن سكرة الهاشمي والحاتمي فلم يجبهم ولم يفكر فيهم، وقيل له في ذلك فقال: إني فرغت من إجابتهم بقولي لمن هو أرفع طبقة في الشعر:

وقولي:

وقولي:

قال: وبلغ أبا الحسين بن لنك بالبصرة ما جرى على المتنبي من وقيعة شعراء بغداد فيه واستحقارهم له كقولهم فيه:

وكان ابن لنك حاسدا له طاعنا عليه هاجيا إياه زاعما أن أباه كان سقاء بالكوفة فشمت به وقال:

قال ومن قوله فيه:

ومن قوله فيه أيضا:

ومما هجي به المتنبي قول ابن الحجاج:

خروج أبي الطيب من بغداد

قال في اليتيمة والصبح وبين كلاميهما تفاوت: ثم إن أبا الطيب اتخذ الليل جملا وفارق بغداد متوجها إلى حضرة أبي الفضل ابن العميد مراغما للمهلبي الوزير فورد أرجان وأحمد مورده.

إباء المتنبي عن مدح الصاحب

فيحكى أن الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد طمع في زيارة المتنبي إياه بأصبهان وإجرائه مجرى مقصوديه من رؤساء الزمان وهو إذ ذاك شاب وحاله حويلة والبحر دجيلة ولم يكن استوزر بعد، فكتب إليه يلاطفه في استدعائه ويضمن له مشاطرته جميع ماله فلم يقم له المتنبي وزنا ولم يجبه عن كتابه ولا إلى مراده وقصد حضرة عضد الدولة بشيراز، هكذا في اليتيمة، وهو يدل على أن الصاحب كاتبه إلى أرجان فلم يعرج عليه وسافر من أرجان إلى شيراز، وقيل إن المتنبي قال لأصحابه إن غليما معطاء بالري يريد أن أزوره وأمدحه ولا سبيل إلى ذلك، فاتخذه الصاحب غرضا يرشقه بسهام الوقيعة ويتتبع عليه سقطاته في شعره وهفواته وينعى عليه سيئاته وهو أعرف الناس بحسناته وأحفظهم لها وأكثرهم استعمالا إياها وتمثلا بها في محاضراته ومكاتباته وكان مثله معه كما قال الشاعر:

(قال المؤلف) عمل الصاحب رسالة صغيرة في انتقاداته على المتنبي وهي مطبوعة، وأورد محصلها الثعالبي في اليتيمة وذكر جملة من الانتقادات الحاتمي في مناظرته المتقدمة مع المتنبي، وإذا فرضنا أن الذي دعا الصاحب إلى المتقدمة مع المتنبي، وإذا فرضنا أن الذي دعا الصاحب إلى عمل هذه الرسالة هو استياؤه من المتنبي حيث تعاظم عن مدحه فإنا نجده لم يتحامل عليه بالباطل في شيء منها ولم يظلمه بحرف واحد جاء فيها ولم يعبه إلا بما هو عيب لا يمكن للمتنبي ولا لغيره أن يعتذر منه وأنصفه فيما وصفه وهذه مفخرة للصاحب في كفه نفسه عند الغضب والحنق عن تجاوز الحد والتحامل، كما يجري لأكثر الناس في مثل هذه الحال.

قال الصاحب في صدر تلك الرسالة: كنت ذاكرت بعض من يتوسم بالأدب الأشعار وقائليها والمجودين فيها، فسألني عن المتنبي فقلت: إنه بعيد المرمى في شعره كثير الإصابة في نظمه، إلا أنه ربما يأتي بالفقرة الغراء مشفوعة بالكلمة العوراء، فرأيته قد هاج وانزعج وحمي وتأجج وادعى أن شعره مستمر النظام متناسب الأقسام، ولم يرض حتى تحداني فقال: إن كان الأمر كما زعمت فأثبت في ورقة ما تنكره وقيد بالخطة ما تذكره لتتصفحه العيون وتسبكه العقول ففعلت وإن لم يكن تطلب العثرات من شيمتي ولا تتبع الزلات من طريقتي وقد قيل: أي عالم لا يهفو وأي صارم لا ينبو وأي جواد لا يكبو، وإنما فعلت ما فعلت لئلا يقدر هذا المعترض أني ممن يروي قبل أن يروى ويخبر قبل أن يخبر فاستمع وأنصت واعدل وأنصف، فما أوردت فيه إلا قليلا ولا ذكرت من عظيم عيوبه إلا يسيرا، وقد بلينا بزمن زمن يكاد المنسم فيه يعلو الغارب، ومنينا بأعيار أغمار اغتروا بمادح الجهال لا يضرعون لمن حلب الأدب أفاويقه والعلم أشطره، لا سيما على الشعر فهو فويق الثريا وهم دون الثرى، وقد يوهمون أنهم يعرفون، فإذا حكموا رأيت بهائم مرسنة وأنعاما مجفلة.

وصول المتنبي إلى ابن العميد بأرجان

يظهر من ديوان المتنبي أن ابن العميد راسل المتنبي من أرجان إلى بغداد يستزيره فسار إليه وأن عضد الدولة كتب إليه من شيراز إلى أرجان يستزيره فسار إليه، ولكن الذي يظهر من الصبح المنبي أن المتنبي قصد من بغداد إلى عضد الدولة ببلاد فارس، قال كان أبو الفضل محمد بن الحسين ابن العميد يسمع بأخبار أبي الطيب وترفعه عن مدح الوزراء، فسمع أنه خرج من مدينة السلام متوجها إلى بلاد فارس وكان يخاف أن لا يمدحه ويعامله معاملة المهلبي فيتكره من ذكره ويعرض عن سماع شعره، قال الربعي قال لي بعض أصحاب ابن العميد دخلت عليه يوما قبل ورود المتنبي، فوجدته واجما وكانت قد ماتت أخته عن قريب، فظننته واجما لأجلها، فقلت لا يحزن الله الوزير فما الخبر، قال إنه ليغيظني أمر هذا المتنبي واجتهادي في أن أخمد ذكره، وقد ورد علي نيف وستون كتابا في التعزية ما منها إلا وقد صدر بقوله:

فكيف السبيل إلى إخماد ذكره، فقلت القدر لا يغالب والرجل ذو حظ من إشاعة الذكر واشتهار الاسم، فالأولى أن لا تشغل نفسك بهذا الأمر "أه".

وفي صفر سنة 354 ورد أبو الطيب على أبي الفضل ابن العميد وهو بأرجان- وهي على ستين فرسخا من شيراز- فيكون مقامه بالعراق نحو ثلاث سنين وعشرة أشهر منها في الكوفة نحو ثلاث سنين وثمانية أشهر وفي بغداد نحو شهرين، لأنه ورد الكوفة في ربيع الثاني سنة 351 كما مر وكان فيها في ذي الحجة سنة 353- لأن كتاب سيف الدولة جاءه إليها بهذا التاريخ- وورد بغداد سنة 354، وفي تلك السنة في صفر خرج منها إلى أرجان فحسن موقعه من ابن العميد ومدحه بقصيدة أولها:

يقول فيها:

يقول فيها وهو يريد سيف الدولة:

قال أبو عبد الله كان ابن العميد كثير الانتقاد على أبي الطيب فإنه لما أنشده قوله في هذه القصيدة (كم غر صبرك وابتسامك صاحبا) إلخ قال يا أبا الطيب تقول باد هواك ثم تقول بعده كم غر صبرك ما أسرع ما نقضت ما ابتدأت به، فقال تلك حال وهذه حال. وتنازع ندماء ابن العميد في البيت الأخير، فقال أثبتوه حتى أتأمله فأثبت البيت ووضع بين يديه مليا يفكر فيه، ثم قال هذا يعطلنا عن المهم وما كان الرجل يدري ما يقول.

وتفسيره وترى هذه الباكية الفضيلة لا تمنع من فضيلة أخرى فترى الشمس مشرقة والسحاب متراكما.

وقال أبو الطيب يذكر انتقاد ابن العميد لهذه القصيدة من قصيدة يهنؤه فيها بالنيروز:

ونسخت القصيدتان وأنفذتا من أرجان فعاد الجواب إلى أبي الفتح ابن أبي الفضل ابن العميد بالري فعاد الجواب يذكر شوقه إلى أبي الطيب وسروره به وأنفذ أبياتا نظمها طعن فيها على المعترضين لقول الشعر فقال أبو الطيب والكتاب بيده أبياتا ارتجلها أولها:

مسير المتنبي من أرجان إلى عضد الدولة بشيراز

وورد عليه كتاب عضد الدولة يستزيره إلى شيراز فقال عند مسيره مودعا ابن العميد بقصيدة أولها:

وسار قاصدا أبا شجاع عضد الدولة فناخسرو بن بويه بشيراز فلما ورد عليه قال يمدحه من قصيدته:

يقول فيها:

قال ابن جني لما سمع سيف الدولة هذا البيت قال ترى هل نحن في الجملة:

في الصبح المنبي: نقل بعض أئمة الأدب أن رجلا من مدينة السلام كان يكره أبا الطيب فحلف أن لا يسكن بلدا يذكر فيها أبو الطيب وينشد شعره فهاجر من بغداد وكان كلما وصل بلدا سمع بها ذكره يرحل عنها حتى وصل إلى أقصى بلاد الترك فسألهم عن أبي الطيب فلم يعرفوه فلما كان يوم الجمعة سمع الخطيب ينشد بعد ذكر أسماء الله الحسنى:

فعاد إلى بغداد:

وفي الصبح المنبي: حكى عبد العزيز بن يوسف الجرجاني وكان كاتب الإنشاء عند عضد الدولة عظيم المنزلة منه قال لمال أبو الطيب المتنبي مجلس عضد الدولة وانصرف عنه أتبعه بعض جلسائه وقال له سله كيف شاهد مجلسنا وأين الأمراء الذين لقيهم منا قال فامتثلت أمره وجاريت المتنبي في هذا الميدان وأطلت معه عنان القول فكان جوابه عن جميع ما سمع مني أن قال ما خدمت عيناي قلبي كاليوم ولقد اختصر اللفظ وأطال المعنى وأجاد فيه وكان ذلك منه أوكد الأسباب التي حظي بها عند عضد الدولة.

ويظهر أن المتنبي كان متحرزا من الجواسيس في جميع حالاته فإنه إن كان قال هذا في حق عضد الدولة عن اعتقاد فهو لم يقل مثله عن اعتقاد في حق كافور حينما أرسل إليه من يقول له طال قيامك في مجلس كافور فقال:

كما سبق. وكان أبو علي الفارسي إذ ذاك بشيراز وكان ممر المتنبي إلى دار عضد الدولة على دار أبي علي الفارسي وكان إذا مر به أبو الطيب يستثقله على قبح زيه وما يأخذ به نفسه من الكبرياء وكان لابن جني هوى في أبي الطيب وكان كثير الإعجاب بشعره لا يبالي بأحد يذمه أو يحط منه كان يسوؤه إطناب أبي علي في ذمه واتفق أن قال أبو علي يوما اذكروا لنا بيتا من الشعر نبحث فيه فبدأ ابن جني وأنشد:

فاستحسنه أبو علي واستعاده وقال لمن هذا البيت فإنه غريب المعنى فقال ابن جني للذي يقول:

فقال والله هذا حسن بديع جدا فلمن هما قال للذي يقوله:

فكثر إعجاب أبي علي واستغرب معناه وقال لمن هذا فقال ابن جني للذي يقول:

فقال وهذا أحسن والله لقد أطلت يا أبا الفتح فأخبرنا من القائل فقال هو الذي لا يزال الشيخ يستثقله ويستقبح زيه وفعله وما علينا من القشور إذا استقام اللب قال أبو علي أظنك تعني المتنبي قلت نعم قال والله لقد حببته إلي ونهض ودخل على عضد الدولة فأطال في الثناء على أبي الطيب ولما اجتاز به استنزله واستنشده وكتب عنه أبياتا من الشعر.

قال الرعي كنت يوما عند المتنبي بشيراز فقيل له أبو علي الفارسي بالباب وكانت تأكدت بينهما المودة قال بادروا إليه فأنزلوه فدخل أبو علي وأنا جالس عنده قال يا أبا حسن خذ هذا الجزء وأعطاني جزءا من كتاب التذكرة وقال اكتب عن الشيخ البيتين اللذين ذكرتك بهما وهما:

ومن مدائحه في عضد الدولة التي يذكر فيها شعب بوان وهو في طريقه إلى شيراز وهو أحد جبان الدنيا الأربع غوطة دمشق ونهر الأبلة بالبصرة وصغد سمرقند وشعب بوان وهو بين أرجان وشيراز:

فلما وصل إلى هذا البيت قال له عضد الدولة والله لأقرنها وفعل:

وقال يمدحه من قصيده:

وتوفيت عمة عضد الدولة ببغداد فورد عليه الكتاب بوفاتها إلى شيراز فقال المتنبي من قصيدة:

مفارقته عضد الدولة قاصدا العراق ومقتله

وكان ينبغي أن نذكر خبر مقتله في آخر الترجمة كما هي العادة لكن ارتباطه بمفارقة عضد الدولة دعا إلى ذكره هنا لتكون أخباره متتالية غير متقطعة.

في اليتيمة: لما أنجحت سفرته وربحت تجارته بحضرة عضد الدولة ووصل إليه من صلاته أكثر من مئتي ألف درهم استأذنه في المسير عنها ليقضي حوائج في نفسه ثم يعود إليها فإذن له وأمر بأن تخلع عليه الخلع الخاصة ويقاد إليه الحملان الخاص وتعاد صلته بالمال الكثير فامتثل ذلك وأنشده أبو الطيب الكافية التي هي آخر شعره وفي أضعافها كلام جرى على لسانه كأنه ينعى فيه نفسه وإن لم يقصد ذلك فمنه قوله:

وهذه لفظة يتطير منها منه:

وهذا أيضا من ذاك ومنه:

أي لو أن أكثر ما تمنى قلبي أن يعاودك لقلت له ولا بلغت أنت أيضا مناك. وهذا أيضا من ذاك ومنه:

ومنه:

ومنه:

وهذه أيضا من ذاك منه:

جعل قافية البيت الهلاك فهلك وذلك أنه ارتحل عن شيراز بحسن حال ووفور مال فلما فارق أعمال فارس حسب أن السلامة تستمر به كاستمرارها في مملكة عضد الدولة ولم يقبل ما أشير به عليه من الاحتياط باستصحاب الخفراء والمبذرقين فجرى عليه ما جرى وحاصله كما في الصبح المنبي عن الخالديين أنهما قالا كتبنا إلى أبي نصر محمد الجبلي نسأله عما صدر لأبي الطيب بعد مفارقته عضد الدولة وكيف قتل وأبو نصر هذا من وجوه الناس في تلك الناحية وله فضل وأدب جزل وحرمة وجاه فأجابنا يقول: إن سير أبي الطيب كان من واسط يوم السبت لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة 354 وقتل بضيعة تقرب من دير العاقول لليلتين بقيتا من شهر رمضان والذي تولى قتله وقتل ابنه (محسد) وغلامه (مفلح) رجل من بني أسد يقال له فاتك ابن جهل بن فراس بن بداد وكان من قوله لما قتله وهو متعفر قبحا لهذه اللحية يا سباب وهو خال ضبة أخو والدته الذي هجاه أبو الطيب بقوله:

وأقذع وأفحش في هجوه والافتراء على أمه، فداخلت فاتكا الحمية لما سمع ذكر أخته بالقبيح في هذا الشعر، قال أبو نصر: إن فاتكا كان لي صديقا وكان فاتكا كاسمه، فلما سمع الشعر الذي هجي به ابن أخته ضبة اشتد غضبه ورجع على ضبة باللوم وقال له: كان يجب أن لا تجعل لشاعر سبيلا، وأضمر غير ما أظهر، واتصل به انصراف المتنبي من بلاد فارس وتوجهه إلى العراق وعلم أن اجتيازه بجبل دير العاقول فلم يكن ينزل عن فرسه ومعه جماعة من بني عمه، وكان فاتك خائفا أن يفوته، فجاءني يوما وهو يسأل قوما مجتازين عن المتنبي، فقلت له أكثرت المسألة عن هذا الرجل فأي شيء تريد منه؟ قال: ما أريد إلا الجميل، وعذله على هجاء ضبة، فقلت هذا لا يليق بأخلاقك! فتضاحك ثم قال يا أبا نصر والله لئن اكتحلت عيني به أو جمعتني وإياه بقعة لأسفكن دمه، قلت له كف عافاك الله إله عن هذا وارجع إلى الله وأزل هذا الرأي من قلبك فإن الرجل شهير الاسم بعيد الصيت ولا يحسن منك قتله على شعر قاله، وقد هجت الشعراء الملوك في الجاهلية والخلفاء في الإسلام فما سمعنا بشاعر قتل بهجائه وقد قال الشاعر:

ولم يبلغ جرمه ما يوجب قتله، فقال يفعل الله ما يشاء وانصرف، ولم يمض لهذا القول غير ثلاثة أيام حتى وافاني المتنبي ومعه بغال موقرة بكل شيء من الذهب والطيب والتجملات النفسية والكتب الثمينة والآلات، لأنه كان إذا سافر لم يخلف في منزله درهما ولا شيئا يساويه، وكان أكثر إشفاقه على دفاتره، لأنه كان انتخبها وأحكمها قراءة وتصحيحا، قال أبو نصر: فتلقيته وأنزلته داري وسألته عن أخباره وعمن لقي فعرفني من ذلك ما سررت له، وأقبل يصف ابن العميد وعمله وكرمه وكرم عضد الدولة ورغبته في الأدب وميله إلى أهله، فلما أمسينا قلت له يا أبا الطيب على أي شيء أنت مجمع؟ قال على أن أتخذ الليل مركبا فإن السير فيه يخف علي، فقلت هذا هو الصواب رجاء أن يخفيه الليل ولا يصبح إلا وقد قطع بلدا بعيدا، وقلت له والرأي أن يكون معك من رجالة هذه البلدة الذين يعرفون هذه المواضع المخيفة جماعة يمشون بين يديك إلى بغداد، فقطب وجهه وقال لم قلت هذا القول؟ فقلت لتستأنس بهم، فقال أما والجراز في عنقي فما بي حاجة إلى مؤنس غيره، قلت الأمر إليك والرأي في الذي أشرت عليك، فقال تلويحك ينبي عن تعريض وتعريضك ينبي عن تصريح فعرفني الأمر وبين لي الخطب قلت إن هذا الجاهل فاتكا الأسدي كان عندي منذ ثلاثة أيام وهو غير راض عنك لأنك هجوت ابن أخته ضبة، وقد تكلم بأشياء توجب الاحتراز والتيقظ ومعه أيضا نحو العشرين من بني عمه قولهم مثل قوله، فقال غلام أبي الطيب وكان عاقلا: الصواب ما رآه أبو نصر خذ معك عشرين رجلا يسيرون بين يدك إلى بغداد، فاغتاظ أبو الطيب من غلامه غيظا شديدا وشتمه شتما قبيحا وقال والله لا أرضى أن يتحدث عني الناس بأني سرت في خفارة أحد غير سيفي. قال أبو نصر: فقلت يا هذا أنا أوجه قوما من قبلي في حاجة يسيرون بمسيرك وهم في خفارتك، فقال والله لا فعلت شيئا من هذا، ثم قال يا أبا نصر بحرء الطير تخوفني ومن عبيد العصا تخاف علي والله لو أن مخصرتي هذه ملقاة على شاطئ الفرات وبنو أسد معطشون بخمس وقد نظروا إلى الماء كبطون الحيات ما جسر لهم خف ولا ظلف أن يرده، معاذ الله أن أشغل بهم فكري لحظة عين، فقلت له قل إن شاء الله تعالى فقال هي كلمة مقولة لا تدفع مقضيا ولا تستجلب آتيا، ثم ركب فكان آخر العهد به، ولما صح خبر قتله وجهت من دفنه ودفن ابنه وغلامه، وذهبت دماؤهم هدرا، هذا هو الصحيح من خبره.

ويقال إنه أراد أن ينهزم فقال له غلامه أين قولك:

فقال قتلتني قتلك الله ثم قاتل حتى قتل، وأظن أن هذا الخبر مما خلقته بعض المخيلات من أجل البيت المذكور فالغلام الذي رأى الموت محدقا به وبمولاه والذي كان قد أشار بأخذ الخفراء وكان عاقلا ليس له في تلك الحال ما يدعوه إلى إهلاك نفسه ومولاه والذين جاؤوا لقتل المتنبي كانوا في عدة واستعداد لا يمكنه معها الهرب فهم كانوا على أهبة وتدبير وهو على غفلة وغرور، وقيل إن الخفراء جاؤوه وطلبوا منه خمسين درهما ليسيروا معه، فمنعه الشح والكير فتقدموه ووقع به ما وقع، ولما قتل رثاه أبو القاسم مظفر ابن علي بن المظفر بن علي الطبسي بقوله:

ورثاه أيضا ثابت بن هارون الرقي النصراني بقصيدة يستثير فيها عضد الدولة على فاتك الأسدي وهي:

ورثاه أبو الفتح بن جني بقصيدة أوردها في الصبح وفيها أغلاط لم نهتد لتصحيحها أولها:

ومنها:

بعض ما أثر عنه من فصيح الكلام

قال ابن خلكان: لما كان بمصر مرض وكان له صديق يغشاه في علته فلما أبل انقطع عنه، فكتب إليه:

وصلتني- وصلك الله- معتلا وقطعتني مبلا فإن رأيت أن لا تحبب العلة إلي ولا تكدر الصحة علي فعلت إن شاء الله تعالى.

شعر المتنبي

لا شك أن شعره في الطبقة العالية، وأنه في وصف الجيوش والحروب لا يسبقه سابق ولا يلحقه لاحق، وأنه سبق في جميع فنون الشعر من الغزل والمديح والهجاء والرثاء والوصف والاستعطاف وأبدع وتفنن ما شاء، وأن الشعر كان طوع لسانه ينظم ما أراد وما أريد منه فيأتي ببدائع الألفاظ وغرائبها، وأن شعره قد حاز شهرة عظيمة بين جميع طبقات أهل الفضل في حياته فضلا عما بعد وفاته. قال الثعالبي في اليتيمة في تتمة كلامه السابق: سار ذكره مسير الشمس والقمر وسافر كلامه في البدو والحضر، وكادت الليالي تنشده والأيام تحفظه، كما قال وأحسن ما شاء:

وكما قال:

قال وهذا من أحسن ما قيل في وصف الشعر السائر، وأبلغ منه قول علي بن الهجم:

فليس اليوم مجالس الدرس أعمر بشعر المتنبي من مجالس الأنس ولا أقلام كتاب الرسائل أجرى به من ألسن الخطباء في المحافل ولا لحون المغنين والقوالين أشغل به من كتب المؤلفين والمصنفين، وقد ألفت الكتب في تفسيره وحل مشكله وعويصه، وكثرت الدفاتر على ذكر جيده ورديئه، وتكلم الأفاضل في الوساطة بينه وبين خصومه والإفصاح عن أبكار كلامه وعونه، وتفرقوا فرقا في مدحه والقدح فيه والنضح عنه والتعصب له وعليه، وذلك أدل دليل على وفور فضله وتقدم قدمه وتفرده عن أهل زمانه، بملك رقاب القوافي ورق المعاني، فالكامل من عدت سقطاته، والسعيد من حسبت هفواته "وما زالت الأملاك تهجى وتمدح".

وقال ابن خلكان: أما شعره فهو في النهاية ولا حاجة إلى ذكر شيء منه لشهرته، ولكن الشيخ تاج الدين الكندي كان يروي له بيتين لا يوجدان في ديوانه وكانت روايته لهما بالإسناد الصحيح المتصل به وهما:

قال والناس في شعره على طبقات: فمنهم من يرجحه على أبي تمام ومن بعده، ومنهم من يرجح أبا تمام عليه، وقال أبو العباس أحمد ابن النامي الشاعر: - وهو من خصومه اللد وممن حط من المتنبي عند سيف الدولة فيما يقال- كان قد بقي من الشعر زاوية دخلها المتنبي وكنت أشتهي أن أكون قد سبقته إلى معنيين قالهما ما سبق إليهما أحدهما قوله:

والآخر قوله:

واعتنى العلماء بديوانه فشرحوه، وقال لي أحد المشايخ الذين أخذت عنهم وقفت له على أكثر من أربعين شرحا ما بين مطولات ومختصرات ولم يفعل هذا بديوان غيره ولا شك أنه كان رجلا مسعودا ورزق في شعره السعادة التامة "أه".

وذكر صاحب الصبح المنبي شروح ديوانه التي وقف عليها وما ألف من الكتب فيما يتعلق بشعره فكانت نحو اثنين وأربعين كتابا منها: شرح ابن جني قال وهو أول من شرحه وشرح أبي العلاء المعري المسمى معجز أحمد. وشرح أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي.

والموضح لأبي زكريا التبريزي. وشرح عبد القاهر الجرجاني. وشرح أبي منصور محمد بن عبد الجبر السمعاني جد صاحب الأنساب.

وشرح عبد الرحمن بن محمد الأنباري صاحب نزهة الألباء في طبقات الأدباء. وشرح أبي البقاء العكبري. وشرح محمد ابن عبد الله الدلفي في عشرة مجلدات. وشرح أبي بكر الخوارزمي محمد بن العباس. ومن الكتب المتعلقة بشعره: المنصف في سرقات المتنبي للحسن بن محمد بن وكيع. والوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي عبد العزيز الجرجاني وكتاب معاني أبياته لابن جني، والتنبيه لعلي ابن عيسى الربعي رد فيه على ابن جني. وكتاب الصاحب إسماعيل بن عباد فيما انتقده على المتنبي.

ونزهة الأديب في سرقات المتنبي من حبيب لابن حسنون المصري. والمآخذ الكندية من المعاني الطائية لابن الدهان. والاستدراك على ابن الدهان للوزير ضياء الدين بن الأثير الجزري. والتنبيه عن رذائل المتنبي لأحمد بن أحمد المغربي. والرسالة الحاتمية. وجبهة الأدب وكلاهما لأبي الحسن محمد ابن المظفر الحاتمي.

قال ولم يسمع بديوان شعر في الجاهلية ولا في الإسلام شرح مثل هذه الشروح الكثيرة سوى هذا الديوان. ولا تداول على ألسنة الأدباء في نظم ونثر أكثر من شعر المتنبي "أه" وكان ابن جني في علمه وفضله ممن قرأ ديوان المتنبي على المتنبي وشرحه كما سمعت وكان المتنبي يقول ابن جني أعرف بشعري مني.

أقول: وهو مع إحسانه فيما أحسن فيه إلى الغاية فله سقطات بالغة حد النهاية وبعضها لا يصدر من صبيان المكاتب وكثيرا ما يضع الدرة بجانب البعرة فهو كما قيل:

ولا يوجد ذلك لشاعر غيره وهذا عجيب وأنا أظن أن سببه إعجابه ورضاه عن نفسه وقوة بديهته فهو ينظم الشعر ولا يهذبه للعلة المذكورة ويمنعه إعجابه بنفسه أن يلتفت إلى عيب شعره فهو راض عن كل ما يقول والصارم قد ينبو والجواد قد يكبو لكن المتنبي كثير النبوات والكبوات وهو لم يلتفت لنبواته وكبواته وعرفها غيره. ويمكننا أن نجعل هذه السقطات الشائنة دليلا قويا على بلوغ الجيد من شعره الدرجة العالية في الحسن فهو قد جعل الخزف بجانب الذهب لكن خزفه لم يؤثر شيئا في ذهبه وغطت محاسن الذهب على مقابح الخزف فلو لم يكن هذا الذهب خالصا غالي القيمة لشانه وضعه بجانب الخزف وقال ابن الأثير في المثل السائر: سئل المتنبي عن البحتري وعن أبي تمام وعن نفسه فقال نحن حكيمان والشاعر البحتري وإذا صحت هذه الحكاية كشفت عن إنصاف عظيم من المتنبي وعن معرفة تامة وقال ابن الأثير أيضا قال الشريف الرضي في هذا المقام وكلام الشريف شريف الكلام أما أبو تمام فخطيب منبر وأما البحتري فواصف جؤذر وأما أبو الطيب فقائد عسكر وقد مر عليك في أثناء ما تقدم طرف مقنع من محاسن شعره.

ومن روائع نظمه ما قاله في مدح الأمير أبي محمد الحسن ابن عبيد الله بن طغج بالرملة من قصيدة:

وقوله في هذه القصيدة "وذي لجب" والبيتان بعده مما حلق به المتنبي.

وانفرد المتنبي في شعره بالمبالغات الكثيرة التي قلما يخلو منها بيت فضلا عن قصيدة والمبالغات في شعر الشعراء وإن كانت غير عزيزة حتى قيل الشعر أكذبه أعذبه إلا أنها لا تصل إلى ما في شعر المتنبي.

وللمتنبي في التصرف في النظم لكل معنى يريده ما لا ينكر فمن تفننه قوله في عضد الدولة الذي جمع فيه الكنية واسم البلد والاسم واللقب:

قلنا إن المتنبي جاء سابقا في جميع أنواع الشعر ونعيد القول بأنه إذا تغزل فاق وأتى بالمعاني الرقاق فهو يقول في تغزله:

ويقول:

ويقول:

ويقول:

ويقول في حماسته:

ويقول في المديح:

ويقول:

ويقول في الملك الأسود:

ويقول في الهجاء:

ويقول في كافور:

ويقول في السامرائي:

ويقول في الذهبي:

وقوله في هجاء ضبة بن يزيد العتبي الذي كان سببا لقتله:

والناس يعيبون عليه لفظ الطرطبة وينسبون هذه الأبيات إلى السخافة والركاكة لكن الهجاء يقبل مثل هذا اللفظ ولكل مقام مقال يقول فيها وهو أقل ما تضمنته من الأقذاع:

وباقيها لا يليق ذكره ويقول في الرثاء:

ويقول في الزهد والمواعظ:

ويقول في مثل ذلك:

ويقول في استعطاف سيف الدولة على بني كلاب:

ويقول في استعطافه على بني كلاب وبني كعب:

ويقول في وصف الأسد:

ويقول في وصف الخيل:

وخالف المتنبي طريقة الشعراء في طلبهم السقيا للديار والمنازل فقال:

وانفرد بكثرة الإغلاق والتعقيد في شعره ولا حاجة إلى إيراد أمثلة منه فهو في شعره كثير ظاهر.

ما عيب على المتنبي

أورد صاحب اليتيمة من ذلك قدرا وافيا كثير منه أخذه من رسالة الصاحب، ونحن نورده هنا لما فيه من الفوائد للقارئ بتجنب أمثاله، وبترويح النفس بما قيل فيه ونعلق عليه بعض ما يقتضيه المقام:

1- قبح المطالع

مع أن المطالع أولى بالحسن وعذوبة اللفظ والبراعة وجودة المعنى من جميع القصيدة، لأنه أول ما يقرع الأسماع، وهو بمنزلة الوجه للإنسان، فإذا كانت حاله على الضد مجه السمع وكرهته النفس قال الثعالبي ولأبي الطيب ابتداءات ليس لعمري من أحرار الكلام وغرره، بل هي كما نعاها عليه العائبون مستشنعة مشتبشعة لا يرفع السمع لها حجابه ولا يفتح القلب لها بابه كقوله:

فإنه لم يرض بحذف علامة النداء من هذي وهو غير جائز عند النحويين حتى ذكر الرسيس فأخذ بطرفي الثقل والبرودة (وقوله) في مطلع قصيدة هي أول ما مدح به عضد الدولة (أوه بديل من قولتي واها) في اليتيمة أنه برقية العقرب أشبه منه بافتتاح كلام في مخاطبة ملك (وقوله):

فقد تكلف اللفظ المتعقد والترتيب المعسف لغير معنى بديع يفي شرفه وغرابته بالتعب في استخراجه ولا تقوم فائدة الانتفاع به بأزاء التأذي باستماعه (وقوله) في افتتاح قصيدة في مدح ملك وهو كافور في أول ملاقاته له بأول شعر:

والافتتاح بذكر الداء والموت مع الإقتران بكاف الخطاب فيه من الطيرة ما ينفر السوقة فكيف الملوك والتحرز عما يتطير منه في الشعر سيما المطلع أمر يلزم الشاعر مراعاته.

حكى الصاحب بن عباد في كتابه الكشف عن مساوئ المتنبي قال ذكر الأستاذ الرئيس أيده الله (يعني ابن العميد) يوما الشعر فقال إن أول ما يحتاج إليه فيه حسن المطلع فإن فلانا (وهو ابن أبي الشباب) أنشدني في يوم نيروز قصيدة ابتداؤها (أقبر وتا طلت ثارك يد الطل). فتطيرت من افتتاحه بالقبر وتنغصت باليوم والشعر فقلت كذلك كانت حال أبي مقاتل (الضرير) لما مدح الداعي (في يوم مهرجان) حين قال:

فنفر من قوله لا تقل بشرى أشد نفار وقال أعمى ويبتدئ بهذا في يوم مهرجان "أه" وفي خبر أنه أمر بضربه خمسين سوطا وقال إصلاح أدبه أبلغ من ثوابه وفي خبر أنه أجابه فقال إن كلمة التوحيد ابتدأت بلا وهي لا إله إلا الله أن ذلك لا يرفع استبشاع هذا المطلع. وهذا هو الداعي إلى الحق العلوي الثائر بطبرستان. وهو الحسن بن زيد ابن محمد من أولاد زيد بن علي عليه السلام واستولى على طبرستان وما يليها في خلافة المستعين ويسمى بالداعي الأكبر وقد ولي الأمر بعده أخوه محمد بن زيد إلى أن قتل بجرجان وكذلك هذا الشاعر لما مدح الداعي الأكبر المذكور بقصيدة أولها (موعد أحبابك بالفرقة غد) أغضبه التفاؤل بهذا الافتتاح وقال بل موعد أحبابك يا أعمى ولك المثل السوء، وقد وقع نظير ذلك لجماعة من الشعراء بل لفحولهم كالبحتري حين أنشد أبا سعيد محمد بن يوسف الثغري قصيدته التي أولها:

فقال بل لأمك الويل.

وفي رواية بل لك الويل والحرب، والموجود في ديوانه المطبوع "له الويل" وكأنه غيره بعد ذلك، وأنشد ذو الرمة عبد الملك بن مروان قصيدة مطلعها (ما بال عينك منها الدمع ينهمل) وكانت عين عبد الملك لا تزال تدمع فقال وما سؤالك عن هذا يا ابن الفاعلة وصفعه وأمر بإخراجه. وأنشد الأخطل عبد الملك بن مروان قصيدته التي أولها (خف القطين فراحوا منك أو بكروا) فقال له عبد الملك لا بل منك وتطير من قوله. ولما أنشد أبو نواس الفضل بن يحيى البرمكي قصيدته التي أولها:

تطير الفضل من هذا الابتداء فلما انتهى إلى قوله:

استحكم تطيره ولم يمض أسبوع حتى نزلت بهم النازلة. ولما فرغ المعتصم من بناء قصره بالميدان جلس فيه واستأذنه إسحاق بن إبراهيم الموصلي وأنشده شعرا أوله:

فتطير المعتصم من ذلك وتغامز الناس على إسحاق ابن إبراهيم كيف ذهب عليه مثل ذلك مع معرفته وعلمه ثم انصرف الناس فما عاد منهم اثنان إلى ذلك المجلس وخرج المعتصم إلى سر من رأى وخرب القصر. وقال أبو نواس في مطلع قصيدة يمدح بها الأمين:

ونظائر ذلك تعاب في غير المطلع فكيف بالمطلع.

ولما أنشد أبو النجم هشام بن عبد الملك رجزه الذي يقول فيه (والشمس في الأفق كعين الأحول) وكان هشام أحول أمر بإخراجه.

ومن مطالع المتنبي المكروهة قوله (فؤاد ملاه الحزن حتى تصدعا) فإن ابتداء المديح بمثل هذه طيرة ينبو عنها السمع ويحسن ذلك في المراثي. ونظيره قول أبي تمام (تجدع أسى قد أقفر الجرع الفرد) والذي أوقعه في ذلك قصد التجنيس بين تجرع والجرع. ومن مطالع المتنبي المكروهة قوله:

وقوله:

أي أتركي لومي فإن الهم الذي أقام على فؤادي دهرا قد أراني لومك أحق باللوم فانظر إلى هذا التعقيد المستكره الذي افتتح به قصيدته. قال الصاحب: ومن عنوان قصائده التي تحير الأفهام وتفوت الأوهام وتجمع من الحساب ما لا يدرك بالارتماطيقي وبالأعداد الموضوعة للموسيقى قوله:

قال وهذا كلام الحكل ورطانة الزط وما ظنك بممدوح قد تشمر للسماع من مادحه فصك سمعه بهذه الألفاظ الملفوظة والمعاني المنبوذة. قال الثعالبي وقد خطأه في اللفظ والمعنى كثير من أهل اللغة وأصحاب المعاني حتى احتيج في الاعتذار له والنضج عنه إلى كلام لا يستأهله هذا البيت. أقول وفي تصغيره ليلة ما لا يخفى من الاستكراه. أما التخطئة التي أشار إليها الثعالبي فمن وجوه:

(1)إن أبناء فعال في العدد لا يتجاوز رباع إلا نادرا (2) إنه واحد واحد وستة ستة (3) حذف الهمزة من أحاد (4) التنافر في الحروف الواقع في لييلتنا واختلفوا في معنى أم سداس في أحاد فقيل أراد الضرب الحسابي وقال الواحدي أراد الظرفية واختار هذا العدد لأنه أراد ليالي الأسبوع يقول هذه الليلة واحدة أم ست جمعت في واحدة عبر بذلك عن ليالي الدهر كلها لأن كل أسبوع بعده أسبوع ويرشد إليه قوله المنوطة بالتنادي (أقول) هكذا صار البيت بتعقيده معركة للآراء كأنه من عبارات أرباب الكيميا التي يرمزون بها إلى الصنعة رمزا والشعر متى دخله الإغلاق والتعقيد فسد.

ومن ابتداءاته البشعة التي تنكرها بديهة السماع قوله:

وقوله:

(أثلث) أي كن ثالثا (وترزم) أي تحن وقوله (بقائي شاء ليس هم ارتحالا) قال الصاحب ومن افتتاحاته العجيبة قوله لسيف الدولة في التسلية عند المصيبة:

لا يحزن الله الأمير فإنني=لآخذ من حالاته بنصيب

قال لا أدري لم لا يحزن سيف الدولة إذا أخذ أبو الطيب بنصيب من القلق. أترى هذه التسلية أحسن عند أمته أم قول أوس:

قال الصاحب ومن افتخاره بنفسه وما عظم الله من قدره قوله:

ولا أدري هذا البيت أشرف أم قول الفرزدق:

2- الجمع بين الدر والخزف

أو ما هو أسقط منه في شعره

فإنه يقرن هذا البيت الحسن الذي لا يبارى بيتا في غاية الرداءة وما أكثر ما يحوم حول هذه الطريقة ويعود لهذه العادة السيئة ويجمع بين البديع النادر والضعيف الساقط فبينا هو يصوغ أفخر حلي وينظم أحسن عقد وينسج أنفس برد ويقطف أزهى ورد إذا به وقد رمى بالبيت والبيتين في أبعاد الإستعارة أو تعقيد المعنى إلى البمالغة في التكلف والزيادة في التعمق والخروج إلى الإفراط والإحالة والسفسفة والركاكة والتبرد والتوحش باستعمال الكلمات الشاذة فمحا تلك المحاسن وكدر صفاءها وأعقب حلاوتها مرارة لا مساغ لها واستهدف لسهام العائبين حتى تمثلوا فيه بقول الشاعر:

فما جاء في شعره من هذا النمط قوله:

وهذا ابتداء ما سمع بمثله ومعنى تفرد بابتداعه ثم شفعه بما لا يبالي العاقل أن يسقطه من شعره فقال:

رءاها مقلوب رآها وراقي من رقأ دمعه أي انقطع أي كيف ترثي وترق التي ترى جميع الأجفان لا ترقأ دموعها لحبها سوى جفنها.

وقوله:

من قصيدة اخترع أكثر معانيها وأحسن صياغة ألفاظها فجاءت مطبوعة مصنوعة، وجاء في مديحها بأبيات يكثر فيها المختار الجيد المهترع المعنى، ثم اعترضته تلك العادة الذميمة فقال في سيف الدولة:

ثم أتى بما هو أطم منه حتى قال الصاحب: إنه من أوابده التي لا يسمع طول الأبد بمثلها فقال:

وقال الصاحب: وهذا التحاذق كغزل العجائز قبحا ودلال الشيوخ سماحة، ويقول بعده:

قال الصاحب: قوله الدولات وتدول من الألفاظ التي لو رزق فضل السكوت عنها لكان سعيدا قال ولهه بيت لا يدري أمدح القائل به أم رقاه وهو:

فلم يرض بأن سرق من بشار قوله:

حتى ضيع التشبيه الصايب بين ألفاظ كالمصايب والذي لا أمتري فيه أن عالما من المناضلين عنه عندهم أن (شوايل تشوال) ابدع في صفة الخيل من قول امرئ القيس:

ومما جمع فيه بين الدر والبعر في سلك واحد قوله:

وهو ابتداء حسن ومعنى لطيف، قم قال:

ثم أتى بمعنى بديع لكنه عبر عنه بلفظ قلق معقد فأفسده فقال:

ثم قال وجاء بالمليح:

أي قرب بعضنا من بعض ولم تنعانق خوف الرقيب، ثم قال فأحسن:

وقال ابن جني وهذا خروج غريب طريف حسن ما أعرفه لغيره، ثم قال فجمع أوصافا في بيت واحد:

ثم قال وتحذلق وتبرد وأفسد ما أصلح:

أي من العقيان ومن الحياة ومن المماة فخفف بحذف النون مثله وارد في كلام العرب وهو معنى حسن بلفظ بارد فاسد، وإنما ألم في صدر هذا البيت بقول أبي تمام (نأخذ من ماله ومن أدبه) ثم قال:

ثم قال فأحال:

قال القاضي أبو الحسن الجرجاني: إن طيب المولد لا يستغنى به عن القابلة، وإن استغني عنها كان ماذا وأي فخر فيه وأي شرف ينال به، ثم توسط وقارب فقال:

على أن التشبيه بستر الغراب سفاده لا يخلو من بشاعة فيما أرى ثم قال وتوحش وتبغض ما شاء الحاسد:

ويقال: جفخ وجخف أي بذخ وافتخر- فكرر لفظ الجفخ أو الجخف وجعل العاملين متتالين والمعمولين كذلك فزاد في الاستكراه وكان يمكنه إبدال الجفخ بالفخر لأنه بمعناه، فقد قرن هذا الصدر البغيض الموحش إلى عجز في غاية الجودة، قال الصاحب ومما دلنا به على حفظ الغريب هذا البيت، وليس هذا إلا كلام صبية، وقال الحماسي وهو تأبط شرا:

وكان يمكنه أن يقول فريدا بدل جحيشا لأنه بمعناه ولكنه أعدر من أبي الطيب لأن الغرابة في لسان العرب أهون منها في لسان المولدين ثم قال:

قال الثعالبي أي يا هذا أفخر فحذف المنادى وتباغض وتبادى (وأقول) لا داعي لحذف المنادى فالكلام تام بدونه ولا أراه تباغض ولا تبادى، ثم قال وتباغض وجاء بشعر بارد:

ثم قال وأرسله مثلا سائرا وأحسن ما شاء:

ثم قال وتعسف وتكلف:

تقديره الطيب أنت طيبه إذا أصابك والماء أنت غاسله إذا اغتسلت به، وإذا صح لنا أن نقول الطيب أنت طيبه لأنك أطيب منه ريحا فلا يصح لنا أن نقول أنت تغسل الماء لأنك أنظف منه فإن ذلك غير مستملح، وإنما ألم فيه بقول القائل:

وعلى ذكر قول المتنبي (وإذا أتتك مذمتي) إلخ نقول إن ما يحكى من أن أبا العلاء المعري كان يوما في مجلس الشريف المرتضى فجرى ذكر المتنبي فهضم الشريف من جانبه فقال المعري لو لم يكن له من الشعر إلا قوله- لك يا منازل في القلوب منازل- لكفاه فغضب المرتضى وأمر بإخراجه وقال أتدرون ما عنى إنه عنى قوله- وإذا أتتك مذمتي البيت- الظاهر أنه غير صحيح (أولا) لأن الشريف المرتضى بعلمه ومعرفته وإنصافه لم يكن ليهضم المتنبي حقه (ثانيا) إن أبا العلاء أعرف بجلالة قدر المرتضى وعلو مكانه من أن يواجهه بهذا الكلام وهو القائل فيه من قصيدة يرثي بها والده:

فالظاهر أن القصة موضوعة- وفي الصبح المنبي عن صاحب الحدائق أن الفتح بن خاقان ذكر ابن الصائغ في كتابه قلائد العقيان فذمه وقال فيه (رمد عين الدين وكمد نفوس المهتدين، لا يتطهر من جنابة ولا يظهر مخائل إنابة) فمر عليه ابن الصائغ وهو جالس في جماعة فسلم على القوم وضرب على كتف الفتح وقال إنها شهادة يا فتح ومضى فلم يدر أحد ما قال إلا الفتح فتغير لونه فسئل عن ذلك فقال إنه أشار إلى قول المتنبي وإذا أتتك إلخ جوابا عما وصفته به في قلائد العقيان- ومما يشبه هذا ما في الصبح المنبي قيل أنه دخل على سيف الدولة بعض الشعراء فقال أيها الأمير بماذا تفضل علي ابن عيدان السقا قال بحسن شعره قال اختر أي قصيدة له وحتى أعارضها بأحسن منها فقال عليك بقصيدته التي أولها:

فلم يرها من مختاراتها وعلم أنه أشار إلى قوله فيها (إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق) البيت فامتنع عن معارضتها.

وقال ابن بسام في الذخيرة إن أبا عبد الله ابن شرف قال يوما للمأمون بن ذي النون أيام خدمته إياه وقد أجروا ذكر أبي الطيب فذهبوا في وصفه كل مذهب إن رأى المأمون أن يشير إلى أي قصيدة شاء من شعر أبي الطيب حتى أعارضها بقصيدة تنسي اسمه وتعفي رسمه فتثاقل ابن ذي النون عن جوابه وألح أبو عبد الله حتى أحرج ابن ذي النون فقال له دونك قوله (لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي) وسئل ابن ذي النون أي شيء أقصده إلى تلك القصيدة فقال لأن أبا الطيب يقول فيها: إذا شاء أن يلهو إلخ.

وقال أبو الطيب من قصيدة كهذه التي تقدمت جمع فيها بين الغث والسمين:

وهذه الأبيات الثلاثة لو صحت معانيها لكان في سقم تراكيبها كفاية ثم قال:

والحشيان بالحاء المهملة من أخذه البهر وهو من الغريب الوحشي الذي لا يأنس به السمع ولا يقبله القلب وبعضهم يرويه خشيان بالخاء وهو لا يزيده حسنا ثم قال وأجاد:

ثم أراد أن يزيد على الشعراء في وصف المطايا فأتى كما قاله الصاحب بأخزى الخزايا فقال:

قال الصاحب ومن الناس أمه فهل ينشط لركوبها والممدوح لعل له عصبة لا يريد أن يركبوا إليه فهل في الأرض أفحش وأوضع من هذا قال الثعالبي ثم أراد أن يستدرك هذه الطامة بقوله:

ثم قال فأجاد به أولية الممدوح:

ثم قال:

قال الصاحب الزنجي لا يوجد إلا جعاد الشعر فكيف ينقلبون عن الجعودة إلى الجعودة وقد احتج عنه أصحاب المعاني بما يطول ذكره. والعجب كل العجب من خاطر يقدح بمثل قوله في قصيدة:

ثم يتصور هذا الكلام الغث الرث فيتبعه به حيث يقول:

ولو قاله بعض صبيان المكاتب لاستحيا منه وهذه الأبيات من قصيدة قالها في سيف الدولة وهو بميافارقين وقد ضربت له خيمة كبيرة وأشاع الناس أن مقامه يتصل أياما فهبت ريح شديدة فسقطت الخيمة وتكلم الناس عند سقوطها فقال أبو الطيب:

وقوله (فما فص خاتمه يذبل) اختلف المفسرون فيه فقيل الضمير في خاتمه راجع إلى سيف الدولة: أي لا يبلغ يذبل مع عظمه فص خاتمه وقيل راجع إلى اللائم أي كما أن فص خاتم هذا اللائم لا يمكن أن يوازي يذبلا فكذلك لا يمكن أن تعلو الخيمة من تحته زحل ولا ينبغي للشعر أن يكون بعيدا عن درك الأفهام معناه بحيث تختلف في تفسيره الأقوال، وربما كانت كلها خلاف ما أراده الشاعر. ومن جمعه بين الغث والسمين قوله:

فالبيت الثاني من جيد الشعر والبيت الأول معقد اللفظ خفي المعنى مرذولهما وتغذيتي مبتدأ خبره بحب والشيب معطوف على حب وفسر ذلك بالشطر الثاني.

3- استكراه اللفظ وتعقيد المعنى

بتقديم ما حقه التأخر وبالعكس أو بحذف ما يخل حذفه بالمعنى أو نحو ذلك مما يوجب التعقيد وهو في الشعر من أقبح العيوب. في اليتيمة: هو أحد مراكبة الخشنة التي يتسنمها ويأخذ عليها في الطرق الوعرة، فيضل ويضل ويتعب ويتعب، ولا ينجح، إذ يقول في وصف الناقة:

الإسآد إسراع السير والني الشحم والإنضاء مصدر أنضاه أي هزله وتقديره، فتبيت تسئد حال كون الإنضاء يسئد في نيها فيذيبه كإسادها في المهمه وقوله مادحا شجاع ابن محمد الطائي:

تقديره أنى يكون آدم أبا البرايا وأبوك محمد والثقلان أنت وقال من نسيب قصيدة:

حبيبيتا منادى حذف منه حرف النداء وأبدلت ياء المتكلم فيه ألفا وزاده تصغيره بشاعة وقلبي بدل من حبيبيتا وفؤادي بدل من قلبي منادى بعد منادى وهيا حرف نداء كما تقول أخي سيدي مولاي وأشباه هذه الأبيات كثيرة في شعره كقوله:

أود بفتح الهمزة وضم الواو أو كسرها جمع ود بضم الواو بمعنى ودود كقفل وأقفل أي لساني وعيني إلخ هي أو داء التي تسمى بهذه الأسماء منك وهي شطر منك أي أوداء لسانك وعينك وفؤادك وهمتك فانظر إلى هذا البيت كيف جمع سخافة المعنى وسوء التركيب.

وقوله:

وقوله:

واللذ لغة في الذي أي لو لم تكن من هذا الورى الذي هو منك لأنه لولاك لم يكن شيئا مذكورا لكانت حواء كأنها عقيم، في اليتيمة هو مما اعتل لفظه ولم يصح معناه، فإذا قرع السمع لم يصل إلى القلب إلا بعد إتعاب الفكر ثم إن ظفر به بعد العناء والمشقة فقلما يحصل على طائل واعتلال لفظه بتخفيف الذي والإيتان بذا بدل هذا- وهو كثير في شعره كما ستعرف- وإسكان واو هو وغير ذلك. قال الصاحب وأنا أقول ليت حواء عقمت ولم تأت بمثله بل ليت آدم اجفر ولم يكن من نسله وما أظرف قول الشاعر:

وقوله:

لا ناهية أي لا تكافني بعدها نساء شبيهة ببقر الوحش عن ضناي ووجدي بأن أسلوبها عنها فإنها إن تفعل تكافئ دمعا مسكوبا بمثله.

4- التعسف في اللغة والإعراب

وهو مما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان قد يحتج له ويعتذر عنه فلا يرفع ذلك استكراهه كقوله:

ولم يحك عن العرب الجائد وإنما المحكي الجواد ومع ذلك فتركيب البيت ركيك بارد، وقوله:

فتشديد نون لدن غير معروف في لغة العرب قال ابن جني لدنه فيه قبح وبشاعة إذ لم يكن بعد النون نون، وبعد هذا البيت قوله:

قال الصاحب: ومن بدائهه الظريفة عند متعلقي حبله وفواتحه البديعة عند ساكني ظله قوله:

فلا أدري استهلال الأبيات أحسن أم المعنى أبدع أم قوله تزنج أفصح، قال الثعالبي والمعروف عن العرب الأترج والترنج مما يغلط فيه العامة. وقوله:

فنصب تميس بأن المحذوفة وهو ضعيف عن أكثر النحويين وفي هذه القصيدة أبيات لا تعاب لا بأس بالإشارة إليها هنا قال الصاحب ومن تصريفه الحسن وضعه التقييس موضع القياس في قوله:

ويليه بيت إن لم يستح أصحابه منه سلمناه لهم وهو:

وليس بالحلو قوله:

"أه" وقوله:

فجمع ركبات ثم أعاد عليها ضمير المثنى فقال تقعان وهو ضعيف وغير سديد في صنعة الإعراب وقوله:

قال الصاحب ومن شعره الذي يدخل في العزائم ويكتب في الطلسمات قوله:

واحسب أنه بهذا البيت أشد سرورا من أم الواحد بواحدها وقد آب بعد فقد أو بشرت به عقب ثكل "أه" وجعله الثعالبي من التعسف في اللغة والإعراب فإنه وصل الضمير بإلا وحقه الفصل كما قال تعالى (ضل من تدعون إلا إياه) وإن ورد شاذا في كلام العرب كقوله:

وقوله: (لأنت أسود في عيني من الظلم) فإن أفعل التفضيل لا يضاع مما اسم فاعله على أفعل كأسود وأحمر وأعرج وإنما يقال أشد سوادا وحمرة وعرجا وقوله: (جللا كما بي فليك التبريح) وحذف النون من يكن إذا استقبلها الألف واللام خطأ عند النحويين لأنها تتحرك إلى الكسرة وإنما تحذف تخفيفا إذا سكنت وقوله (امط عنك تشبيهي بما وكأنه) والتشبيه بما محال وقوله:

قال الصاحب قلب هذه اللام إلى النون أبغض من وجه المنون ولا أحسب جبريل عليه السلام يرضى منه بهذا المجاز "أه" هذا على ما في معنى البيت من الفساد والقبح وسوء الأدب مع جبريل عليه السلام،. وقوله:

بنصب الرياض وخفض السحائب أي سقي السحائب الرياض وفيه الفصل بين المضاف إليه: قال الصاحب: ومن مجازاته التي خلقها خلقا متفاوتا تخفيفه الغاش وهذا مالا أعلم سامعا باسم الأدب يسوغه أو يسمح فيه فيجوزه وذلك في قوله:

5- الخروج عن الوزن

كقوله:

قال الصاحب في هذه القصيدة سقطة عظيمة لا يفطن لها إلا من جمع في علم وزن الشعر بين العروض والذوق وهو من هذا البيت وذاك أن سبيل عروض الطويل أن تقع مفاعلن وليس يجوز أن تأتي مفاعلين إلا إذا كان البيت مصرعا اللهم إلا أن يضعه عروضي لتمام الدائرة ذكرها.

ونحن نحاكمه إلى كل شعر للقدماء والمحدثين على بحر الطويل فما نجد له على خطاه مساعدا "أه" وقال الثعالبي لأنه لم يجئ عن العرب مفاعلين في عروض الطويل غير مصرع وإنما جاء مفاعلن وقال الصاحب عن مطلع القصيدة ومن معانيه التي تنبئ عن هوسه وعشقه لنفسه قوله:

وقال القاضي أبو الحسن الجرجاني وقد عيب عليه أيضا بقوله:

لأنه أخرج الرمل على فاعلاتن وأجرى جميع القصيدة على ذلك في الأبيات غير المصرعة وإنما جاء الشعر على فاعلن وإن كان أصله في الدائرة فاعلاتن.

6- استعمال الغريب والوحشي

مع أنه من المحدثين ونسج على منوالهم بل ربما انحط عنهم بالركاكة ومع ذلك يستعمل الغريب الوحشى والشاذ البدوي بل ربما زاد في ذلك على إقحاح المتقدمين فحصل كلامه بين طرفي نقيض كقوله:

والإبتشاك الكذب قال الثعالبي ولم أسمع فيه شعرا قديما ولا محدثا سوى هذا البيت

وقوله في وصف الغيث:

الساحي القاشر ومنه سميت المسحاة لأنها تقشر وجه الأرض والحفش مصدر حفش السيل حفشا إذا جمع الماء من كل جانب إلى مستنقع. وقوله في وصف السيف:

قدى بمعنى مقدار يقال بينهما قيد رمح وقاد رمح وقدى رمح،وقوله:

أمعاهد الأحباب إن الأدمعا=تطس الخدود كما يطسن اليرمعا

(تطس) تدق (واليرمع)الحجارة البيض الرخوة.

وقوله:

(اليلل) إقبال الأسنان وإنعطافها على باطن الفم قال الثعالبي ولم أسمعه في شعره غيره. وقوله:(الشمس تشرق والسحاب كنهورا)الكنهور القطعة العظيمة من السحاب. وقوله:(وقد غمرت نوالا أيها النال) النال المعطي. وقوله:(اسائلها عن المتديريها)أي المتخذيها دارا قال الصاحب لفظة المتديريها لو وقعت في بحر صاف لكدرته ولو ألقي ثقلها على جبل سام لهذه وليست للمقت فيها نهاية ولا للبرد معها غاية. قال الصاحب وأطم ما يتعاطاه التفاصح بالألفاظ النافرة والكلمات الشاذة حتى كأنه وليد خباء أو غذي لبن لم يطأ الحضر ولم يعرف المدر فمن ذلك قوله:

ولا أدري كيف عشق التوراب حتى جعله عوذة شعره "اه" قال الثعالبي وليس ذلك سائغا لمثله وهو وليد قرية ومعلم صبية "اه"(والتوراب) لغة في التراب. ومن الجموع الغريبة التي يوردها قوله في جمع الأرض:

وقوله في جمع اللغة(عليم بأسرار الديانات واللغة) وفي جمع الدنيا(أعز مكان في الدنى سرج سابح)وقوله فيجمع الأخ:

قال الصاحب ومن لغاته الشاذة وكلماته النادة ما في هذا البيت ولو وقع الإخفاء في رائية الشماخ لاستثقل فكيف مع أبيات منها:

والكلام إذا لم يتناسب زيفته جهابذته وبهرجته نقاده "أه".

7- الركاكة بألفاظ العامة والسوقة ومعانيهم

كقوله:

قال الصاحب: ومما انتصف فيه عند نفسه فكان الباحث لمديته والكاشف لعورته هذا البيت. وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

إلى آخر القصيدة وجلها على هذا المنوال وقوله: "لفظ يريك الدر مخشلبا" ولو عد مخشلبا من الغريب الوحشي لجاز. وقوله:

قال الصاحب حينئذ هنا أنفر من غير منفلت. قال ومن ركيك صنعته في وصف شعره والزراية على غيره قوله:

قال الصاحب وههنا بيت ترضى باتباعه فيه (أي نرضى بحكم اتباع المتنبي فيه) وما ظنك بمحكم مناوئيه ثقة بظهور حقه وإبراء زنده وإن لم يكن التحكيم بعد أبي موسى من مقتضى الحزم وموجب العزم وهو:

وإن كنا حكمناهم فما يبعدهم من أن يفضلوا هذا على قول أبي عبادة:

نعم وتقدمه على قوله:

وقوله:

وقوله:

قال الصاحب إذا جمع السكر إلى البرني والآزاذ ثم الأمر "أه" والبرني والآزاذ نوعان من التمر. قال القاضي ومن أمثاله العامية قوله:

8- إبعاد الإستعارة والخروج بها عن حدها

كقوله في رثاء أخت سيف الدولة:

أي إن مفرقها مسرة في قلوب الطيب لوجود الطيب فيه وحسرة في قلوب البيض واليلب لعدم وجودهما على مفرقها لأن النساء لا تلبس بيضة الحرب وقوله:

وقوله:

وقوله:

فجعل للطيب والبيض واليلب قلوبا وللسحاب حمى وللزمان فؤادا وللكبد شيبا وهذه استعارات لم تجر على شبه قريب ولا بعيد وإنما تصح الاستعارة وتحسن على وجه من الوجوه المناسبة وطرق من الشبه والمقاربة قال الصاحب:

وعهدت الأدباء وعندهم أن أبا تمام أفرط في قوله:

فعمد له خضابا ونصولا فقال ألا يشب البيت قال: ولما سمع الشعراء قبله قد أبدعوا فقالوا:

تشبه بهم فجعل للبنين حلواء فقال:

وما زلنا نتعجب من قول أبي تمام.

فخف علينا بحلواء البنين. قال ومن استرساله إلى الاستعارة التي لا يرضاها عاقل ولا يلتفت إليها فاضل قوله:

فالمحول في الخدود من البديع المردود ثم لهذا الابتداء في القصيدة من العيوب ما يضيق الصدور.

9- الاستكثار من قول ذا

قال القاضي وهي ضعيفة في صنعة الشعر دالة على التكلف وربما وافقت موضعا تليق به فاكتسبت قبولا أما في أكثر ما جاء به فهي سخافة وضعف كقوله:

وقوله:

قال الصاحب: وهؤلاء المتعصبون له يصلح عندهم أن ينقش هذا البيت على صدور الكواعب.

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله: (وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب)

وقوله:

وقوله: (يضاحك في ذا اليوم كل حبيبه) قال ولو تصفحت شعره لوجدت فيه أضعاف ما ذكرناه من هذه الإشارة وأنت لا تجد منها في عدة دواوين جاهلية حرفا والمحدثون أكثر استعانة بها لكن في الفرط والندرة أو على سبيل الغلط والفلتة.

10- الإفراط في المبالغة والخروج فيه إلى الإحالة

كقوله:

وقوله:

وقوله:

وأما قوله:

وقوله:

وقوله:

من بعد ما كان ليلي لا صباح له=كأن أول يوم الحشر آخره

فهو مما لا يستهجن في صنعة الشعر على أن كثيرا من النقدة لا يرتضون هذا الإفراط كله.

11- تكرير اللفظ في البيت الواحد من غير تحسين

كقوله:

قال الصاحب كنت أسمع رواية المعلى للخليل ابن أحمد.

واقتفاه في قوله: ومن جاهل بي- البيت. وفي رافعي رايته من يشغف بهذا البيت أشد من شغفنا بقول حبيب ابن أوس.

"أه" وقوله في هذه القصيدة.

قال الصاحب: وكان الناس يستبشعون قول مسلم.

حتى جاء هذا المبدع فقال:

فالمصيبة في الراثي أعظم منها في المرثي وقوله:

قال الصاحب فما أكثر عظام هذا البيت مع أنه قول الطائي.

قال وبلغني أنه كان إذا أنشد شعر أبي تمام قال هذا نسيج مهلهل وشعر مولد وما أعرف طيائيكم هذا وهو دائب يسرق منه ويأخذ عنه ثم يأخذ ما يسرقه في أقبح معنى كخريدة ألبست عباءة وعروس جليت في مسرح ولولا خوف تضييع الأوقات لأطلت في هذا المكان قال وما أحسن ما قال الأصمعي لمن أنشده.

لو سلط الله على هذا البيت شاة لأكلت هذا النوى كله.

وقوله:

وقوله:

وقوله:

كذا في اليتيمة ولكن علماء البلاغة عدوا ذلك في أنواع البديع.

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

قال الصاحب: ومما لم أقدره يلج سمعا أو يرد أذنا هذا البيت وقد سمعت بالتمام ولم أسمع باللألاء حتى رأيت هذا المتكلف المتعسف الذي لا يقف حيث يعرف.

12- الخطأ في جمع الأسامي في الشعر

قال الصاحب لم ننفك مستحسنين لجمع الأسامي في الشعر كقوله:

وقوله الآخر (عباد بن أسماء بن زيد بن قارب) واحتذى هذا الفاضل على مثالهم وطرقهم فقال:

وهذه من الحكمة التي ذخرها أرسطا طاليس وأفلاطن لهذا الخلف الصالح وليس على حسن الاستنباط قياس.

13- التصغير المستبشع المستثقل

كقوله: (حبيبتا قلبي) وقوله: (نام الخويلد عن لييلتنا) وقوله: (لييلتنا المنوطة بالتنادي) وغير ذلك أما قوله: (أفي كل يوم تحت ضبني شويعر) فهو جيد.

14- إساءة الأدب بالأدب

كقوله:

قال الصاحب وكان الرجل محربا فقال في وصف الحروب وما ينتج من رعب القلوب (فغدا أسيرا البيت) وبعده:

فلا أدري أكان في الحرب أم في سوق التمارين بالبصرة. وقوله:

وقوله:

وذكر الحيض والبول مما لا يحسن في مخاطبة الملوك والرؤساء ويقال إنه لما أنكر عليه حاضت غيره بذابت وأقبح موقعا من ذلك قوله يرثي أخت سيف الدولة ويعزيه عنها:

وما باله يسلم على حرم الملوك ويذكر منهن ما يذكر المتغزل في قوله:

وكان أبو بكر الخوارزمي يقول لو عزاني إنسان عن حرمة لي بمثل هذا لألحقته بها وضربت عنقه على قبرها. قال الصاحب ولقد مررت على مرثية في أم سيف الدولة تدل مع فساد الحس على سوء أدب النفس وما ظنك بمن يخاطب ملكا في أمه بقوله:

ولعل لفظة الاسبطرار في مراثي النساء من الجذلان الرقيق الصفيق المغير نعم هذه القصيدة يظن المتعصبون له أنها من شعره بمثابة (وقيل يا أرض ابلعي ماءك) من القرآن (واصدع بما تؤمر) من الفرقان وفيها يقول:

ومن سمع باسم الشعر عرف تردده في انتهاك الستر ولما أبدع في هذه المرثية واخترع قال:

وقد قال بعض من يغلو فيه هذه استعارة فقلت صدقت ولكنها استعارة حداد في عرس، قالالثعالبي ما أدري هذه الاستعارة أحسن أم وصفه وجه والدة ملك يرثيها بالجمال أم قوله في وصفه قرابتها وجواريها.

قال الصاحب ولما أحب تقريظ المتوفاة والإفصاح عن أنها من الكريمات أعمل دقائق فكره واستخرج زبد شعره فقال:

قال ولعل هذا البيت عنده وعند كثير ممن يقول بإمامته. أحسن من قول الشاعر:

وفي اليتيمة ما ظنك بمن يخاطب ملكا في أمه بقوله:

يتشوق إليها ويخطئ خطأ لم يسبق إليه وإنما يقول مثل ذلك من يرثي بعض أهله فأما استعماله إياه في هذا الموضع فدال على ضعف البصر بمواقع الكلام قال الصاحب: وكان الشعراء يصفون المآزر تنزيها لألفاظها عما يستشنع ذكره حتى تخطى هذا الشاعر المطبوع إلأى التصريح الذي لم يهتد له غيره فقال:

قال وكثير من العهر أحسن من هذا العفاف "أه".

15- إساءة الأدب فيما يرجع إلى الدين

وعنونه الثعالبي بالإفصاح عن ضعف العقيدة ورقة الدين والأولى العنوان الذي ذكرناه لأننا لا نستطيع أن نجزم بأن ما يأتي دال على ضعف عقيدة المتنبي لما ستعرف. قال الثعالبي.

على أن الديانة ليست عيارا على الشعراء ولا سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشاعر ولكن للإسلام حقه من الإجلال الذي لا يسوغ الإخلال به قولا وفعلا ونظما ونثرا ومن استهان بأمره ولم يضع ذكره وذكر ما يتعلق به في موضع استحقاقه فقد باء بغضب من الله تعالى لمقته في وقته "أه". يعني إت التدين وإن لم يرتبط بالشاعرية إلا أن الشاعر المسلم عليه أن يراعي حقوق الإسلام في شعره وإلا كان ذلك مخلا بشاعريته لأنه وضع الشيء في غير محله وأول ما يطلب من الشاعر وضع الأمور في محالها قال وكثيرا ما قرع المتنبي هذا الباب بمثل قوله:

وقوله:

وقوله:

قال الثعالبي وقد أفرط جدا لأن الذي الأفلاك فيه والدنا هو علم الله عز وجل وقوله لعضد الدولة.

وقوله في مدح طاهر العلوي.

وقوله:

وقوله:

عازر اسم الرجل الذي أحياه المسيح عليه الصلاة والسلام بإذن الله عز وجل.

الغلط بوضع الكلام في غير موضعه

كقوله:

أغار على الزجاجة وهي تجري=على شفة الأمير أبي الحسين

وهذه الغيرة إنما تكون بين المحب ومحبوبه كما قال أبو الفتح كشاجم وأحسن:

فأما الأمراء والملوك فلا معنى للغيرة على شفاهها.

وكقوله:

فجعل الأمراء يوشى بهم وإنما الوشاية السعاية ونحوها ومن شأن الممدوح أن يفضل على عدوه ويجري العدو مجرى بعض أصحابه وليس بسائغ في اللغة أن يقال وشى فلان بالسلطان إلى بعض رعيته وكقوله في وصف الحمى المعرقة.

وليس الحرام بالاغتسال منه من الحلال وكقوله في وصف مهره (وزاد في الأذن على الخرانق)- الخرانق جمع خرنق وهو ولد الأرنب وأذن الفرس يستحب فيها الدقة والانتصاب وتشبه بطرف القلم وأذن الأرنب على الضد من هذا الوصف

امتثال ألفاظ المتصرفة

واستعمال كلماتهم المعقدة ومعانيهم الخلقة

كقوله في وصففرس (سبوح لها منها عليها شواهد) هكذا ذكر الثعالبي وقال الصاحب كنت أتعجب من كلام أبي يزيد البسطامي في المعرفة وألفاظه المعقدة وكلماته المبهمة حتى سمعت قول شاعرنا في صفة فرس (سبوح لها منها عليها شواهد) "أه" ومن ذلك يعلم أن الثعالبي تبع الصاحب في هذا النقد. والحق أن هذا الوصف والتعبير لا غبار عليه سواء كان من ألفاظ المتصوفة أو المتقطنة وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

قال الصاحب: ومن شعره الذي يتباهى به بالسلاسة وخلوه من الشراسة الموجودة في طبعه بيت رقية العقرب أقرب إلى الإفهام منه وهو:

فإن قوله له فيك لو وقع في عبارات الجنيد والشبلي لتناءت عنه المتصوفة دهرا بعيدا. قال الثعالبي ومن أشد ما قاله في هذا المعنى قوله:

ومر في بعض هذا أنه غير مضر بحسن الشعر.

الخروج عن طريق الشعر إلى طريق الفلسفة

كقوله:

أي جدت إلى النهاية حتى كاد جودك أن يحول وينقلب بخلا.

وقوله:

أي الخوف من الموت قبل مفارقة الروح البدن عجز وضعف لما ذكره في البيت الأول وبعد فراق الروح الجسد ينتقل المرء إلى عالم آخر فلا يأسى على هذا الفراق وقوله:

الشجب الهلاك فهو قد تعرض لبقاء النفس وفنائها ثم قال:

وقوله:

الضمير في كلامه يرجع للخالق في البيت الذي قبله أي جاءت صفاتك خلفا لكلامه في حقك فطابقته فكان كمن رأى شيئا مكتوبا ثم سمع مضمونه وقوله:

فإن لثالث الحالين معنى=سوى معنى انتباهك والمنام

الحالان السهاد والرقاد وثالثهما الموت قال ابن جني أرجو أن لا يكون أراد بذلك أن نومة القبر لا انتباه لها "أه" والظاهر أنه أراد بذلك أنها أعظم منها وأشد لما فيها من الأهوال.

استكراه التخلص

قال القاضي الجرجاني لعلك لا تجد في شعره تخلصا مستكرها إلا قوله:

فأما قوله:

وقوله:

وقوله:

فهي وإن لم تكن مستحسنة مختارة فليست بالمستهجن الساقط (أه) هكذا نقله في اليتيمة وذكره في الصبح ولم يعزه لأحد وهو عجيب أن يكون قوله: لو استطعت ركبت الناس ليس من المستهجن الساقط- ويجعل أحبك أو يقوؤلوا جر نمل إلخ مستكرها ولا يجعل (كأنما أبو الفرج القاضي له دونها كه) وفي الصبح في قوله أحبك إلخ فهذا تخلص ليس عليه شيء من الجمال وها هنا يكون الاقتضاب أحسن من التخلص فينبغي لسالك هذا الطريق أن ينظر إلأى ما يصوغه فإن أتاه التخلص حسنا أتى به وإلأا فليدعه وكذلك قال في قصيدة:

والإضراب عن مثل هذا التخلص خير من ذكره وما ألقاه في هذه الهفوة إلا أبو نواس حيث قال:

على أن أبا نواس أخذ ذلك من قيس بن ذريح لكنه أفسده ولم يأت به كما أتى به قيس ولذلك حكاية وهو أنه لما هام بليلى وجن بها رق له الناس ورحموه فسعى ابن أبي عتيق إلى أن طلقها من زوجها وزوجها قيسا فقال قيس:

قبح المقاطع

والمقطع هو آخر القصيدة الذي يقطع عليه الكلام مع أنه هو والمطلع والمخلص أحق بالجودة من كل أبيات القصيدة كقوله بعد أبيات أحسن فيها وهي:

وختمه بقوله:

وقوله في مقطع قصيدة:

وقوله:

جوامع ما يعاب به

وبعضه داخل فيما تقدم

قال الصاحب: ومن تعقيده الذي لا يشق غباره ولا تدرك آثاره قوله:

قال وما أشك أن هذا البيت أوقع عند حملة عرشه من قول حبيب:

قال وسأله سيف الدولة عن صفة فرس يقوده إليه أو يحمله عليه فقال أبياتا منها:

ومن هذا وصفه يقاد إليه المركب من مربط التجار (كذا).

قال الصاحب ومن افتتاحه الذي يفتح طرق الكرب ويغلق أبواب القلب قوله:

ولو لم يتكلم في الشعر إلا من هو من أهله لما سمع مثل هذا قال ومن مبادئه التي تجمع استكراه الألفاظ وسقوط المعنى قوله:

قال ومن إسرافه الذي لا يصبر عنه قوله:

فإنه أخذ قول الشاعر (أصلحتني بالجواد بلأفستني) فجعل الإفساد قتلا عجرفة وتهورا. هذا ومذهب الشعراء المدح بالإحياء عند العطاء وبالإماتة عند منع الحباء ولهذا استحسن قول الشاعر:

ومن هؤلاء العوام الذين يتهالكون فيه من هذا عنده أبدع من قول البحتري:

قال ومن وسائط مقته قوله يحكي جور السلاف ويستأذن في الانصراف:

قال وكنت أقرأ كتب الألفاظ فلم أر أجمع من قوله:

قال ومن اضطرابه في ألأفاظه مع فساد أغراضه قوله:

قال وللشعراء فن في اشتقاق أسماء الممدوحين كقول علي بن العباس:

فقتل المتنبي في حبل اختنق به وقال:

محاسن شعر المتنبي

حسن المطلع

كقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

حسن التخلص

كقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

النسيبب بالأعربيات

كقوله:

زمر أكثرها. قل الثعالبي وله طريق ظريفة في وصف البدويات قد تفرد بحسنها وأجاد ما شاء فيها فمنها قوله:

قوله:

وصفها بقلة الطعم وهي محمودة في نساء العرب:

وقوله:

حسن التصرف في سائر الغزل

كقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

حسن التشبيه بغير أداته

كقوله:

بدت قمرا ومالت غصن بان=وفاحت عنبرا ورنت غزالا

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

الإبداع في سائر

التشبيهات والتمثيلات

كقوله في السفر:

وقوله:

وقوله في الحمى:

وقوله في سرعة الأوبة وتقليل اللبث:

وقوله:

وقوله:

وقوله في وصف الشعر:

التمثيل بما هو من جنس صنعته

من النحو وعلم العربية

كقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

المدح الموجه

كالثوب له وجهان كلاهما حسن

كقوله:

قال ابن جني لو لم يمدح أبو الطيب سيف الدولة إلا بهذا البيت وحده لكان قد أبقى فيه ما لا يخلقه الزمان وهذا هو المدح الموجه لأنه بنى البيت على ذكر كثرة ما استباحه من أعمار أعدائه ثم تلقاه من آخر البيت بذكر سرور الدنيا ببقائه واتصال أيامه وكقوله:

وقوله:

وقوله:

حسن التصرف

في مدح سيف الدولة بهذا اللقب

كقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

الإبداع في سائر مدائحه

كقوله:

وقوله:

فيه مدح وضرب مثل وتشبيه نادر. وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

هم المحسنون الكر في حومة الوغى=وأحسن منه كرهم في المكارم

مخاطبة الممدوح بخطاب المحبوب

مع الإحسان والإبداع

قال الثعالبي وهو مذهب له تفرد به واستكثر من سلوكه اقتدارا منه وتبحرا في الألفاظ والمعاني ورفعا لنفسه عن درجة الشعراء كقوله لكافور:

وقوله له:

وقوله لابن العميد:

وقوله لعضد الدولة:

وقوله لسيف الدولة:

استعمال ألفاظ الغزل والنسيب في وصف الحروب والجد

قال الثعالبي وهو أيضا مما لم يسبق إليه وتفرد به وأظهر في الحذق بحسن النقل وأعرب عن جودة التصرف كقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله

حسن التقسيم

كقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

حسن سياقة الأعداد

كقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

إرسال الأمثال في أنصاف الأبيات

كقوله:

إرسال المثلين

في مصراعي البيت الواحد

كقوله:

إرسال المثل والموعظة

وشكوى الدهر ونحوها

كقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

ومن العداوة ما ينالك نفعه=ومن الصداقة ما يضر ويؤلم

وقول:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

وقوله:

قوله:

وقوله:

ابتكار المعاني

في المراثي والتعازي

كقوله:

وقوله:

وقوله:

الإيجاع في الهجاء

كقوله:

وقوله:

إلى آخر ما مر من هذه القصيدة.

جوامع المحاسن

كقوله: في الجمع بين مدح سيف الدولة وقد فارقه وبين مدح كافور وقد قصده في بيت واحد:

ثم قال معرضا بسيف الدولة:

المصراع الثاني تصديق لقوله (ليحدثن لمن ودعتهم ندم):

وهذا أيضا من إجرائه الممدوح من الملوك مجرى المحبوب في كثير من شعره كما مر:

وكقوله في مدح كافور والتعريض بالقدح في سيف الدولة:

يعني أنه مستغن بشهرته عن لقب كلقب سيف الدولة:

وهذا أيضا من ذاك. وقوله من قصيدة لسيف الدولة بعدما فارق حضرته يعرض باستزادة يومه وشكر أمسه:

ومنها في التعريض بكافور:

وقوله في هز كافور والتعريض باستزادته:

وقوله أيضا في التعريض بالاستزادة:

وكقوله في وصف الفرس:

عينه إلى أذنه لأنه كامن لا يرى شيئا فهو ينظر إلى أذني فرسه فإن رآه قد توجس بهما تأهب وذلك أن أذن الفرس تقوم مقام عينيه:

وكقوله في التوديع:

وقوله في التوديع أيضا:

وكقوله في اللطف بالصديق والعنف بالعدو:

وكقوله في حسن الكناية:

وكقوله في حسن الحشو:

وقوله:

وقوله:

وكقوله في التهنئة:

ومحاسن شعره كثيرة يضيق عنها نطاق البيان وفيما ذكرناه منها كفاية.

ليس المتنبي ملحدا ولا قرمطيا

قد ذكرنا في صدر الترجمة أن الظاهر تشيع المتنبي وذكرنا هناك جميع ما يمكن أن يستدل به على تشيعه ونقلنا هناك حكاية ابن حجر القول بأنه كان ملحدا ونقلنا هناك عن الأستاذ ماسينيون الإفرنسي بعض ما يستدل به على تشيعه.

ونقول هنا إنه قد نقل بعض المحاضرين في المهرجان الذي أقيم للمتنبي بدمشق في 14 جمادى الأولى سنة 1355 عن الأستاذ ماسينيون أنه أثبت أن المتنبي كان باطنيا بتحليل بعض أشعاره وتفسير بعض رموزه وألفاظه كقوله مثلا قدس الله روحه واستعماله لفظ الفلك الدوار ووضع الشمس دون الهلال وقوله (خدد الله ورد الخدود) مما فيه إشارة إلى رموز الباطنية ومصطلحاتهم وأنه ا يستبعد أن يكون للمتنبي صلة بدعاة الإسماعيلية حتى انبرى تحت تأثير ذلك للقيام على السلطان مع بعض قبائل بني كلب ويقول ماسينيون أيضا إن مذهب القرامطة كان قد انتشر في ذلك العصر فتأثر المتنبي بكثرة تردده إلى الكوفة بعقيدة القرامطة، وأنت ترى أن كل هذه الأقاويل لا تستند إلى مستند صحيح ولا إلى دليل ظاهر يفيد الظن فضلا عن القطع أما لفظ قدس الله روحه فمن العبارات الشائعة بين المسلمين إلى اليوم ولفظة الفلك الدوار شائعةة بين جميع الأمم وجميع أهل الملل وكذلك باقي العبارات التي جعلها إشارة إلى رموز الباطنية ومصطلحاتهم لا يستفاد منها ذلك بشيء من الدلالات ولو فرض موافقتها لبعض مصطلحاتهم فالموافقة شيء والدلالة شيء آخر وأما نفي البعد عن أن يكون له صلة بدعاة الإسماعيلية وأن يكون خروجه على السلطان مع بعض قبائل بني كلب لأجل ذلك فهو بعيد غاية البعد بل مقطوع بفساده فإن الباطنية كان لهم دعاة في ذلك العصر في أكثر البلاد وكان خروجهم على السلطان بشكل مخصوص لا يشبه خروج المتنبي فقد كان فيهم الفدائية ويكون خروجهم بتدبير وترتيب وإقدام وجرأة وحزم فلذلك كانوا ينتصرون في أكثر وقائعهم كما يظهر من مراجعة كتب السير والتاريخ والمتنبي كان خروجه عاديا منبعثا عن هوس في رأسه ولم يسمع أنه عاونه أحد من الباطنية ولا انه كان في أصحابه باطني واحد ولم يكن عن تدبير ورأي فلذلك قبض عليه بسرعة وحبس وتفرق من حوله فلا يشبه خروجه خروج الباطنية بوجه من الوجوه.

أما انتشار مذهب القرامطة في ذلك العصر في الكوفة فغير صحيح لأن مخترع مذهب القرامطة وإن كان من قرية من سواد الكوفة لكن هذا المذهب لم ينتشر في الكوفة نفسها.

أما نسبة الإلحاد إليه على الإطلاق فنسبة باطلة والذين كانوا في عصره من حساده ومناوئيه لم يكن ليخفى عليهم إلحاده لو كان في عقيدته شيء من ذلك ولم يكونوا لسكتوا عنه فهم كانوا يبحثون عن معائبه اشد البحث وكانوا يعيرونه بأن أباه سقاء ويصفونه بابن عيدان السقاء وقد هجوه بأقبح الهجو ولم يقل واحد منهم في حقه كلمة واحدة تدل على الإلحاد فلو عرفوا منه الميل إلى الإلحاد لما وصموه إلا به لأنه كان كافيا في نبذه وسقوط محله على أن أشعاره شاهدة بعدم الإلحاد فهو الذي يقول:

وقو في حكمته تعالى:

ويقول:

ويقول:

إلى غير ذلك أما ما يقال أنه يشف عن رقة دينه وضعف عقيدته فالصواب أنه لا دلالة له على ذلك أي لا نستطيع أن نجزم ولا أن نظن بأن المتنبي كان معطلا أو شاكا في العقائد الحقة الإسلامية بصدور أمثال هذه الكلمات منه بعد ما صدر منه ما هو صريح في اعتقاده بالخالق وإظهاره التدين بدين الإسلام نعم في هذه الكلمات سوء أدب راجع إلى الدين قاد المتنبي إليه ما تعوده من الإفراط في المبالغة في كل أمر تناوله بشعره وقلة المبالاة بعيوب شعره فجرى له في هذه الناحية ما جرى له في سائر النواحي التي أهملها في شعره ولم يهذبه منها فعابها عليه العائبون ليس أكثر من ذلك. أما قوله:

فليس فيه إلا أن هذا النوم تنامه في الدنيا لا يكون مثله وأنت في القبر.

جمله من أخبار المتنبي

شهد المتنبي مع سيف الدولة جملة من وقائعه وحروبه وفي الصبح المنبي أنه لما اتصل بسيف الدولة حسن موقعه عنده فقربه وأجازه الجوائز السنية ومالت نفسه إليه فسلمه إلى الرواض فعلموه الفروسية والطراد والمثاقفة (وقال) حكي أنه صحب سيف الدولة في عدة غزوات إلى بلاد الروم ومنها غزوة العثاء التي لم ينج منها إلا سيف الدولة بنفسه وستة أنفار أحدهم المتنبي وأخذت عليهم الطرق الروم فجرد سيف الدولة سيفه وحمل على العسكر وفرق الصفوف وبدد الألوف. وحكى الرقي عن سيف الدولة قال كان المتنبي يسوق فرسه فاعتلقت بعمامته طاقة من الشجر المعروف بأم غيلان فكان كلما جرى الفرس يصيح الأمان يا علج قال سيف الدولة فهتفت به وقلت أيما علج هذه شجرة علقت بعمامتك فود أن الأرض غيبته فقال له ابن خالويه أيها الأمير أليس أنه ثبت معك حتى بقيت في ستة أنفار تكفيه هذه الفضيلة.

وفي الصبح المنبي: حكى أبو الفرج الببغا قال أذكر ليلة وقد استدعى سيف الدولة بدرة فشقها بسكين الدواة فمد أبو عبد الله بن خالويه طيلسانه فحثى فيه سيف الدولة صالحا ومددت ذيل دراعتي فحثا لي جانيا والمتنبي حاضر وسيف الدولة ينتظر منه أن يفعل مثل فعلنا فما فعل فغاظه ذلك فنثرها كلها على الغلمان فلما رأى المتنبي أنه قد فاتته زاحم الغلمان يلتقط معهم فغمزهم عليه سيف الدولة فداسوه فاستحيا ومضت به ليلة عظيمة وانصرف في ذلك فقال يتعاظم تلك العظمة وينزل إلى مثل هذه المنزلة لولا حماقته.

وحكى أبو الفرج أن أبا الطيب دخل مجلس ابن العميد أن أبا الطيب دخل مجلس ابن العميد وكان يستعرض سيوفا فلما نظر أبا الطيب نهض من مجلسه وأجلسه في دسته ثم قال له: اختر سيفا من هذه السيوف فاختار منها واحدا ثقيل الحلي واختار ابن العميد غيره فقال كل واحد منهما سيفي الذي اخترته أجود ثم اصطلحا على تجربتهما فقال ابن العميد فبماذا نجربهما قال أبو الطيب في الدنانير يؤتى بها فينضد بعضها على بعض ثم نضرب به فإن قدها فهو قاطع فاستدعى ابن العميد عشرين دينارا فنضدت ثم ضربها أبو الطيب فقدها وتفرقت في المجلس فقام من مجلسه المفخم يلتقط الدنانير المتبددة فقال ابن العميد ليلزم الشيخ مجلسه فإن أحد الخدام يلتقطها ويأتي بها إليك فقال بل صاحب الحاجة أولى.

وفي اليتيمة سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول كان المتنبي قاعدا تحت قول الشاعر:

وإنما أعرب عن طريقته وعادته بقوله:

قال وحضرت بحلب عنده يوما وقد أحضر مالا بين يديه من صلات سيف الدولة على حصير قد فرشه فوزن وأعيد إلى الكيس وتخللت قطعة كأصغر ما يكون بين خلال الحصير فأكب عليها بمجامعه ليستنقذها منه واشتغل عن جلسائه حتى توصل إلى إظهارها وأنشد قول قيس ابن الخطيم:

ثم استخرجها وأمر بإعادتها إلى مكانها من الكيس فقال له بعض جلسائه أما يكفيك ما في هذه الأكياس حتى أدميت أصبعك لأجل هذه القطعة فقال إنها تحضر المائدة.

وفي الصبح المنبي عن الخالديين أنهما قالا كان أبو الطيب المتنبي كثير الرواية جيد النقد ولقد حكى بعض من كان يحسده أنه كان يضع من الشعراء المحدثين وبعض البلغاء المفلقين وربما قال أنشدوني لأبي تمامكم شيئا حتى أعرف منزلته من الشعر فتذاكرنا ليلة في مجلس سيف الدولة بميافارقين وهو معنا فأنشد أحدنا لمولانا أيده الله شعرا له قد ألم فيه بمعنى لأبي تمام استحسنه مولانا أدام الله تأييده فاستجاده واستعاده فقال أبو الطيب هذا يشبه قول أبي تمام وأتى بالبيت المأخوذ منه المعنى فقلنا قد سررنا لأبي تمام إذ عرفت شعره فقال أو يجوز للأديب أن لا يعرف شعر أبي تمام وهو أستاذ كل من قال الشعر فقلنا قد قيل أنك تقول كيت وكيت فأنكر ذلك وما زال بعد ذلك إذا التقينا ينشدنا بدائع أبي تمام وكان يروي جميع شعره.

وفي الصبح المنبي حدث محمد بن الحسن الخوارزمي قال مررت بمحمد بن موسى الملقب بسيبويه ابن الموسى وهو يقول مدح الناس المتنبي على قوله:

ولو قال ما من مداراته أو مداجاته بد لكان أحسن وأجود قال واجتاز المتنبي به فوقف عليه قال أيها الشيخ أحب أن أراك قال له رعاك الله وحياك فقال بلغني أنك أنكرت علي قولي (عدوا له ما من صداقته بد) فما كان الصواب عندك فقال إن الصداقة مشتقة من الصدق في المودة ولا يسمى الصديق صديقا وهو كاذب في مودته فالصداقة إذا ضد العداوة ولا موقع لها في هذا الموضع ولو قلت ما من مداراته أو مداجاته لأصبت، هذا رجل منا- يريد نفسه- قال:

فقال المتنبي أمع هذا غيره قال نعم

فتبسم المتنبي وانصرف وكان المتنبي يذكر قول سيبويه في هذا البيت "أه" (أقول) لو قال ما من مداراته لفاتت المقابلة بين الصداقة والعداوة والتعبير بالصداقة هنا صحيح على نحو من التجوز أي من إظهار صداقته أو من صداقته ظاهرا أو نحو ذلك.

وقال ابن جني حدثني المتنبي قال حدثني فلان الهاشمي من أهل حران بمصر قال أحدثك بطريفة كتبت إلى امرأتي وهي بحران كتابا تمثلت فيه بيتك:

فأجابتني عن الكتاب وقالت ما أنت والله كما ذكرته في هذا البيت بل أنت كما قال الشاعر في هذه القصيدة:

وفي اليتيمة حكى ابن جني قال حدثني أبو علي الحسين بن أحمد الصنوبري قال خرجت من حلب أريد سيف الدولة فلما برزت من السور إذا أنا بفارس ملثم قد أهوى نحوي برمح طويل وسدده إلى صدري فكدت أطرح نفسي عن الدابة فرقا فلما قرب مني ثني السنان وحسر لثامه فإذا هو المتنبي وأنشدني:

ثم قال كيف ترى هذا القول أحسن هو فقلت له ويحك قد قتلتني يا رجل قال ابن جني فحكيت أنا هذه الحكاية بمدينة السلام لأبي الطيب فعرفها وضحك لها وذكر أبا علي من التقريظ والثناء بما يقال في مثله.

ومما يذكر من سرعة جوابه وقوة استحضاره على ما في لسان الميزان وغيره أنه حضر مجلس الوزير ابن خنزابة وفيه أبو علي الآمدي الأديب المشهور فأنشد المتنبي أبياتا جاء فيها (إنما التهنيات للأكفاء) فقال له أبو علي التهنية مصدر والمصدر لا يجمع فقال المتنبي لآخر بجنبه أمسلم هو فقال سبحان الله هذا أستاذ الجماعة أبو علي الآمدي فقال إذا صلى المسلم وتشهد أليس يقول التحيات فخجل أبو علي وقام.

وحكى السري الرفا الشاعر المشهور قال حضرت مجلس سيف الدولة بعد قتل المتنبي فجرى ذكره فأثنى عليه الأمير وذكر شعره بما غاظني فقلت أيها الأمير اقترح أي قصيدة اردت للمتنبي فإني أعارضها بما يعلم الأمير أن المتنبي قد خلف نظيره فقال عارض قصيدته التي أولها (لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي) فلما رجعت إلى منزلي تأملت القصيدة فإذا هي ليست من مختاراته ثم مر بي فيها:

فعلمت أنه أراد الأمير وخار الله لي "أه" وقد مرت هذه القصيدة عن رجل مجهول.

وقال أبو الحسين الجزار معرضا بصنعته ومشيرا إلى المتنبي:

وقال بعض المتعصبين عليه في قوله:

إنها كانت تبصق في وجهه. قال ابن جني: قرأت ديوانه عليه فلما بلغت قوله في كافور القصيدة التي أولها:

إلى قوله:

فقلت: يعز علي أن يكون هذا الشعر في مدح غير سيف الدولة! فقال: حذرناه وأنذرناه فما نفع، ألست القائل فيه:

فهو للذي أعطاني كافورا بسوء تدبيره وقلة تمييزه "أه".

مشائخ المتنبي

في روضات الجنات عن شرح ديوان المتنبي للخطيب التبريزي: أن المتنبي نشأ وتأدب بالكوفة ولما اشتد ساعده هاجر إلى العلماء فلقي من أصحاب المبرد أبا إسحاق الزجاج وابا بكر ابن السراج وأبا الحسن الأخفش، ومن أصحاب ثعلب أبا موسى الحامض وأبا عمر الزاهد وأبا نصر، ومن أصحاب أبي سعيد السكري نفطويه وابن درستويه ثم لقي أبا بكر محمد بن دريد فقرأ عليه ولزمه ولقي بعده أكابر أصحابه منهم أبو علي الفارسي وأبو القاسم عمر ابن سيف البغدادي وأبو عمران موسى "أه".

ملحق ترجمة المتنبي

بعد فراغنا منها وجدنا الدكتور طه حسين يقول إن المؤرخين لم يذكروا أمه واختلفوا في أبيه لجهالتهما وذكروا جدته (أقول: يؤيده قول من ذكه: دعي كندة كما مر) ورأينا في خزانة الأدب بعض الزيادات، ونقل ترجمته من كتاب (إيضاح المشكل لشعر المتنبي) لأبي القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني معاصر ابن جني ألفه لبهاء الدولة بن بويه يوضح ما أخطأ فيه ابن جني من شرحه. قال بدأت بذكر المتنبي ومنشئه ومغتربه وما دل عليه شعره من معتقده إلى مختتم أمره ومقدمه على الملك- نضر الله وجهه- (يعني عضد الدولة) بشيراز وانصرافه عنه إلى أن قتل بين دير قنة والنعمانية: حدثني ابن النجار ببغداد أن مولد المتنبي بالكوفة في محلة تعرف بكندة بها ثلاثة آلاف من بين رواء ونساج واختلف إلى كتاب فيه أولاد أشراف الكوفة فكان يتعلم دروس العربية شعرا ولغة وإعرابا، فنشأ في خير حاضرة وقال الشعر صبيا، ثم وقع إلى خير بادية وحصل في بيوت العرب فادعى الفضول الذي ينبز به وحبس فبقي يعتذر ويتبرأ مما وسم به في كلمته المعروفة، وهو في الجملة خبيث الاعتقاد. وكان في صغره وقع إلى واحد يكنى أبا الفضل بالكوفة من المتفلسفة فهوسه وأضله كما ضل. وأما ما يدل عليه شعره فمتلون فقوله:

مذهب السوفسطائية (أقول) هل هو إلا مثل ما ورد (الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا) وقوله:

مذهب التناسخ (أقول) لا وجه له ومر قول ابن جني وما استظهرناه نحن. وقوله:

مذهب الفضائية (القائلين إن الله هو الفضاء) ولا يمكن الجزم بذلك. وقوله في ابن العميد:

مذهب الشيعة (أي إن كان المهدي الموعود من ظهر هديه فهذا الممدوح هو المهدي وإلا فالممدوح هو الهدى كله فله المهدي (إلا هذا) وقوله:

فهذا مذهب من يقول بالنفس الناطقة ويتشعب بعضه إلى قول الحشيشية (فرقة من الباطنية كانوا يستولون بالحشيشة على حواس أتباعهم)، أقول: لا يدل كلامه على أنه يقول بالنفس الناطقة وإنما نقل القولين ببقائها وفنائها.

قال: ثم جئنا إلى حديثه وتطوافه في أطراف الشام وبلاد العرب ومقاساته للضر وحقارة ما يوصل به حتى أنه أخبرني أبو الحسن الطرائفي ببغداد وكان لقي المتنبي في حال عسره ويسره أنه قد مدح بدون العشرة والخمسة من الدراهم وأنشدني قوله مصداقا لحكايته:

(أقول) وهذا تصديق ما مر من أن الذي رفع بضبعه ونشر صيته وأعلى قدره هو سيف الدولة فصار- بعدما كان يمدح كل أحد بدون العشرة والخمسة من الدراهم- يأنف من مدح غير الملوك ومن مدح الوزير المهلبي ومن مدح الصاحب بن عباد الذي وعده بمشاطرة جميع ما يملكه فمن الذي رقاه إلى هذه المرتبة غير سيف الدولة ومن الذي عرف ابن العميد وعضد الدولة به غيره لما اشتهرت مدائحه فيه وعطاياه له فعرفه الناس بذلك. قال: وأخبرني أبو الحسن الطرائفي قال: سمعت المتنبي يقول: أول شعر قلته وابيضت أيامي بعده قولي:

فإني أعطيت بها بدمشق مائة دينار ثم اتصل بأبي العشائر ثم أهداه إلى سيف الدولة فلما سمع شعره حكم له بالفضل. وأخبرني أبو الفتح عثمان بن جني أن المتنبي أسقط من شعره الكثير وبقي ما تداوله الناس. وأخبرني الحلبي أنه قيل للمتنبي معنى بيتك هذا أخذته من قول الطائي فقال الشعر جادة وربما وقع حافر على حافر، وكان المتنبي يحفظ ديواني الطائيين ويستصحبهما في أسفاره ويجحدهما فلما قتل وقع ديوان البحتري إلى بعض من درس علي وذكر أنه رأى خط المتنبي وتصحيحه فيه.

وسمعت أنه قيل للمتنبي قولك لكافور:

ليس قول ممتدح ولا منتجع إنما هو قول مضاد فقال إن هذه القلوب كما سمعت إحداها يقول:

وأحدها يقول:

ودخل مع سيف الدولة بلاد الروم وتأصل حاله في جنبته بعد أن كان حويلة. وعن أبي الفتح وزير سيف الدولة أنه رسم له بإحصاء ما وصل به المتنبي فكان خمسة وثلاثين ألف دينار في مدة أربع سنين فلما انتهت مدته عند سيف الدولة استأذنه في المسير إلى إقطاعه (وهي ضيعة بالمعرة اسمها صفا) فأذن له وامتد باسطا عنانه إلى دمشق إلى أن قصد مصر، فألم بكافور وأقام على كره بمصر إلى أن ورد فاتك غلام الأخشيدي من الفيوم وقادوا بين يديه في مدخله إلى مصر أربعة آلاف جنيبة منعلة بالذهب فسماه أهل مصر فاتك المجنون فلقيه المتنبي في الميدان على رقبة من كافور ومدحه بالقصيدة التي أولها:

فوصله بما قيمته عشرون ألف دينار ثم مات فاتك فرثاه المتنبي وذم كافورا وانتهز المتنبي الفرصة في العيد للهرب وكان رسم السلطان أنه قبل العيد بيوم تهيأ الخلع والحملانات وأنواع المبار لجنده ورؤساء جيشه وصبيحة العيد تفرق وثاني العيد يذكر له من قبل ومن رد واستزاد فاغتنم المتنبي غفلة كافور ودفن رماحه برا وسار ليلته هذه والأيام الثلاثة التي كان كافور مشتغلا فيها بالعيد حتى وقع في تيه بني إسرائيل إلى أن جازه على الحلل والأحياء والمفاوز المجاهيل والمناهل الأواجن حتى ورد الكوفة ثم مدح بها دلير بن لشكروز (وكان أتى الكوفة لقتال الخارجي الذي نجم بها من بني كلاب وانصرف الخارجي قبل وصول دلير إليها) بقصيدته التي يقول فيها:

فحمله على فرس بمركب ذهب، وكان السبب في قصده أبا الفضل ابن العميد أن المعروف بالمطوق الشاشي كان بمصر وقت المتنبي فعمد إلى قصيدته في كافور (أغالب فيك الشوق والشوق أغلب) وجعل مكان أبا المسك أبا الفضل وحمل القصيدة إلى الفضل وزعم أنه رسول المتنبي فوصله بألفي درهم واتصل هذا الخبر بالمتنبي ببغداد فقال: رجل يعطي لحامل شعري هذا فما تكون صلته لي. وكان ابن العميد يخرج في السنة من الري خرجتين إلى أرجان يجبي بها أربع عشرة مرة ألف ألف درهم فنما حديثه إلى المتنبي بحصوله بأرجان فلما حصل المتنبي ببغداد ركب إلى المهلبي فأذن له فدخل وجلس إلى جنبه وصاعد خليفته دونه وأبو الفرج صاحب كتاب الأغاني فانشدوا هذا البيت:

فقال المتنبي هو جرابا وهذه أمكنة قتلتها علما وإنما الخطأ وقع من النقلة فأنكره أبو الفرج. قال الشيخ هذا البيت أنشده أبو الحسن الأخفش صاحب سيبويه في كتابه جراما بالميم وهو الصحيح وعليه علماء اللغة وتفرق المجلس ثم عاوده اليوم الثاني وانتظر المهلبي إنشاده فلم يفعل وإنما صده ما سمعه من تماديه في السخف واستهتاره بالهزل واستيلاء أهل الخلاعة والسخافة عليه.

وكان المتنبي مر النفس صعب الشكيمة فخرج فلما كان اليوم الثالث أغروا به ابن الحجاج حتى علق لجام دابته في صبية الكوخ وقد تكابس الناس عليه من الجوانب وابتدأ ينشد:

فصبر عليه المتنبي ساكنا ساكتا إلى أن نجزها ثم خلى عنان دابته وانصرف إلى منزله وقد تيقن استقرار أبي الفضل ابن العميد بأرجان وانتظاره له فاستعد للمسير (أقول) وبهذا ظهر سر عدم مدحه للمهلبي مع أنه قصد بغداد لأجله الذي قلنا سابقا أنه غير ظاهر من كلام المؤرخين.

فلما أشرف على أرجان وجدها ضيقة البقعة فضرب بيده على صدره وقال تركت ملوك الأرض وهم يتعبدون بي وقصدت رب هذه المدرة فما يكون منه ثم أرسل غلامه إلى ابن العميد فدخل عليه وقال مولاي أبو الطيب خارج البلد وكان وقت القيلولة وهو مضطجع في دسته فثار من مضجعه واستثبته ثم أمر حاجبه باستقباله فركب واستركب من لقيه في الطريق ففصل عن البلد بجمع كثير فتلقوه وقضوا حقه فدخل على أبي الفضل فقام له من الدست قياما مستويا وطرح له كرسي عليه مخدة ديباج وقال أبو الفضل كنت مشتاقا إليك يا أبا الطيب ثم أفاض المتنبي في حديث سفره وأن غلاما له احتمل سيفا وشذ عنه وأخرج من كمه درجا فيه قصيدته (باد هواك صبرت أو لم تصبرا) فوحى أبو الفضل إلى حاجبه بقرطاس فيه مائتا دينار وسيف غشاؤه فضة وقال هذا عوض عن السيف المأخوذ وأفرد له دارا نزلها فلما استراح من تعب السفر كان يغشى أبا الفضل كل يوم ويقول ما أزورك أكبابا إلا لشهوة النظر إليك ويؤاكله وكان أبو يقرأ عليه ديوان اللغة الذي جمعه ويتعجب من حفظه وغزارة علمه فأظلهم النيروز فأرسل أبو الفضل مع بعض ندمائه إلى المتنبي أنه كان يبلغني شعرك بالشام والمغرب وما سمعته دونه فلم يحر جوابا إلى أن حضره النيروز وأنشده مهنئا ومعتذرا القصيدة التي أولها:

فأخبرني البديهي سنة 370 أن المتنبي قال بأرجان الملوك قرود يشبه بعضهم بعضا على الجودة يعطون وكان حمل إليه أبو الفضل خمسين ألف دينار سوى توابعها وهو من أجاود زمان الديلم ثم لما ودعه ورد كتاب عضد الدولة يستدعيه فقال المتنبي ما لي وللديلم فقال أبو الفضل عضد الدولة أفضل مني ويصلك بأضعاف ما وصلتك به فأجاب إن هؤلاء الملوك أقصد الواحد منهم بعد الواحد وأملكهم شيئا يبقى ببقاء النيرين ويعطونني عرضا فانيا ولي ضجرات واختيارات فيعوقونني عن مرادي فأحتاج إلى مفارقتهم على واختيارات فيعوقونني عن مرادي فأحتاج إلى مفارقتهم على أقبح الوجوه فكاتب ابن العميد عضد الدولة بهذا الحديث فأجاب بأنه مملك مراده في المقام والظعن فسار المتنبي من أرجان فلما كان على أربعة فراسخ من شيراز استقبله عضد الدولة بأبي عمر الصباغ أخي أبي محمد الأبهري صاحب كتاب حدائق الآداب فلما تلاقيا وتسايرا استنشده فقال المتنبي الناس يتناشدون فأخبره أبو عمر أنه رسم له ذلك عن المجلس العالي فبدأ بقصيدته التي فارق مصر بها:

ثم دخل البلد فأنزل دارا مفروشة وخبر أبو عمر عضد الدولة بما جرى وأنشده من كلمته قوله:

فقال عضد الدولة هو ذا يتهددنا المتنبي. ثم ركب إلى عضد الدولة فلما انتهى إلى قرب السرير قبل الأرض واستوى قائما وقال شكرت مطية حملتني إليك وأملا وقف بي عليك ثم سأله عضد الدولة عن مسيره من مصر وعن علي بن حمدان فذكره وانصرف وما أنشده فبعد أيام حضر السماط فقام وبيده درج فأجلسه عضد الدولة وأنشد (وغاني الشعب طيبا في المغاني) فلما أنشدها وفرغوا من السماط حمل إليه عضد الدولة من أنواع الطيب في الأردية الأمنان من الكافور والعنبر والمسك والعود وقاد إليه فرسه الملقب بالمجروح وكان اشترى له بخمسين ألف شاة وبدرة دراهمها عدليه ورداء حشوه ديباج رومي مفصل وعمامة قومت بخمسمائة دينار ونصلا هنديا مرصع النجاد والجفن بالذهب وبعد ذلك كان ينشده في كل حدث يحدث قصيدة إلى أن حدث يوم نثر الورد فدخل عليه والملك على سرير في قبة يحسر البصر في ملاحظتها والأتراك ينثرون الورد فقال المتنبي ما خدمت عيني قلبي كاليوم وأنشأ يقول:

فحمل على فرس بمركب وألبس خلعة ملكية وبدرة بين يديه محمولة وكان أبو جعفر وزير بهاء الدولة مأمورا بالاختلاف إليه وحفظ المنازل والمناهل من مصر إلى الكوفة وتعرفها منه فقال كنت حاضره وقام ابنه يلتمس أجرة الغسال فأحد المتنبي إليه النظر بتحديق وقال ما للصعلوك والغسال يحتاج الصعلوك إلى أن يعمل بيده ثلاثة أشياء يطبخ قدره وينعل فرسه ويغسل ثيابه ثم ملأ يده قطيعات بلغت درهمين أو ثلاثة ثم ذكر كتاب أبي الفتح ابن العميد إليه وجواب المتنبي له بالأبيات التي أولها (بكتب الأنام كتاب ورد) ثم قال فجعل أبو الفتح الأبيات سورة يدرسها ويحكم للمتنبي بالفضل على أهل زمانه فقال أبو محمد ابن أبي الثبات البغدادي:

فاستخف أبو الفتح به وجره برجله ففارقهم وهاجر إلى آذربيجان وقال عضد الدولة إن المتنبي كان جيد شعره بالغرب فأخبر المتنبي به فقال الشعر على قدر البقاع.

وكان عضد الدولة جالسا في البستان الزاهر يوم زينته وأكابر حواشيه وقوف فقال رجل ما يعوز مجلس مولانا سوى أحد الطائيين فقال عضد الدولة لو حضر المتنبي لناب عنهما.

ثم ذكر مفارقته عضد الدولة إلى أن نزل الجسر بالأهواز ثم حكى عن أبي الحسن السوسي قال كنت أتولى الأهواز من قبل المهلبي وورد علينا المتنبي ونزل عن فرسه ومقوده بيده وفتح عيابه وصناديقه لبلل مسها في الطريق وصارت الأرض كأنها مطارف منشورة فحضرته أنا وقلت قد أقمت للشيخ نزلا فقال المتنبي إن كان تم فآتيه ثم جاءه فاتك الأسدي وقال قدم الشيخ هذه الديار وشرفها بسفره والطريق بينه وبين دير قنة خشن قد احتوشته الصعالكة وبنو أسد يسيرون في خدمته إلى أن يقطع هذه المسافة ويبر كل واحد منهم بثوب بياض فقال المتنبي ما أبقى الله بيدي هذا الأدهم وذباب الجراز الذي أنا متقلده فإني لا أفكر في مخلوق فقام فاتك ونفض ثوبه وجمع من رتوت الأعاريب الذين يشربون دماء الحجيج حسوا سبعين رجلا ورصد له فلما توسط المتنبي الطريق خرجوا عليه فقتلوا كل من كان في صحبته وحمل فاتك على المتنبي وطعنه في يساره ونكسه عن فرسه وكان ابنه أفلت إلا أنه رجع يطلب دفاتر أبيه فلحقه أحدهم وحز رأسه وصبوا أمواله يتقاسمونها بطرطورة.

(أقول) هذه الرواية تخالف ما سبق في كون فاتك جاءه وعرض الخفارة عليه ولعل ما سبق هو الصواب فإن فاتكا لم يكن ليجيئه وهو يعلم أنه عدوه وهاجي قرابته. قال وقال بعض من شاهده إنه لم تكن فيه فروسية وإنما كان سيف الدولة سلمه إلى الرواض بحلب فاستجرأ على الركض والحضر فأما استعمال السلاح فلم يكن من عمله ثم قال وجملة القول فيه أنه من حفاظ اللغة ورواة الشعر وأما الحكم عليه وعلى شعره فهو سريع الهجوم على المعاني، ونعت الخيل والحرب من خصائصه، وما كان يراد طبعه في شيء مما يسمح به يقبل الساقط الرديء كما يقبل النادر البديع وفي متن شعره وهي وفي ألفاظه تعقيد وتعويض "أه" ملخص ما نقل في الخزانة عن الإيضاح.

  • دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 2- ص: 513

أبو الطيب المتنبي أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد أبو الطيب الجعفي الكوفي المتنبي الشاعر، ولد سنة ثلاث وثلاث مائة وأكثر المقام بالبادية لاكتساب اللغة ونظر في فنون الأخبار وأيام الناس والأدب وقال الشعر من صغره حتى بلغ الغاية وفاق أهل عصره ولم يأت بعده مثله ومدح الملوك وسار شعره في الدنيا. قال ضياء الدين ابن الأثير: سافرت إلى مصر ورأيت الناس يشتغلون بشعر المتنبي فسألت القاضي الفاضل فقال: إن أبا الطيب ينطق عن خواطر الناس. وكان قد خرج إلى كلب فادعى فيهم أنه علوي ثم ادعى النبوة إلى أن أشهد عليه بالكذب بالدعوتين وحبس دهرا وأشرف على القتل ثم استنابوه وأطلقوه ثم إنه تنبأ في بادية السماوة فخرج إليه لؤلؤ أمير حمص من قبل الإخشيد فأسره بعد أن شرد من معه ثم حبسه دهرا فاعتل وكاد يتلف ثم استتيب بمكتوب، وقيل إنه قال: أنا أول من تنبأ بالشعر، ثم التحق بالأمير سيف الدولة ابن حمدان وحظي عنده ثم فارقه ودخل مصر سنة ست وأربعين وثلاث مائة ومدح كافورا الإخشيدي وكان يقف بين يديه وفي رجليه خفان وفي وسطه سيف ومنطقة ثم يركب بحاجبين من مماليكه وهما بالسيوف والمناطق ولما لم يرضه هجاه وفارقه ليلة عيد النحر سنة خمسين وثلاث مائة ووجه كافور الإخشيدي خلفه رواحل إلى جهات شتى فلم يلحق. وكان كافور وعده بولاية بعض أعماله فلما رأى تعاطيه في شعره وسموه بنفسه خافه وعوتب فيه فقال: يا قوم من ادعى النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أما يدعي المملكة مع كافور فحسبكم. وكان لسيف الدولة مجلس يحضره العلماء في ليلة النحر فيتكلمون بحضرته فوقع بين المتنبي وبين ابن خالويه كلام فوثب ابن خالويه على المتنبي فضربه في وجهه بمفتاح فشجه وخرج ودمه يسيل وغضب وخرج إلى مصر. ولما فارق مصر قصد بلاد فارس ومدح عضد الدولة ابن بويه فأجزل جائزته. ورجع من عنده قاصدا بغداذ ثم إلى الكوفة في شعبان لثمان خلون منه فعرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في عدة من أصحابه وكان مع المتنبي جماعة أيضا فقتل المتنبي وابنه محسد وغلامه مفلح بالقرب من النعمانية بمكان يقال له الصافية وقيل عند دير العاقول. ذكر ابن رشيق في العمدة: لما فر أبو الطيب حين رأى الغلبة قال له غلامه: لا يتحدث الناس عنك بالفرار أبدا وأنت القائل:

فكر راجعا وقتل سنة أربع وخمسين وثلاث مائة لست بقين من شهر رمضان وقيل غير ذلك من شهر رمضان، ويقال إن أبا علي الفارسي قال له يوما: كم لنا من الجموع على وزن فعلى؟ فقال المتنبي في الحال: حجلى وظربى، فقال أبو علي: فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال علي أنا أجد لهذين الجمعين ثالثا فلم أجد، وحسبك من يقول أبو علي في حقه هذه المقالة، وحجلى جمع حجل وهو الطائر المعروف وظربى جمع ظربان على وزن قطران وهي دويبة منتنة الرائحة. وكان الشيخ تاج الدين الكندي يروي له بيتين لا يوجدان بديوانه وهما:
والصحيح أنهما لأبي الفرج صاحب الأغاني. ولما كان بمصر كان له صديق يغشاه في علته فلما أبل انقطع عنه فكتب إليه: وصلتني وصلك الله معتلا وقطعتني مبلا فإن رأيت أن لا تحبب العلة إلي ولا تكدر الصحة علي فعلت إن شاء الله تعالى. وقال النامي الشاعر: كان قد بقي من الشعر زاوية دخلها المتنبي وكنت أشتهي أن أكون قد سبقته إلى معنيين قالهما ما سبق إليهما، أحدهما:
والآخر قوله:
وقال علي بن ظافر في الذيل على بدايع البدائه: حكى أبو الحسين المؤدب قال: كنت ببغداذ في داري أنسخ شيئا فدخل أبو الطيب رحمه الله تعالى فقلت: يا أبا الطيب إن في شعرك كل مليح إلا أنك تذكر مصراعا في معنى فخرج في المصراع الآخر إلى غيره، فقال لي: أين؟ قلت: في قولك:
#لهوى القلوب سريرة لا تعلم وانتظرنا أن يتم المصراع الآخر كشف السريرة فقلت:
#عرضا نظرت وخلت أني أسلم ما في هذا معنى يطابق المصراع الأول، فخجل من ذلك وتمشى في الدار وأنا أنسخ ثم عاد إلي وقال: اكتب:
ويقال إن أباه كان سقاء بالكوفة وإلى هذا أشار القائل فيه:
ولابن حجاج فيه أهاج كثيرة وقصائد مطولة في ديوانه منها قوله:
وله قوله:
وقوله:
منها:
ومما قاله من الحماسة في صورة الغزل قوله:
عد ابن وكيع وغيره سرقاته هذا المعنى من أماكن منها قول منصور النمري:
وقول مهلهل:
وقول ابن المعتز:
وقول آخر:
وقول أبي تمام:
قلت: هذا جملة ما رأيتهم عدوه في الموطن وفي ترجمة علي بن عبد الله الناشئ الأكبر شيء يتعلق بهذا المعنى يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، وقد أخذ المعنى الشريف الرضي فقال:
وقال الأرجاني:
وهذا من قول ابن المعتز:
وقال ابن الساعاتي:
وقال أيضا:
وقال ابن عبدون:
وقال القاضي الفاضل:
وقال ديك الجن:
حدث أبو منصرور ابن الجواليقي عن أبي زكرياء التبريزي عن أبي الجوائز الواسطي عن المخلدي الأديب أن المتنبي كان بواسط جالسا وعنده ولده المحسد قائما وجماعة يقرأون عليه فورد إليه بعض الناس فقال له: أريد أن تجيز لنا هذا البيت:
فرفع رأسه وقلا: يا محسد قد جاءك بالشمال فأته باليمين، فقال:
قال أبو الجوائز: معنى قول المتنبي لولده: جاءك بالشمال فأته باليمين، أن اليسرى لا يتم بها عمل وباليمين تتم الأعمال وأراد أن المعنى يحتمل زيادة فأوردها وقد ألطف المتنبي في الإشارة وأحسن ولده في الأخذ انتهى، قلت: كذا نقلت ذلك من خط الإمام شهاب الدين ياقوت في كتابه معجم الشعراء يقول عن أعين اللوام باللام والواو والتستير هنا إنما يكون عن الوشاة لأنه قال في الأول يطلب سترا وليس للوام هنا مدخل وأظنه قال عن أعين النوام وهذا الأليق بهذا الموطن ولم يقل- والله أعلم- النمام لأنه قال أعين اللوام والأنسب أن يقال عن مقلة النمام أو عن نظرة النمام وهو الأحسن. ورثاه الإمام أبو الفتح ابن جني النحوي بقصيدة وهي:
ورثاه أبو القاسم المظفر بن علي الطبسي بقوله:
ورثاه جماعة منهم محمد بن عبد الله بن محمد الكاتب النصيبي بقصيدة ذالية مكسورة وقد تقدم ذكره، ومنهم ثابت بن هارون الرقي النصراني بقصيدة دالية مرفوعة مذكورة في ترجمته، ومنهم أبو القاسم يوسف بن أحمد متويه. والناس مختلفون في شعره فمنهم من يرجحه على أبي تمام الطائي ومنهم من يرجح أبا تمام عليه والأذكياء والغالب مع المتنبي، أخبرني الشيخ الإمام فتح الدين ابن سيد الناس قال؛ قلت للشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد: يا سيدي الشيخ شهاب الدين ابن النحاس يرجح أبا تمام على المتنبي أيش عندك في ذا؟ فسكت وكان قليل الكلام فأعدت عليه القول فقال: كذا يا فقيه. وقال القاضي شمس الدين أحمد بن خلكان رحمه الله تعالى: قال لي أحد المشايخ الذين أخذت عنهم: وقفت له على أكثر من أربعين شرحا- يعني لديوانه- ما بين مطولات ومختصرات ولم يفعل هذا بديوان غيره وعد ذلك من سعادته، انتهى. قلت: والذي علمته من الشروح: ابن جني شرحان. والواحدي. أبو العلاء المعري. الجرجاني. ابن الدهان في سرقاته. رسالة لابن عباد. الحاتمي. ابن الأنباري وهو جيد. التوحيدي وهو جيد وفيه خطأ عليه وعلى ابن جني. التبريزي. ابن عصفور. أبو البقاء. المستوفي الإربلي. الإمام فخر الدين فيما قيل. أبو علي الحسن بن عبد الله الصقلي. التجني على ابن جني لابن فورجة. والفتح على أبي الفتح يعني ابن جني لابن فورجة أيضا. فتق نور الكمام. الظاهر بن الحسين بن يحيى المخزومي. الإفليلي. حوائج حواشي تاج الدين. الانتصار المبني عن فضل المتنبي لأبي الحسن محمد بن أحمد المغربي راوية المتنبي. أبو الحسن محمد بن عبد الله الدلفي العجلي وقيل أبو الحسن علي وهو في عشر مجلدات. والشيخ شرف الدين المرسي النحوي له كلام على شعره. أبو عبد الله محمد بن علي بن إبراهيم الهراسي الخوارزمي شرح جيد. والقزاز محمد بن جعفر التميمي ما أخذ على المتنبي من لحن وغلط. وله مجلد تكلم فيه على أبيات معان من شعره. ولابن أياز النحوي كلام في إعراب أبيات مشكلة من شعره. وابن الفتى النحوي وهو سلمان بن عبد الله النهرواني. وأبو حكيم عبد الله بن إبراهيم الخبري. وأبو الحسين عبد الله بن أحمد الشاماتي الأديب. والوأواء الحلبي عبد القاهر بن عبد الله. وعبد الواحد بن محمد بن علي الأصبهاني. وأبو القاسم عبيد الله بن عبد الرحيم الأصبهاني له كتاب في أخباره. ولعثمان بن عيسى البلطي النحوي كتاب في أخباره. ولعلي بن عيسى النحوي الربعي كتاب التنبيه على خطإ ابن جني في شعر المتنبي. ولأبي حيان التوحيدي رد على ابن جني وتخطئته في شعر المتنبي. واختصر الجزولي تفسير ابن جني في شرح المتنبي. قال سبط ابن الجوزي في المرآة: مدح عضد الدولة فأعطاه ما قيمته ثلاثون وقال له: امض واحضر عيالك، وقال: قبل هذا وصله بثلاثة آلاف دينار وثلاث خلع كل خلعة سبع قطع وثلاثة أفراس كل فرس بسرج محلي ثم دس عليه من سأله فقال له: أين هذا العطاء من عطاء سيف الدولة؟ فقال: هذا أجزل إلا أنه عطاء متكلف وسيف الدولة يعطي طبعا، فغضب عضد الدولة وأذن لقوم من بني ضبة فقتلوه. وقال: قال المتنبي لكافور: ولني صيدا، فقال: كيف أوليك وفي رأسك ما فيه من كان يطيقك بعد هذا؟ وهجاه الضبي فقال:
قال سبط ابن الجوزي: وكان المتنبي قد تلا على أهل البوادي كلاما زعم أنه قرآن نزل عليه وهو والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الإنسان لفي أخطار، إمض على سننك واقف أثر من كان قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك زيغ من ألحد في دينه، وضل عن سبيله. ويقال إنه أخذ من سيف الدولة في مدة أربع سنين خمسا وثلاثين ألف دينار وكان ينشده مدحه قعدا. ويقال إنه لما ارتحل من شيراز سأله الخفراء أن يعطيهم خمسين درهما ليخفروه فلم يفعل فقتل. ويقال إنه حملت إليه صلة في يوم والناس عنده فوزنها ثم وعاها في أكياسها فدخلت قطعة صغيرة في شق الحصير فظل يخرجها بإصبعه ويقول:
ثم التفت إلى الحاضرين وقال: إنها تحضر المائدة ولا تحتقروها. قرأت بعض ديوان أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي على القاضي العلامة شهاب الدين أبي الثناء محمود وأجازني روايته عنه بحكم روايته الديوان عن الشيخين الإمامين شرف الدين الحسين بن إبراهيم بن الحسين الإربلي وتقي الدين إسماعيل بن إبراهيم أبي اليسر التنوخي بحق سماعهما من تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي على أبي محمد عبد الله سبط الخياط المقرئ عن محمد بن عبد الله بن يحيى الوكيل عن أبي الحسن عن المتنبي. وقرأت بعض الديوان أيضا على الشيخ أبي الحسن علي بن عتيق بن عبد الرحمن بن علي بن الصياد الفاسي فرواه لي عن أبي الحسين ابن أبي الربيع سليمان القرشي عن الحجاج بن محمد بن ستاري -بفتح السين المهملة والتاء ثالثة الحروف وبعد الألف راء وبعدها ياء آخر الحروف- الإشبيلي عن بهاء البغداذي عن ابن جني عن المتنبي ورواه لي بطريق أخرى.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 6- ص: 0

المتنبي شاعر الزمان، أبو الطيب، أحمد بن حسين بن حسن الجعفي الكوفي، الأديب الشهير بالمتنبي.
ولد سنة ثلاث وثلاث مائة، وأقام بالبادية يقتبس اللغة والأخبار، وكان من أذكياء عصره.
بلغ الذروة في النظم، وأربى على المتقدمين، وسار ديوانه في الآفاق، ومدح سيف الدولة ملك الشام، والخادم كافورا صاحب مصر، وعضد الدولة ملك فارس والعراق.
وكان يركب الخيل بزي العرب، وله شارة وغلمان وهيئة.
وكان أبوه سقاء بالكوفة، يعرف بعبدان.
روى عنه: أبو الحسين محمد بن أحمد المحاملي، وعلي بن أيوب القمي، وأبو عبد الله بن باكويه، وأبو القاسم بن حبيش، وكامل العزائمي، والحسن بن علي العلوي من نظمه.
قيل: إنه جلس عند كتبي، فطول المطالعة في كتاب للأصمعي، فقال صاحبه: يا هذا، أتريد أن تحفظه؟ فقال: فإن كنت قد حفظته، قال: أهبه لك، قال: فأخذ يقرؤه حتى فرغه، وكان ثلاثين ورقة.
قال التنوخي: خرج المتنبي إلى بني كلب، وأقام فيهم، وزعم أنه علوي، ثم تنبأ فافتضح، وحبس دهرا، وأشرف على القتل، ثم تاب.
وقيل: تنبأ ببادية السماوة، فأسره لؤلؤ أمير حمص بعد أن حارب.
وقد نال بالشعر مالا جليلا، يقال: وصل إليه من ابن العميد ثلاثون ألف دينار، وناله من عضد الدولة مثلها.
أخذ عند النعمانية، فقاتل، فقتل هو وولده محسد.
وفاته في رمضان سنة أربع وخمسين وثلاث مائة.
وكان يبخل.
وقد طولت أمره في ’’تاريخ الإسلام’’.
وهو القائل:

وله هكذا عدة أبيات فائقة يضرب بها المثل.
وكان معجبا بنفسه، كثير البأو والتيه، فمقت لذلك.

  • دار الحديث- القاهرة-ط 0( 2006) , ج: 12- ص: 255

أحمد بن الحسين بن الحسن الكوفي أبو الطيب الشاعر المعروف بالمتنبي ذكره أبو القاسم بن الطحان في ذيله على تاريخ الغرباء بن يونس فقال كان يتشيع قال وقيل كان ملحدا

  • دار الكتب العلمية - بيروت-ط 1( 1995) , ج: 1- ص: 31