أبو الطيب المتنبي أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الكندي، أبو الطيب المتنبي: الشاعر الحكيم، واحد مفاخرالادب العربي. له الامثال السائرة والحكم البالغة والمعاني المبتكرة. وفي علماء الادب من يعده اشعر الاسلاميين. ولد بالكوفة في محلة تسمى ’’كندة’’ واليها نسبته. ونشأ بالشام، ثم تنقل في البادية يطلب الادب وعلم العربية وايام الناس. وقال الشعر صبيا. وتنبأ في بادية السماوة (بين الكوفة والشام) فتبعه كثيرون. وقبل ان يستفحل امره خرج اليه لؤلؤ (امير حمص ونائب الاخشيد) فأسره وسجنه حتى تاب ورجع عن دعواه. ووفد على سيف الدولة ابن حمدان (صاحب حلب) سنة 337 هـ ، فمدحه وحظى عنده. ومضى إلى مصر فمدح كافور الاخشيدي وطلب منه ان يوليه، فلم يوله كافور، فغضب أبو الطيب وانصرف يهجوه. وقصد العراق، فقرئ عليه ديوانه. وزار بلاد فارس فمر بأرجان ومدح فيها ابن العميد وكانت له معه مساجلات. ورحل إلى شيراز فمدح عضد الدولة ابن بويه الديلمي وعاد يريد بغداد فالكوفة، فعرض له فاتك بن أبي جهل الاسدي في الطريق بجماعة من اصحابه ومع المتنبي جماعة ايضا، فأقتتل الفريقان فقتل أبو الطيب وابنه محسد وغلامه مفلح، بالنعمانية بالقرب من دير العاقول(في الجانب الغربي من سواد بغداد) اما ’’ديوان شعره - ط) فمشروح شروحا وافية. وقد جمع الصاحب ابن عباد لفخر الدولة ’’نخبة من امثال المتنبي وحكمه - ط) وتبارى الكتاب قديما وحديثا في الكتابة عنه، فألف الجرجاني (الوساطة بين المتنبي وخصومه - ط) والحاتمي (الرسالة الموضحة في سرقات أبي الطيب وساقط شعره - خ) والبديعي (الصبح المنبي عن حيثية المتنبي - ط) والصاحب ابن عباد (الكشف عن مساوئ شعر المتنبي - ط) والثعالبي (أبو الطيب المتنبي ما له وما عليه - ط) والمتيم الافريقي (الانتصار المنبي عن فضل المتنبي) وعبد الوهاب عزام (ذكرى أبي الطيب بعد ألف عام - ط) وشفيق جيري (المتنبي - ط) وطه حسين (مع المتنبي - ط) جزآن، ومحمد عبد المجيد (أبو الطيب المتنبي، ما له وما عليه - ط) ومحمد مهدي علام (فلسفة المتنبي من شعره - ط) ومحمد كمال حلمي (أبو الطيب المتنبي - ط) ومثله لفؤاد البستاني، ولمحمود محمد شاكر.
دار العلم للملايين - بيروت-ط 15( 2002) , ج: 1- ص: 115
أبو الطيب المتنبي اسمه أحمد بن الحسين
(تتمة)
في مشتركات الكاظمي: ومنهم أبو الطيب ولم يذكره شيخنا مشترك بين الرازي المتكلم صاحب الكتب الكثيرة أستاذ أبي محمد العلوي وكان مرجئا والصرام وكان وعيديا قال الشيخ الطوسي رأيت ابنه أبا القاسم وكان فقيها وسبطه أبا الحسن وكان من أهل العلم وبين ابن علي بن بلال أخي أبي طهر ’’اه’’.
دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 2- ص: 370
أبو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن
ابن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي المعروف بالمتنبي وقيل هو أحمد بن الحسين بن مرة بن عبد الجبار حكاه ابن خلكان وابن حجر في الميزان
ولد بالكوفة في محلة كندة وقتل سنة 354 بضيعة قرب دير العاقول قرب النعمانية آبيا من فارس إلى بغداد ودفن هناك.
نسبه
(الجعفي) بضم الجيم وسكون العين المهملة وبعدها فاء هذه النسبة إلى القبيلة وأبو القبيلة المنسوب إليه المسمى جعفي أيضا ككرسي وهو جعفي بن سعد العشيرة بن مذحج واسمه مالك بن أردد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد ابن كهلان وإنما قيل له سعد العشيرة لأنه كان يركب في ثلثمائة من ولده وولد ولده فإذا قيل له من هؤلاء قال عشيرتي مخافة العين عليهم (والكندي) قال ابن خلكان نسبة إلى محلة بالكوفة تسمى كندة نسب إليها لأنه ولد بها وليس هو من كندة التي هي قبيلة بل هو جعفي القبيلة (أه).
أبوه وأمه
في أنساب السمعاين: كان والد المتنبي جعفيا وأمه همدانية صحيحة النسب وكانت من صلحاء الناس الكوفيات: وقال كان السيد أبو الحسن محمد بن يحيى العلوي الزيدي يقول: كان المتنبي وهو صبي ينزل في جواري بالكوفة وكان أبوه يعرف بعيدان السقا يسقي لنا ولأهل المحلة (أه) (أقول) اسم أبيه الحسين وعيدان لقب لقب به وإلى كون أبيه سقاء أشار بعض الشعراء في هجو المتنبي بقوله:
أي فضل لشاعر يطلب الفضـ | ـل من الناس بكرة وعشيا |
عاش حينا في الكوفة الما | ء وحينا يبيع ماء المحيا |
فنسب إليه بيع الماء باعتبار أبيه وقال السمعاني: سئل المتنبي عن نسبه قال: أنا رجل أحفظ القبائل وأطوي البوادي وحدي ومتى انتسبت لم آمن أن يأخذني بعض العرب بمطالبة بينها وبين القبيلة التي انتسبت إليها وما دمت غير منتسب إلى أحد فأنا أسلم على جميعهم ويخافون لساني (أه).
أقوال العلماء فيه
قال بن خلكان: وهو من أهل الكوفة وقدم الشام في صباه وجال في أقطاره واشتغل بفنون الأدب ومهر فيها، وكان من المكثرين في نقل اللغة والمطلعين على غريبها وحوشيها، ولا يسأل عن شيء إلا استشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر حتى قيل إن الشيخ أبا علي الفارسي صاحب الإيضاح والتكملة قال له يوما كم لنا من المجموع على وزن فعلى (يعني بكسر الفاء وسكون العين) فقال المتنبي في الحال: حجلى وظربى، قال الشيخ أبو علي: فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهذين الجمعين ثالثا فلم أجد، وحسبك من يقول أبو علي في حقه هذه المقالة، وحجلى جمع حجل وهو الطائر الذي يسمى القبج، والظربى جمع ظربان على مثال قظران وهي دويبة منتنة الرائحة (أه).
وقال الثعالبي في اليتيمة: وهو وهو إن كان كوفي المولد فهو شامي المنشأ وبها تخرج ومنها خرج نادرة الفلك وواسطة عقد الدهر في صناعة الشعر، ثم هو شاعر سيف الدولة المنسوب إليه المشهور به، إذ هو الذي جذب بضبعه ورفع من قدره ونفق سعر شعره وألقى عليه شعاع سعادته حتى سار ذكره مسير الشمس والقمر وسافر كلامه في البدو والحضر، إلى آخر ما يأتي عند الكلام على شعره.
وفي لسان الميزان: نشأ بالكوفة وأقام بالبادية وتعانى الأدب ونظر في أيام الناس ونظم الشعر حتى بلغ الغاية إلى أن فاق أهل عصره وانقطع إلى ابن حمدان فأكثر المدح فيه، ثم دخل مصر ومدح كافورا، ثم ورد إلى العراق وجالس بها أهل الأدب وقرئ عليه ديوان شعره وسمع منه ديوانه أبو الحسين محمد بن أحمد بن القاسم المحاملي قال أبو علي التنوخي: حدثني أبو الحسن محمد بن يحيى العلوي قال: كان والد أبي الطيب يلقب عيدان بفتح المهملة وسكون التحتانية، فنشأ أبو الطيب وتصحب الأعراب وأكثر من ملازمة الوارقين فذكر بعضهم أنه رأى معه كتابا من كتب الأصمعي نحو ثلاثين ورقة فأطال النظر فيه، فقيل له:
إن كنت تريد حفظه فسيكون بعد شهر قال: فإن كنت حفظته في هذه المدة قلت فهو لك، فأخذت الدفتر من يده فسرده، ثم أسلبه فجعله في كمه، قال: وكان يخرج إلى بادية كلب، فأقام فيهم فادعى أنه علوي ثم ادعى النبوة ثم أخذ فحبس طويلا واستتيب وكان لؤلؤ أمير حمص خرج إليه فقاتله وشرد من معه من قبائل العرب وكان بعد ذلك إذا ذكر له ذلك ينكره ويجحده (أه).
سبب تلقيبه بالمتنبي
قال التعالبي في اليتيمة: يحكى أنه تنبأ في صباه وفتن شرذمة بقوة أدبه وحسن كلامه (أه) وفي الصبح المنبي عن حيثية المتنبي للشيخ يوسف البديعي المتوفى سنة 1073 عن أبي عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي ما محصله: أن أبا الطيب قدم اللاذقية سنة 320 ونيف وأظهر له دعوى النبوة فقال له: إن هذا أمر عظيم أخاف عليك منه فقال بديها:
أبا عبد الإله معاذ إني | خفي عنك في الهيجا مقامي |
ذكرت جسيم مطلبي وإني | أخاطر فيه بالمهج الجسام |
أمثلي تأخذ النكبات منه | ويجزع من ملاقاة الحمام |
ولو برز الزمان إلي شخصا | لخضب شعر مفرقه حسامي |
وما بلغت مشيئتها الليالي | ولا سارت وفي يدها زمامي |
إذا امتلأت عيون الخيل مني | فويل في التيقظ والمنام |
وأنه أخبره بأنه يوحى إليه وأن له معجزة هي حبس المطر وأنه واعده على الخروج في يوم مطير إلى الصحراء فنظر إلى نحو مائتي ذراع في مثلها ما فيه قطرة مطر فأقر بنبوته وبايعه قال:
أي محل أرتقي | أي عظيم أتقي |
وكل ما قد خلق اللـ | ـه وما لم يخلق |
محتقر في همتي | كشعرة في مفرقي |
وأخذ بيعته لأهله ثم صح عد ذلك أن البيعة عمت مدينة في الشام، وذلك بأصغر حيلة تعلمها من بعض العرب: وهي صدحة المطر يصرفه بها عن أي مكان أحب بع أن يحوي بعضا وينفث في الصدحة التي لهم، قال أبو عبد الله وقد رأيت كثيرا منهم بالسكون وحضرموت والسكاسك من اليمن يفعلون هذا ولا يتعاظمونه حتى أن من المطر وهو ضرب من السحر وسألت المتنبي بعد ذلك هل دخلت السكون قال نعم أما سمعت قولي:
ملث القطر أعطشها ربوعا | وإلا فاسقها السم النقيعا |
أمنسي السكون وحضرموتا | ووالدتي وكندة والسبيعا |
فقلت: من ثم استفاد ما جوزه على طعام أهل الشام.
قرآنه
وأنه زعم أنه أنزل عليه قرآن، وهذا بعض ما فيه:
والنجم السيار والفلك الدوار والليل والنهار إن الكافر لفي أخطار امض على سنتك واقف أثر من كان قبلك من المرسلين فإن الله قامع بك زيغ من ألحد في الدين وضل عن السبيل.
وأنه كان يزعم أن الأرض تطوى له ويمخرق بذلك على الأعراب لأنه كان قويا على السير عارفا بالبوادي "أه".
وقال ابن خلكان: إنما قيل له المتنبي لأنه ادعى النبوة في بادية السماوة وتبعه خلق كثير من بني كلب وغيرهم فخرج إليه لؤلؤ أمير حمص نائب الإخشيد فاسره وتفرق أصحابه وحبسه طويلا ثم استتابه وأطلقه، وقيل غير ذلك وهذا أصح "أه".
وذكر السمعاني في الأنساب نحوا مما ذكره ابن خلكان (أقول) إن الثعالبي لم يحقق دعواه النبوة بل اقتصر على نسبتها إلى الحكاية كما سمعت، ثم ذكر الثعالبي كما يأتي أنه هم بالخروج على السلطان ودعا قوما إلى بيعته فبلغ خبره إلى والي البلدة فحبسه وقيده ولم يقل أن ذلك من أجل دعوى النبوة بل كلامه دال على أنه من أجل إرادته الخروج على السلطان، وأما ما ذكره صاحب الصبح من أن تنبأه كان باللاذقية فينا فيه ما ذكره غيره كابن خلكان والسمعاني من أن تنبأه كان ببادية السماوة عند بني كلب، وكلاب، ثم ما حكاه من سحر المطر ومنعه عن المكان الذي يراد وأن ذلك شائع باليمن حتى من الرعاة لا يقبله عقل ولم يثبت أن السحر يغير الحقائق وإنما يغطي على الأبصار كما يرشد إليه قوله تعالى (سحروا أعين الناس). وقولع تعالى (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) وأما الأبيات التي زعم أنه أنشدها عندما خوفه العاقبة وهي قوله "أبا عبد الإله إلخ" ففي ديوانه أنه أنشدها عندما عذله على ما كان شاهده من تهوره وليس فيها إشارة إلى أن هذا التهور كان بدعوى النبوة وإلا كان اللازم ذكر ذلك كما هي العادة في دواوين الشعراء فالأرجح أنه عذبه على تهورهفي طلب الإمارة وإرادة الخروج على السلطان والأبيات نفسها تدل على ذلك ولو كان عذله على دعوى النبوة وخوفه العاقبة لكان ينبغي أن يقول له في الأبيات: إني إن قتلت في سبيل دعوى النبوة أكون شهيدا سعيدا لأن ذلك شأن من يدعي الصدق في دعوة النبوة، فلما لم يتعرض لشيء من ذلك واقتصر على ذكر شجاعته وعدم مبالاته بالموت وأن الزمان لو تهابه يقظه ونوما كما أن الشعر الذي زعم أنه أنشده عندما بايعه بالنبوة من قوله "أي محل إلخ" لا يناسب المقام لأنه ليس فيه إلا الفخر والحماسة المتناهية واحتقار كل عظيم فلا يناسب إنشاده عقيب البيعة بالنبوة بل المناسب أن يقول: سأمضي في القيام بأعباء النبوة التي بعثت بها غير مبال بالمصائب، فهذه الأبيات أيضا ترشد إلى أنه قالها معبرا عما في نفسه من الطموح إلى الإمارة والخروج على السلطان وليس في الديوان أنه قالها عندما بايعه بالنبوة ولو كان كذلك لذكر، على أن قوله إن بيعته عمت كل مدينة بالشام مستبعد في العادة بل مقطوع بكذبه فإن صح أنه ادعى النبوة فبالبادية بين الأعراب لا في المدن لا سيما أن الوجه الذي استند إليه في عمومها للمدن قد عرفت فساده ومن ذلك يتطرق الشك إلى أصل دعواه النبوة خصوصا أنه كان ينكر ذلك ويقول إنه سمي بالمتنبي لشعر قاله ففي اليتيمة حكى أبو الفتح عثمان بن جني قال سمعت أبا الطيب يقول إنما لقبت بالمتنبي لقولي:
أنا ترب الندى ورب القوافي | وسمام العدى وغيظ الحسود |
أنا في أمة تداركها اللـ | ـه غريب كصالح في ثمود |
ما مقامي بأرض نحلة إلا | كمقام المسيح بين اليهود |
ونخلة توجد في كثير من النسخ بالخاء المعجمة والظاهر أن الصواب كونها نحلة بالحاء المهملة وهي القرية التي بقرب بعلبك فإنه كان يتردد كثيرا إلى تلك البلاد فلعله أقام بها مدة وقد نزل على علي بن عسكر ببعلبك فخلع عليه وحمله ومدحه المتنبي كما في ديوانه وفي معجم البلدان نحلة قرية بينها وبين بعلبك ثلاثة أميال إياها عني أبو الطيب فيما أحسب بقوله:
ما مقامي بدار نحلة إلا | كمقام المسيح بين اليهود |
وفي الصبح المنبي قال أبو علي (يعني الفارسي) قيل للمتنبي على من تنبأت قال على الشعراء فقال لكل نبي معجزة فما معجزتك قال هذا البيت:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى | عدوا له ما من صداقته بد |
(تشيعه)
قال ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان ذكره ابن الطحان في ذيل الغرباء وقال: كان يتشيع وقيل كان ملحدا "أه" أقول المسارعة إلى نسبة الإلحاد والتكفير يجرأ عليها الكثير فباؤوا بسخطه تعالى وما في بعض أشعاره مما يشف عن قلة المبالاة بالدين لا يوجب الإلحاد واستظهر تشيعه القاضي نور الله في مجالس المؤمنين وذكره السيد يوسف ابن يحيى الحسني اليماني في كتابه نسمة السحر بذكر من تشيع وشعر وحكى فيه الحزم بتشيعه عن والده السيد يحيى فقال أخبرني القاضي العلامة أبو محمد أحمد بن ناصر ابن محمد بن عبد الحق عن والدي رحمه الله أن أبا الطيب كان يتحقق بولاء أمير المؤمنين علي عليه السلام تحققا شديدا وأن له فيه عدة قصائد سماها العلويات وإنما حذفت من أكثر نسخ ديوانه لشدة التعصبات في المذاهب فلذا ذكرته (أه).
وجزم بتشيعه الأستاذ ماسينيون المستشرق الإفرنسي مستدلا ببعض ما يأتي وهو رجل متتبع جدا.
ونحن نوافق على استظهار تشيعه ويمكن أن يستفاد تشيعه من أمور:
أنه من أهل الكوفة الذين عرفوا بالتشيع وغلب عليهم كما عرف أهل البصرة بضده وغلب عليهم قال أبو تمام:
وكوفني ديني على أن منصبي | شآم ونجري أية ذكر النجر |
وحكى الذهبي في ميزان الميل عن الاعتدال عن يحيى ابن معين أن حفص بن غياث اجتمع إليه البصريون فقالوا لا تحدثنا عن ثلاثة أشعث بن الملك وعمرو بن عبيد وجعفر ابن محمد فقال أما أشعث فهو لكم وأنا أتركه لكم وأما عمرو فأنتم أعلم به وأما جعفر فلو كنتم بالكوفة لأخذتكم النعال المطرقة (أه) وفي نسمة السحر يقوي تشيعه أنه كوفي والكوفة أحد معادن الشيعة (أه).
إن قبيلة جعفي التي ينسب إليها المتنبي وأبوه معروفة بالتشيع ففيها من رجال الشيعة جابر الجعفي من أصحاب الباقر والصادق عليهما السلام والمفضل بن عمر الجعفي من أصحاب الصادق عليه السلام وولده محمد بن المفضل ابن عمر من أصحاب الكاظم عليه السلام ونقلت جريدة القبس في عدد 1108 عن ماسينيون المستشرق الإفرنسي المقدم ذكره أنه جعل من جملة الأدلة على تشيع المتنبي إن قبيلة جعفي التي ينتسب إليها عيدان السقا والد المتنبي عرفت بصبغتها الشيعية وعدا ذلك فقد أنجبت هذه القبيلة أربعة من رؤساء الشيعة الغلاة وهم جابر ومفضل وولده محمد وعمر بن الفرات (أه) أقول عمر بن الفرات من أصحاب الرضا عليه السلام ونسب إلى الغلو لكن لم أجد من وصفه بالجعفي.
إن محلة كندة التي ولد فيها أبو الطيب هي محلة عرف أهلها بالتشيع وهذا أيضا مما جعله الأستاذ ماسينيون من أدلة تشيعه وقد عرفت في صدر الترجمة قول ابن خلكان أنه منسوب إلى المحلة لا إلى القبيلة لكن الظاهر أن تسمية تلك المحلة بكندة لسكنى قبيلة كندة بها وكندة أيضا معروفة بالتشيع ومنها حجر بن عدي الكندي الصحابي شهيد مرج عذرا وقيس بن فهدان الكندي الشاعر الشيعي المشهور وغيرهما ولا تنافقي غلبة التشيع في كندة شذوذ الأشعث ابن قيس وأولاده.
إن والدة المتنبي همدانية صحيحة النسب من صلحاء النساء الكوفيات كما مر عن السمعاني وتشيع قبيلة همدان أشهر من نار على علم حتى قال فيها أمير المؤمنين علي عليه السلام.
فلو كنت بوابا على باب جنة | لقلت لهمدان ادخلوا بسلام |
فقد رضع المتنبي التشييع مع اللبن كما قال الشاعر:
لا عذب الله أمي إنها شربت | حب الوصي وغذتنيه باللبن |
وكان لي والد يهوى أبا حسن | فصرت من ذي وذا أهوى أبا حسن |
وهذا أيضا مما جعله الأستاذ ماسينيون من أدلة تشيع المتنبي وهو ثالث الأمور التي ذكرها.
ما جاء في أشعاره فقد سمعت ما رواه صاحب نسمة السحر عن والده أن للمتنبي عدة قصائد في مدح أمير المؤمنين علي عليه السلام أسماها العلويات حذفت من ديوانه وسواء صحت هذه الرواية أم لم تصح ففيما نقل من شعره في هذا المعنى كفاية. فمنه وقد عوتب على تركه مدح أمير المؤمنين علي عليه السلام نقله أبو الفتح الكراحكي في كنز الفوائد وذكره البرقوقي في شرح ديوان المتنبي مما ساتدركه من ذيل لشرح الواحدي المطبوع في أوروبا وفي رسالة جمعها الأستاذ عبد العزيز الراجكوتي الهندي جمعها من أربع نسخ خطية. وذكره صاحب نسمة السحر قائلا إنه رأى في بعض أخباره أنه آخر شعر قاله وقد عوتب في ترك مديح أهل البيت لا سيما أمير المؤمنين علي عليه السلام قالوا جميعا إنه قال حين عوتب على ذلك وليست في ديوانه.
وتركت مدحي للوصي تعمدا | إذ كان نورا مستطيلا شاملا |
وإذا استطال الشيء قام بنفسه | وصفات ضوء الشمس تذهب باطلا |
وقوله لما كانت الشام بيد الإخشيد محمد بن طغج فسار إليها سيف الدولة فافتتحها وهزم عساكر الإخشيد في صفين أورده البرقوقي في شرح ديوان المتنبي فيما استدركه من ذيل لشرح الواحدي المطبوع في أوروبا وفي رسالة جمعها الأستاذ عبد العزيز الراجكوتي الهندي جمعها من أربع نسخ خطية وأورده صاحب نسمة السحر بذكر من تشيع وشعر فقالوا قال المتنبي وليست في ديوانه.
يا سيف الدولة ذي الجلال ومن له | خير الخلائق والأنام سمي |
أنظر إلى صفين حين أتيتها | فانجاب عنها العسكر الغربي |
فكأنه جيش ابن حرب رعته | حتى كأنك يا علي علي |
وقوله في القصيدة التي يمدح بها أبا القاسم طاهر ابن حسين بن طاهر العلوي:
فتى علمته نفسه وجدوده | قراع العوالي وابتذال الرغائب |
كذا الفاطميون الندى في أكفهم | أعز انمحاء من خطوط الرواجب |
أناس إذ لاقوا عدى فكأنما | سلاح الذي لاقوا غبار السلاهب |
نصرت عليا يا ابنه ببواتر | من الفعل لا فل لها في المضارب |
إذا علوي لم يكن مثل طاهر | فما هو إلا حجة للنواصب |
هو ابن رسول الله وابن وصيه | وشبههما شبهت بعد التجارب |
حملت إليه من لساني حديقة | سقاها الحيا سقي الرياض السحائب |
فقوله هو ابن رسول الله وابن وصيه، وقوله خير ابن لخير أب كالصريح في التشيع وباقي الأبيات عليها مسحة حب وولاء. وقوله في القصيدة التي يمدح بها محمد ابن عبيد الله العلوي المشطب التي أولها:
أهلا بدار سباك أغيدها | أبعد ما بان عنك خردها |
يقول فيها:
خير قريش أبا وأمجدها | أكثرها نائلا وأجودها |
ولا أدل على التشيع من قوله خير قريش أبا.
وفي نسمة السحر: في شعره إشارات إلى تشيعه فمنه ما قاله في قصيدة كتب بها إلى سيف الدولة وهو بفارس بحضرة عضد الدولة يجيبه عن كتاب:
فهمت الكتاب أبر الكتب | فسمعا لأمر أمير العرب |
مبارك الاسم أغر اللقب | كريم الجرشى شريف النسب |
وبركة اسمه لموافقته اسم علي عليه السلام (أه) وهو أبو الحسن علي.
وقوله كما في مجالس المؤمنين عن سيد المتألهين حيدر ابن علي الآملي أنه نسبه إليه في كتاب جامع الأنوار (وليست في ديوانه).
قيل لي قل في علي مدحا | ذكرها يطفئ نارا مؤصده |
قلت هل أمدح من في فضله | حار ذو اللب أن عبده |
والنبي المصطفى قال لنا | ليلة المعراج لما صعده |
وضع الله على ظهري يدا | فأراني القلب أن قد برده |
وعلي واضع أقدامه | في مكان وضع الله يده |
وقوله كما في مجالس المؤمنين عن الشيخ عبد الجليل الرازي في كتاب نقض الفضائح أنه نقل عنه قال في مدحه عليه السلام (وليست بديوانه):
أبا حسن لو كان حبك مدخلي | جهنم كان الفوز عندي جحيمها |
وكيف يخاف النار من كان موقنا | بأن أمير المؤمنين قسيمها |
وقال وأوردهما علي بن عيسى الإربلي في كشف الغمة بزيادة بيت في أولهما وتغيير يسير هكذا:
رضيت بأن ألقى القيامة قانصا | دماء نفوس حاربتك جسومها |
أبا حسن إن كان حبك مدخلي | جحيما فإن الفوز عندي جحيمها |
وكيف يخاف النار من بات مؤمنا | بأنك مولاه وأنت قسيمها |
وأما عدم وجود أكثر هذه الأشعار في ديوانه فغير غريب بعد ما رأيناه أنه أسقط من كشكول البهائي لما طبع جملة من الشعر الذي في أهل البيت وبعدما حرف كتاب مكارم الأخلاق عند طبعه.
(ابتداء أمره)
قال الثعالبي في اليتيمة: ذكرت الرواة أن أباه سافر به من الكوفة إلى بلاد الشام فلم يزل ينقله من باديتها إلى حضرها ومن مدرها إلى وبرها ويسلمه إلى المكاتب ويردده في القبائومخايله نواطق الحسنى عنه وضوامن النجح فيه حتى توفي أبوه وقد ترعرع أبو الطيب وشعر وبرع.
(طلبه إمارة)
قال وبلغ من كبر نفسه وبعد همته أن دعا إلى بيعته قوما من رائشي نبله على الحداثة من سنه والغضاضة من عوده وحين كاد يتم له أمر دعوته تأدى خبره إلى والي البلدة ورفع إليه ما هم به من الخروج فأمر بحبسه وتقييده "أه".
وفي الصبح المنبي لما اشتهر أمره وشاع ذكره وخرج بأرض سليمة من عمل حمص في بني عدي قبض عليه ابن علي الهاشمي في قرية يقال لها كوتكين وأمر النجار بأن يجعل في رجله وعنقه قرميتين من خشب الصفصاف فقال (وليست في ديوانه):
زعم المقيم بكوتكين بأنه | من آل هاشم بن عبد مناف |
فأجبته مذ صرت من أبنائهم | صارت قيودهم من الصفصاف |
قال ولما اعتقل كتب إلى الوالي من الحبس:
بيدي أيها الأمير الأريب | لا لشيء إلا لأني غريب |
أو لأم لها إذا ذكرتني | دم قلب بدمع عين يذوب |
إن أكن قبل أن رأيتك أخطأ | ت فإني على يديك أتوب |
عائب عابني لديك ومنه | خلفت في ذوي العيوب العيوب |
وكتب إليه من الحبس كما في اليتيمة والصبح قصيدته التي أولها:
أيا خدود الله ورد الخدود | وقد قدود الحسان القدود |
يقول فيها في مدحه:
لقد حال بالسيف دون الوعيد | وحالت عطاياه دون الوعود |
فأنجم أمواله في النحوس | وأنجم سؤاله في السعود |
ولو لم أخف غير أعدائه | عليه لبشرته بالخلود |
رمى حلبا بنواصي الخيول | وسمر يرقن دما في الصعيد |
وبيض مسافرة ما يقمـ | ـن لا في الرقاب ولا في الغمود |
فولى بأشياعه الخرشني | كشاء أحست بزأر الأسود |
يرون من الذعر صوت الرياح | صهيل الجياد وخفق البنود |
فمن كالأمير ابن بنت الأمير | أو من كآبائه والجدود |
سعوا للمعالي وهم صبية | وسادوا وجادوا وهم في المهود |
ومنها في استعطاف ذلك الأمير والتنصل مما قذف به:
أمالك رقي ومن شأنه | هبات اللجين وعتق العبيد |
دعوتك عند انقطاع الرجا | ء والموت مني كحبل الوريد |
دعوتك لما براني البلى | وأوهن رجلي ثقل الحديد |
وقد كان مشيهما في النعا | ل فقد صار مشيهما في القيود |
وكنت من الناس في محفل | فها أنا في محفل من قرود |
تعجل في وجوب الحدو | د وحدي قبل وجوب السجود |
أي أنما تجب الحدود على البالغ وأنا صبي لم تجب علي الصلاة بعد، وهذا من باب المبالغة ويوضحه البيت الذي بعده:
وقيل عدوت على العالميـ | ـن بين ولادي وبين القعود |
فما لك تسمع زور الكلا | م وقدر الشهادة قدر الشهود |
فلا تسمعن من الكاشحيـ | ـن ولا تعبأن بعجل اليهود |
وكن فارقا بين دعوى أرد | ت ودعوى فعلت بشأو بعيد |
وفي جود كفيك ماجدت لي | بنفسي ولو كنت أشقى ثمود |
قال الثعالبي: ومن شعره في الحبس ما كتب به إلى صديق له قد كان أنفذ إليه مبرة، وفي الصبح المنبي أنه سجان الوالي الممدوح بالقصيدة السابقة:
أهون بطول الثواء والتلف | والسجن والقيد يا أبا دلف |
غير اختيار قبلت برك بي | والجوع يرضي الأسود بالجيذف |
كن أيها السجن كيف شئت فقد | وطنت للموت نفس معترف |
لو كان سكناي فيك منقصة | لم يكن الدر ساكن الصدف |
(أقول) قوله "غير اختيار" البيت: يكشف عن علو نفسه وشدة أنفته المتجاوزة حد الاعتدال، فأي غضاضة عليه في قبول بر صديقه حتى يقول إنه قبله عن غير اختيار وأنه بمنزلة الجيفة: "والجوع يرضي الأسود بالجيف".
(ما كان فيه من الضيق قبل اتصاله بسيف الدولة)
وكان في أول أمره في ضنك وشدة قبل اتصاله بسيف الدولة قال الثعالبي في اليتيمة: وكان كثيرا ما يتجشم أسفارا بعيدة أبعد من آماله ويمشي في مناكب الأرض ويطوي المناهل والمراحل ولا زاد إلا من ضرب الحراب على صفحة المحراب ولا مطية إلا الخف أو النعل كما قال:
لا ناقتي تقبل الرديف ولا | بالسوط يوم الرهان أجهدها |
شراكها كورها ومشفرها | زمامها والشسوع مقودها |
وكما قال في شكوى الدهر ووصف الخف:
أظمتني الدنيا فلما جئتها | مستقيا مطرت علي مصائبا |
وحبيت من خوص الركاب بأسود | من دارس فغدوت أمشي راكبا |
وكما قال يصف قدرته على المشي:
ومهمه جبته على قدمي | تعجز عنه العرامس الذلل |
إذا صديق نكرت جانبه | لم تعيني في فراقه الحيل |
في سعة الخافقين مضطرب | وفي بلاد من أختها بدل |
وشتان ما بين حاله هذه والحال التي قال فيها:
وعرفاهم بأني من مكارمه | أقلب الطرف بين الخيل والخول |
قال: وكان قبل اتصاله بسيف الدولة يمدح القريب والغريب ويصطاد الكركي والعندليب، قال ويحكى أن علي ابن منصور الحاجب لم يعطه على قصيدته فيه إلا دينارا واحدا، فسميت الدينارية وهي التي أولها:
لمن الشموس الجانحات غواربا | اللابسات من الحرير جلاببا |
يقول فيها:
حتى متى علم ابن منصور بها | رجع الزمان إلي منها تائبا |
(أه) (وبالجملة) فقد كان قبل اتصاله بسيف الدولة في حال سيئة، وسيف الدولة هو الذي أعلى شأنه وشهر أمره وأظهر محاسن شعره.
طموح المتنبي إلى معالي الأمور والرياسة والولاية
كان هذا الطموح فيه في كل حالاته وفي جميع أدوار حياته من صغره إلى كبره بالغا إلى الغاية، فكان معجبا بنفسه ويلهج دائما في أشعاره بالحرب والقتال ولا يرى أن أحدا يشبهه في هذا الكون، ففي ديوانه أنه قيل له وهو في المكتب: ما أحسن هذه الوفرة فقال:
لا تحسن الوفرة حتى ترى | منشورة الظفرين يوم القتال |
على فتى معتقل صعدة | بعلها من كل وافي السبال |
وقال في صباه من أبيات:
نفس تصغر الدهر من كبر | لها نهى كهله في سن أمرده |
وقال أيضا في صباه من أبيات:
محبي قيامي ما لذلكم النصل | بريئا من الجرحى سليما من القتل |
أمط عنك تشبيهي بما وكأنما | فما أحد فوقي ولا أحد مثلي |
وقال أيضا في صباه:
إلى أي حين أنت في زي محرم | وحتى متى في شقوة وإلى كم |
فإلا تمت تحت السيوف مكرما | تمت وتقاسي الذل غير مكرم |
فثب واثقا بالله وثبة ماجد | يرى الموت في الهيجا جنى النحل في الذفم |
وقال أيضا في صباه من قصيدة:
مفرشي صهوة الحصان ولكن | قميصي مسرودة من حديد |
أين فضلي إذا اقنتعت من الدهـ | ـر بعيش معجل التنكيد |
عش عزيزا أو مت وأنت كريم | بين طعن القنا وخفق البنود |
لا كما قد حييت غير حميد | وإذا مت مت غير فقيد |
فاطلب العز في لظى ودع الذل | ولو كان في جنان الخلود |
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي | وبنفسي فخرت لا بجدودي |
وبهم فخر كل من نطق الضا | د وعوذ الجاني وغوث الطريد |
إن أكن معجبا فعجب عجيب | لم يجد فوق رأسه من مزيد |
وفي اليتيمة: ما زال في برد صباه إلى أن أخلق برد شبابه وتضاعفت عقود عمره يدور حب الولاية والرياسة في رأسه ويظهر ما يضمر من كامن وسواسه في الخروج على السلطان والاستظهار بالشجعان والاستيلاء على بعض الأطراف ويستكثر من التصريح بذلك في مثل قوله:
لقد تصبرت حتى لات مصطبر | فالآن أقحم حتى لات مقتحم |
لأتركن وجوه الخيل ساهمة | والحرب أقوم من ساق على قدم |
بكل منصلت ما زال منتظري | حتى أدلت به من دولة الخدم |
شيخ يري الصلوات الخمس نافلة | ويستحل دم الحجاج في الحرم |
وقوله:
سأطلب حقي بالقنا ومشائخ | كأنهم من طول ما التثموا مرد |
ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا | كثير إذا شدوا قليل إذا عدوا |
وطعن كأن الطعن لا طعن بعده | وضرب كأن النار من حره برد |
إذا شئت حفت بي على كل سابح | رجال كأن الموت في فمها شهد |
وقوله:
ولا تحسبن المجد زقا وقينة | فما المجد إلا السيف والفتكة البكر |
وتضريب أعناق الملوك وإن ترى | لك الهبوات السود والعسكر المجر |
وتركك في الدنيا دويا كأنما | تداول سمع المرء أنمله العشر |
وقوله:
وإن عمرت جعلت الحرب والدة=والسمهري أخا والمشرقي أبا
بكل أشعث يلقى مبتسما | حتى كأن له في موته إربا |
قح يكاد صهيل الخيل يقذفه | من سرجه مرحا للعز أو طربا |
فالموت أعذر لي والصبر أجمل بي | والبر أوسع والدنيا لمن غلبا |
وقوله وهو يرثي جدته أم أمه التي ماتت فرحا بوصول كتابه إليها وكانت يئست منه فلما وردها كتابه قبلته وحمت لوقتها وغلب الفرح على قلبها فقتلها وليست هذه الحال حال حماسة وفخر بل حال حزن وانكسار وهو مع ذلك يقول:
ولو لم تكوني بنت أكرم والد | لكان أباك الضخم كونك لي أما |
لئن لذ يوم الشامتين بيومها=لقد ولدت مني لأنفهم رغما
تغرب لا مستعظما غير نفسه | ولا قابلا إلا لخالقه حكما |
ولا سالكا إلا فؤاد عجاجة | ولا واجدا إلا لمكرمة طعما |
ولكنني مستنصر بذبابه | ومرتكب في كل حال به الغشما |
وجاعله يوم اللقاء تحيتي | وإلا فلست السيد البطل القرما |
وإني من قوم كأن نفوسهم=بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
فلا عبرت بي ساعة لا تعزني | ولا صحبتي مهجة تقبل الظلما |
وقد تكرر حماسه وإعجابه بنفسه واستحقاره عظيم الأمور في شعره بحيث لا تكاد تخلو قصيدة له من أي نوع كانت من ذلك قوله:
أريد من زمني ذا أن يبلغني | ما ليس يبلغه في نفسه الزمن |
وقوله:
وإذا كانت النفوس كبارا | تعبت في مرادها الأجسام |
وقوله:
تحقر عندي همتي كل مطلب | ويقصر في عيني المدى المتطاول |
وقوله:
وإني إذا باشرت أمرا أريده | تدانت أقاصيه وهان أشده |
وقوله:
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت | فإذا نطقت فإنني الجوزاء |
وقوله:
الخيل والليل والبيداء تعرفني | والسيف والرمح والقرطاس والقلم |
وقوله:
وما الدهر إلا من رواة قصائدي | إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا |
واستقصاء ذلك يطول به الكلام.
وتظهر في شعر المتنبي القسوة والغطرسة وقلة الرحمة حيث يقول:
ومن عرف الأيام معرفتي بها | وبالناس روى رمحه غير راحم |
فليس بمرحوم إذا ظفروا به | ولا في الردى الجاري عليهم بآثم |
اتصاله ببني حمدان
وأوله بأبي العشائر
في الصبح المنبي عن ياقوت الرومي أنه قال لم يزل المتنبي بعد خروجه من الاعتقال في خمول وضعف حال في بلاد الشام حتى اتصل بأبي العشائر (وهو الحسن بن علي ابن الحسن بن الحسين بن حمدان العدوي) وكأنه ابن ابن أخي سيف الدولة وكان والي أنطاكية من قبل سيف الدولة ومدحه بعدة قصائد أولها يقول فيها:
أتراها لكثرة العشاق | تحسب الدمع خلقة في المآقي |
حلت دون المزار فاليوم لو زر | ت لحال النحول دون العناق |
يقول فيها:
ليس إلا أبا العشائر خلق | ساد هذا الأنام باستحقاق |
فوق شقاء للأشق مجال | بين أرساغها وبين الصفاق |
ما {ىها مكذب الرسل إلا | صدق القول في صفات البراق |
يا بني الحارث بن لقمن لا تعـ | ـدمكم في الوغى متون العتاق |
بعثوا الرعب في قلوب الأعادي | فكأن القتال قبل التلاقي |
وتكاد الظبا لما عودوها | تنتضي نفسها إلى الأعناق |
وإذا أشفق الفوارس من وقـ | ـع القنا أشفقوا من الإشفاق |
وله فيه مدائح كثيرة منها قوله لما أوقع بأصحاب با قيس من قصيدة:
كأن على الجماجم منه نارا | وأيدي الناس أجنحة الفراش |
فولوا بين ذي روح مفات | وذي رمق وذي عقل مطاش |
فيا بحر البحور ولا أوري | ويا ملك الملوك ولا أحاشي |
أأصبر عنك لم تبخل بشيء | ولم تقبل علي كلام واشي |
فما خاشيك للتكذيب راج | ولا راجيك للتخييب خاشي |
فسرت إليك في طلب المعالي | وسار سواي في طلب المعاش |
وقال يمدحه من قصيدة أولها:
لا تحسبوا ربعكم ولا طلله | أول حي فراقكم قتله |
يقول فيها:
فحزا لعضب أروع مشتمله | وسمهري أروح معتقله |
وليفخر الفخر إذا غدوت به | مرتديا خيره ومنتعله |
أنا الذي بين الإله ب هالـ | ـأقدار والمرء حيثما جعله |
فلا مبال ولا مداج ولا وا | ن ولا عاجز ولا تكله |
وربما أشهد الطعام معي | من لا يساوي الخبز الذي أكله |
ويظهر الجهل بي وأعرفه | والدر در برغم من جهله |
مستحييا من أبي العشائر أن | أسحب في غير أرضه حلله |
لما رأت وجهه خيولهم | أقسم بالله لا رأت كفله |
وكلما آمن البلاد سرى | وكلما خيف منزل نزله |
قد هذبت فهمه الفقاهة لي | وهذبت شعري الفصاحة له |
فصرت كالسيف حامدا يده | لا يحمد السيف كل من حمله |
وأراد أبو العشائر سفرا فقال يودعه:
الناس ما لم يروك أشباه | والدهر لفظ وأنت معناه |
الجود عين وأنت ناظرها | والبأس باع وأنت يمناه |
تنشد أثوابنا مدائحه | بألسن ما لهن أفواه |
إذا مررنا على الأصم بها | أغنته عن مسمعيه عيناه |
يا راحلا كل من يودعه | مودع دينه ودنياه |
إن كان فيما نراه من كرم | فيك مزيد فزادك الله |
وضرب أبو العشائر مضربه على الطريق وكثرت سؤاله فقال أبو الطيب:
لام أناس أب العشائر في | جود يديه بالعين والورق |
قالوا: ألم تكفه سماحته | حتى بنى بيته على الطرق |
فقلت: إن الفتى شجاعته | تريه في الشح صورة الفرق |
الشمس قد حلت السماء وما | يحجبها بعدها عن الحدق |
ومما يدلنا على شراسة خلق أبي الطيب واستخفافه بالناس حتى الأمراء ومن يغدق عطاءه عليه أنه أغضب أبا العشائر حتى أرسل غلمانه ليوقعوا بالمتنبي، فلحقوه بظاهر حلب ليلا، فرماه أحدهم بسهم فقال: خذه وأنا غلام أبي العشائر لكن أبا الطيب ما عتم أن اعتذر، فقال:
ومنتسب عندي إلى من أحبه | وللنبل عندي من يدي حفيف |
فهيج شوقي وما من مذلة | حننت ولكن الكريم الوف |
وكل وداد لا يدوم على إلى | دوام ودادي للحسين ضعيف |
فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا | فأفعاله اللائي سررن لوف |
ونفسي له نفسي الفداء لنفسه | ولكن بعض المالكين عنيف |
فإن كان يبغي قتلها يك قاتلا | بكفيه فالقتل الشريف شلايف |
اتصاله بسيف الدولة
في ديوانه قال يمدح سيف الدولة ويذكر إيقاعه بعمرو ابن حابس وبني ضبة سنة 321 ولم ينشده إياها وسن أبي الطيب يومئذ 18 سنة، وسن سيف الدولة يقرب من ذلك.
ذكر الصبا ومراتع الآرام | جلبت حمامي قبل وقت حمامي |
دمن تكاثرت الهموم علي في | عرصاتها كتكاثر اللوام |
وكأن كل سحابة وقفت بها | تبكي بعيني عروة بن حزام |
ليس القباب على الركاب | وإنما هي الحياة ترحلت بسلام |
ليت الذي خلق النوى جعل الحـ | ـصى لخفافهن مفاصلي وعظامي |
متلاحظين نسح ماء شؤوننا | حذرا من الرقباء في الأكمام |
منها:
أكثرت من بذل النوال ولم تزل | علما على الإفضال والإنعام |
صغرت كل كبيرة وكبرت عن | لكأنه وعددت سن غلام |
ملك زهت بمكانه أيامه | حتى افتخرن به على الأيام |
وإذا سألت بنانه عن نيله | لم يرض بالدنيا قضاء ذمام |
منها:
فتركتهم خلل البيوت كأنما | غضبت رؤوسهم على الأجسام |
قوم تفرست المنايا فيكم | فرأت لكم في الحرب صبر كرام |
تالله ما علم امرؤ لولاكم | كيف السخاء وكيف ضرب الهام |
وهذه القصيدة كما يظهر من تاريخ نظمها كانت قبل سجنه بسبب إرادة الخروج علي السلطان أو دعوى النبوة إن صحت فسيأتي أن وروده اللاذقية وإظهاره ذلك كل سنة 320 ونيف وإن لم يكن نظمها قبل ذلك ففي سنته، ويظهر من قول جامع الديوان إنه لم ينشده إياها أن ذلك كان قبل اتصاله بسيف الدولة، فالظاهر أنه نظمها لينشده إياها فلم يتيسر له ذلك فبقيت في طي الكتمان، ثم حدث عليه بعد ذلك ما حدث في السجن والمتاعب التي عرضت ثم اتصل بسيف الدولة في أنطاكية بعد نظم هذه القصيدة بإحدى عشرة سنة بعد اتصاله بأبي العشائر، وقد عرفت قول الثعالبي أنه كان قبل اتصاله بسيف الدولة يمدح القريب والغريب ويصطاد الكركي والعندليب وأن جائزته كانت على بعض قصائده المسماه بالدينارية دينارا واحدا، وعرفت قوله إن سيف الدولة هو الذي جذب بضبعه. ورفع من قدره ونفق سعر شعره وألقى عليه شعاع سعادته ومن هنا يعلم أن المتنبي لولا اتصاله بسيف الدولة كان خامل الذكر مجهول القدر خامد الفكر متروك الشعر وأن الذي رفع مناره وسير في الدنيا أشعاره وطير ذكره في الخافقين هو سيف الدولة بمدحه له ولولا ما أقامه في حضرة سيف الدولة لم يراسله كافور ولم يخطب مدحه ابن العميد ولم يطلبه عضد الدولة ولم يتهالك في استمداحه الصاحب والوزير المهلبي وأمثالهم فيتمنع عن مدحهم.
فالمتنبي قبل اتصاله بسيف الدولة كما أخبر هو عن نفسه يقطع المسافات البعيدة على رجليه لا راحلة له ولا فرس غير نعله وخفه ولا خادم غير كفه يرى نفسه سعيدا أجازه علي بن منصور الحاجب على قصيدة بدينار ويبذل شعره لكل طالب من أمير وصعلوك فلا يجد له مشتريا ولا يبخل به على أمثال ابن كيغلغ كما بخل به بعد اتصاله بعضد الدولة أما سيف الدولة فلم يكن خامل الذكر مجهول القدر وكانت حضرته مملوءة بشعراء عصره وعلمائه وأدبائه واجتمع ببابه من الشعراء ما لم يجتمع لغير الخلفاء ويتيمة الدهر جلها في ذكر شعرائه ومادحيه فلم تكن نباهة شأنه واشتهار ذكره بحاجة إلى شعر المتنبي.
قال الثعالبي لما انخرط المتنبي في سلك سيف الدولة ودرت له أخلاف الدنيا على يده كان من قوله فيه:
تركت السرى خلفي لمن قل ماله | وأنعلت أفراسي بنعماك عسجدا |
وقيدت نفسي في هواك محبة | ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا |
وفي الصبح المنبي أن سيف الدولة لما قدم أنطاكية قدم أبو العشائر المتنبي إليه وأثنى عليه وعرفه منزلته من الشعر والأدب.
وفي ديوان المتنبي أن سيف الدولة أبا الحسن علي ابن عبد الله بن حمدان العدوي عند منصرفه من الظفر بحصن برزويه وعودته إلى أنطاكية جلس في فازة من الديباج عليها صورة ملك الروم وصور وحش وحيوان فقال أبو الطيب يمدحه. وقال صاحب الصبح المنبي أن المتنبي اشترط على سيف الدولة أول اتصاله به أن لا ينشده مديحه إلا هو قاعد وأن لا يكلف ثقيل الأرض بين يديه فنسب إلى الجنون ودخل سيف الدولة تحت هذه الشروط ولم يذكر ذلك صاحب اليتيمة ولا هو مذكور في الديوان والاعتبار يقضي ببطلان ذلك فالمتنبي كان في ذلك الوقت في أوائل ظهوره وإن كان حصل له شيء من المال فمن جوائز الحمدانيين عشيرة سيف الدولة وعماله فكيف يتعاظم على سيف الدولة هذا التعاظم ويقبل سيف الدولة ذلك منه والذي كان لا يجلس في مجلس كافور ولا ينشده إلا قائما ويقول:
يقل له القيام على الرؤوس | وبذل المكرمات من النفوس |
كما يأتي كيف لا يقبل أن ينشد في مجلس سيف الدولة إلا قاعدا فقال أبو الطيب يمدح سيف الدولة في جمادى الأولى سنة 337 من قصيدة:
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه | بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه |
وقد يتزيا بالهوى غير أهله | ويستصحب الإنسان من لا يلايمه |
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها | وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمة |
قفي تغرم الأولى من اللحظ مهجتي | بثانية والمتلف الشيء غارمه |
إذا ظفرت منك العيون بنظرة | أثاب بها معيي المطي ورازمه |
يحكى أنه أنشد في مجلس المعتمد بن عباد اللخمي صاحب أشبيلبة هذا البيت فجعل يردده استحسانا له وكان في مجلسه محمد بن عبد الجليل بن وهون الأندلسي فأنشد ارتجالا:
لئن جاد شعر ابن الحسين فإنما | لأجل العطايا واللهى تفتح اللهى |
تنبأ عجبا بالقريض ولو درى | بأنك تروي شعره لتألها |
منها في وصف الفازة:
وأحسن من ماء الشبيبة كله | حيا بارق في فازة أنا شائمه |
عليها رياض لم تحكها سحابة | وأغصان دوح لم تغن حمائمه |
وفوق حواشي كل ثوب موجه | من الدر سمط لم يثقبه ناظمه |
وفي صورة الرومي ذي التاج ذلة | لأبلج لاتيجان إلا عمائمه |
تقبل أفواه الملوك بساطه | ويكبر عنها كمه وبراجمه |
ومنها في وصف الجيش:
له عسكرا خيل وطير إذا رمى | بها عسكرا لم يبق إلا جماجمه |
فقد مل ضوء الصبح مما تغيره | ومل سواد الليل مما تزاحمه |
ومل القنا مما تدق صدوره | ومل حديد الهند مما تلاطمه |
سحاب من العقبان يزحف تحتها | سحاب إذا استسقت سقتها صوارمه |
ومنها يصف ما لاقاه من المتاعب حتى وصل إليه:
سلكت صروف الدهر حتى لقيته | على ظهر عزم مؤبدات قوائمه |
مهالك لم تصحب بها الذئب نفسه | ولا حملت فيها الغراب قوادمه |
فأبصرت بدرا لا يرى البدر مثله | وخاطبت بحرا لا يرى العبر عائمه |
غضبت له لما رأيت صفاته | بلا واصف والشعر تهذي طماطمه |
وكنت إذا يممت أرضا بعيدة | سريت فكنت السر والليل كاتمه |
لقد سل سيف الدولة المجد معلما | فلا المجد مخفيه ولا الضرب ثالمه |
على عاتق الملك الأغر نجاده | وفي يد جبار السماوات قائمه |
تحاربه الأعداء وهي عبيده | وتدخر الأموال وهي غنائمه |
ويستكبرون الدهر والدهر دونه | ويستعظمون الموت والموت خادمه |
وإن الذي سمى عليا لمنصف | وإن الذي سماه سيفا لظالمه |
وما كل سيف يقطع الهام حده | وتقطع لزبات الزمان مكارمه |
ولما عزم سيف الدولة على الرحيل عن أنطاكية قال أبو الطيب يمدحه من قصيدة:
أين أزمعت أيهذا الهمام | نحن نبت الربى وأنت الغمام |
نحن من ضايق الزمان له فيـ | ـك وخانته قربك الأيام |
كل يوم لك احتمال جديد | ومسير للمجد فيه مقام |
وإذا كانت النفوس كبارا | تعبت في مرادها الأجسام |
ولنا عادة الجميل من الصبـ | ـر لو أنا سوى نواك نسام |
كلما قيل قد تناهى أرانا | كرما ما اهتدت إليه الكرام |
وكفاحا تكع عنه الأعادي | وارتياحا تحار فيه الأنام |
ويدل مطلع القصيدة وقوله نحن من ضايق الزمان إلخ وقوله ولنا عادة الجميل إلخ على أن أبا الطيب بقي في أنطاكية ولم يسافر إلى حلب مع سيف الدولة ولكن تواريخ القصائد الأخر التي في رثاء والدة سيف الدولة والتي في جملة من وقائعه الواقعة تلك التواريخ سنة 337 تدل على أن أبا الطيب سافر من أنطاكية إلى حلب في هذه السنة عقيب سفر سيف الدولة.
وقال يمدحه عند رحيله من أنطاكية وقد كثر المطر:
رويدك أيها الملك الجليل | تأن وعده مما تنيل |
وجودك بالمقام ولو قليلا | فما فيما تجود به قليل |
ومثل العمق مملوء دماء | جرت بك في مجاريه الخيول |
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا | فأهون ما يمر به الوحول |
ومن أمر الحصون فما عصته | أطاعته الحزونة والسهول |
يحيد الرمح عنك وفيه قصد | ويقصر أن ينال وفيه طول |
ولازم المتنبي سيف الدولة وبقي في حضرته نحو ثماني سنين من سنة 337 إلى سنة 345.
وقال يمدح سيف الدولة ويهنئه بعيد الأضحى سنة 342 من قصيدة وأنشده إياها في ميدانه بحلب وهما على فرسيهما:
لكل امرئ من دهره ما تعودا | وعادة سيف الدولة الطعن في العدى |
هو البحر غص فيه إذا كان ساكنا | على الدر واحذره إذا كان مزبدا |
تظل ملوك الأرض خاشعة له | تفارقه هلكى وتلقاه سجدا |
وتحيي له المال الصوارم والقنا | ويقتل ما تحيي التبسم والجدا |
لذلك سمى ابن الدمستق يومه | مماتا وسماه الدمستق مولدا |
فولى وأعطاك ابنه وجيوشه | جميعا ولم يعط الجميع ليحمدا |
وما طلبت زرق الأسنة غيره | ولكن قسطنطين كان له الفدى |
فأصبح يجتاب المسوح مخافة | وقد كان يجتاب الدلاص المسردا |
ويمشي به العكاز في الدير تائبا | وما كان يرضى مشي أشقر أجردا |
وما تاب حتى غادر الكر وجهه | جريحا وخلى جفنه النقع أرمدا |
هنيئا لك العيد الذي أنت عيده | وعيد لمن سمى وضحى وعيدا |
فذا اليوم في الأيام مثلك في الورى | كما كنت فيهم أوحدا كان أوحدا |
هو الجد حتى تفضل العين أختها | وحتى يكون اليوم لليوم سيدا |
ومن يجعل الضرغام للصيد بازه | تصيده الضرغام فيما تصيدا |
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم | ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا |
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته | وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا |
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى | مضر كوضع السيف في موضع الندى |
وما الدهر إلا من رواة قصائدي | إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا |
فسار به من لا يسير مشمرا | وغنى به من لا يغني مغردا |
ودع كل صوت غير صوتي فإنني | أنا الطائر المحكي والآخر الصدى |
تركت السرى خلفي لمن قل ماله | وأنعلت أفراسي بنعماك عسجدا |
وقيدت نفسي في ذراك محبة | ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا |
وقال يمدحه بعد دخول رسول ملك الروم إليه:
دروع لملك الروم هذي الرسائل=يرد بها عن نفسه ويشاغل
يقول فيها:
أرى كل ذي ملك إليك مصيره | كأنك بحر والملوك جداول |
إذا أمطرت منهم ومنك سحائب | فوابلهم طل وطلك وابل |
وفيها يقول:
أفي كل يوم تحت ضبني شويعر | ضعيف يقاويني قصير يطاول |
وأتعب من ناداك من لا تجيبه | وأغيظ من عاداك من لا تشاكل |
وما التيه طبي فيهم غير أنني | بغيض إلي الجاهل المتعاقل |
وقال يمدحه وقد جلس لرسول ملك الروم وقد ورد يلتمس الفداء من قصيدة:
لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي | وللحب ما لم يبق مني وما بقي |
وما كنت ممن يدخل العشق قلبه | ولكن من يبصر جفونك يعشق |
وبين الرضى والسخط والقرب والنوى | مجال لدمع المقلة المترقرق |
وغضبي من الإدلال سكري من الصبى | شفعت إليها من شبابي بريق |
وأشنب معسول الثنيات واضح | سترت فمي عنه فقبل مفرقي |
وأجياد غزلان كجيدك زرنني | فلم أتبين عاطلا من مطوق |
سقى الله أيام الصبى ما يسرها | ويفعل فعل البابلي المعتق |
ولم أر كالألحاظ يوم رحيلهم | بعثن بكل القتل من كل مشفق |
أدرن عيونا حائرات كأنها | مركبة أحداقها فوق زئبق |
عشية يعدونا عن النظر البكا | وعن لذة التوديع خوف التفرق |
نودعهم والبين فينا كأنه | قنا ابن أبي الهيجاء في قلب فيلق |
قواض مواض نسج داود عندها | إذا وقعت فيه كنسج الخدرنق |
تقد عليهم كل درع وجوشن | وتفري إليهم كل سور وخندق |
يغير بها بين اللقان وواسط | ويركزها بين الفرات وجلق |
رأى ملك الروم ارتياحك للندى | فقام مقام المجتدي المتملق |
وخلى الرياح السمهرية صاغرا | لأدرب منه بالطعان وأحذق |
وكاتب من أرض بعيد مرامها | قريب على خيل حواليك سبق |
وقد سار في مسراك منها رسوله | فما سار إلا فوق هام مفلق |
فلما دنا أخفى عليه مكانه | شعاع الحديد البارق المتألق |
وأقبل يمشي في البساط فما درى | إلى البحر يسعى أم إلى البدر يرتقي |
وكنت إذا كاتبته قيل هذه | كتبت إليه في قذال الدمستق |
فإن تعطه منك الأمان فسائل | وإن تعطه حد الحسام فأخلق |
بلغت بسيف الدولة النور رتبة | أنرت بها ما بين غرب ومشرق |
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق | أراه غباري ثم قال له الحق |
وما كمد الحساد شيء قصدته | ولكنه من يزحم البحر يغرق |
وإطراق طرف العين ليس بنافع | إذا كان طرف القلب ليس بمطرق |
فيا أيها المطلوب جاوره تمتنع | ويا أيها المحروم يممه ترزق |
وقال في سيف الدولة في قصيدة:
إن كان قد ملك القلوب فإنه | ملك الزمان بأرضه وسمائه |
الشمس من حساده والنصر من | قرنائه والسيف من أسمائه |
أين الثلاثة من ثلاث خلاله | من حسنه وإبائه ومضائه |
مضت الدهور وما أتين بمثله | ولقد أتى فعجزن عن نظرائه |
وقال يمدح سيف الدولة من قصيدة:
ليالي بعد الظاعنين شكول | طوال وليل العاشقين طويل |
يبن لي البدر الذي لا أريده | ويخفين بدرا ما إليه سبيل |
وما عشت من بعد الأحبة سلوة | ولكنني للنائبات حمول |
وما شرقي بالماء إلا تذكرا | لماء به أهل الحبيب نزول |
يحرمه لمع الأسنة فوقه | فليس لظمآن إليه وصول |
وخيل براها الركض في كل بلدة | إذا عرست فيها فليس تقيل |
فما شعروا حتى رأوها مغيرة | قباحا وأما خلقها فجميل |
سحائب النيران في كل منزل | به القوم صرعى والديار طلول |
طلعن عليهم طلعة يعرفونها | لها غرر ما تنقضي وحجول |
تمل الحصون الشم طول نزالنا | فتلقي إلينا أهلها وتزول |
أعادي على ما يوجب الحب للفتى | وأهدأ والأفكار في تجول |
سوى وجع الحساد داو فإنه | إذا حل في قلب فليس يحول |
ولا تطمعن من حاسد في مودة | وإن كنت تبديها له وتنيل |
وأنا لنلقى الحادثات بأنفس | كثير الرزايا عندهن قليل |
يهون علينا أن تصاب جسومنا | وتسلم أعراض لنا وعقول |
وقال يهنئ سيف الدولة بالشفاء من مرض من أبيات:
المجد عوفي إذ عوفيت والكرم | وزال عنك إلى أعدائك الألم |
صحت بصحتك الغارات وابتهجت | بها المكارم وانهلت بها الديم |
وما أخصك في برء بتهنئة | إذا سلمت فكل الناس قد سلموا |
قال يمدحه من قصيدة ويذكر نهوضه إلى ثغر الحدث لما بلغه أن الروم أحاطت به وبذلك في جمادى الأول سنة 344.
ذي المعالي فليعلون من تعالى | هكذا هكذا وإلا فلالا |
حال أعدائنا عظيم وسيف الدو | لة ابن السيوف أعظم حالا |
كلما أعجلوا الندير مسيرا | أعجلتهم جياده الأعجالا |
فأتتهم خوارق الأرض ما تحـ | ـمل إلا الحديد والأبطالا |
خافيات الألوان قد نسج النقـ | ـع عليها براقعا وجلالا |
خالفته صدورها والعوالي | لتخوضن دونه الأهوالا |
لا ألوم ابن لاون ملك الرو | م وإن كان ما تمنى محالا |
أقلقته بنية بين أذنيـ | ـه وبان بغى السماء فنالا |
قصدوا هدم سورها فبنوه | وأتوا كي يقصروه فطالا |
واستجروا مكايد الحرب حتى | تركوها لها عليهم وبالا |
رب أمر أتاك لا تحمد | الفعال فيه وتحمد الأفعالا |
والذي قطع الرقاب من الضر | ب بكفيك قطع الآمالا |
نزلوا في مصارع عرفوها | يندبون الأعمام والأخوالا |
تحمل الريح بينهم شعر الها | م وتذري عليهم الأوصالا |
ينفض الروع أيديا ليس تدري | أسيوفا حملن أن أغلالا |
وإذا ما خلا الجبان بأرض | طلب الطعن وحده والنزالا |
ما لمن ينصب الحبائل في الأر | ض ومرجاه أن يصيد الهلالا |
من أطاق التماس شيء غلابا | واغتصابا لم يلتمسه سؤالا |
كل غاد لحاجة يتمنى | أن يكون الغضنفر الرئبالا |
وقال يمدحه وقد أحدث بنو كلاب حدثا فأوقع بهم وملك الحريم فأبقى عليهن وأنشده إياها في جمادى الأخرى سنة 343.
بغيرك راعيا عبث الذئاب | وغيرك صارما ثلم الضراب |
وتملك أنفس الثقلين طرا | فكيف تحوز أنفسها كلاب |
طلبتهم على الأمواه حتى | تخوف أن تفتشه السحاب |
فبت لياليا لا نوم فيها | تخب بك المسومة العراب |
يهز الجيش حولك جانبيه | كما نفضت جناحيها العقاب |
فقاتل عن حريمهم وفروا | ندى كفيك والنسب القراب |
وحفظك فيهم سلفي معد | وإنهم العشائر والصحاب |
فعدن كما أخذن مكرمات | عليهن القلائد والملاب |
وليس مصيرهن إليك سينا | ولا في صونهن لديك عاب |
ترفق أيها المولى عليهم | فإن الرفق بالجاني عتاب |
وإنهم عبيدك حيث كانوا | إذ تدعو لحادثة أجابوا |
وعين المخطئين هم وليسوا | يأول معشر خطئوا فتابوا |
وما جهلت أياديك البوادي | ولكن ربما خفي الصواب |
وكم ذنب مولده دلال | وكم بعد مولده اقتراب |
وجرم جره سفهاء قوم | وحل بغير جارمه العذاب |
ولو غير الأمير غزا كلابا | ثناه عن شموسهم ضباب |
ولاقى دون ثأيهم طعانا | يلاقي عنده الذئب الغراب |
وخيلا تغتذي ريح الموامي | ويكفيها من الماء السراب |
رميتهم ببحر من حديد | له في البر خلفهم عباب |
فمساهم وبسطهم حرير | وصبحهم وبسطهم تراب |
ومن في كفه منهم قناة | كمن في كفه منهم خضاب |
وأمر سيف الدولة غلمانه أن يلبسوا وقصد ميافارقين في خمسة آلاف من الجند وألفين من غلمانه ليزور قبر والدته في شوال سنة 338، فقال المتنبي من قصيدة:
كأن العدى في أرضهم خلفاؤه | فإن شاء حازوها وإن شاء سلموا |
ولا كتب إلا المشرفية عنده | ولا رسل إلا الخميس العرمرم |
ولم يخل من أسمائه عود منبر | ولم يخل دينار ولم يخل درهم |
ضروب وما بين الحسامين ضيق | بصير وما بين الشجاعين مظلم |
بغرته في الحرب والسلم والحجى | وبذل اللهى والحمد والمجد معلم |
ولما تلقاك السحاب بصوبه | تلقاه أعلى منه كعبا وأكرم |
فباشر وجها طالما باشر القنا | وبل ثيابا طالما بلها الدم |
وكل فتى للحرب فوق جبينه | من الضرب سطر بالأسنة معجم |
يمد يديه في المفاضة ضيغم | وعينيه من تحت التريكة أرقم |
أخذت على الأرواح كل ثنية | من العيش تعطي من تشاء وتحرم |
فلا موت إلا من سنانك يتقى | ولا رزق إلا من يمينك يقسم |
وظفر بسيف الدولة في بعض الغزوات وذلك أنه عبر آلس وهو نهر عظيم ونزل على صارخة وخرشنة وهما مدينتان بالروم فأحرق ربضهما وكنائسهما وقفل غانما فلما صار على آلس راجعا وافاه الدمستق فصافه الحرب فهزمه وأسر بطارقته وقتل ثم سار فواقعه في موضع آخر فهزمه أيضا، ثم واقعه على نهر آخر وقد مل أصحابه السفر وكلوا من القتال واجتاز أبو الطيب ليلا بقطعة من الجيش نيام بين قتلى، فقال يذكر الحال وما جرى في الدرب من الخيانة من قصيدة:
غيري بأكثر هذا النوع ينخدع | إن قاتلوا جنبوا أو حدثوا شجعوا |
ليس الجمال لوجه صح مارنه | أنف العزيز بقطع العز يجتدع |
وفارس الخيل من خفت فوقرها | في الدرب والدم في أعطافه دفع |
بالجيش تمتنع السادات كلهم | والجيش بابن أبي الهيجاء يمتنع |
قاد المقانب أقصى شربها نهل | على الشكيم وأدنى سيرها سرع |
حتى أقام على أرباض خرشنة | تشقى به الروم والصلبان والبيع |
للسبي ما نكحوا والقتل ما ولدوا | والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا |
تغدو المنايا فلا تنفك واقفة | حتى يقول لها عودي فتندفع |
قل للدمستق إن المسلمين لكم | خانوا الأمير فجازاهم بما صنعوا |
لا تحسبوا من أسرتم كان ذا رمق | فليس يأكل إلا الميتة الضبع |
فكل غزو إليكم بعد ذا فله | وكل عاز لسيف الدولة التبع |
تمشي الكرام على آثار غيرهم | وأنت تخلق ما تأتي وتبتدع |
وهل يشنيك وقت كنت فارسه | وكان غيرك فيه العاجز الضرع |
من كان فوق محل الشمس موضعه | فليس يرفعه شيء ولا يضع |
إن السلاح جميع الناس تحمله | وليس كل ذوات المخلب السبع |
وأراد سيف الدولة قصد خرشنة فعاقه الثلج، فقال المتنبي:
عواذل ذات الخال في حواسد | وإن ضجيع الخود مني لماجد |
يرد يدا عن ثوبها وهو قادر | ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد |
متى يشتفي من لاعج الشوق في الحشا | محب لها في قربه متباعد |
إذا كنت تخشى العار في كل خطوة | فلم تتصباك الحسان الخرائد |
ألح علي السقم حتى ألفته | ومل طبيبي جانبي والعوائد |
مررت على دار الحبيب فحمحمت | جوادي وهل تشجي أجياد المعاهد |
وما تنكر الدهماء من رسم منزل | سقتها ضريب الشول فيه الولائد |
أهم بشيء والليالي كأنها | تطاردني عن كونه وأطارد |
وحيد من الخلان في كل بلدة | إذا عظم المطلوب قل المساعد |
وتسعدني في غمرة بعد غمرة | سبوح لها منها عليها شواهد |
تثنى على قدر الطعان كأنما | مفاصلها تحت الرماح مراود |
وأورد نفسي والمهند في يدي | موارد لا يصدرن من لا يجالد |
ولكن إذا لم يحمل القلب كفه | على حالة لم يحمل الكف ساعد |
خليلي إني لا أرى غير شاعر | فلم منهم الدعوى ومني القصائد |
فلا تعجبا أن السيوف كثيرة | ولكن سيف الدولة اليوم واحد |
له من كريم الطبع في الحرب منتض | ومن عادة الإحسان والصفح عامد |
ولما رأيت الناس دون محله | تيقنت أن الدهر للناس ناقد |
أحقهم بالسيف من ضرب الطلى | وبالأمن من هانت عليه الشدائد |
وتضحي الحصون المشمخرات في الذرى | وخيلك في أعناقهن قلائد |
أخو غزوات ما تغب سيوفه | رقابهم إلا وسيحان جامد |
بذا قضت الأيام ما بين أهلها | مصائب قوم عند قوم فوائد |
وكل يرى طرق الشجاعة والندي | ولكن طبع النفس للنفس قائد |
نهبت من الأعمار ما لو حويته | لهنئت الدنيا بأنك خالد |
فأنت حسام الملك والله ضارب | وأنت لواء الدين والله عاقد |
وفي الصبح المنبي: إن سيف الدولة استنشد أبا الطيب يوما قصيدته التي مدحه فيها وقد سار لبناء الحدث، وتعرف بالحدث الحمراء لحمرة بيوتها وقلعتها على جبل يسمى الأحيدب وذكر إيقاعه بالدمستق عليها وكشفه وقتله خلقا من أصحابه وأسره صهره وابن بنته وإقامته على الحدث إلى أن بناها، وذلك في يوم الثلاثاء لتسع خلون من رجب سنة 343، وهذا أكثرها:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم | وتأتي على قدر الكرام المكارم |
وتعظم في عين الصغير صغارها | وتصغر في عين العظيم العظائم |
يكلف سيف الدولة الجيش همه | وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم |
ويطلب عند الناس ما عمد نفسه | وذلك ما لا تدعيه الضراغم |
هل الحدث الحمراء تعرف لونها | وتعلم أي الساقيين الغمائم |
سقتها الغمام الغر قبل نزوله | فلما دنا منها سقتها الجماجم |
بناها فأعلى والقنا يقرع القنا | وموج المنايا حولها متلاطم |
وكان بها مثل الجنون فأصبحت | ومن جثث القتلى عليها تمائم |
طريدة دهر ساقها فرددتها | على الدين بالخطي والدهر راغم |
تفيت الليالي كل شيء أخذته | وهن لما يأخذن منك غوارم |
إذا كان ما تنويه فعلا مضارعا | مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم |
أتوك يجرون الحديد كأنما | أتوا بجياد ما لهن قوائم |
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه | وفي أذن الجوزاء منه زمازم |
تقطع ما لا يقطع الدرع والقنا | وفر من الفرسان من لا يصادم |
وقفت وما في الموت شك لواقف | كأنك في جفن الردى وهو نائم |
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة | ووجهك وضاح وثغرك باسم |
ضممت جناحيهم على القلب ضمة | تموت الخوافي تحتها والقوادم |
بضرب أتى الهامات والنصر غائب | وصار إلى اللبات والنصر قادم |
حقرت الردينيات حتى طرحتها | وحتى كأن السيف للرمح شاتم |
ومن طلب الفتح الجليل فإنما | مفاتيحه البيض الخفاف الصوارم |
نثرتهم فوق الأحيدب نثرة | كما نثرت فوق العروس الدراهم |
تظن فراخ الفتح أنك زرتها | بأماتها وهي العتاق الصلادم |
إذا زلقت مشيتها ببطونها | كما تتمشى في الصعيد الأراقم |
أفي كل يوم ذا الدمستق مقدم | قفاه على الإقدام للوجه لائم |
وقد فجعته بابنه وابن صهره | وبالصهر حملات الأمير الغواشم |
ولست مليكا هازما لنظيره | ولكنك التوحيد للشرك هازم |
تشرف عدنان به لا ربيعة | وتفتخر الدنيا به لا العواصم |
ألا أيها السيف الذي ليس مغمدا | ولا فيه مرتاب ولا منه عاصم |
هنيئا لضرب الهام والمجد والعلى | وراجيك والإسلام إنك سالم |
ولما بلغ المتنبي إلى قوله فيها: وقفت وما في الموت والبيت الذي بعده. قال سيف الدولة قد انتقدتهما عليك كما انتقد على امرئ القيس قوله:
كأني لم أركب جوادا لغارة | ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال |
ولم أسبأ الزق الروي ولم اقل | لخيلي كري كرة وبعد إجفال |
فبيتاك لم يلتئم شطراهما كما لم يلتئم شطرا بيتي امرئ القيس وكان ينبغي له أن يقول:
كأني لم أركب جوادا ولم أقل | لخيلي كري كرة بعد إجفال |
ولم أسبأ الزق الروي للذة | ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال |
وكان ينبغي لك أن تقول:
وقفت وما في الموت شك لواقف | ووجهك وضاح وثغرك باسم |
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة | كأنك في جفن الردى وهو نائم |
فقال المتنبي إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس هذا وهو أعلم بالشعر منه قد أصاب فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا، ومولانا يعلم أن الثوب لا يعلمه البزاز كما يعرفه الحائك، فإن البزاز يعلم جملته والحائك يعرف تفاصيله، وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد، والشجاعة في منازلة الأعداء بالسماحة في شرائه الخمر للأضياف، وأنا كذلك لما ذكرت الموت في صدر البيت الأول أتبعته بذكر الردى في آخره ليكون أحسن تلاؤما، ولما كان وجه الجريح المنهزم عبوسا وعينه باكية قلت "ووجهك وضاح وثغرك باسم" لأجمع بين الأضداد في المعنى. فأعجب سيف الدولة بقوله ووصله بخمسين دينارا من دنانير الصلات وفيها خمسمائة دينار.
ما جرى بين المتنبي وابن خالويه
في الصبح المنبي قال ابن بابك: حضر المتنبي مجلس أبي أحمد ابن نصر البازيار وزير سيف الدولة وهناك أبو عبد الله بن خالويه النحوي، فتماريا في أشجع السلمي وأبي نواس البصري، فقال ابن خالويه أشجع أشعر إذ قال في الرشيد:
وعلى عدوك يا ابن عم محمد | رصدان ضوء الصبح والإظلام |
فإذا تنبه رعته وإذا غفا | سلت عليه سيوفك الأحلام |
فقال المتنبي لأبي نواس ما هو أحسن في بني برمك وهو:
لم يظلم الدهر إذ توالت | فيهم مصيباته داركا |
كانوا يجيرون من يعادي | منه فعاداهم لذاكا |
وقال عبد المحسن بن علي بن كوجك إن أباه حدثه قال: كنت بحضرة سيف الدولة وأبو الطيب اللغوي وأبو عبد الله بن خالويه النحوي، وقد جرت مسألة في اللغة تكلم فيها ابن خالوية مع أبي الطيب اللغوي والمتنبي ساكت، فقال له سيف الدولة: ألا تتكلم يا أبا الطيب فتكلم فيها بما قوى حجة أبي الطيب اللغوي وضعف قول ابن خالويه، فأخرج ابن خالويه من كمه مفتاحا حديدا ليلكم به المتنبي قال له المتنبي: اسكت ويحك فإنك أعجمي وأصلك خوزي فما لك وللعربية، فضرب وجه المتنبي بذلك المفتاح فأسال دمه على وجهه وثيابه، فغضب المتنبي لذلك إذ لم ينتصر له سيف الدولة لا قولا ولا فعلا، فكان ذلك أحد أسباب فراقه سيف الدولة. (أقول) ما يظهر من صدر القصة من أن ابن خالويه أراد لكمه بالمفتاح لمجرد انتصاره لأبي الطيب اللغوي بعيد فلا بد أن يكون أساء القول في ابن خالويه حتى أهاج غضبه وأخرج المفتاح ليضربه، ولعله من سنخ قوله إنك أعجمي وأصلك خوزي.
وفي لسان الميزان: يقال إن ابن خالويه قال له في مجلس سيف الدولة لولا أنك جاهل ما رضيت أن تدعى المتنبي ومعنى المتنبي كاذب والعاقل لا يرضى أن يدعى الكاذب، فأجابه بأن لا أرضى بهذا ولا أقدر على دفع من يدعوني به، واستمرت بينهما المشاجرة إلى أن غضب ابن خالويه فضربه بمفتاح فخرج من حلب إلى مصر.
ما جرى للمتنبي مع الأمير أبو فراس الحمداني
في الصبح المنبي قال ابن الدهان في المآخذ الكندية قال: قال أبو فراس لسيف الدولة: إن هذا المتشدق كثير الإدلال عليك وأنت تعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار على ثلاث قصائد ويمكن أن تفرق مائتي دينار على عشرين شاعرا يأتون بما هو خير من شعره.
(أقول): ولكن سيف الدولة كان يعلم أن هؤلاء العشرين شاعرا ليس فيهم من يستطيع أن يقول مثل قول المتنبي في الميمية السابقة:
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه | وفي أذن الجوزاء منه زمازم |
وقفت وما في الموت شك لواقف | كأنك في جفن الردى وهو نائم |
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة | ووجهك وضاح وثغرك باسم |
بضرب أتى الهامات والنصر غائب | وصار إلى اللبات والنصر قادم |
تشرف عدنان به لا ربيعة | وتفتخر الدنيا به لا العواصم |
وكذلك أبو فراس لم يكن ليخفى عليه ذلك، ولكن غطرسة المتنبي دعت أبا فراس أن يقول فيه ذلك، ودعت سيف الدولة أن يميل إلى قبوله.
قال: فتأثر سيف الدولة من هذا الكلام وعمل فيه وكان المتنبي غائبا وبلغته القصة فدخل على سيف الدولة وأنشده الأبيات التي أولها:
ألا ما لسيف الدولة اليوم عاتبا | فداه الورى أمضى السيوف مضاربا |
فأطرق سيف الدولة ولم ينظر إليه كعادته، فخرج المتنبي من عنده متغيرا، وحضر أبو فراس وجماعة من الشعراء فبالغوا في الوقيعة بحق المتنبي، وانقطع أبو الطيب بعد ذلك ونظم القصيدة التي أولها:
واحر قلباه ممن قلبه شبم | ومن بجسمي وحالي عنده سقم |
هكذا في الصبح المنبي ولكن المفهوم من ديوان المتنبي أن قوله لهذه القصيدة الميمية سابق على الأبيات البائية المشار إليها وأن سبب قوله القصيدة الميمية أنه جرى له خطاب مع قوم متشاعرين وظن الحيف عليه والتحامل وأنه قال الأبيات البائية مستعتبا من القصيدة الميمية، وهذا أقرب إلى الصواب- يقول فيها:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي | فيك الخصام وأنت الخصم والحكم |
أعيذها نظرات منك صادقة | أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم |
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره | إذا استوت عنده الأنوار والظلم |
سيعلم الجميع ممن ضم مجلسنا | بأنني خير من تسعى به قدم |
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي | وأسمعت كلماتي من به صمم |
وجاهل مده في جهله ضحكي | حتى أتته يد فراسة وفم |
إذا رأيت نيوب الليث بارزة | فلا تظنن أن الليث يبتسم |
ومرهف سرت بين الجحفلين به | حتى ضربت وموج الموت يلتطم |
الخيل والليل والبيداء تعرفني | والسيف والرمح والقرطاس والقلم |
يا من يعز علينا أن نفارقهم | وجداننا كل شيء بعدكم عدم |
إن كان سركم ما قال حاسدنا | فما لجرح إذا أرضاكم ألم |
وبيننا لو رعيتم ذاك معرفة | إن المعارف في أهل النهى ذمم |
كم تطلبون لنا غيبا فيعجزكم | ويكره الله ما تأتون والكرم |
أرى النوى تقتضيني كل مرحلة | لا تستقل بها الوخادة الرسم |
لئن تركن ضميرا عبن ميامننا | ليحدثن لمن ودعتهم ندم |
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا | أن لا تفارقهم فالراحلون هم |
شر البلاد مكان لا صديق به | وشر ما يكسب الإنسان ما يصم |
وشر ما قنصته راحتي قنص | شهب البزاة سواء فيه والرخم |
بأي لفظ تقول الشعر زعنفة | تجوز عندك لا عرب ولا عجم |
هذا عتابك إلا أنه مقة | تضمن الدر إلا أنه كلم |
وفي الصبح المنبي أنه لما أنشدها وجعل يتظلم من التقصير في حقه هم جماعة بقتله في حضرة سيف الدولة لشدة إدلاله وإعراض سيف الدولة عنه فلما وصل في إنشاده إلى قوله:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي | فيك الخصام وأنت الخصم والحكم |
قال أبو فراس مسخت قول دعبل وادعيته وهو:
ولست أرجو انتصافا منك ما ذرفت | عيني دموعا وأنت الخصم والحكم |
فقال المتنبي:
أعيذها نظرات منك صادقة | أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم |
فعلم أبو فراس أنه يعنيه فقال ومن أنت يا دعي كندة حتى تأخذ أعراض الأمير في مجلسه، واستمر في إنشاده ولم يرد عليه إلى أن قال:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا | بأنني خير من تسعى به قدم |
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي | وأسمعت كلماتي من به صمم |
فزاد ذلك أبا فراس غيظا وقال قد سرقت هذا من عمرو ابن عروة بن العبد في قوله:
أوضحت من طرق الآداب ما اشتكلت | دهرا وأظهرت إغرابا وإبداعا |
حتى فتحت بإعجاز خصصت به | للعمي والصم أبصارا وأسماعا |
قال المؤلف: في قوله: (بأنني خير من تسعى به قدم) دعوى الفضل على الأنبياء والرسل فضلا عن سيف الدولة.
ولما وصل إلى قوله:
الخيل والليل والبيداء تعرفني | والسيف والرمح والقرطاس والقلم |
قال أبو فراس وماذا أبقيت للأمير إذا وصفت نفسك بالشجاعة والفصاحة والرياسة والسماحة تمدح نفسك بما سرقته من كلام غيرك وتأخذ جوائز الأمير أما سرقت هذا من قول الهيثم بن الأسود النخعي الكوفي المعروف بابن عريان العثماني:
أعاذلي كم مهمه قد قطعته | أليف وحوش ساكنا غير هائب |
أنا ابن الفلا والطعن والضرب والسرى | وجرد المذاكي والقنا والقواضب |
حليم وقور في البلاد وهيبتي | لها في قلوب الناس بطش الكتائب |
فقال المتنبي:
وما انتفاخ أخي الدنيا بناظره | إذا استوت عنده الأنوار والظلم |
فقال أبو فراس وهذا سرقته من قول معقل العجلي:
إذا لم أميز بين نور وظلمة | بعيني فالعينان زور وباطل |
وغضب سيف الدولة من كثرة مناقشته في هذه القصيدة وكثرة دعاويه فيها فضربه بالدواة التي بين يديه فقال المتنبي في الحال:
إذا كان سركم ما قال حاسدنا | فما لجرح إذ أرضاكم ألم |
فقال أبو فراس أخذت هذا من قول بشار:
إذا رضيتم بأن نجفى وسركم | قول الوشاة فلا شكوى ولا ضجر |
فلم يلتفت سيف الدولة إلى ما قال أبو فراس وأعجبه بيت المتنبي ورضي عنه في الحال وأدناه إليه وقبل رأسه وأجازه بألف دينار ثم أردفه بألف أخرى فقال المتنبي (وليسا في ديوانه):
جاءت دنانيرك مختومة | عاجلة ألفا على ألف |
أشبهها فعلك في فيلق | قلبته صفا على صف |
وإذا تأملنا في هذه القصيدة الميمية وجدنا أن سيف الدولة قم حلم كثيرا عن المتنبي فإنه أراد أن يعاتبه بها لكنه بهذا العتاب هجاه هجوا مرا وافتخر عليه حتى ادعى أنه فوقه في كل شيء، فنسبه إلى الجور عليه وعدم إنصافه وأنه لا يميز بين الشحم والورم والأنوار والظلم وأنه يتطلب له العيوب فلا يجد، وأن ساوى بين البزاة والرخم وأنه يساوي بين جيد الشعر ورديه وأن بلاده شر البلاد عليه وكسبه فيها شر كسب، وأي هجاء أمر من هذا، وادعى عن نفسه أنه خير من يمشي على قدم ولم يستثن سيف الدولة بل عمت دعواه بظاهرها الأنبياء والمرسلين، وهذا لا يقال بحضرة الملوك والأمراء ولا يحتملونه، وافتخر بالشجاعة والفصاحة والبلاغة إلى الغاية وتهدده بمفارقته وأنه سيندم على فراقه وأنه هو الذي سبب فراقه. ولئن جوزنا في شعراء سيف الدولة أنهم حسدوه- وقديما كان في الناس الحسد- لا يجوز ذلك في حق أبي فراس فهو لم يكن شاعرا يطلب بشعره الجوائز كما يطلبها المتنبي، بل هو كما قال عن شعره:
لم أعد فيه مفاخري | ومديح آبائي النجب |
ومقطعات ربما | أميلت منهن الكتب |
لا في المديح ولا الهجا | ء ولا المجون ولا اللعب |
فعلى أي شيء يحسد المتنبي أعلى مكانته من سيف الدولة وليس لأحد منه مكانة أبي فراس، وهو يخاطبه بسيدي حين تكلم في إجازة أبيات قال: ليس لها إلا سيدي، أم على جوائزه وليس أبو فراس ممن يستجدي بشعره والحسد إنما يكون بين المتشاركين في صنعة واحدة وما دعا أبا فراس إلى الكلام عليه أمام سيف الدولة بحضوره وفي غيابه إلا عجرفته وسوء أدبه وكفرانه النعمة فهو بعدما كان يجوب القفار على قدميه في طلب الرزق فلا يجد لبضاعته مشتريا ويقتنع من الجائزة على قصائده بدينار إن وجده، وبعدما أدر عليه سيف الدولة بعد أبي العشائر العطايا وأغدق له الجوائز ومنحه ألوفا من الدنانير صار يستطيل على سيف الدولة وينسبه إلى التقصير في حقه وخفر ذمته ويفتخر عليه ويمتن عليه ويهدده بالمفارقة وحصول الندم ويستطيل على ابن عمه وصهره وقائد جيشه ووزير حربه وشاعره المفلق أبي فراس ويهجوه بحضرته ويقول إن شحمه ورم ولم يمدحه طول إقامته ولو بيت من الشعر ومدح من هو دونه وأبو فراس هو الذي قيل فيه بدئ الشعر بملك وختم بملك بدئ بامرئ القيس وختم بأبي فراس، ولم يؤخذ على أبي فراس بشيء فهو كالدر المنظوم والذهب المسبوك والفضة المصفاة كما أخذ على المتنبي، وهو لا يقصر عن المتنبي في محاسنه ولا يشاركه في مقابحه، كل هذا وسيف الدولة يحلم عنه وهو لا يزداد إلا تماديا حتى أنه في آخر إنشاده لهذه الميمية التي هي الطامة الكبرى ترضاه وقبل رأسه وأجازه بألفي دينار فلم يثنه ذلك عن عزمه وفارقه، ولسنا نمنع أن يكون الشعراء الذين كانوا بحضرة سيف الدولة- غير أبي فراس- كانوا يحسدونه، لكننا لا نبرئ المتنبي من حسده لهم وفيهم فحول الشعراء وقادة النظم والنثر فإنه كان مجبولا على حب التفوق واحتقار من سواه أيا كان فقد كان الأولى به أن يتألفهم لا أن يستطيل عليهم ويتهددهم بأن ضحكه لهم ليس إلا كضحك الأسد وينسبهم للجهل ويصفهم بأنهم زعانف وأنهم لا عرب ولا عجم.
وفي ديوانه أنه لما أنشد هذه القصيدة الميمية وانصرف اضطرب المجلس وكان نبطي من كبراء كتابه يقال له أبو الفرج السامري فقال له: دعني أسعى في ذمه، فرخص له في ذلك، وفيه يقول أبو الطيب:
أسامري ضحكة كل رأي | فطنت وكنت أغبى الأغبياء |
صغرت عن المديح فقلت أهجي | كأنك ما صغرت عن الهجاء |
وما فكرت قبلك في محال | ولا جربت سيفي في هباء |
وكأنه أرعوى بعض الإرعواء فقال مستعتبا من القصيدة الميمية:
ألا ما لسيف الدولة اليوم عاتبا | فداه الورى أمضى السيوف مضاربا |
حنانيك مسؤولا ولبيك داعيا | وحسبي موهوبا وحسبك واهبا |
أهذا جزاء الصدق إن كنت صادقا | أهذا جزاء الكذب إن كنت كاذبا |
وإن كان ذنبي كل ذنب فإنه | محا الذنب كل الذنب من جاء تائبا |
ولما رضي عنه قال يمدحه بهذه القصيدة:
أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل | دعا فلباه قبل الركب والإبل |
ظللت بين أصحابي أكفكفه | وظل يسفح بين العذر والعذل |
وما صبابة مشتاق على أمل | من اللقاء كمشتاق بلا أمل |
متى تزر قوم من تهوى زيارتها | لا يتحفوك بغير البيض والأسل |
والهجر أقتل لي مما أراقبه | أنا الغريق فما خوفي من البلل |
تشبه الخفرات الآنسات بها | في مشيها فينلن الحسن بالحيل |
وقد طرقت فتاة الحي مرتديا | بصاحب غير عزهاة ولا غزل |
فبات بين تراقينا ندفعه | وليس يعلم بالشكوى ولا القبل |
ثم اغتدى وبه من درعها أثر | على ذؤابته والجفن والخلل |
لا أكسب الذكر إلا من مضاربه | أو من سنان أصم الكعب معتدل |
جاد الأمير به لي في مواهبه | فزانها وكساني الدرع في الحلل |
ومن علي بن عبد الله معرفتي | بحمله من كعبد الله أو كعلي |
معطي الكواعب والجرد السلاهب والـ | ـبيض القواضب والعسالة والبذل |
ضاق الزمان ووجه الأرض عن ملك | ملء الزمان وملء السهل والجبل |
فنحن في جذل والروم في وجل | والبر في شغل والبحر في خجل |
من تغلب الغالبين الناس منصبه | ومن عندي أعادي الجبن والبخل |
ليت المدائح تستوفي مناقبه | فما كليب وأهل الأعصر الأول |
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به | في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل |
وقد وجدت مكان القول ذا سعة | فإن وجدت لسانا قائلا فقل |
تمسي الأماني صرعى دون مبلغه | فما تقول لشيء ليت ذلك لي |
بالشرق والغرب أقوام نحبهم | فطالعاهم وكونا أبلغ الرسل |
وعرفاهم بأني في مكارمه | أقلب الطرف بين الخيل والخول |
يا أيها المحسن المشكور من جهتي | والشكر من قبل الإنسان لا قبلي |
أقل أنل اقطع احمل عل سل أعد | زد هش بش تفضل أدن سر صل |
لعل عتبك محمود عواقبه | فربما صحت الأجسام بالعلل |
وما سمعت وما غيري بمقتدر | أذب منك لزور القول عن رجل |
وما ثناك كلام الناس عن كرم | ومن يسد طريق العارض الهطل |
وفي اليتيمة لما أنشد سيف الدولة هذه القصيدة وناوله نسختها وخرج نظر فيها سيف الدولة فلما انتهى إلى قوله:
أقل أنل أقطع أحمل عل سل أعد | زد هش بش تفضل دن سر صل |
وقع تحت أقل قد أقلناك وتحت أنل يحمل إليه من الدراهم كذا وتحت أقطع قد أقطعناك الضيعة الفلانية ضيعة ببلاد حلب وتحت إحمل يقاد إليه الفرس الفلاني وتحت عل قد فعلنا وتحت سل قد فعلنا فاسل وتحت أعد أعدناك إلى حالك من حسن رأينا وتحت زد يزاد وتحت أدن قد أدنيناك وتحت سر قد سررناك. قال ابن جني فبلغني عن المتنبي أنه قال إنما أردت سر من السرية فأمر له بجارية وتحت صل فعلنا. قال وحكى لي بعض إخواننا أن المعقلي وهو شيخ كان بحضرته ظريف قال له وحسد المتنبي على ما أمر له به يا مولاي قد فعلت به كل شيء سالكه فهلا قلت له لما قال لك هش بش هه هه هه يحكي له الضحك فضحك سيف الدولة وقال له وذلك أيضا ما تحب وأمر له بصلة.
وذكر القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني في كتاب الوساطة أن أبا الطيب نسج على منوال ديك الجن حيث قال:
أحل وامرر وضر وانفع ولن واخـ | ـشن وابر وانتدب للمعالي |
(مفارقته لسيف الدولة وسببها)
مر عن علي بن كوجك أن أحد أسباب فراقه سيف الدولة ما جرى بينه وبين ابن خالويه ومر أن سيف الدولة تغير عليه لكثرة إدلاله وأن أبا فراس أنف من ذلك وتكلم فيه مع سيف الدولة فأثر فيه كلامه فقال المتنبي الأبيات التي أولها (ألا ما لسيف الدولة اليوم عاتبا) وأن سيف الدولة غضب من كثرة مناقشته في الميمية وكثرة دعاويه وأنه ضرب بدواة كانت بين يديه ثم رضي عنه وبالجملة يفهم من مجموع ما تقدم تغير سيف الدولة عليه بسبب عجرفته كما يشير إليه أيضا ما مر من أنه لما أنشد القصيدة الميمية اضطرب المجلس لما اشتملت عليه من التظلم من سيف الدولة ونسبته إلى عدم الإنصاف وعدم معرفة الرجال والتفرقة بينها وافتخاره الافتخار المتجاوز الحد وتهديده له بالمفارقة وأن سيف الدولة سيندم إذا فارقه وغير ذلك، ومن التأمل في الميمية السابقة يظهر أنه كان قد حدث نفسه بمفارقته في ذلك الحين وصرح به في قوله:
يا من يعز علينا أن نفارقهم | وجداننا كل شيء بعدكم عدم |
وقوله:
أرى النوى تقتضيني كل مرحلة | لا تستقل بها الوخادة الرسم |
لئن تركن ضميرا عن مآمننا | ليحدثن لمن ودعتهم ندم |
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا | أن لا تفارقهم فالراحلون هم |
وفي الصبح المنبي أنه لما عزم أبو الطيب على الرحيل من حلب وذلك في سنة 346 لم يجد بلدا إليه أقرب من دمشق لأن حمص كانت من بلاد سيف الدولة فسار إلى الشام وألقى بها عصى تسياره.
(سفره إلى مصر واتصاله بكافور)
وكان بدمشق يهودي من أهل تدمر يعرف بابن ملك من قبل كافور ملك مصر فالتمس من المتنبي أن يمدحه فثقل عليه فغضب ابن ملك وجعل كافور الأخشيدي يكتب في طلب المتنبي من ابن ملك فكتب إليه ابن ملك إن أبا الطيب قال لم أقصد العبد وإن دخلت مصر فما قصدي إلا ابن سيده ونبت دمشق بأبي الطيب فسار إلى الرملة فحمل إليه أميرها الحسين بن طغج هدايا نفيسة وخلع عليه وحمله على فرس بموكب ثقيل وقلده سيفا وكان كافور الأخشيدي يقول لأصحابه أترونه يبلغ الرملة ولا يأتينا وأخبر المتنبي أنه وجد عليه ثم كتب كافور يطلبه من أمير الرملة فتوجه إلى مصر.
(كافور الإخشيدي)
وكافور هذا عبد أسود خصي مثقوب الشفة السفلى بطين قبيح القدمين ثقيل البدن لا فرق بينه وبين الأمة وكان لقوم مصريين يعرفون ببني عياش يستخدمونه في مصالح السوق وكان ابن عياش يربط في رأسه حبلا إذا أراد النوم فإذا أراد منه حاجة جذبه بالحبل لأنه كان ثقيل النوم وكان غلمان ابن طغج يصفعونه في الأسواق فيضحك فقالوا هذا الأسود خفيف الروح وكلموا صاحبه في بيعه فوهبه لهم ومات سيده أبو بكر بن طغج وولده صغير وتقيد الأسود بخدمته وأخذت البيعة لولد سيده وتفرد الأسود بخدمته وخدمة والدته فقرب من شاء وبعد من شاء فنظر الناس إليه من صغر هممهم وخسة أنفسهم فتسابقوا إلى التقرب إليه وسعى بعضهم ببعض حتى صار الرجل لا يأمن أهل داره على أسراره وصار كل عبد بمصر يرى أنه خير من سيده ثم ملك الأمر على ابن سيده وأمر أن لا يكلمه أحد من مماليك أبيه ومن كلمه أتلفه.
فلما كبر ابن سيده جعل يبوح بما في نفسه وهو على الشراب ففزع منه كافور وسمه فقتله وخلت له مصر وإلى ذلك يشير المتنبي في هجوه لكافور بقوله:
أكلما اغتال عبد السوء سيده | في أرضكم فله في مصر تمهيد |
(وصول أبو الطيب إلى مصر)
ولما قدم عليه أبو الطيب بمصر أخلى له دارا و خلع عليه وحمل إليه آلافا من الدراهم فقال يمدحه هكذا في ديوانه وفي الصبح المنبي أن كافورا لما ورد عليه المتنبي بمصر أمر له بمنزل ووكل به جماعة وأظهر التهمة له وطالبه بمدحه فلم يمدحه فخلع عليه فقال أبو الطيب يمدحه في جمادى الآخرة سنة 346 من قصيدة أولها:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا | وحسب المنايا أن يكن أمانيا |
تمنيتها لما تمنيت أن ترى | صديقا فاعيا أو عدوا مداجيا |
إذا كنت ترضى أن نعيش بذلة | فلا تستعدن الحسام اليمانيا |
ولا تستطلين الرماح لغارة | ولا تستجيدن العتاق المذاكيا |
فما ينفع الأسد الحياء من الطوى | ولا تتقى حتى تكون ضواريا |
إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى | فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا |
وللنفس أخلاق تدل على الفتى | أكان سخاء ما أتى أم تساخيا |
وجردا مددنا بين آذانها القنا | فبتن خفافا يبتعن العواليا |
تمشى بأيد كلما وافت الصفا | نقشن به صدر البزاة حوافيا |
وتنظر من سود صوادق في الدجى | برين بعيدات الشخوص كماهيا |
وتنصب للجرس الخفي سوامعا | يخلن مناجات الضمير تناجيا |
تجاذب فرسان الصباح أعنة | كأن على الأعناق منها أفاعيا |
بعزم يسير الجسم في السرج راكبا | به ويسير القلب في الجسم ماشيا |
قواصد كافور توارك غيره | ومن قصد البحر استقل السواقيا |
فجاءت بنا إنسان عين زمانه | وخلت بياضا خلفها ومآقيا |
وهذا البيت- كما قيل- أحسن ما مدح به ملك أسود:
أبا المسك ذا الوجه الذي كنت تائقا | إليه وذا اليوم الذي كنت راجيا |
لقيت المروري والشناخيب دونه | وجبت هجيرا يترك الماء صاديا |
أبا كل طيب لا أبا المسك وحده | وكل سحائب لا أخص الغواديا |
يدل بمعنى واحد كل فاخر | وقد جمع الرحمن فيك المعانيا |
وتحتقر الدنيا احتقار مجرب | يرى كل ما فيها وحاشاك فانيا |
وقال يمدحه في سلخ شهر رمضان سنة 346
من الجآذر في زي الأعاريب | حمر الحلى والمطايا والجلابيب |
إن كنت تسأل شكا في معارفها | فمن بلاك بتسهيد وتعذيب |
سوائر ربما سارت هوادجها | منيعة بين مطعون ومضروب |
وربما وخدت أيدي المطيب ها | على نجيع من الفرسان مصبوب |
كم زورة لك في الأعراب خافية | أدهى وقد رقدوا من زورة الذيب |
أزورهم وسواد الليل يشفع لي | وأنثني وبياض الصبح يغري بي |
قد وافقوا الوحش في سكنى مراتعها | وخالفوها بتقويض وتطنيب |
جيرانها وهم شر الجوار لها | وصحبها وهم شر الأصاحيب |
فؤاد كل محب في بيوتهم | ومال كل أخيذ المال محروب |
ما أوجه الحضر المستحسنات به | كأوجه البدويات الرعابيب |
حسن الحضارة مجلوب بتطرية | وفي البداوة حسن غير مجلوب |
أين المعيز من الآرام ناظرة | وغير ناظرة في الحسن والطيب |
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها | مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب |
ولا برزن من الحمام ماثلة | أوراكهن صقيلات العراقيب |
ومن هوى كل من ليست مموهة | تركت لون مشيبي غير مخصوب |
ومن هوى الصدق في قولي وعادته | رغبت عن شعر في الرأس مكذوب |
ليت الحوادث باعتني الذي أخذت | مني بحلمي الذي أعطت وتجريبي |
فما الحداثة من حلم بمانعة | قد يوجد الحلم في الشبان والشيب |
ترعرع الملك الأستاذ مكتهلا | قبل اكتهال أديبا قبل تأديب |
يدبر الملك من مصر إلى عدن | إلى العراق فأرض الروم فالنوب |
كأن كل سؤال في مسامعه | قميص يوسف في أجفان يعقوب |
وفي الصبح المنبي أنه كان يقف بين يدي كافور وفي رجليه خفان وفي وسطه سيف ومنطقة ويركب بجاجبين من مماليكه وهما بالسيوف والمناطق وكان لا يجلس بمجلس كافور فأرسل إليه من قال له قد طال قيامك يا أبا الطيب في مجلس كافور يريد أن يعلم ما في نفسه فقال ارتجالا:
يقل له القيام على الرؤوس | وبذل المكرمات من النفوس |
إذا خانته في يوم ضحوك | فكيف تكون في يوم عبوس |
وقاد إليه كافور فرسا فقال يمدحه من قصيدة:
فراق ومن فارقت غير مذمم | وأم ومن يممت خير ميمم |
وما منزل اللذات عندي بمنزل | إذا لم أبجل عنده وأكرم |
رحلت فكم باك بأجفان شادن | علي وكم باك بأجفان ضيغم |
وما ربة القرط المليح مكانه | بأجزع من رب الحسام المصمم |
فلو كان ما بي من حبيب مقنع | عذرت ولكن من حبيب معمم |
رمى واتقى رميي ومن دون ما اتقى | هوى كاسر كفي وقوسي وأسهمي |
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه | و صدق ما يعتاده من توهم |
وعادى محبيه بقول عداته | وأصبح في ليل من الشك مظلم |
أصادق نفس المرء من قبل جسمه | وأعرفها في فعله والتكلم |
وأحلم عن خلي وأعلم أنه | متى أجزه حلما على الجهل يندم |
وأهوى من الفتيان كل سميذع | نجيب كصدر السمهري المقوم |
خطت تحته العيس الفلاة وخالطت | به الخيل كبات الخميس العرمرم |
ولا عفة في سيفه وسنانه | ولكنها في الكف والطرف والفم |
وما كل هاو للجميل بفاعل | ولا كل فعال له بمتمم |
فدى لأبي المسك الكرام فإنها | سوابق خيل يهتدين بأدهم |
أعر بمجد قد شخصن وراءه | إلى خلق رحب وخلق مطهم |
وفي الصبح المنبي: من رام معرفة مراد أبي الطيب في هذين البيتين فعليه يقول ابن الرومي:
هم الغرة البيضاء من آل مصعب | وهم بقعة التحجيل والناس أدهم |
ومن مثل كافور إذا الخيل أحجمت | وكان قليلا من يوق للها اقدمي |
شديد ثبات الطرف والنقع واصل | إلى لهوات الفارس المتلثم |
أبا المسك أرجو منك نصرا على العدى | وآمل عزا يخضب البيض بالدم |
ويوما بغيظ الحاسدين وحالة | أقيم الشقا فيها مقام التنعم |
فلو لم تكن في مصر ما سرت نحوها | بقلب المشوق المستهام المتيم |
ولا اتبعت آثارنا عين قائف | فلم تر إلا حافرا فوق منسم |
وسمنا بها البيداء حتى تغمرت | من النيل واستذرت بظل المقطم |
وأبلج يعصي باختصاصي مشيره | عصيت بقصديه مشيري ولومي |
وهذا البيت إشارة إلى ما كان يكتبه ابن ملك اليهودي إلى كافور بحق المتنبي كما مر.
فساق إلي العرف غير مكدر | وسقت إليه الشكر غير مجمجم |
فأحسن وجه في الورى وجه محسن | وأيمن كف فيهم كف منعم |
وأشرفهم من كان أشرف همة | وأكثر إقداما على كل معظم |
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها | سرور محب أو مساءة مجرم |
وقال يمدحه في شوال سنة 347 من قصيدة:
وكم لظلام الليل عندك من يد | تخبر أن المانوية تكذب |
ويوم كليل العاشقين كمنته | أراقب فيه الشمس أيان تغرب |
وعيني إلى أذني أغر كأنه | من الليل باق بين عينيه كوكب |
له فضلة عن جسمه في إهابه | تجيء على صدر رحيب وتذهب |
وما الخيل إلا كالصديق قليلة | وإن كثرت في عين من لا يجرب |
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها | وأعضائها فلحسن عنك مغيب |
ألا ليت شعري هل أقول قصيدة | فلا أشتكي فيها ولا أتعتب |
وبي ما يذود الشعر عني أقله | ولكن قلبي يا ابنة القوم قلب |
وأخلاق كافور إذا شئت مدحه | وإن لم أشأ تملي علي وأكتب |
ومن قوله في هذه القصيدة يستزيده في العطاء ويطلب منه أن يقطعه ضيعة أو يوليه ولاية:
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله | فإني أغني منذ حين وتشرب |
وهبت على مقدار كفي زماننا | ونفسي على مقدار كفيك تطلب |
وهذا من أحسن ما قيل في طلب الزيادة والاعتذار عن الممدوح.
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية | فجودك يكسوني وشغلك يسلب |
وكل امرئ يولي الجميل محبب | وكل مكان ينبت العز طيب |
يريد بك الحساد ما الله دافع | وسمر العوالي والحديد المذرب |
إذ طلبوا جدواك أعطوا وحكموا | وإن طلبوا الفضل الذي فيك خيبوا |
ولو جاز أن يحووا علاك وهبتها | ولكن من الأشياء ما ليس يوهب |
وأظلم أهل الظلم من بات حاسدا | لمن بات في نعمائه يتقلب |
وما طربي لما رأيتك بدعة | لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب |
قال أبو الفتح بن جني: لما قرأت على أبي الطيب هذا البيت قلت له: لم تزد على أن جعلته أبا زنة- وهو القرد- فضحك أبو الطيب: فإنه بالذم أشبه منه بالمدح. ومنها في وصف شعره:
فشرق حتى ليس للشرق مشرق | وغرب حتى ليس للغرب مغرب |
إذا قلته لم يمتنع من وصوله | جدار معلى أو خباء مطنب |
واتصل بأبي الطيب وهو في مصر أن قوما نعوه في مجلس سيف الدولة بحلب، فقال ولم ينشدها كافورا:
بم التعلل لا أهل ولا وطن | ولا نديم ولا كأس ولا سكن |
أريد من زمني ذا أن يبلغني | ما ليس يبلغه في نفسه الزمن |
لا تلق دهرك إلا غير مكترث | ما دام يصحب فيه روحك البدن |
فما يديم سرورا ما سررت به | ولا يرد عليك الفائت الحزن |
تحملوا حملتكم كل ناحية | فكل بين علي اليوم مؤتمن |
ما في هوادجكم من مهجتي عوض | إن مت شوقا ولا فيها لها ثمن |
يا من نعيت على بعد بمجلسه | كل بما زعم الناعون مرتهن |
كم قد قتلت وكم قد مت عندكم | ثم انتفضت فزال القبر والكفن |
قد كان شاهد دفني قبل قولهم | جماعة ثم ماتوا قبل من دفنوا |
ما كل ما يتمنى المرء يدركه | تجري الرياح بما لا تشتهي السفن |
رأيتكم لا يصون العرض جاركم | ولا يدر على مرعاكم اللبن |
وهذا البيت من أعظم الهجاء وأبلغه.
جزاء كل قريب منكم ملل | وحظ كل محب منكم ضغن |
وتغضبون على من نال رفدكم | حتى يعاقبه التنغيص والمنن |
فغادر الهجر ما بيني وبينكم | يهماء تكذب فيها العين والأذن |
تحبوا الرواسم من بعد الرسيم بها | وتسأل الأرض عن أخفافها الثفن |
ولا أقيم على مال أذل به | ولا ألذ بما عرضي به درن |
سهرت بعد رحيلي وحشة لكم | ثم استمر مريري وارعوى الوسن |
وإن بليت بود مثل ودكم | فإنني بفراق مثله قمن |
قال ابن جني: لما سمع سيف الدولة هذا البيت قال: سار وحق أبي.
أبلى الأجلة مهري عند غيركم | وبدل العذر بالفسطاط والرسن |
عند الهمام أبي المسك الذي غرقت | في جوده مضر الحمراء واليمن |
وإن تأخر عني بعض موعده | فما تأخر آمالي ولا تهن |
هو الوفي ولكني ذكرت له | مودة فهو يبلوها ويمتحن |
ومن تأمل شعره بعد فراق سيف الدولة علم أنه كان كثيرا ما يتحاشى أن يقول فيه سوءا ثم تغلبه نفسه فيفوه ببعض الشيء من ذلك كقوله:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه | وصدق ما يعتاده من توهم |
وعادى محبيه بقول عداته | وأصبح في ليل من الشك مظلم |
وقوله:
رأيتكم لا يصون العرض جاركم | ولا يدر على مرعاكم اللبن |
وقد قال: "فراق ومن فارقت غير مذمم" وكان يظهر منه الندم على فراق سيف الدولة وقد كان يظهر من سيف الدولة مثل ذلك فقد أرسل ولده إليه إلى الكوفة ليعود ومدحه المتنبي ورثى بعض مستوراته. وقد قال في ما مدح به كافورا.
أما تغلط الأيام في بأن أرى | بغيضا تنائي أو حبيبا تقرب |
ولله سيري ما أقل تئية | عشية شرقي الحدالى وعرب |
عشية أجفى الناس بي من جفوته | وأهدى الطريقين التي أتجنب |
فقد صرح بأن الليالي تقرب إليه البغيض وتنائي عنه الحبيب وما عرض إلا بكافور وسيف الدولة. والحدالى موضع بالشام وعرب جبل هناك. وكذلك البيت الأخير كاد يصرح فيه بأن سيف الدولة كان أجفى به من كافور وأن طريقه إلى سيف الدولة أهدى من طريقه إلى كافور.
وأصابته وهو بمصر حمى فقال يصفها من قصيدة ويعرض بالرحيل عن مصر وذلك في ذي الحجة سنة 348:
ولم أر في عيوب الناس شيئا | كنقص القادرين على التمام |
أقمت بأرض مصر فلا ورائي | تخب بي الركاب ولا أمامي |
وزائرتي كأن بها حياء | فليس تزور إلا في الظلام |
بذلت لها المطارف والحشايا | فعافتها وباتت في عظامي |
يضيق الجلد عن نفسي وعنها | فتوسعه بأنواع السقام |
كأن الصبح يطردها فتجري | مدامعها بأربعة سجام |
أراقب وقتها من غير شوق | مراقبة المشوق المستهام |
ويصدق وعدها والصدق شر | إذا ألقاك في الكرب العظام |
جرحت مجرحا لم يبق فيه | مكان للسيوف ولا السهام |
يقول لي الطبيب أكلت شيئا | وداؤك في شرابك والطعام |
وما في طبه أني جواد | أضر بجسمه طول الجمام |
تعود أن يغبر في السرايا | ويدخل من قتام في قتام |
فإن أمرض فما مرض اصطباري | وإن أحمم فما حم اعتزامي |
وإن أسلم فما أبقى ولكن | سلمت من الحمام إلى الحمام |
وقال يمدح كافورا من قصيدة وأنشده إياها في شوال سنة 349 وهي آخر ما مدحه به:
وإني لنجم تهتدي صحبتي به | إذا حال من دون النجوم سحاب |
غني عن الأوطان لا يستخفني | إلى بلد سافرت عنه إياب |
وأصدى فلا أبدي إلى الماء حاجة | وللشمس فوق اليعملات لعاب |
وللسر مني موضع لا يناله | نديم ولا يفضي إليه شراب |
وللخود مني ساعة ثم بيننا | فلاة إلى غير اللقاء تجاب |
وما العشق إلا غرة وطماعة | يعرض قلب نفسه فيصاب |
أعز مكان في الدنى سرج سابح | وخير جليس في الزمان كتاب |
وبحر أبي المسك الخضم الذي له | على كل بحر زخرة وعباب |
تجاوز قدر المدح حتى كأنه | بأحسن ما يثنى عليه يعاب |
ويا آخذا من دهره حق نفسه | ومثلك يعطى حقه ويثاب |
أرى لي بقربي منك عينا قريرة | وإن كان قربا بالبعاد يشاب |
وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا | ودون الذي أملت منك حجاب |
وفي النفس حاجات وفيك فطانة | سكوتي بيان عندها وخطاب |
وما شئت إلا أن أدل عواذلي | على أن رأيي في هواك صواب |
وأعلم قوما خالفوني فشرقوا | وغربت أني قد ظفرت وخابوا |
إذا نلت منك الود فالمال هين | وكل الذي فوق التراب تراب |
وفي الصبح المنبي فقطع أبو الطيب بعد إنشاد هذه القصيدة لا يلقى الأسود إلا أن يركب فيسير معه في الطريق وعمل على الرحيل وقد أعد له كل ما يحتاج إليه على ممر الأيام بلطف ورفق ولا يعلم به أحد من غلمانه وهو يظهر الرغبة في المقام وطال عليه التحفظ فخرج ودفن الرماح في الرمال وحمل الماء على الإبل لعشر ليال وتزود لعشرين.
وقال في يوم عرفة من سنة 350 يهجو كافورا:
عيد بأية حال عدت يا عيد | بما مضى أم لأمر فيك تجديد |
أما الأحبة فالبيداء دونهم | فليت دونك بيدا دونها بيد |
لولا العلى لم تجب بي ما أجوب بها | وجناء حرف ولا جرداء قيدود |
وكان أطيب من سيفي معانقة | أشباه رونقه الغيد الأماليد |
لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي | شيئا تتميه عين ولا جيد |
يا ساقيي أخمر في كؤوسكما | أم في كؤوسكما هم وتسهيد |
أصخرة أنا ما لي لا تحركني | هذي المدام ولا هذي الأغاريد |
إذا أردت كميت اللون صافية | وجدتها وحبيب النفس مفقود |
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه | أني بما أنا شاك منه محسود |
إني نزلت بكذابين ضيفهم | عن القرى وعن الترحال محدود |
جود الرجال من الأيدي وجودهم | من اللسان فلا كانوا ولا الجود |
ما يقبض الموق نفسا من نفوسهم | إلا وفي يده من نتنها عود |
أكلما اغتال عبد السوء سيده | أو خانه فله مصر تمهيد |
صار الخصي أمام الآبقين بها | فالحر مستعبد والعبد معبود |
نامت نواطير مصر عن ثعالبها | فقد بشمن وما تفنى العناقيد |
العبد ليس لحر صالح بأخ | لو أنه في ثياب الحر مولود |
لا تشتر العبد إلأا والعصا معه | إن العبيد لأنجاس مناكيد |
ما كنت أحسبني أحيا إلى زمن | يسيء بي فيه عبد وهو محمود |
وإن ذا الأسود المثقوب مشفره | تعطيه ذي العضاريط الرعاديد |
جوعان يأكل من زادي ويمسكني | لكي يقال عظيم القدر مقصود |
ويلمها خطة ويلم قابلها | لمثلها خلق المهرية القود |
من علم الأسود المخصي مكرمة | أقومه البيض أم آباؤه الصيد |
أم أذنه في يد النخاس دامية | أم قدره وهو الفلسين مردود |
وذاك أن الفحول البيض عاجزة | عن الجميل فكيف الخصية السود |
وكتب إلى عبد العزيز بن يوسف الخزاعي في بلبيس يطلب منه دليلا فأنفذه إليه فمدحه بأبيات وهذا وغيره يدل على أن جملة من الناس كانوا قد علموا بخروجه ولم يخبروا به كافورا.
وقدم أبو شجاع فاتك الأخشيدي المعروف بالمجنون من الفيوم إلى مصر فوصل أبا الطيب وحمل إليه هدية قيمتها ألف دينار فقال يمدحه من قصيدة:
لا خيل عندك تهديها ولا مال | فليسعد النطق إن لم تسعد الحال |
لا يدرك المجد إلا سيد فطن | لما يشق على السادات فعال |
تدري القناة إذا اهتزت براحته | أن الشقي بها خليل وأبطال |
كفاتك ودخول الكاف منقصة | كالشمس قلت وما للشمس أمثال |
القائد الأسد غذتها براثنه | بمثلها من عداه وهي أشبال |
إذا الملوك تحلت كان حليته | مهند واصم الكعب عسال |
أبو شجاع أبو الشجعان قاطبة | هول نمته من الهيجاء أهوال |
تملك الحمد حتى ما لمفتخر | في الحمد حاء ولا ميم ولا دوال |
عليه من سرابيل مضاعفة | وقد كفاه من الماذي سربال |
كأن نفسك لا ترضاك صاحبها | إلا وأنت على المفضال مفضال |
ولا تعدك صوانا لمهجتها | إلا وأنت لها في الروع بذال |
لولا المشقة ساد الناس كلهم | الجود يفقر والإقدام قتال |
وإنما يبلغ الإنسان طاقته | ما كل ماشية بالرحل شملال |
إنا لفي زمن ترك القبيح به | من أكثر الناس إحسان وإجمال |
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته | ما فاته وفضول العيش إشغال |
وتوفي أبو شجاع فاتك بمصر سنة 350 فقال أبو الطيب يرثيه بعد خروجه منها ويهجو كافورا من قصيدة:
الحزن يقلق والتجمل يردع | والدمع بينهما عصي طيع |
تصفو الحياة لجاهل أو غافل | عما مضى فيها وما يتوقع |
ولمن يغالط في الحقائق نفسه | ويسومها طلب المحال فتطمع |
أين الذي الهرمان من بنيانه | ما قومه ما يومه ما المصرع |
تتخلف الآثار عن أصحابها | حينا ويدركها الفناء فتتبع |
كنا نظن دياره مملوءة | ذهبا فمات وكل دار بلقع |
المجد أخسر والمكارم صفقة | من أن يعيش لها الهمام الأروع |
والناس أنزل في زمانك منزلا | من أن تعايشهم وقدرك أرفع |
ولقد أراك وما تلم ملمة | إلا نفاها عنك قلب أصمع |
ويد كأن نوالها وقتالها | فرض يحق عليك وهو تبرع |
يا من يبدل كل يوم حلة | أنى رضيت بحلة لا تنزع |
ما زلت تخلعها على من شاءها | حتى لبست اليوم ما لا تخلع |
ما زلت تدفع كل أمر فادح | حتى أتى الأمر الذي لا يدفع |
فظللت تنظر لا رماحك شرع | فيما عراك ولا سيوفك قطع |
بأبي الوحيد وجيشه متكاثر | يبكي ومن شر السلاح الأدمع |
من للمحافل والجحافل والسرى | فقدت بفقدك نيرا لا يطلع |
ومن اتخذت على الضيوف خليفة | ضاعوا ومثلك لا يكاد يضيع |
قبحا لوجهك يا زمان فإنه | وجه له من كل قبح برقع |
أيموت مثل أبي شجاع فاتك | ويعيش حاسده الخصي الأوكع |
فاليوم قر لكل وحش نافر | دمه وكان كأنه يتطلع |
وعفا الطراد فلا سنان راعف | فوق القناة ولا حسام يلمع |
من كان فيه لكل قوم ملجأ | ولسيفه في كل قوم مرتع |
لا قلبت أيدي الفوارس بعده | رمحا ولا حملت جوادا أربع |
قال بالكوفة يرثيه ويذكر خروجه من مصر من قصيدة:
لا أبغض العيس لكني وقيت بها | قلبي من الحزن أو جسمي من السقم |
طردت من مصر أيديها بأرجلها | حتى مرقن بنا من جوش والعلم |
في غلمة أخطروا أرواحهم ورضوا | بما لقين رضى الأيسار بالزلم |
بيض الأعاريض طعانون من لحقوا | من الفوارس شلالون للنعم |
قد بلغوا بقناهم فوق طاقته | وليس يبلغ ما فيهم من الهمم |
لا فاتك آخر في مصر نقصده | ولا له خلف في الناس كلهم |
من لا تشابهه الأحياء في شيم | أمسى تشابهه الأموات في الرمم |
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي | المجد للسيف ليس المجد للقلم |
أكتب بنا أبدا بعد الكتاب به | فإنما نحن للأسياف كالخدم |
من اقتضى بسوى الهندي حاجته | أجاب كل سؤال عن هل بلم |
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة | بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم |
هون على بصر ما شق منظره | فإنما يقظات العين كالحلم |
ولا تشك إلى خلق فتشتمه | شكوى الجريح إلى الغربان والرخم |
وكن على حذر للناس تستره | ولا يغرك منهم ثغر مبتسم |
غاض الوفاء فما تلقاه في عدة | وأعوز الصدق في الأخبار والقسم |
سبحان خالق نفسي كيف لذتها | فيما النفوس تراه غاية الألم |
أتى الزمان بنوه في شبيبته | فسرهم وأتيناه على الهرم |
سبب الوحشة بين كافور وأبي الطيب
في الصبح المنبي: أن أبا الطيب سأل كافورا أن يوليه صيدا من بلاد الشام أو غيرها من بلاد الصعيد، فقال له كافور: أنت في حال الفقر وسوء الحال وعدم المعين سمت نفسك إلى النبوة، فإن أصبت ولاية وصار لك أتباع فمن يطيقك. ثم وقعت الوحشة بينهما ووضع كافور عليه العيون والأرصاد خوفا من أن يهرب، وأحس المتنبي بالشر.
قال الوحيدي: كنت بمصر وبها أبو الطيب ووقفت من أمره على شفا الهلاك ودعتني نفسي لحب أهل الأدب إلى أن أحثه على الخروج من مصر فخشيت على نفسي أن يشيع ذلك عني وكان هو مستعدا للهرب وإنما فات أظافير الموت ومخالب المنية من قرب وهو جنى ذلك من بيت شريف أهل وزارة ورئاسة ومن العلم والأدب بموضع جليل وهو باب الملك فأتى من غير بابه وأنشده القصيدة اليائية التي أولها:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا | وحسب المنايا أن يكن أمانيا |
تمنيتها لما تمنيت أن ترى | صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا |
وهذا الابتداء مما تمجه الأسماع فقبح ابن حرابة أثره ثم لم يزل يذكر سواد كافور دارا بإزاء الجامع الأعلى على البركة:
إنما يفخر الكريم أبو المسـ | ـك بما يبتني من العلياء |
وبأيامه التي انسلخت عنـ | ـه وما داره سوى الهيجاء |
وبما أثرت صوارمه البيـ | ـض له في جماجم الأعداء |
وبمسك يكنى له ليس بالمسـ | ـك ولكنه أريج الثناء |
نزلت إذ نزلتها الدار في أحـ | ـسن منها من السنا والسناء |
حل في منبت الرياحين منها | منبت المكرمات والآلام |
تفضح الشمس كلما ذرت الشمـ | ـس بشمس منيرة سوداء |
إن في ثوبك الذي المجد فيه | لضياء يزري بكل ضياء |
إنما الجلد ملبس وابيضاض النـ | ـفس خير من ابيضاض القباء |
كرم في شجاعة وذكاء | في بهاء وقدرة في وفاء |
من لبيض الملوك أن تبدل اللو | ن بلون الأستاذ والسحناء |
يا رجاء العيون في كل أرض | لم يكن غير أن أراك رجائي |
قال الوحيدي كان المتنبي يعلم أن ذكر السواد على مسامع كافور أمر من الموت فإذا ذكر لون السواد بعد ذلك فقد أساء إلى نفسه وعرضها للقتل والحرمان وكان من إحسان الصنعة وإجمال الطلب أن لا يذكر لونه وله عنه مندوحة ولكن الرجل كان يسيء الرأي وسوء رأيه أخرجه من حضرة سيف الدولة وشدة تعرضه لعداوة الناس وقد ذكر سواد كافور في عدة مواضع وكان اللائق أن لا يذكره إلا كقوله:
فجاءت بنا إنسان غير زمانه | وخلت بياضا خلفها ومآقيا |
وهذا في أعلى طبقات الإحسان ومن هذه القصيدة قوله:
ومن قول سام لو رآك لنسله | فدى ابن أخي نسلي ونفسي وماليا |
ومن قوله في كافور الذي ألم فيه بذكر السواد قوله:
فدى لأبي المسك الكرام فإنها | سوابق خيل يهتدين بأدهم |
خروج المتنبي من مصر قاصدا الكوفة
في الصبح المنبي: وفي يوم العيد سار من مصر هاربا وأخفى طريقه فلم يؤخذ له أثر حتى قال بعض أهل البادية هبه سار فيها فما محا أثره وقال بعضهم إنما علم طريقا تحت الأرض وتبعته البادية والحاضرة من سائر الجوانب وبذل كافور في طلبه ذخائر الرغائب وكتب إلى عماله في سائر أعماله وكاتب سائر قبائل العرب في طلبه. ودخل أبو الطيب إلى موضع يعرف بنخل (لعله الذي فيه قلعة النخل) بعد أيام وسار حتى قرب من النقاب فرأى رائدين لبني سليم على قلوصين فركب الخيل وطردهما حتى أخذهما فذكروا له أن أهلهما أرسلوهما رائدين فاستبقاهما ورد عليهما القلوصين وسلاحهما وسارا معه حتى توسط بيوت بني سليم آخر الليل فضرب له ملاعب رئيس بني سليم خيمة بيضاء وذبح له ثم سار إلى اليفع فنزل ببادية معن فذبح له وسار إلى أن دخل حسمى وهي أرض كثيرة النخل وطابت له حسمى فأقام بها شهرا وكان نازلا بها عند وردان بن ربيعة الطائي فاستغوى عبيده وأجلسهم مع امرأته فكانوا يسرقون له الشيء بعد الشيء من رحله هكذا في الصبح المنبي ولبس في الديوان أنه أجلسهم مع امرأته ويمكن أن يكون صاحب الصبح أخذه من قول المتنبي الآتي (أشذ بعرسه عني عبيدي) ولا دلالة فيه لا مكان أن يكون جرى فيه على مذاهب الشعراء في الهجو بالباطل والحق، وظهر لأبي الطيب فساد عبيده وكان وردان يرى عند أبي الطيب سيفا مستورا فسأله أن ينظره فأبى لأنه كان على قائمة مائة مثقال من الذهب وكان سيفا ثمينا فجعل الطائي يحتال على العبيد طمعا في السيف لأن بعضهم أخبره به فلما أنكر أبو الطيب أمر العبيد واطلع على مكاتبة كافور قبائل العرب في طلبه تقدم إلى الجمال فشد عليها أسبابه والقوم لا يعلمون برحيله وأخذ العبيد السيف فدفعه إلى عبد آخر وجاء ليأخذ فرس أبي الطيب فتنبه له وضربه أبو الطيب بالسيف فأصاب وجهه وأمر الغلمان فأجهزوا عليه وكان هذا العبد أشد من معه فقال أبو الطيب في ذلك أبياتا أولها:
أعددت للغادرين أسيافا | أجدع منهم بهن آنافا |
وقال أيضا يهجو وردان بن ربيعة:
إذا كانت بنو طي لئاما | فألأمها ربيعة أو بنوه |
وإن كانت بنو طي كراما | فوردان لغيرهم أبوه |
مررنا منه في حسمى بعبد | يمج اللؤم منخره وفوه |
أشذ بعرسه عني عبيدي | فأتلفهم ومالي أتلفوه |
فإن سقيت بأيديهم جيادي | لقد شقيت بمنصلي الوجوه |
ثم لما توسط بسيطة وهي أرض تقرب من الكوفة رأى بعض عبيده ثورا فقال هذه منارة الجامع ونظر آخر نعامة فقال وهذه نخلة فضحك أبو الطيب وقال:
بسيطة مهلا سقيت القطارا | تركت عيون عبيدي حيارى |
فظنوا النعام عليك النخيـ | ـل وظنوا الصوار عليك المنارا |
فأمسك صحبي بأكوارهم | وقد قصد الضحك فيهم وجارا |
وصول المتنبي إلى الكوفة
وسار أبو الطيب حتى دخل الكوفة في ربيع الأول سنة 351 ونظم هذه المقصورة منازل طريقه ويهجو كافورا منها:
ألا كل ماشية الخيزلى | فدى كل ماشية الهيذبى |
ضربت بها النية ضرب القما | ر إما لهذا وإما لذا |
فمرت بنخل وفي ركبها | عن العالمين وعنه غنى |
وأمست تخبرنا بالنقا | وادي المياه ووادي القرى |
وقلنا لها أين أرض العرا | ق فقالت ونحن بتربان ها |
وهبت بجسمي هبوب الدبو | ر مستقبلات مهب الصبا |
فيا لك ليلا على أعكش | احم البلاد خفي الصوى |
وردنا الرهيمة في جوزه | وباقيه أكثر مما مضى |
فلما انحنا ركزنا الرما | ح بين مكارمنا والعلى |
وبتنا نقبل أسيافنا | ونمسحها من دماء العدى |
لتعلم مصر ومن بالعرا | ق ومن بالعواصم أنى الفتى |
وأني وفيت وأني أبيـ | ـت وأني عتوت على من عتا |
وما كل من قالا قولا وفي | ولا كل من سيم خسفا أبى |
ومن يك لب كقلبي له | يشق إلى العز قلب التوى |
ولا بد للقلب من آلة | ورأي يصدع صم الصفا |
وكل طريق أتاه الفتى | على قدر الرجل فيه الخطى |
ونام الخويدم عن ليلنا | وقد نام قبل عمى لا كرى |
وكان على قربنا بيننا | مهامه من جهله والعمى |
وماذا بمصر من المضحكا | ت ولكنه ضحك كالبكا |
بها نبطي من أهل السوا | د يدرس أنساب أهل الفلا |
وأسود مشفرة نصفه | يقال له أنت بدر الدجى |
وشعر مدحت به الكركدن | بين القريض وبين الرقى |
ومن جهله نفسه قدره | رأى غيره منه ما لا يرى |
وأناخ المتنبي ركابه بالكوفة وركز به رماحه كما قال في هذه القصيدة، وعاد إلى وطنه الأصلي ومسقط رأسه ونزل بين أهله وعشيرته وأقام نحوا من سنتين، وثمانية أشهر من أوائل سنة 351 إلى أوائل 354 وأنفذ إليه سيف الدولة ابنه من حلب إلى الكوفة ومعه هدية، فقذال يمدحه وكتب بها إليه من الكوفة سنة 352، أي بعد وروده الكوفة بسنة يقول فيها:
كلما رجبت بنا الروض قلنا | حلب قصدنا وأنت السبيل |
والمسمون بالأمير كثير | والأمير الذي بها المأمول |
الذي زلت عنه شرقا وغربا | ونداه مقابلي ما يزول |
وموال تحييهم من يديه | نعم غيرهم بها مقتول |
فرس سابح ورمح طويل | ودلاص زغف وسيف صقيل |
وإذا صح فالزمان صحيح | وإذا اعتل فالزمان عليل |
وإذا غاب وجهه عن مكان | فيه من ثناه وجه جميل |
ليس إلاك من علي همام | سيفه دون عرضه مسلول |
كيف لا تأمن العراق ومصر | وسراياك دونها والخيول |
أنت طول الحياة للروم غاز | فمتى الوعد أن يكون القفول |
قعد الناس كلهم عن مساعيـ | ـك وقامت بها القنا والنصول |
نغص البعد عنك قرب العطايا | مرتعي مخصب وجسمي هزيل |
إن تبوأت غير دنياي دارا | وأتاني نيل فأنت المنيل |
من عبيدي إن عشت لي ألف كافو | ر ولي من نداك ريف ونيل |
وتوفيت أخت سيف الدولة بميافارقين فورد خبرها إلى الكوفة، فقال أبو الطيب يرثيها ويعزيه بها من قصيدة وأرسلها إليه من الكوفة سنة 352:
يا أخت خير أخ يا بنت أب | كناية بهما عن واضح النسب |
يقول فيها:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر | فزعت فيه بآمالي إلى الكذب |
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا | شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي |
وأنفذ إليه سيف الدولة كتابا بخطه إلى الكوفة يسأله المسير إليه، فأجابه بقصيدة وأنفذها إليه في ميافارقين، وذلك في ذي الحجة سنة 353 منها:
فهمت الكتاب أبر الكتب | فسمعا لأمر أمير العرب |
وطوعا له وابتهاجا به | وإن قصر الفعل عما وجب |
وما عاقني غير خوف الوشا | ة وإن الوشايات طرق الكذب |
وما لاقني بلد بعدكم | ولا اغتضت من رب نعماي رب |
ومن ركب الثور بعد الجوا | د أنكر أظلافه والغبب |
وما قست كل ملوك البلا | د فدع ذكر بعض بمن في حلب |
أفي الرأي يشبه أم في السخا | ء أم في الشجاعة أم في الأدب |
مبارك الاسم أغر اللقب | كريم الجرشى شريف النسب |
وأثني عليه بآلائه | وأقرب منه نأى أو قرب |
تغيب الشواهق في جيشه | وتبدو صغارا إذا لم تغب |
خروج المتنبي من الكوفة إلى بغداد
ثم توجه من الكوفة في أواخر سنة 353 أو أول سنة 354 إلى مدينة السلام بغداد لأن كتاب سيف الدولة ورد عليه إلى الكوفة في ذي الحجة سنة 353 كما مر وفي صفر سنة 354 ورد على ابن العميد بارجان متوجها من بغداد كما يأتي فسفره من الكوفة إلى بغداد إما في ذي الحجة سنة 54 أو بعده وتدل قصة الحاتمي الآتية معه على أنه كان أناس يقرأون عليه ديوانه في بغداد فلا بد أن يكون بقي في بغداد نحو شهرين أو أكثر ولا يتم ذلك إلا بكون سفره في ذي الحجة وكان ورد المتنبي إلى بغداد في أيام سلطنة معز الدولة ابن بويه ووزارة الوزير المهلبي له وخلافة المطيع العباسي.
ولا يخلو كلام المؤرخين هنا من شيء من التنافي فإنه يظهر من قصة الحاتمي مع المتنبي الآتية أن قصد المتنبي من الرحلة إلى بغداد كان هو مدح الوزير المهلبي والانضمام إليه والمقام لديه ولكن يدل كلام الخوارزمي الآتي المنقول في اليتيمة أن المتنبي ترفع عن مدح المهلبي ذهابا بنفسه عن مدح غير الملوك فالتنافي بين الكلامين ظاهر. ثم إذا كان ترك مدح الوزير المهلبي ذهابا بنفسه عن مدح غير الملوك فما باله لم يمدح معز الدولة وهو ملك على أن تعليل عدم مدحه للمهلبي بأنه كان يذهب بنفسه عن مدح غير الملوك ليس بصحيح فقد مدح ابن العميد وهو ليس بملك بل وزير وإذا كان المتنبي لا يريد مدح معز الدولة ولا المهلبي فما الذي جاء به إلى بغداد وهو لا يجيء إلى بلد إلا لمدح واستفادة مال فمن الذي كان يريد مدحه في بغداد غير هذين فظاهر الحال يدل على أنه ما قصد بغداد إلا لمدح أحد هذين وكلام الحاتمي يدل على أنه كان قصده مدح المهلبي ولعله لما عرف عنه من الجود دون معز الدولة وإذا كان الأمر كذلك فما الذي صرفه عن مدح المهلبي وأفسد الحال بينه وبينه حتى احتاج إلى أن يخرج من بغداد شبه الهارب كما ستعرف لا يظهر سبب ذلك واضحا من كلام المؤرخين وتعليل غيظ المهلبي منه بعدم مدحه له لا يكاد يصح لما عرفت فلا بد أن يكون هناك سبب آخر أوجب فساد الحال بينه وبينه، وتدل قصة الحاتمي الآتية على أن معز الدولة ووزيره كانا ناقمين على المتنبي محبين للوقيعة فيه، ويدل على ذلك أيضا ما سيأتي من أنه اتخذ الليل جملا، وخرج من بغداد مراغما للمهلبي، فذلك يدل على أن خروجه من بغداد كان شبيها بالهرب أما الخليفة العباسي فلم يكن له من الشأن في تلك الأيام ما يحمل المتنبي على مدحه.
قصة الحاتمي مع المتنبي
والحاتمي: هو أبو علي محمد بن الحسن بن المظفر الكاتب اللغوي البغدادي والحاتمي نسبة إلى أحد أجداده، كان أديبا لغويا إخباريا فاضلا من حذاق أهل اللغة والأدب، شديد العارضة، حسن التصرف في الشعر، موف على كثير من شعراء عصره، له عدة تصانيف منها الموضحة يصف فيها ما جرى بينه وبين المتنبي ويظهر سرقاته وعيوب شعره، ومنها الحاتمية في مدح المتنبي عملها بعدما وفد على المتنبي ورأى فصاحته وحسن براعته.
قال الحاتمي: لما ورد أحمد بن الحسين المتنبي مدينة السلام منصرفا من مصر ومتعرضا للوزير المهلبي بالتخييم عليه والمقام لديه، التحف رداء الكبر، وأذال ذيول التيه، وصعر خده، ونأى بجانبه، وكان لا يلقى أحدا إلا ويزدريه، يخيل إليه أن العلم مقصور عليه، والشعر بحر لم يغترف نمير مائه غيره، وروض لم يجن نواره سواه، فعبر على ذلك مديدة أجررته رسن الجهل فيها فظل يمرح في تيهه، حتى تخيل أنه السابق الذي لا يجارى وثقلت وطأته على أهل الأدب، فطأطأ كل منهم رأسه وخفض جناحه وطامن على التسليم له جاشه، وتخيل الوزير المهلبي أن أحدا لا يقدر على مساجلته ومجاراته ولا يقوم بشيء من طاعنه، وللرؤساء مذاهب في تعظيم من يعظمونه، وساء معز الدولة أحمد بن بويه أن يرد عن حضرة عدوه سيف الدولة رجل فلا يكون في مملكته أحد يماثله في صناعته، ولم يكن هناك مزية يتميز بها أبو الطيب من الهجين الجذع من أبناء الأدب، فضلا عن العتيق القارح إلا الشعر، فنهدت له متتبعا عواره ومتعقبا آثاره ومقلما أظفاره ومطفئا ناره ومهتكا أستاره ومذيعا أسراره وناشرا مطاويه وممزقا جلباب مساويه، متحينا أن تجمعنا دار يشار إلى ربها فأجري أنا وهو في مضمار يعرف فيه السابق من المسبوق فلما لم يتفق ذلك قصدت موضعه وتحتي بغلة سفواء وبين يدي عدة من الغلمان، فألفيت هناك فتية تأخذ عنه شيئا من شعره، فحين أوذن بحضوري واستأذن عليه لدخولي نهض عن مجلسه مسرعا إلى بيت بإزائه وأعجلته نازلا عن البغلة وهو يراني لانتهائي بها إلى حيث أخذها طرفه ودخلت فأعظمت الجماعة قدري وأجلسوني في مجلسه، وإذا تحته عباءة بالية قد أكلها الدهر فهي رسوم خالية فلما جلست أقبل وعليه سبعة أقبية كل منها بلون في أشد ما يكون من الحسن يحفها فضل اللباس والوقت أحر أيام الصيف فنهضت فوفيته حق السلام غير مشاح له في القيام مع علمي أنه لم يدخل المخدع إلا لئلا ينهض عند موافاتي وحين لقيته تمثلت بقول الشاعر:
وفي الممشى إليك علي عار | ولكن الهوى منع القرارا |
فتمثل بقول الآخر:
يشقى رجال ويشقى آخرون بهم | ويسعد الله أقواما بأقوام |
وليس رزق الفتى من فضل حياته | لكن جدود وأرزاق بأقسام |
كالصيد يحرمه الرامي المجيد وقد | يرمي فيحرزه من ليس بالرامي |
فجلست وجلس وأعرض عني ساعة لا يعيرني فيها طرفه ولا يسألني عما قصدت له، فكدت أتميز غيظا ولمت نفسي على قصده واستخففت رأيي في زيارة مثله وهو مقبل على جماعة يقرأون عليه أشياء من شعره، وكل منهم يوقظه ويغمزه ويومي إليه بما يجب عليه أن يفعله ويعرفه من مكاني وهو يأبى إلا ازورارا ونفارا، ثم ثنى بصره إلي فوالله ما زادني على أن قال: أيش خبرك فقلت خير لولا ما جنيت على نفسي من قصدك وكلفت قدمي في المصير إلى مثلك، ثم تحدرت عليه تحدر السيل إلى القرار، وقلت له: ابن لي– عافاك الله- مم تيهك وخيلاؤك وعجبك وما الذي يوجب ما أنت عليه من التجبر والتنمر هل لك نسب في الأبطح تبحبحت به بحبوحة الشرف وتوسطت به واسطة السلف، أو علم أصبحت به علما يومى إليه وتقف الهمم عليه أو سلطان تسلطت بعزه هل أنت إلا وتد بقاع يا لله! استنت الفصال حتى القرعى وإني أسمع جعجعة ولا أرى طحنا وإنك لو قدرت نفسك بقدرها لما عدوت أن تكون شاعرا مكتسبا.
فامتقع لونه وغص بريقه وجحظت عيناه وسقط في يده، وجعل يلين في الاعتذار، فقلت يا هذا! إن جاءك شريف في نسبه تجاهلت نسبه أو عظيم في أدبه صغرت أدبه أو متقدم عند سلطانه خفضت منزلته، فهل المجد تراث لك دون غيرك، كلا والله! لكنك مددت الكبر سترا على نقصك، وضربته رواقا دون جهلك. فعاود الاعتذار وأخذت الجماعة في الرغبة إلي في مياسرته، وقبول عذره، وأنا على شاكلة واحدة في تقريعه وتوبيخه، وهو يؤكد الأقسام أنه لم يعرفني، فأقول: يا هذا ألم أستأذن عليك باسمي ونسبي أما في هذه الجماعة من يعرفك بي لو كنت جهلتني، وهب أن ذلك كذلك ألم ترني ممتطيا بغلة رائعة وبين يدي غلمان عدة، أما شاهدت لباسي أما شممت نشري أما راعك من أمري ما أتميز به عن غيري وهو في أثناء ما أكلمه يقول: خفض عليك أرفق أكفف من غربك أردد من سورتك استأن فإن الأناة من شيم مثلك، فلان شماسي بعض الليان وأعرضت عنه ساعة ثم قلت له: أشياء تختلج في صدري من شعرك أحب أن أراجعك فيها، قال وما هي؟ قلت أخبرني عن قولك:
إذا كان بعض الناس سيفا لدولة | ففي الناس بوقات لها وطبول |
أهكذا يمدح الملوك وعن قولك:
ولا من في جنازتها تجار | يكون وداعها نفض النعال |
أهكذا ترثى أم ملك أما والله لو قلت هذا البيت في أدنى عبيدها لكان قبيحا وأخبرني عن قولك:
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع | فإن لحت حاضت في الخدور العواتق |
أهكذا تنسب بالمحبوبين وعن قولك في هجاء ابن كيغلغ:
وإذا أشار محدثا فكأنه | قرد يقهقه أو عجوز تلطم |
أما في أفانين الهجاء التي أبدعها الشعراء مندوحة عن هذا الكلام الرذل الذي يمجه كل سمع ويعافه كل طبع وعن قولك:
وضاقت الأرض حتى ظل هاربهم | إذا رأى غير شيء ظنه رجلا |
أفتعلم مرئيا يتناول النظر لا يقع عليه اسم شيء وما أراك نظرت إلا إلى قول جرير:
ما زلت تحسب كل شيء بعدهم | خيلا تكر عليهم ورجالا |
فأحلت المعنى عن جهته وعبرت عنه بغير عبارته وعن قولك:
أليس عجيبا أن وصفك معجز | وأن ظنوني في معاليك تطلع |
فاستعرت الظلع لظنونك وهي استعارة قبيحة وتعجبت من غير متعجب لأن من أعجز وصفه لم يستنكر قصور الظنون وتحيرها في معانيه وإنما أخذته من قول أبي تمام:
ترقت مناه طود عز لو ارتقت | به الريح فترا لانثنت وهي ظالع |
وعن قولك تمدح كافورا:
فإن نلت ما أملت منك فربما | شربت بماء يعجز الطير ورده |
أمدح هو أو ذم قال مدح قلت إنك جعلته بخيلا لا يوصلك إلى خيره من جهته وشبهت نفسك في وصولك إلى ما وصلت إليه منه بشربك من ماء يعجز الطير ورده (وأخبرني) عن قولك في وصف كلب وظبي:
فصار ما في جلده في المرجل | فلم يضرنا معه فقد الأجدل |
فأي شيء أعجبك من هذا الوصف عذوبة لفظه أم لطف معناه أما قرأت رجز ابن هانئ وطرد ابن المعتز أما كان هناك من المعاني التي ابتدعها هذان الشاعران وغرر الألفاظ ما تتشاغل به عن بنيات صدرك فأقبل علي وقال أين أنت من قولي:
كأن الهام في الهيجا عيون | وقد طبعت سيوفك من رقاد |
وقد صغت الأسنة من هموم | فما يخطرن إلا في فؤاد |
وقولي في صفة جيش:
في فيلق من حديد لو رميت به | صرف الزمان لما دارت دوائره |
وقولي:
لو تعقل الشجر التي قابلتها | مدت محيية إليك الأغصنا |
وقولي:
أينفع في الخيمة العدل | وتشمل من دهره يشمل |
وما اعتمد الله تقويضها | ولكن أشار بما تفعل |
وفيها أصف كتيبة:
وملمومة زرد ثوبها | ولكنه بالقنا مخمل |
وقولي:
الناس ما لم يروك أشباه | والدهر لفظ وأنت معناه |
والجود عين وأنت ناظرها | والبأس باع وفيك يمناه |
وقولي (ذكره الخفاجي في الريحانة ولم يذكره ياقوت في المعجم):
ما كنت آمل قبل يومك أن أرى | رضوى على أيدي الرجال تسير |
أما يكفيك إحساني في هذه عن إساءتي في تلك فقلت ما أعرف لك إحسانا فيما ذكرت وإنما أنت سارق متبع وآخذ مقصر أما قولك كأن الهام إلخ فمأخوذ من قول منصور النميري:
وكأن موقفه بجمجمة الفتى | خدر المنية أو نعاس الهاجع |
وأما قولك في فيلق فنقلته نقلا لم تحسن فيه من قول الناجم:
ولي في حامد أمد بعيد | ومدح قد مدحت به طريف |
مديح لو مدحت به الليالي | لما دارت علي لها صروف |
والناجم أخذه من قول أرسطو في آخر مقالته: قد تكلمت بكلام لو مدحت به الدهر لما دارت علي صروفه (وأما) قولك لو تعقل الشجر إلخ فهذا معنى قد تداولته الشعراء قال الفرزدق:
يكاد يمسكه عرفان راحته | ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم |
وقال أبو تمام:
لو سعت بقعة لإعظام أخرى | لسعى نحوها المكان الجديب |
وقال البحتري:
لو أن مشتاقا تكلف فوق ما | في وسعه لسعى إليك المنبر |
وأما قولك وما اعتمد الله إلخ فنظرت فيه إلى قول رجل في بعض أمراء الموصل وكان قد عزم على السير فاندق لواؤه:
ما كان مندق اللواء لريبة | تخشى ولا أمر يكون مزيلا |
لكن لأن العود ضعف متنه | صغر الولاية فاستقل الموصلا |
وأما قولك وملمومة إلخ فمن قول أبي نواس:
أمام خميس أرجوان كأنه | قميص محوك من قنا وجياد |
وأما قولك (الناس ما لم يروك أشباه) فمن قول علي بن نصر بن بسام في رثاء عبيد الله بن سليمان:
قد استوى الناس ومات الكمال | وصاح الدهر أين الرجال |
هذا أبو القاسم في نعشه | قوموا انظروا كيف تزول الجبال |
فقوله قد استوى الناس هو قولك الناس ما لم يروك أشباه.
كذافي معجم الأدباء (وفي الريحانة): وأما قولك ما كنت آمل (البيت) فمأخوذ من قول ابن المعتز:
قد ذهب الناس ومات الكمال | وصاح صرف الدهر أين الرجال |
هذا أبو العباس في نعشه | قوموا انظروا كيف تزول الجبال |
فقال بعض من حضر: ما أحسن قوله (قوموا انظروا إلخ) فقال المتنبي أسكت ما فيه حسن إنما أخذه من قول النابغة الذبياني:
يقولون حصن ثم يأبى نفوسهم | فكيف بحصن والجناح جنوح |
فقلت إن أخذه فقد أحسن الأخذ وأخفاه فقال الرجل أجل فقال المتنبي لابنه يا محسد خذ بيده وأخرجه فرفقت به إلى أن تركه، قلت وأما قولك (الدهر لفظ وأنت معناه) فمنقول من قول الأخطل في عبد الملك بن مروان:
وإن أمير المؤمنين وفعله | لكالدهر لا عار بما فعل الدهر |
وأخذه الأخطل من قول النابغة وهو أول من ابتكره:
وعيرتني بنو ذبيان خشيته | وما علي بأن أخشاك من عار |
وأخذه أبو تمام فأحسن بقوله:
خشعوا كصولتك التي هي منهم | كالموت يأتي ليس فيه عار |
فقال ومن أبو تمام قلت الذي سرقت شعره فأفسدته بقولك:
ذي المعالي فليعلون من تعالى | هكذا هكذا وإلا فلا لا |
شرف ينطح النجوم بروقيـ | ـه وفخر يقلقل الأجبالا |
فأخذت البيت الأول من قول بكر بن النطاح:
يتلقى الندى بوجه حيي | وصدور القنا بوجه وقاح |
هكذا هكذا تكون المعال | طرق المجد غير طرق المزاح |
وأخذت البيت الثاني فأفسدته من قول أبي تمام:
همة تنطح الثريا وجد | آلف للحضيض فهو حضيض |
فأفسدته بجعلك للشرف قرنا لأن الروق القرن فقال إنها استعارة قلت لكنها خبيثة فقال أقسم بالله ما قرأت شعرا قط لأبي تمامكم هذا فقلت هذه سوءة لو سترتها كان أولى قال السوءة قراءة شعر مثله أليس هو القائل:
خشنت عليه أخت بني خشين | وأنجح فيك قول العاذلين |
والقائل:
لعمري لقد حررت يوم لقيته | لو أن القضاء وحده لم يبرد |
والقائل:
تكاد عطاياه يجن جنونها | إذا لم يعوذها بنغمة طالب |
والقائل:
تسعون ألفا من الأتراك قد نضجت | جلودهم قبل نضج التين والعنب |
والقائل:
ولى ولم يظلم وهل ظلم امرؤ | حث النجاء وخلفه التنين |
والقائل:
فضربت الشتاء في أخدعيه | ضربة غادرته عودا ركوبا |
والقائل:
كانوا رداء زمانهم فتصدعوا | فكأنما لبس الزمان الصوفا |
وقوله:
أقول لقرحان من البين لم يصب=رسيس الهوى بين الحشا والترائب
ما قرحان البين أخرس الله لسانه فقلت من الدليل على قراءتك شعره تتبعك مساويه وهل يصم أبا تمام ما عددته من سقطاته وهو القائل في النونية:
نوالك رد حسادي فلولا=وأصلح بين أيامي وبيني
فهلا اغتفرت الأول لهذا البيت الذي لا يستطاع الإتيان بمثله وأما قوله (تسعين ألفا البيت) فله خبر لو استقريت صحفه لأقصرت عن تناوله بالطعن فيه ثم قصصت الخبر وقلت في هذه القصيدة ما لا يستطيع أحد من متقدمي الشعراء وأمراء الكلام الإتيان بمثله قال وما هو قلت لو قال قائل إن أحدا لم يبتدئ بأوجه ولا أحسن ولا أحضر من قوله:
السيف أصدق أنباء من الكتب | في حده الحد بين الجد واللعب |
لما عنف في ذلك وفيها يقول:
رمى بك الله برجيها فهدمها | ولو رمى بك غير الله لم يصب |
وفيها يقول:
لما رأى الحرب رأي العين توفلس | والحرب مشتقة المعنى من الحرب |
وفيها يقول:
فتح تفتح أبواب السماء له | وتبرز الأرض في أبرادها القشب |
وفيها يقول:
بكر فما افترعتها كف حادثة | ولا ترقت إليها همة النوب |
وفيها يقول:
غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى | يشله وسطها صبح من اللهب |
حتى كأن جلابيب الدجى رغبت | عن لونها وكأن الشمس لم تغب |
وفيها يقول:
أجبته معلنا بالسيف منصلتا | ولو دعاك بغير السيف لم يجب |
وأما قوله (أقول لقرحان من البين) فإنه يريد رجلا لم يقطعه أحبابه ولم يبينوا عنه قبل ذلك وإذا كانت حاله كذلك كان موقع البين أشد عليه وأفت في عضده والأصل في هذا أن القرحان الذي لم يجدر قط قال جرير (وكنت من زفرات البين قرحانا) وفي هذه القصيدة من المعاني الرائعة والتشبيهات والاستعارات البارعة ما يغتفر معه هذا البيت وأمثاله على أنا ابنا عن صحة معناه ومن محاسن شعره قوله:
إذا العيس لاقت بي أبا دلف فقد | تقطع ما بيني وبين النوائب |
يرى أقبح الأشياء أوبة آمل | كسته يد المأمول حلة خائب |
وأحسن من نور يفتحه الندى | بياض العطايا في سواد المطالب |
ولو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت | حياضك منه في العصور الذواهب |
ولكنه فيض العقول إذا انجلت | سحائب جود أعقبت بسحائب |
فبهره مما أوردته ما قصر عنان عبارته فما زاد على أن قال أكثرت علي من ذكر أبي تمام لا قدس الله روحه فقلت لا قدس الله روح السارق منه والواقع فيه ولكن ما الفرق في كلام العرب بين التقديس والقداس والقداس والقادس فقال (وايش) غرضك قلت المذاكرة فقال بل المهاترة ثم قال التقديس التطهير وكل هذه الألفاظ تؤول إليه فقلت له ما أحسبك أنعمت النظر في اللغة ولو عرفتها ما جمعت بين هذه المعاني مع تباينها فالقداس بتشديد الدال حجر يلقى في البئر ليعلم كثرة مائها من قلته حكى ذلك ابن الأعرابي والقداس الجمان حكى ذلك الخليل واستشهد بقوله (كنظم قداس سلكه متقطع) والقادس السفينة قال الشاعر يصف ناقة:
وتهفو بهاد لها متلع | كما اقتحم القادس الأردمونا |
(الهادي) العنق (والمتلع) من أتلع إذا مد عنقه متطاولا (والقادس) السفينة (والأردمون) جمع أردم وهو الملاح الحاذق فلما علوته بالكلام قال يا هذا إنا نسلم لك أمر اللغة فقلت كيف تسلمها وأنمت ابن بجدتها وأبو عذرتها فشرعت الجماعة الحاضرة في إعفائه وقبول عذره وكنت قد بلغت شفاء نفسي وعلمت أن الزيادة عن الحد الذي انتهيت إليه ضرب من البغي فقمت وقام مشيعا لي إلأى الباب فأقسمت عليه حتى رجع وانتهى الخبر إلى الوزير المهلبي فأتتني رسله ليلا فأتيته وأخبرته بالقصة فكان من سروره وابتهاجه بما جرى ما بعثه على مباكرة معز الدولة فقال له أعلمت ما كان من فلان والمتنبي فقال نعم قد شفى منه صدورنا.
وفي اليتيمة عن أبي بكر الخوارزمي وفي الصبح المنبي وربما زاد أحدهما عن الآخر: أنه لما قدم أبو الطيب بغداد وترفع عن مدح الوزير المهلبي ذهابا بنفسه عن مدح غير الملوك شق ذلك على المهلبي فأغرى به شعراء بغداد حتى نالوا من عرضه وتباروا في هجائه، وفيهم ابن الحجاج وابن سكرة الهاشمي والحاتمي فلم يجبهم ولم يفكر فيهم، وقيل له في ذلك فقال: إني فرغت من إجابتهم بقولي لمن هو أرفع طبقة في الشعر:
أرى المتشاعرين غروا بذمي | ومن ذا يحمل الداء العضالا |
ومن يك ذا فلم مر مريض | يجد أمرا به الماء الزلالا |
وقولي:
أفي كل يوم تحت ضبني شويعر | ضعيف يقاويني قصير يطاول |
لساني بنطق صامت عنه عادل | وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل |
وأتعب من ناداك من لا تجيبه | وأغيظ من عاداك من لا تشاكل |
وما التيه طبي فيهم غير أنني | بغيض إلي الجاهل المتعاقل |
وقولي:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص | فهي الشهادة لي بأني كامل |
قال: وبلغ أبا الحسين بن لنك بالبصرة ما جرى على المتنبي من وقيعة شعراء بغداد فيه واستحقارهم له كقولهم فيه:
أي فضل لشاعر يطلب الفضـ | ـل من الناس بكرة وعشيا |
عاش حينا يبيع بالكوفة الما | ء وحينا يبيع ماء المحيا |
وكان ابن لنك حاسدا له طاعنا عليه هاجيا إياه زاعما أن أباه كان سقاء بالكوفة فشمت به وقال:
قولا لأهل زمان لا خلاق لهم | ضلوا عن الرشد من جهل بهم وعموا |
أعطيتم المتنبي فوق منيته | فزوجوه برغم أمهاتكم |
لكن بغداد جاد الغيث ساكنها | نعالهم في قفا السقاء تزدحم |
قال ومن قوله فيه:
متنبيكم ابن سقاء كوفا | ن ويوحى من الكنيف إليه |
كان من فيه يسلح الشعر حتى | سلحت فقحة الزمان عليه |
ومن قوله فيه أيضا:
ما أوقح المتنبي | فيما حكى وادعاه |
أبيح مالا عظيما | حتى أباح قفاه |
يا سائلي عن غناه | من ذاك كان غناه |
إن كان ذاك نبيا | فالجاثليق إله |
ومما هجي به المتنبي قول ابن الحجاج:
يا ديمة الصفع صبي | على قفا المتنبي |
ويا قفاه تقدم | حتى تصير بجنبي |
إن كنت أنت نبيا | فالقرد لا شك ربي |
خروج أبي الطيب من بغداد
قال في اليتيمة والصبح وبين كلاميهما تفاوت: ثم إن أبا الطيب اتخذ الليل جملا وفارق بغداد متوجها إلى حضرة أبي الفضل ابن العميد مراغما للمهلبي الوزير فورد أرجان وأحمد مورده.
إباء المتنبي عن مدح الصاحب
فيحكى أن الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد طمع في زيارة المتنبي إياه بأصبهان وإجرائه مجرى مقصوديه من رؤساء الزمان وهو إذ ذاك شاب وحاله حويلة والبحر دجيلة ولم يكن استوزر بعد، فكتب إليه يلاطفه في استدعائه ويضمن له مشاطرته جميع ماله فلم يقم له المتنبي وزنا ولم يجبه عن كتابه ولا إلى مراده وقصد حضرة عضد الدولة بشيراز، هكذا في اليتيمة، وهو يدل على أن الصاحب كاتبه إلى أرجان فلم يعرج عليه وسافر من أرجان إلى شيراز، وقيل إن المتنبي قال لأصحابه إن غليما معطاء بالري يريد أن أزوره وأمدحه ولا سبيل إلى ذلك، فاتخذه الصاحب غرضا يرشقه بسهام الوقيعة ويتتبع عليه سقطاته في شعره وهفواته وينعى عليه سيئاته وهو أعرف الناس بحسناته وأحفظهم لها وأكثرهم استعمالا إياها وتمثلا بها في محاضراته ومكاتباته وكان مثله معه كما قال الشاعر:
يقال لما وقع البزاز في الثـ | ـوب علمنا أنه من حاجته |
(قال المؤلف) عمل الصاحب رسالة صغيرة في انتقاداته على المتنبي وهي مطبوعة، وأورد محصلها الثعالبي في اليتيمة وذكر جملة من الانتقادات الحاتمي في مناظرته المتقدمة مع المتنبي، وإذا فرضنا أن الذي دعا الصاحب إلى المتقدمة مع المتنبي، وإذا فرضنا أن الذي دعا الصاحب إلى عمل هذه الرسالة هو استياؤه من المتنبي حيث تعاظم عن مدحه فإنا نجده لم يتحامل عليه بالباطل في شيء منها ولم يظلمه بحرف واحد جاء فيها ولم يعبه إلا بما هو عيب لا يمكن للمتنبي ولا لغيره أن يعتذر منه وأنصفه فيما وصفه وهذه مفخرة للصاحب في كفه نفسه عند الغضب والحنق عن تجاوز الحد والتحامل، كما يجري لأكثر الناس في مثل هذه الحال.
قال الصاحب في صدر تلك الرسالة: كنت ذاكرت بعض من يتوسم بالأدب الأشعار وقائليها والمجودين فيها، فسألني عن المتنبي فقلت: إنه بعيد المرمى في شعره كثير الإصابة في نظمه، إلا أنه ربما يأتي بالفقرة الغراء مشفوعة بالكلمة العوراء، فرأيته قد هاج وانزعج وحمي وتأجج وادعى أن شعره مستمر النظام متناسب الأقسام، ولم يرض حتى تحداني فقال: إن كان الأمر كما زعمت فأثبت في ورقة ما تنكره وقيد بالخطة ما تذكره لتتصفحه العيون وتسبكه العقول ففعلت وإن لم يكن تطلب العثرات من شيمتي ولا تتبع الزلات من طريقتي وقد قيل: أي عالم لا يهفو وأي صارم لا ينبو وأي جواد لا يكبو، وإنما فعلت ما فعلت لئلا يقدر هذا المعترض أني ممن يروي قبل أن يروى ويخبر قبل أن يخبر فاستمع وأنصت واعدل وأنصف، فما أوردت فيه إلا قليلا ولا ذكرت من عظيم عيوبه إلا يسيرا، وقد بلينا بزمن زمن يكاد المنسم فيه يعلو الغارب، ومنينا بأعيار أغمار اغتروا بمادح الجهال لا يضرعون لمن حلب الأدب أفاويقه والعلم أشطره، لا سيما على الشعر فهو فويق الثريا وهم دون الثرى، وقد يوهمون أنهم يعرفون، فإذا حكموا رأيت بهائم مرسنة وأنعاما مجفلة.
وصول المتنبي إلى ابن العميد بأرجان
يظهر من ديوان المتنبي أن ابن العميد راسل المتنبي من أرجان إلى بغداد يستزيره فسار إليه وأن عضد الدولة كتب إليه من شيراز إلى أرجان يستزيره فسار إليه، ولكن الذي يظهر من الصبح المنبي أن المتنبي قصد من بغداد إلى عضد الدولة ببلاد فارس، قال كان أبو الفضل محمد بن الحسين ابن العميد يسمع بأخبار أبي الطيب وترفعه عن مدح الوزراء، فسمع أنه خرج من مدينة السلام متوجها إلى بلاد فارس وكان يخاف أن لا يمدحه ويعامله معاملة المهلبي فيتكره من ذكره ويعرض عن سماع شعره، قال الربعي قال لي بعض أصحاب ابن العميد دخلت عليه يوما قبل ورود المتنبي، فوجدته واجما وكانت قد ماتت أخته عن قريب، فظننته واجما لأجلها، فقلت لا يحزن الله الوزير فما الخبر، قال إنه ليغيظني أمر هذا المتنبي واجتهادي في أن أخمد ذكره، وقد ورد علي نيف وستون كتابا في التعزية ما منها إلا وقد صدر بقوله:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر | فزعت فيه بآمالي إلى الكذب |
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا | شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي |
فكيف السبيل إلى إخماد ذكره، فقلت القدر لا يغالب والرجل ذو حظ من إشاعة الذكر واشتهار الاسم، فالأولى أن لا تشغل نفسك بهذا الأمر "أه".
وفي صفر سنة 354 ورد أبو الطيب على أبي الفضل ابن العميد وهو بأرجان- وهي على ستين فرسخا من شيراز- فيكون مقامه بالعراق نحو ثلاث سنين وعشرة أشهر منها في الكوفة نحو ثلاث سنين وثمانية أشهر وفي بغداد نحو شهرين، لأنه ورد الكوفة في ربيع الثاني سنة 351 كما مر وكان فيها في ذي الحجة سنة 353- لأن كتاب سيف الدولة جاءه إليها بهذا التاريخ- وورد بغداد سنة 354، وفي تلك السنة في صفر خرج منها إلى أرجان فحسن موقعه من ابن العميد ومدحه بقصيدة أولها:
باد هواك صبرت أم لم تصبرا | وباك إن لم يجر دمعك أو جرى |
كم غر صبرك وابتسامك صاحبا | لما رآه وفي الحشا ما لا يرى |
يقول فيها:
أرجان أيتها الجياد فإنه | عزمي الذي يذر الوشيح مكسر |
أمي أبا الفضل المبر اليتي | لا يممن أجل بحر جوهرا |
صغت السوار لأي كف بشرت | بابن العميد وأي عبد كبرا |
بأبي وأمي ناطق في لفظه | ثمن تباع به القلوب وتشترى |
من لا تريه الحرب خلقا مقبلا | فيها ولا خلق يراه مدبرا |
يا من إذا ورد البلاد كتابه | قبل الجيوش ثنى الجيوش تحيرا |
قطف الرجال القول وقت نباته | وقطفت أنت القول لما نورا |
وإذا سكت فإن أبلغ خاطب | فلم لك اتخذ الأنامل منبرا |
ورسائل قطع العداة سحاءها | فرأوا قنا وأسنة وسنورا |
فدعاك حسدك الرئيس وأمسكوا | ودعاك خالقك الرئيس الأكبرا |
يقول فيها وهو يريد سيف الدولة:
من مبلغ الأعراب أني بعدها | جالست رسطاليس والإسكندرا |
ومللت نحو عشارها فأضافني | من ينحر البدر النضار لمن قرى |
وسمعت بطليموس دارس كتبه | متكلما متبديا متحضرا |
ولقيت كل الفاضلين كأنما | رد الإله نفوسهم والأعصرا |
يا ليت باكية شجاني دمعها | نظرت إليك كما نظرت فتعذرا |
وترى الفضيلة لا ترد فضيلة | الشمس تشرق والسحاب كنهورا |
قال أبو عبد الله كان ابن العميد كثير الانتقاد على أبي الطيب فإنه لما أنشده قوله في هذه القصيدة (كم غر صبرك وابتسامك صاحبا) إلخ قال يا أبا الطيب تقول باد هواك ثم تقول بعده كم غر صبرك ما أسرع ما نقضت ما ابتدأت به، فقال تلك حال وهذه حال. وتنازع ندماء ابن العميد في البيت الأخير، فقال أثبتوه حتى أتأمله فأثبت البيت ووضع بين يديه مليا يفكر فيه، ثم قال هذا يعطلنا عن المهم وما كان الرجل يدري ما يقول.
وتفسيره وترى هذه الباكية الفضيلة لا تمنع من فضيلة أخرى فترى الشمس مشرقة والسحاب متراكما.
وقال أبو الطيب يذكر انتقاد ابن العميد لهذه القصيدة من قصيدة يهنؤه فيها بالنيروز:
جاء نيروزنا وأنت مراده | وورت بالذي أراد ناده |
عند من لا يقاس كسرى أبوسا | سان ملكا به ولا أولاده |
عربي لسانه فلسفي | رأيه فارسية أعياده |
هل لعذري عند الهمام أبي الفضـ | ـل وهذا الذي أتاه اعتياده |
غمرتني فوائد شاء فيها | أن يكون الكلام مما أفاده |
ونسخت القصيدتان وأنفذتا من أرجان فعاد الجواب إلى أبي الفتح ابن أبي الفضل ابن العميد بالري فعاد الجواب يذكر شوقه إلى أبي الطيب وسروره به وأنفذ أبياتا نظمها طعن فيها على المعترضين لقول الشعر فقال أبو الطيب والكتاب بيده أبياتا ارتجلها أولها:
بكتب الأنام كتاب ورد | فدت يد كاتبه كل يد |
يعبر عما له عندنا | ويذكر من شوقه ما نجد |
مسير المتنبي من أرجان إلى عضد الدولة بشيراز
وورد عليه كتاب عضد الدولة يستزيره إلى شيراز فقال عند مسيره مودعا ابن العميد بقصيدة أولها:
نسيت وما أنسى عتابا على الصد | ولا خفرا زادت به حمرة الخد |
وسار قاصدا أبا شجاع عضد الدولة فناخسرو بن بويه بشيراز فلما ورد عليه قال يمدحه من قصيدته:
أوه بديل من قولتي واها | لمن نأت وللبديل ذكراها |
كل جريح ترجى سلامته | إلا فؤادا رمته عيناها |
تبل خدي كلما ابتسمت | من مطر برقه ثناياها |
في بلد تضرب الحجا به | على حسان ولسن أشباها |
كل مهاة كأن مقلتها | تقول إياكم وإياها |
فيهن من تقطر السيوف دما | إذا لسان المحب سماها |
يقول فيها:
وقد رأيت الملوك قاطبة | وسرت حتى رأيت مولاها |
قال ابن جني لما سمع سيف الدولة هذا البيت قال ترى هل نحن في الجملة:
أبا شجاع بفارس عضد الد | ولة فناخسروا شهنشاها |
أساميا لم تزده معرفة | وإنما لذة ذكرناها |
في الصبح المنبي: نقل بعض أئمة الأدب أن رجلا من مدينة السلام كان يكره أبا الطيب فحلف أن لا يسكن بلدا يذكر فيها أبو الطيب وينشد شعره فهاجر من بغداد وكان كلما وصل بلدا سمع بها ذكره يرحل عنها حتى وصل إلى أقصى بلاد الترك فسألهم عن أبي الطيب فلم يعرفوه فلما كان يوم الجمعة سمع الخطيب ينشد بعد ذكر أسماء الله الحسنى:
أساميا لم تزده معرفة | وإنما لذة ذكرناها |
فعاد إلى بغداد:
تشرق تيجانه بغرته | إشراق ألفاظه بمعناها |
دان له شرقها ومغربها | ونفسه تستقل دنياها |
تجمعت في فؤاده همم | ملء فؤاد الزمان إحداها |
وفي الصبح المنبي: حكى عبد العزيز بن يوسف الجرجاني وكان كاتب الإنشاء عند عضد الدولة عظيم المنزلة منه قال لمال أبو الطيب المتنبي مجلس عضد الدولة وانصرف عنه أتبعه بعض جلسائه وقال له سله كيف شاهد مجلسنا وأين الأمراء الذين لقيهم منا قال فامتثلت أمره وجاريت المتنبي في هذا الميدان وأطلت معه عنان القول فكان جوابه عن جميع ما سمع مني أن قال ما خدمت عيناي قلبي كاليوم ولقد اختصر اللفظ وأطال المعنى وأجاد فيه وكان ذلك منه أوكد الأسباب التي حظي بها عند عضد الدولة.
ويظهر أن المتنبي كان متحرزا من الجواسيس في جميع حالاته فإنه إن كان قال هذا في حق عضد الدولة عن اعتقاد فهو لم يقل مثله عن اعتقاد في حق كافور حينما أرسل إليه من يقول له طال قيامك في مجلس كافور فقال:
يقل له القيام على الرؤوس | وبذل المكرمات من النفوس |
كما سبق. وكان أبو علي الفارسي إذ ذاك بشيراز وكان ممر المتنبي إلى دار عضد الدولة على دار أبي علي الفارسي وكان إذا مر به أبو الطيب يستثقله على قبح زيه وما يأخذ به نفسه من الكبرياء وكان لابن جني هوى في أبي الطيب وكان كثير الإعجاب بشعره لا يبالي بأحد يذمه أو يحط منه كان يسوؤه إطناب أبي علي في ذمه واتفق أن قال أبو علي يوما اذكروا لنا بيتا من الشعر نبحث فيه فبدأ ابن جني وأنشد:
حلت دون المزار اليوم لو زر | ت لحال النحول دون العناق |
فاستحسنه أبو علي واستعاده وقال لمن هذا البيت فإنه غريب المعنى فقال ابن جني للذي يقول:
أزورهم وسواد الليل يسفع لي | وأنثني وبياض الصبح يغري بي |
فقال والله هذا حسن بديع جدا فلمن هما قال للذي يقوله:
أمضى إرادته فسوف له قد | واستقرب الأقصى فثم له هنا |
فكثر إعجاب أبي علي واستغرب معناه وقال لمن هذا فقال ابن جني للذي يقول:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى | مضر كوضع السيف في موضع الندى |
فقال وهذا أحسن والله لقد أطلت يا أبا الفتح فأخبرنا من القائل فقال هو الذي لا يزال الشيخ يستثقله ويستقبح زيه وفعله وما علينا من القشور إذا استقام اللب قال أبو علي أظنك تعني المتنبي قلت نعم قال والله لقد حببته إلي ونهض ودخل على عضد الدولة فأطال في الثناء على أبي الطيب ولما اجتاز به استنزله واستنشده وكتب عنه أبياتا من الشعر.
قال الرعي كنت يوما عند المتنبي بشيراز فقيل له أبو علي الفارسي بالباب وكانت تأكدت بينهما المودة قال بادروا إليه فأنزلوه فدخل أبو علي وأنا جالس عنده قال يا أبا حسن خذ هذا الجزء وأعطاني جزءا من كتاب التذكرة وقال اكتب عن الشيخ البيتين اللذين ذكرتك بهما وهما:
سأطلب حقي بالقنا ومشائخ | كأنهم من طول ما التثموا مرد |
ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا | كثير إذا شدوا قليل إذا عدوا |
ومن مدائحه في عضد الدولة التي يذكر فيها شعب بوان وهو في طريقه إلى شيراز وهو أحد جبان الدنيا الأربع غوطة دمشق ونهر الأبلة بالبصرة وصغد سمرقند وشعب بوان وهو بين أرجان وشيراز:
مغاني الشعب طيبا في المغاني | بمنزلة الربيع من الزمان |
ولكن الفتى العربي فيها | غريب الوجه واليد واللسان |
ملاعب جنة لو سار فيها | سليمان لسار بترجمان |
طبت فرساننا والخيل حتى | خشيت وإن كرمن من الحران |
غدون تنفض الأغصان فيها | على أعرافها مثل الجمان |
فسرت وقد حجبن الحر عني | وجئن من الضياء بما كفاني |
وألقى الشرق منها في ثيابي | دنانيرا تفر من البنان |
فلما وصل إلى هذا البيت قال له عضد الدولة والله لأقرنها وفعل:
لها ثمر تشير إليك منه | بأشربة وففن بلا أواني |
وأموال تصل به حصاها | صليل الحلي في أيدي الغواني |
ولو كانت دمشق ثنى عناني | لبيق الثرد صيني الجفان |
منازل لم يزل منها خيال | يشيعني إلى النوبذنخان |
إذا غنى الحمام الورق فيها | أجابته أغاني القيان |
ومن بالشعب أحوج حمام | إذا غنى وناح إلى البيان |
يقول بشعب بوان حصاني | أعن هذا يسار إلى الطعان |
أبوكم آدم سن المعاصي | وعلمكم مفارقة الجنان |
فقلت إذا رأيت أبا شجاع | سلوت عن العباد وذا المكان |
فإن الناس والدنيا طريق | إلى من ما له في الناس ثاني |
وقال يمدحه من قصيده:
إن الذين أقمت وارتحلوا | أيامهم لديارهم دول |
الحسن يرحل كلما رحلوا | معهم وينزل حيثما نزلوا |
في مقلتي رشاء تديرهما | بدوية فتنت بها الحلل |
تشكو المطاعم طول هجرتها | وصدودها ومن الذي تصل |
ما أسأرت العقب من لبن | تركته وهو المسك والعسل |
قالت ألا تصحو فقلت لها | أعلمتني أن الهوى ثمل |
حتى أتى الدنيا ابن بجدتها | فشكا إليه السهل والجبل |
شكوى العليل إلى الكفيل له | أن لا تمر بجسمه العلل |
في وجهه من نور خالقه | غرر هي الآيات والرسل |
لا يستحي أحد يقال له | نضلوك آل بويه أو فضلوا |
قدروا عفوا وعدوا وفوا سئلوا | أغنوا علوا أعلوا ولوا عدلوا |
فوق السماء وفوق ما طلبوا | فإذا أرادوا غاية نزلوا |
وتوفيت عمة عضد الدولة ببغداد فورد عليه الكتاب بوفاتها إلى شيراز فقال المتنبي من قصيدة:
لا بد للإنسان من ضجعة | لا تقلب المضجع عن جنبه |
ينسى بها ما كان من عجبه | وما أذاق الموت من كربه |
نحن بنو الموتى فما بالنا | نعاف ما لا بد من شربه |
تبخل أيدينا بأرواحنا | على زمان هي من كسبه |
فهذه الأرواح من جوه | وهذه الأجسام من تربه |
لو فكر العاشق في منتهى | حسن الذي يسبيه لم يسبه |
لم ير قرن الشمس في شرقه | فشكت الأنفس في غربه |
يموت راعي الضأن في جهله | ميتة جالينوس في طبه |
وربما زاد على عمره | وزاد في الأمن على سربه |
وغاية المفرط في سلمه | كغاية المفرط في حربه |
فلا قضى حاجته طالب | فؤاده يخفق من رعبه |
مفارقته عضد الدولة قاصدا العراق ومقتله
وكان ينبغي أن نذكر خبر مقتله في آخر الترجمة كما هي العادة لكن ارتباطه بمفارقة عضد الدولة دعا إلى ذكره هنا لتكون أخباره متتالية غير متقطعة.
في اليتيمة: لما أنجحت سفرته وربحت تجارته بحضرة عضد الدولة ووصل إليه من صلاته أكثر من مئتي ألف درهم استأذنه في المسير عنها ليقضي حوائج في نفسه ثم يعود إليها فإذن له وأمر بأن تخلع عليه الخلع الخاصة ويقاد إليه الحملان الخاص وتعاد صلته بالمال الكثير فامتثل ذلك وأنشده أبو الطيب الكافية التي هي آخر شعره وفي أضعافها كلام جرى على لسانه كأنه ينعى فيه نفسه وإن لم يقصد ذلك فمنه قوله:
فلو أني استطعت خفضت طرفي | فلم أبصر به حتى أراكا |
وهذه لفظة يتطير منها منه:
إذا التوديع أعرض قال قلبي | عليك الصمت لا صاحبت فاكا |
وهذا أيضا من ذاك ومنه:
ولولا أن أكثر ما تمنى | معاودة لقلت ولا مناكا |
أي لو أن أكثر ما تمنى قلبي أن يعاودك لقلت له ولا بلغت أنت أيضا مناك. وهذا أيضا من ذاك ومنه:
قد استشفيت من داء بداء | وأقتل ما أعلك ما شفاكا |
ومنه:
وكم دون التوبة من حزين | يقول له قدومي ذا بذاكا |
ومنه:
ويمنع ثغره من كل صب | ويمنحه البشامة والأراكا |
وفي الأحباب مختص بود | وآخر يدعي معه اشتراكا |
إذا اشتبكت دموع في خدود | تبين من بكى ممن تباكى |
وهذه أيضا من ذاك منه:
وأيا شئت يا طرقي فكوني | أذاة أو نجاة أو هلاكا |
جعل قافية البيت الهلاك فهلك وذلك أنه ارتحل عن شيراز بحسن حال ووفور مال فلما فارق أعمال فارس حسب أن السلامة تستمر به كاستمرارها في مملكة عضد الدولة ولم يقبل ما أشير به عليه من الاحتياط باستصحاب الخفراء والمبذرقين فجرى عليه ما جرى وحاصله كما في الصبح المنبي عن الخالديين أنهما قالا كتبنا إلى أبي نصر محمد الجبلي نسأله عما صدر لأبي الطيب بعد مفارقته عضد الدولة وكيف قتل وأبو نصر هذا من وجوه الناس في تلك الناحية وله فضل وأدب جزل وحرمة وجاه فأجابنا يقول: إن سير أبي الطيب كان من واسط يوم السبت لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة 354 وقتل بضيعة تقرب من دير العاقول لليلتين بقيتا من شهر رمضان والذي تولى قتله وقتل ابنه (محسد) وغلامه (مفلح) رجل من بني أسد يقال له فاتك ابن جهل بن فراس بن بداد وكان من قوله لما قتله وهو متعفر قبحا لهذه اللحية يا سباب وهو خال ضبة أخو والدته الذي هجاه أبو الطيب بقوله:
ما أنصف القوم ضبه | وأمه الطرطبه |
وأقذع وأفحش في هجوه والافتراء على أمه، فداخلت فاتكا الحمية لما سمع ذكر أخته بالقبيح في هذا الشعر، قال أبو نصر: إن فاتكا كان لي صديقا وكان فاتكا كاسمه، فلما سمع الشعر الذي هجي به ابن أخته ضبة اشتد غضبه ورجع على ضبة باللوم وقال له: كان يجب أن لا تجعل لشاعر سبيلا، وأضمر غير ما أظهر، واتصل به انصراف المتنبي من بلاد فارس وتوجهه إلى العراق وعلم أن اجتيازه بجبل دير العاقول فلم يكن ينزل عن فرسه ومعه جماعة من بني عمه، وكان فاتك خائفا أن يفوته، فجاءني يوما وهو يسأل قوما مجتازين عن المتنبي، فقلت له أكثرت المسألة عن هذا الرجل فأي شيء تريد منه؟ قال: ما أريد إلا الجميل، وعذله على هجاء ضبة، فقلت هذا لا يليق بأخلاقك! فتضاحك ثم قال يا أبا نصر والله لئن اكتحلت عيني به أو جمعتني وإياه بقعة لأسفكن دمه، قلت له كف عافاك الله إله عن هذا وارجع إلى الله وأزل هذا الرأي من قلبك فإن الرجل شهير الاسم بعيد الصيت ولا يحسن منك قتله على شعر قاله، وقد هجت الشعراء الملوك في الجاهلية والخلفاء في الإسلام فما سمعنا بشاعر قتل بهجائه وقد قال الشاعر:
هجوت زهيرا ثم إني مدحته | وما زالت الأشراف تهجى وتمدح |
ولم يبلغ جرمه ما يوجب قتله، فقال يفعل الله ما يشاء وانصرف، ولم يمض لهذا القول غير ثلاثة أيام حتى وافاني المتنبي ومعه بغال موقرة بكل شيء من الذهب والطيب والتجملات النفسية والكتب الثمينة والآلات، لأنه كان إذا سافر لم يخلف في منزله درهما ولا شيئا يساويه، وكان أكثر إشفاقه على دفاتره، لأنه كان انتخبها وأحكمها قراءة وتصحيحا، قال أبو نصر: فتلقيته وأنزلته داري وسألته عن أخباره وعمن لقي فعرفني من ذلك ما سررت له، وأقبل يصف ابن العميد وعمله وكرمه وكرم عضد الدولة ورغبته في الأدب وميله إلى أهله، فلما أمسينا قلت له يا أبا الطيب على أي شيء أنت مجمع؟ قال على أن أتخذ الليل مركبا فإن السير فيه يخف علي، فقلت هذا هو الصواب رجاء أن يخفيه الليل ولا يصبح إلا وقد قطع بلدا بعيدا، وقلت له والرأي أن يكون معك من رجالة هذه البلدة الذين يعرفون هذه المواضع المخيفة جماعة يمشون بين يديك إلى بغداد، فقطب وجهه وقال لم قلت هذا القول؟ فقلت لتستأنس بهم، فقال أما والجراز في عنقي فما بي حاجة إلى مؤنس غيره، قلت الأمر إليك والرأي في الذي أشرت عليك، فقال تلويحك ينبي عن تعريض وتعريضك ينبي عن تصريح فعرفني الأمر وبين لي الخطب قلت إن هذا الجاهل فاتكا الأسدي كان عندي منذ ثلاثة أيام وهو غير راض عنك لأنك هجوت ابن أخته ضبة، وقد تكلم بأشياء توجب الاحتراز والتيقظ ومعه أيضا نحو العشرين من بني عمه قولهم مثل قوله، فقال غلام أبي الطيب وكان عاقلا: الصواب ما رآه أبو نصر خذ معك عشرين رجلا يسيرون بين يدك إلى بغداد، فاغتاظ أبو الطيب من غلامه غيظا شديدا وشتمه شتما قبيحا وقال والله لا أرضى أن يتحدث عني الناس بأني سرت في خفارة أحد غير سيفي. قال أبو نصر: فقلت يا هذا أنا أوجه قوما من قبلي في حاجة يسيرون بمسيرك وهم في خفارتك، فقال والله لا فعلت شيئا من هذا، ثم قال يا أبا نصر بحرء الطير تخوفني ومن عبيد العصا تخاف علي والله لو أن مخصرتي هذه ملقاة على شاطئ الفرات وبنو أسد معطشون بخمس وقد نظروا إلى الماء كبطون الحيات ما جسر لهم خف ولا ظلف أن يرده، معاذ الله أن أشغل بهم فكري لحظة عين، فقلت له قل إن شاء الله تعالى فقال هي كلمة مقولة لا تدفع مقضيا ولا تستجلب آتيا، ثم ركب فكان آخر العهد به، ولما صح خبر قتله وجهت من دفنه ودفن ابنه وغلامه، وذهبت دماؤهم هدرا، هذا هو الصحيح من خبره.
ويقال إنه أراد أن ينهزم فقال له غلامه أين قولك:
الخيل والليل والبيداء تعرفني | والحرب والضرب والقرطاس والقلم |
فقال قتلتني قتلك الله ثم قاتل حتى قتل، وأظن أن هذا الخبر مما خلقته بعض المخيلات من أجل البيت المذكور فالغلام الذي رأى الموت محدقا به وبمولاه والذي كان قد أشار بأخذ الخفراء وكان عاقلا ليس له في تلك الحال ما يدعوه إلى إهلاك نفسه ومولاه والذين جاؤوا لقتل المتنبي كانوا في عدة واستعداد لا يمكنه معها الهرب فهم كانوا على أهبة وتدبير وهو على غفلة وغرور، وقيل إن الخفراء جاؤوه وطلبوا منه خمسين درهما ليسيروا معه، فمنعه الشح والكير فتقدموه ووقع به ما وقع، ولما قتل رثاه أبو القاسم مظفر ابن علي بن المظفر بن علي الطبسي بقوله:
لا رعى الله سرب هذا الزمان | إذ دهانا بمثل ذاك اللسان |
ما رأى الناس ثاني المتنبي | أي ثان يرى لبكر الزمان |
كان من نفسه الكبيرة في جيـ | ـش وفي الكبرياء ذا سلطان |
هو في شعره نبي ولكن | ظهرت معجزاته في المعاني |
ورثاه أيضا ثابت بن هارون الرقي النصراني بقصيدة يستثير فيها عضد الدولة على فاتك الأسدي وهي:
الدهر أخبث والليالي أنكد | من أن تعيش لأهلها يا أحمد |
قصدتك لما أن رأتك نفيسها | بخلا بمثلك، والنفائس تقصد |
ذقت الكريهة بغتة وفقدتها | وكريه فقدك في الورى لا يفقد |
قل لي إن أسطعت الخطاب فإنني | صب الفؤاد إلى خطابك مكمد |
أتركت بعدك شاعرا والله لا | لم يبق بعدك في الزمان مقصد |
أما العلوم فإنها يا ربها | تبكي عليك بأدمع لا تجمد |
يا أيها الملك المؤيد دعوة | عمن حشاه بالأسى يتوقد |
هذي بنو أسد بضيفك أوقعت | وحوت عطاءك إذ حواه الفرقد |
وله عليك بقصده يا ذا العلى | حق التحرم والذمام الأوكد |
فارع الذمام وكن لضيفك طالبا | إن الذمام على الكريم مؤيد |
ورثاه أبو الفتح بن جني بقصيدة أوردها في الصبح وفيها أغلاط لم نهتد لتصحيحها أولها:
غاض القريض وأودت نضرة الأدب | وصوحت بعد ري دوحة الكتب |
ومنها:
سلبت ثوب بهاء كنت تلبسه | كما تخطفت بالخطية السلب |
وقد حلبت لعمري الدهر أشطره | تمطو بهمة لا وان ولا نصب |
من للهواجل يحيي ميت أرسمها | بكل جائلة التصدير والحقب |
أم من لسرحانه يقريه فضلته | وقد تضور بين الياس والسغب |
أم للمعارك يرمي جمر جاحمها | حتى تقربها عن ساطع اللهب |
أم للمحافل إذ تبدو لتعمرها | بالنظم والنثر والأمثال والخطب |
أم للمناهل والظلماء عاكفة | مواصل الكرتين الورد والقرب |
أم للملوك تحليها وتلبسها | حتى تمايس في أبرادها القشب |
باتت وشادي إطرابي يؤرقني | لما غدوت لقى في قبضة النوب |
عمرت خدن المساعي غير مضطهد | ومت كالنصل لم يدنس ولم يعب |
فاذهب عليك سلام المجد ما قلقت | خوص الركائب بالأكوار والشعب |
بعض ما أثر عنه من فصيح الكلام
قال ابن خلكان: لما كان بمصر مرض وكان له صديق يغشاه في علته فلما أبل انقطع عنه، فكتب إليه:
وصلتني- وصلك الله- معتلا وقطعتني مبلا فإن رأيت أن لا تحبب العلة إلي ولا تكدر الصحة علي فعلت إن شاء الله تعالى.
شعر المتنبي
لا شك أن شعره في الطبقة العالية، وأنه في وصف الجيوش والحروب لا يسبقه سابق ولا يلحقه لاحق، وأنه سبق في جميع فنون الشعر من الغزل والمديح والهجاء والرثاء والوصف والاستعطاف وأبدع وتفنن ما شاء، وأن الشعر كان طوع لسانه ينظم ما أراد وما أريد منه فيأتي ببدائع الألفاظ وغرائبها، وأن شعره قد حاز شهرة عظيمة بين جميع طبقات أهل الفضل في حياته فضلا عما بعد وفاته. قال الثعالبي في اليتيمة في تتمة كلامه السابق: سار ذكره مسير الشمس والقمر وسافر كلامه في البدو والحضر، وكادت الليالي تنشده والأيام تحفظه، كما قال وأحسن ما شاء:
وما للدهر إلا من رواة قصائدي | إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا |
فسار به من لا يسير مشمرا | وغنى به من لا يغني مغردا |
وكما قال:
ولي فيك ما لم يقل قائل | وما لم يسر قمر حيث سارا |
وعندي لك الشرد السائرا | ت لا يختصصن من الأرض دارا |
إذا سرن من مقول مرة | وثبن الجبال وخضن البحارا |
قال وهذا من أحسن ما قيل في وصف الشعر السائر، وأبلغ منه قول علي بن الهجم:
ولكن إحسان الخليفة جعفر | دعاني إلى ما قلت فيه من الشعر |
فسار مسير الشمس في كل بلدة | وهب هبوب الريح في البر والبحر |
فليس اليوم مجالس الدرس أعمر بشعر المتنبي من مجالس الأنس ولا أقلام كتاب الرسائل أجرى به من ألسن الخطباء في المحافل ولا لحون المغنين والقوالين أشغل به من كتب المؤلفين والمصنفين، وقد ألفت الكتب في تفسيره وحل مشكله وعويصه، وكثرت الدفاتر على ذكر جيده ورديئه، وتكلم الأفاضل في الوساطة بينه وبين خصومه والإفصاح عن أبكار كلامه وعونه، وتفرقوا فرقا في مدحه والقدح فيه والنضح عنه والتعصب له وعليه، وذلك أدل دليل على وفور فضله وتقدم قدمه وتفرده عن أهل زمانه، بملك رقاب القوافي ورق المعاني، فالكامل من عدت سقطاته، والسعيد من حسبت هفواته "وما زالت الأملاك تهجى وتمدح".
وقال ابن خلكان: أما شعره فهو في النهاية ولا حاجة إلى ذكر شيء منه لشهرته، ولكن الشيخ تاج الدين الكندي كان يروي له بيتين لا يوجدان في ديوانه وكانت روايته لهما بالإسناد الصحيح المتصل به وهما:
أبعين مفتقر إليك نظرتني | فأهنتني وقذفتني من حالق |
لست الملوم أنا الملوم لأنني | أنزلت آمالي بغير الخالق |
قال والناس في شعره على طبقات: فمنهم من يرجحه على أبي تمام ومن بعده، ومنهم من يرجح أبا تمام عليه، وقال أبو العباس أحمد ابن النامي الشاعر: - وهو من خصومه اللد وممن حط من المتنبي عند سيف الدولة فيما يقال- كان قد بقي من الشعر زاوية دخلها المتنبي وكنت أشتهي أن أكون قد سبقته إلى معنيين قالهما ما سبق إليهما أحدهما قوله:
رماني الدهر بالأرزاء حتى | فؤادي في غشاء من نبال |
فصرت إذا أصابتني سهام | تكسرت النصال على النصال |
والآخر قوله:
في جحفل ستر العيون غباره | فكأنما يبصرن بالآذان |
واعتنى العلماء بديوانه فشرحوه، وقال لي أحد المشايخ الذين أخذت عنهم وقفت له على أكثر من أربعين شرحا ما بين مطولات ومختصرات ولم يفعل هذا بديوان غيره ولا شك أنه كان رجلا مسعودا ورزق في شعره السعادة التامة "أه".
وذكر صاحب الصبح المنبي شروح ديوانه التي وقف عليها وما ألف من الكتب فيما يتعلق بشعره فكانت نحو اثنين وأربعين كتابا منها: شرح ابن جني قال وهو أول من شرحه وشرح أبي العلاء المعري المسمى معجز أحمد. وشرح أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي.
والموضح لأبي زكريا التبريزي. وشرح عبد القاهر الجرجاني. وشرح أبي منصور محمد بن عبد الجبر السمعاني جد صاحب الأنساب.
وشرح عبد الرحمن بن محمد الأنباري صاحب نزهة الألباء في طبقات الأدباء. وشرح أبي البقاء العكبري. وشرح محمد ابن عبد الله الدلفي في عشرة مجلدات. وشرح أبي بكر الخوارزمي محمد بن العباس. ومن الكتب المتعلقة بشعره: المنصف في سرقات المتنبي للحسن بن محمد بن وكيع. والوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي عبد العزيز الجرجاني وكتاب معاني أبياته لابن جني، والتنبيه لعلي ابن عيسى الربعي رد فيه على ابن جني. وكتاب الصاحب إسماعيل بن عباد فيما انتقده على المتنبي.
ونزهة الأديب في سرقات المتنبي من حبيب لابن حسنون المصري. والمآخذ الكندية من المعاني الطائية لابن الدهان. والاستدراك على ابن الدهان للوزير ضياء الدين بن الأثير الجزري. والتنبيه عن رذائل المتنبي لأحمد بن أحمد المغربي. والرسالة الحاتمية. وجبهة الأدب وكلاهما لأبي الحسن محمد ابن المظفر الحاتمي.
قال ولم يسمع بديوان شعر في الجاهلية ولا في الإسلام شرح مثل هذه الشروح الكثيرة سوى هذا الديوان. ولا تداول على ألسنة الأدباء في نظم ونثر أكثر من شعر المتنبي "أه" وكان ابن جني في علمه وفضله ممن قرأ ديوان المتنبي على المتنبي وشرحه كما سمعت وكان المتنبي يقول ابن جني أعرف بشعري مني.
أقول: وهو مع إحسانه فيما أحسن فيه إلى الغاية فله سقطات بالغة حد النهاية وبعضها لا يصدر من صبيان المكاتب وكثيرا ما يضع الدرة بجانب البعرة فهو كما قيل:
أنت العروس لها جمال رائع | لكنها في كل حين تصرع |
ولا يوجد ذلك لشاعر غيره وهذا عجيب وأنا أظن أن سببه إعجابه ورضاه عن نفسه وقوة بديهته فهو ينظم الشعر ولا يهذبه للعلة المذكورة ويمنعه إعجابه بنفسه أن يلتفت إلى عيب شعره فهو راض عن كل ما يقول والصارم قد ينبو والجواد قد يكبو لكن المتنبي كثير النبوات والكبوات وهو لم يلتفت لنبواته وكبواته وعرفها غيره. ويمكننا أن نجعل هذه السقطات الشائنة دليلا قويا على بلوغ الجيد من شعره الدرجة العالية في الحسن فهو قد جعل الخزف بجانب الذهب لكن خزفه لم يؤثر شيئا في ذهبه وغطت محاسن الذهب على مقابح الخزف فلو لم يكن هذا الذهب خالصا غالي القيمة لشانه وضعه بجانب الخزف وقال ابن الأثير في المثل السائر: سئل المتنبي عن البحتري وعن أبي تمام وعن نفسه فقال نحن حكيمان والشاعر البحتري وإذا صحت هذه الحكاية كشفت عن إنصاف عظيم من المتنبي وعن معرفة تامة وقال ابن الأثير أيضا قال الشريف الرضي في هذا المقام وكلام الشريف شريف الكلام أما أبو تمام فخطيب منبر وأما البحتري فواصف جؤذر وأما أبو الطيب فقائد عسكر وقد مر عليك في أثناء ما تقدم طرف مقنع من محاسن شعره.
ومن روائع نظمه ما قاله في مدح الأمير أبي محمد الحسن ابن عبيد الله بن طغج بالرملة من قصيدة:
حسان التثني ينقش الوشي مثله | إذا مسن في أجسامهن النواعم |
ويبسمن عن در تقلدن مثله | كأن التراقي وشحت بالمباسم |
من الحلم أن تستعمل الجهل دونه | إذا اتسعت في الحل طرق المظالم |
وأن ترد الماء الذي شطره دم | فتسقى إذا لم يسق من لم يزاحم |
ومن عرف الأيام معرفتي بها | وبالناس روى رمحه غير راحم |
فليس بمرحوم إذا ظفروا به | ولا في الردى الجاري عليهم بآثم |
إذا صلت لم أترك مصالا لفاتك | وإن قلت لم أترك مقالا لعالم |
وإلا فخانتني القوافي وعاقني | عن ابن عبيد الله ضعف العزائم |
عن المقتني بذلك التلاد تلاده | ومجتنب البخل اجتناب المحارم |
ولا يتلقى الحرب إلا بمهجة | معظمة مذخورة للعظائم |
وذي لجب لا ذو الجناح أمامه | بناج ولا الوحش المثار بسالم |
تمر عليه الشمس وهي ضعيفة | تطالعه من بين ريش القشاعم |
إذا ضوؤها لاقى من الطير فرجة | تدور فوق البيض مثل الدراهم |
وطعن غطاريف كأن أكفهم | عرفن الردينيات قبل المعاصم |
هم المحسنون الكر في حومة الوغى | وأحسن منه كرهم في المكارم |
وهم يحسنون العفو عن كل مذنب | ويحتملون الغرم عن كل غارم |
حييون إلا أنهم في نزالهم | أقل حياء من شفار الصوارم |
ولولا احتقار الأسد شبهتهم بها | ولكنها معدودة في البهائم |
وقوله في هذه القصيدة "وذي لجب" والبيتان بعده مما حلق به المتنبي.
وانفرد المتنبي في شعره بالمبالغات الكثيرة التي قلما يخلو منها بيت فضلا عن قصيدة والمبالغات في شعر الشعراء وإن كانت غير عزيزة حتى قيل الشعر أكذبه أعذبه إلا أنها لا تصل إلى ما في شعر المتنبي.
وللمتنبي في التصرف في النظم لكل معنى يريده ما لا ينكر فمن تفننه قوله في عضد الدولة الذي جمع فيه الكنية واسم البلد والاسم واللقب:
أبو شجاع بفارس عضد الدو | لة فناخسروا شهنشاها |
قلنا إن المتنبي جاء سابقا في جميع أنواع الشعر ونعيد القول بأنه إذا تغزل فاق وأتى بالمعاني الرقاق فهو يقول في تغزله:
حسان التثني ينقش الوشي مثله | إذا مس في أجسامهن النواعم |
ويبسمن عن در تقلدن مثله | كأن التراقي وشحت بالمباسم |
ويقول:
من الجآذر في زي الأعريب | حمل الحلى والمطايا والجلابيب |
إذا كنت تسأل شكا في معارفها | فمن بلاك بتسهيد وتعذيب |
ويقول:
ليس القباب على الركاب وإنما | هن الحياة ترحلت بسلام |
ليت الذي خلق النوى جعل الحصى | لخفافهن مفاصلي وعظامي |
ويقول:
كم قتيل كما قتلت شهيد | لبياض الطلى وورد الخدود |
عمرك الله هل رأيت بدورا | طلعت في براقع وعقود |
راميات بأسهم ريشها الهد | ب تشق القلوب قبل الجلود |
كل خمصانة أرق من الخمـ | ـر فيه بماء ورد وعود |
حالك كالغداف جثل دجوجي | أثيث جعد بلا تجعيد |
تحمل المسك عن غدائرها الريـ | ـح وتفتر عن شنيب برود |
هذه مهجتي لديك لحيني | فانقضي من عذابها أو فزيدي |
شيب رأسي وذلتي ونحولي | ودموعي على هواك شهودي |
أي يوم سررتني بوصال | لم ترعني ثلاثة بصدود |
ويقول في حماسته:
الخيل والليل والبيداء تعرفني | والسيف والرمح والقرطاس والقلم |
ويقول في المديح:
ملك زهت بمكانه أيامه | حتى افتخرن به على الأيام |
وإذا سألت بنانه عن نيله | لم يرض بالدنيا قضاء ذمام |
ويقول:
ويستكبرون الدهر والدهر دونه | ويستعظمون الموت والموت خادمه |
ويقول في الملك الأسود:
وأمت بنا إنسان عين زمانه | وخلت بياضا خلفها ومآقيا |
ويقول في الهجاء:
رأيتكم لا يصون العرض جاركم | ولا يدر على مرعاكم اللبن |
ويقول في كافور:
إني نزلت بكذابين ضيفهم | عن القرى وعن الترحال محدود |
من علم الأسود اللابي مكرمة | أقومه البيض أم آباؤه الصيد |
أم أذنه في يد النخاس دامية | أم قدره وهو بالفلسين مردود |
ويقول في السامرائي:
صغرت عن المديح فقلت أهجى | كأنك ما صغرت عن الهجاء |
ويقول في الذهبي:
لما نسبت فكنت ابنا لغير أب | ثم اختبرت فلم ترجع إلى أدب |
سميت بالذهبي اليوم تسمية | مشتقة من ذهاب العقل لا الذهب |
وقوله في هجاء ضبة بن يزيد العتبي الذي كان سببا لقتله:
ما أنصف القوم ضبه | وأمه الطرطبه |
والناس يعيبون عليه لفظ الطرطبة وينسبون هذه الأبيات إلى السخافة والركاكة لكن الهجاء يقبل مثل هذا اللفظ ولكل مقام مقال يقول فيها وهو أقل ما تضمنته من الأقذاع:
وما عليك من القتل | إنما هي ضربه |
وما عليك من العار | إن أمك. . . . . . . . |
وما يشق على الكلب | أن يكون ابن كلبه |
وباقيها لا يليق ذكره ويقول في الرثاء:
ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى | أن الكواكب في التراب تغور |
ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى | رضوى على أيدي الرجال تسير |
حتى أتوا حدثا كأن ضريحه | في قلب كل موحد محفور |
فيه السماحة والفصاحة والتقى | والبأس أجمع والحجى والخير |
كفل الثناء له برد حياته | لما انطوى فكأنه منشور |
ويقول في الزهد والمواعظ:
آلة العيش صحة وشباب | فإذا وليا عن المرء ولى |
أبدا تسترد ما تهب الدنيا | فيا ليت جودها كان بخلا |
وهي معشوقة على الغدر لا تحـ | ـفظ عهدا ولا تتم وصلا |
كل دمع يسيل منها عليها | ويفك اليدين عنها تخلى |
شيم الغانيات فيها فما أد | ري لذا أنث اسمها الناس أم لا |
ويقول في مثل ذلك:
نبكي على الدنيا وما من معشر | جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا |
أين الأكاسرة الجبابرة الأولى | كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا |
من كل من ضاق الفضاء بجيشه | حتى ثوى فحواه لحد ضيق |
خرس إذا نودوا كأن لم يعلموا | أن الكلام لهم حلال مطلق |
فالموت آت والنفوس نفائس | والمستعز بما لديه الأحمق |
والمرء يأمل والحياة شهية | والشيب أوقر والشبيبة أنزق |
ولقد بكيت على الشباب ولمتي | مسودة ولماء وجهي رونق |
حذرا عليه قبل يوم فراقه | حتى لكدت بما جفني أشرق |
ويقول في استعطاف سيف الدولة على بني كلاب:
ترفق أيها المولى عليهم | فإن الرفق بالجاني عتاب |
وإنهم عبيدك حيث كانوا | إذا تدعو لحادثة أجابوا |
وعين المخطئين هم وليسوا | بأول معشر خطئوا فتابوا |
ويقول في استعطافه على بني كلاب وبني كعب:
إذا لم يرع سيدهم عليهم | فمن يرعى عليهم أو يغار |
تفرقهم وإياه السجايا | ويجمعهم وإياه النجار |
بنو كعب وما أثرت فيهم | يد لم يدمها إلا السوار |
بها من قطعه ألم ونقص | وفيها من جلالته افتخار |
لها حق بشركك في نزار | وأدنى الشرك في أصل جوار |
لعل بينهم لبينك جند | فأول قرح الخيل المهار |
ويقول في وصف الأسد:
ورد إذا ورد البحيرة شاربا | ورد الفرات زئيره والنيلا |
متخضب بدم الفوارس لابس | في غيله من لبدتيه غيلا |
في وحدة الرهبان إلا أنه | لا يعرف التحريم والتحليلا |
يطأ الثرى مترفقا من تيهه | فكأنه آس يجس عليلا |
ويرد عفرته إلى يافوخه | حتى تصير لرأسه إكليلا |
ويقول في وصف الخيل:
وجردا مددنا بين آذانها القنا | فبتن خفافا يتبعن العواليا |
تماشى بأيد كلما وافت الصفا | نقشن به صدر البزاة حوافيا |
وتنظر من سود صوادق في الدجى | يرين بعيدات الشخوص كما هيا |
وتنصب للجرس الخفي سوامعا | يخلن مناجات الضمير تناجيا |
وخالف المتنبي طريقة الشعراء في طلبهم السقيا للديار والمنازل فقال:
ملث القطر عطشها ربوعا | وإلا فاسقها السم النقيعا |
أسائلها عن المتديريها | فلا تدري ولا تذري دموعا |
وانفرد بكثرة الإغلاق والتعقيد في شعره ولا حاجة إلى إيراد أمثلة منه فهو في شعره كثير ظاهر.
ما عيب على المتنبي
أورد صاحب اليتيمة من ذلك قدرا وافيا كثير منه أخذه من رسالة الصاحب، ونحن نورده هنا لما فيه من الفوائد للقارئ بتجنب أمثاله، وبترويح النفس بما قيل فيه ونعلق عليه بعض ما يقتضيه المقام:
1- قبح المطالع
مع أن المطالع أولى بالحسن وعذوبة اللفظ والبراعة وجودة المعنى من جميع القصيدة، لأنه أول ما يقرع الأسماع، وهو بمنزلة الوجه للإنسان، فإذا كانت حاله على الضد مجه السمع وكرهته النفس قال الثعالبي ولأبي الطيب ابتداءات ليس لعمري من أحرار الكلام وغرره، بل هي كما نعاها عليه العائبون مستشنعة مشتبشعة لا يرفع السمع لها حجابه ولا يفتح القلب لها بابه كقوله:
هذي برزت لنا فهجت رسيسا | ثم انصرفت وما شفيت نسيسا |
فإنه لم يرض بحذف علامة النداء من هذي وهو غير جائز عند النحويين حتى ذكر الرسيس فأخذ بطرفي الثقل والبرودة (وقوله) في مطلع قصيدة هي أول ما مدح به عضد الدولة (أوه بديل من قولتي واها) في اليتيمة أنه برقية العقرب أشبه منه بافتتاح كلام في مخاطبة ملك (وقوله):
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه | بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه |
فقد تكلف اللفظ المتعقد والترتيب المعسف لغير معنى بديع يفي شرفه وغرابته بالتعب في استخراجه ولا تقوم فائدة الانتفاع به بأزاء التأذي باستماعه (وقوله) في افتتاح قصيدة في مدح ملك وهو كافور في أول ملاقاته له بأول شعر:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا | وحسب المنايا أن يكن أمانيا |
والافتتاح بذكر الداء والموت مع الإقتران بكاف الخطاب فيه من الطيرة ما ينفر السوقة فكيف الملوك والتحرز عما يتطير منه في الشعر سيما المطلع أمر يلزم الشاعر مراعاته.
حكى الصاحب بن عباد في كتابه الكشف عن مساوئ المتنبي قال ذكر الأستاذ الرئيس أيده الله (يعني ابن العميد) يوما الشعر فقال إن أول ما يحتاج إليه فيه حسن المطلع فإن فلانا (وهو ابن أبي الشباب) أنشدني في يوم نيروز قصيدة ابتداؤها (أقبر وتا طلت ثارك يد الطل). فتطيرت من افتتاحه بالقبر وتنغصت باليوم والشعر فقلت كذلك كانت حال أبي مقاتل (الضرير) لما مدح الداعي (في يوم مهرجان) حين قال:
لا تقل بشرى ولكل بشريان | غرة الداعي ويم المهرجان |
فنفر من قوله لا تقل بشرى أشد نفار وقال أعمى ويبتدئ بهذا في يوم مهرجان "أه" وفي خبر أنه أمر بضربه خمسين سوطا وقال إصلاح أدبه أبلغ من ثوابه وفي خبر أنه أجابه فقال إن كلمة التوحيد ابتدأت بلا وهي لا إله إلا الله أن ذلك لا يرفع استبشاع هذا المطلع. وهذا هو الداعي إلى الحق العلوي الثائر بطبرستان. وهو الحسن بن زيد ابن محمد من أولاد زيد بن علي عليه السلام واستولى على طبرستان وما يليها في خلافة المستعين ويسمى بالداعي الأكبر وقد ولي الأمر بعده أخوه محمد بن زيد إلى أن قتل بجرجان وكذلك هذا الشاعر لما مدح الداعي الأكبر المذكور بقصيدة أولها (موعد أحبابك بالفرقة غد) أغضبه التفاؤل بهذا الافتتاح وقال بل موعد أحبابك يا أعمى ولك المثل السوء، وقد وقع نظير ذلك لجماعة من الشعراء بل لفحولهم كالبحتري حين أنشد أبا سعيد محمد بن يوسف الثغري قصيدته التي أولها:
لك الويل من ليل طويل أواخره | ووشك نوى حي تزم أبا عره |
فقال بل لأمك الويل.
وفي رواية بل لك الويل والحرب، والموجود في ديوانه المطبوع "له الويل" وكأنه غيره بعد ذلك، وأنشد ذو الرمة عبد الملك بن مروان قصيدة مطلعها (ما بال عينك منها الدمع ينهمل) وكانت عين عبد الملك لا تزال تدمع فقال وما سؤالك عن هذا يا ابن الفاعلة وصفعه وأمر بإخراجه. وأنشد الأخطل عبد الملك بن مروان قصيدته التي أولها (خف القطين فراحوا منك أو بكروا) فقال له عبد الملك لا بل منك وتطير من قوله. ولما أنشد أبو نواس الفضل بن يحيى البرمكي قصيدته التي أولها:
أربع البلى إن الخشوع لبادي | عليك وإني لم أخنك ودادي |
تطير الفضل من هذا الابتداء فلما انتهى إلى قوله:
سلام على الدنيا إذا ما فقدتم | بني برمك من رائحين وغادي |
استحكم تطيره ولم يمض أسبوع حتى نزلت بهم النازلة. ولما فرغ المعتصم من بناء قصره بالميدان جلس فيه واستأذنه إسحاق بن إبراهيم الموصلي وأنشده شعرا أوله:
يا دار غيرك البلى ومحاك | يا ليت شعري ما الذي أبلاك |
فتطير المعتصم من ذلك وتغامز الناس على إسحاق ابن إبراهيم كيف ذهب عليه مثل ذلك مع معرفته وعلمه ثم انصرف الناس فما عاد منهم اثنان إلى ذلك المجلس وخرج المعتصم إلى سر من رأى وخرب القصر. وقال أبو نواس في مطلع قصيدة يمدح بها الأمين:
يا دار ما فعلت بك الأيام | لم يبق فيك لذاذة تستام |
ونظائر ذلك تعاب في غير المطلع فكيف بالمطلع.
ولما أنشد أبو النجم هشام بن عبد الملك رجزه الذي يقول فيه (والشمس في الأفق كعين الأحول) وكان هشام أحول أمر بإخراجه.
ومن مطالع المتنبي المكروهة قوله (فؤاد ملاه الحزن حتى تصدعا) فإن ابتداء المديح بمثل هذه طيرة ينبو عنها السمع ويحسن ذلك في المراثي. ونظيره قول أبي تمام (تجدع أسى قد أقفر الجرع الفرد) والذي أوقعه في ذلك قصد التجنيس بين تجرع والجرع. ومن مطالع المتنبي المكروهة قوله:
أقل فعالي بله أكثره مجد | وذا الجد فيه نلت أم لم أنل جد |
وقوله:
كفي أراني ويك لومك ألوما | هم أقام على فؤادي أنجما |
أي أتركي لومي فإن الهم الذي أقام على فؤادي دهرا قد أراني لومك أحق باللوم فانظر إلى هذا التعقيد المستكره الذي افتتح به قصيدته. قال الصاحب: ومن عنوان قصائده التي تحير الأفهام وتفوت الأوهام وتجمع من الحساب ما لا يدرك بالارتماطيقي وبالأعداد الموضوعة للموسيقى قوله:
أحاد أم سداس في أحاد | لييلتنا المنوطة بالتنادي |
قال وهذا كلام الحكل ورطانة الزط وما ظنك بممدوح قد تشمر للسماع من مادحه فصك سمعه بهذه الألفاظ الملفوظة والمعاني المنبوذة. قال الثعالبي وقد خطأه في اللفظ والمعنى كثير من أهل اللغة وأصحاب المعاني حتى احتيج في الاعتذار له والنضج عنه إلى كلام لا يستأهله هذا البيت. أقول وفي تصغيره ليلة ما لا يخفى من الاستكراه. أما التخطئة التي أشار إليها الثعالبي فمن وجوه:
(1)إن أبناء فعال في العدد لا يتجاوز رباع إلا نادرا (2) إنه واحد واحد وستة ستة (3) حذف الهمزة من أحاد (4) التنافر في الحروف الواقع في لييلتنا واختلفوا في معنى أم سداس في أحاد فقيل أراد الضرب الحسابي وقال الواحدي أراد الظرفية واختار هذا العدد لأنه أراد ليالي الأسبوع يقول هذه الليلة واحدة أم ست جمعت في واحدة عبر بذلك عن ليالي الدهر كلها لأن كل أسبوع بعده أسبوع ويرشد إليه قوله المنوطة بالتنادي (أقول) هكذا صار البيت بتعقيده معركة للآراء كأنه من عبارات أرباب الكيميا التي يرمزون بها إلى الصنعة رمزا والشعر متى دخله الإغلاق والتعقيد فسد.
ومن ابتداءاته البشعة التي تنكرها بديهة السماع قوله:
ملث القطر أعطشها ربوعا | وإلا فاسقها السم النقيعا |
وقوله:
أثلث فإنا أيها الطلل | نبكي وترزم تحتنا الإبل |
(أثلث) أي كن ثالثا (وترزم) أي تحن وقوله (بقائي شاء ليس هم ارتحالا) قال الصاحب ومن افتتاحاته العجيبة قوله لسيف الدولة في التسلية عند المصيبة:
لا يحزن الله الأمير فإنني=لآخذ من حالاته بنصيب
قال لا أدري لم لا يحزن سيف الدولة إذا أخذ أبو الطيب بنصيب من القلق. أترى هذه التسلية أحسن عند أمته أم قول أوس:
أيتها النفس أجملي جزعا | إن الذي تحذرين قد وقعا |
قال الصاحب ومن افتخاره بنفسه وما عظم الله من قدره قوله:
أنا عين المسود الجحاح | هيجني كلابكم بالنباح |
ولا أدري هذا البيت أشرف أم قول الفرزدق:
إذن الذي سمك السماء بنى لنا | بيتا دعائمه أعز وأطول |
بيت زرارة محتب بفنائه | ومجاشع وأبو الفوارس نهشل |
2- الجمع بين الدر والخزف
أو ما هو أسقط منه في شعره
فإنه يقرن هذا البيت الحسن الذي لا يبارى بيتا في غاية الرداءة وما أكثر ما يحوم حول هذه الطريقة ويعود لهذه العادة السيئة ويجمع بين البديع النادر والضعيف الساقط فبينا هو يصوغ أفخر حلي وينظم أحسن عقد وينسج أنفس برد ويقطف أزهى ورد إذا به وقد رمى بالبيت والبيتين في أبعاد الإستعارة أو تعقيد المعنى إلى البمالغة في التكلف والزيادة في التعمق والخروج إلى الإفراط والإحالة والسفسفة والركاكة والتبرد والتوحش باستعمال الكلمات الشاذة فمحا تلك المحاسن وكدر صفاءها وأعقب حلاوتها مرارة لا مساغ لها واستهدف لسهام العائبين حتى تمثلوا فيه بقول الشاعر:
أنت العروس لها جمال رائع | لكنها في كل يوم تصرع |
فما جاء في شعره من هذا النمط قوله:
أتراها لكثرة العشاق | تحسب الدمع خلقة في المآقي |
وهذا ابتداء ما سمع بمثله ومعنى تفرد بابتداعه ثم شفعه بما لا يبالي العاقل أن يسقطه من شعره فقال:
كيف ترثي التي ترى كل جفن | رءاها غير جفنها غير راقي |
رءاها مقلوب رآها وراقي من رقأ دمعه أي انقطع أي كيف ترثي وترق التي ترى جميع الأجفان لا ترقأ دموعها لحبها سوى جفنها.
وقوله:
ليالي بعد الظاعنين شكول | طوال وليل العاشقين طويل |
يبن لي البدر الذي لا أريده | ويخفين بدرا ما إليه وصول |
وما عشت من بعد الأحبة سلوة | ولكنني للنائبات حمول |
وما شرقي بالماء إلا تذكرا | لماء به أهل الحبيب نزول |
يحرمه لمع الأسنة حوله | فليس لظمآن إليه سبيل |
من قصيدة اخترع أكثر معانيها وأحسن صياغة ألفاظها فجاءت مطبوعة مصنوعة، وجاء في مديحها بأبيات يكثر فيها المختار الجيد المهترع المعنى، ثم اعترضته تلك العادة الذميمة فقال في سيف الدولة:
أغركم عرض الجيوش وطولها | علي شروب للجيوش أكول |
إذا لم تكن لليث إلا فريسة | غداه ولم يمنعك أنك فيل |
ثم أتى بما هو أطم منه حتى قال الصاحب: إنه من أوابده التي لا يسمع طول الأبد بمثلها فقال:
إذا كان بعض الناس سيفا لدولة | ففي الناس بوقات لها وطبول |
وقال الصاحب: وهذا التحاذق كغزل العجائز قبحا ودلال الشيوخ سماحة، ويقول بعده:
فإن تكن الدولات قسما فإنها | لمن ورد الموت الزؤام تدول |
قال الصاحب: قوله الدولات وتدول من الألفاظ التي لو رزق فضل السكوت عنها لكان سعيدا قال ولهه بيت لا يدري أمدح القائل به أم رقاه وهو:
شوايل تشوال العقارب بالقنا | لها مرح من تحته وصهيل |
فلم يرض بأن سرق من بشار قوله:
والخيل شايلة لشق غبارها | كعقارب قد رفعت أذنابها |
حتى ضيع التشبيه الصايب بين ألفاظ كالمصايب والذي لا أمتري فيه أن عالما من المناضلين عنه عندهم أن (شوايل تشوال) ابدع في صفة الخيل من قول امرئ القيس:
له أيطلا ظبي وساقا نعامة | وإرخاء سرحان وتقريب تنفل |
ومما جمع فيه بين الدر والبعر في سلك واحد قوله:
لك يا منازل في القلوب منازل | أقفرت أنت وهن منك أواهل |
وهو ابتداء حسن ومعنى لطيف، قم قال:
وأنا الذي اجتلب المنية طرفه | فمن المطالب والقتيل القاتل |
ثم أتى بمعنى بديع لكنه عبر عنه بلفظ قلق معقد فأفسده فقال:
ولذا اسم أغطية العيون جفونها | من أنها عمل السيوف عوامل |
ثم قال وجاء بالمليح:
دون التعانق ناحلين كشكلتي | نصب أدقهما وضم الشاكل |
أي قرب بعضنا من بعض ولم تنعانق خوف الرقيب، ثم قال فأحسن:
للهو آونة تمر كأنها | قبل يزودها حبيب راحل |
جمح الزمان فما لذيذ خالص | مما يشوب ولا سرور كامل |
حتى أبو الفضل بن عبد الله رؤ | يته المنى وهو المقام الهائل |
وقال ابن جني وهذا خروج غريب طريف حسن ما أعرفه لغيره، ثم قال فجمع أوصافا في بيت واحد:
للشمس فيه وللرياح وللسحا | ب وللبحار وللأسود شمائل |
ثم قال وتحذلق وتبرد وأفسد ما أصلح:
ولديه ملعقيان والأدب المفا | د ومحلياة وملممات مناهل |
أي من العقيان ومن الحياة ومن المماة فخفف بحذف النون مثله وارد في كلام العرب وهو معنى حسن بلفظ بارد فاسد، وإنما ألم في صدر هذا البيت بقول أبي تمام (نأخذ من ماله ومن أدبه) ثم قال:
علامة العلماء واللج الذي | لا ينتهي ولكل لج ساحل |
ثم قال فأحال:
لو طاب مولد كل حي مثله | ولد النساء وما لهن قوابل |
قال القاضي أبو الحسن الجرجاني: إن طيب المولد لا يستغنى به عن القابلة، وإن استغني عنها كان ماذا وأي فخر فيه وأي شرف ينال به، ثم توسط وقارب فقال:
ليزد بنو الحسن الشراف تواضعا | هيهات تكتم في الظلام مشاعل |
ستروا الندى ستر الغراب سفاده | فبدا وهل يخفى الرباب الهاطل |
على أن التشبيه بستر الغراب سفاده لا يخلو من بشاعة فيما أرى ثم قال وتوحش وتبغض ما شاء الحاسد:
جفخت وهم لا يجفخون بها بهم | شيم على الحسب الأغر دلائل |
ويقال: جفخ وجخف أي بذخ وافتخر- فكرر لفظ الجفخ أو الجخف وجعل العاملين متتالين والمعمولين كذلك فزاد في الاستكراه وكان يمكنه إبدال الجفخ بالفخر لأنه بمعناه، فقد قرن هذا الصدر البغيض الموحش إلى عجز في غاية الجودة، قال الصاحب ومما دلنا به على حفظ الغريب هذا البيت، وليس هذا إلا كلام صبية، وقال الحماسي وهو تأبط شرا:
يظل بموماة ويمسي بغيرها | جحيشا ويعروري ظهور المسالك |
وكان يمكنه أن يقول فريدا بدل جحيشا لأنه بمعناه ولكنه أعدر من أبي الطيب لأن الغرابة في لسان العرب أهون منها في لسان المولدين ثم قال:
فافخر فإن الناس فيك ثلاثة | مستعظم أو حاسد أو جاهل |
قال الثعالبي أي يا هذا أفخر فحذف المنادى وتباغض وتبادى (وأقول) لا داعي لحذف المنادى فالكلام تام بدونه ولا أراه تباغض ولا تبادى، ثم قال وتباغض وجاء بشعر بارد:
لا تخسر الفصحاء تنشد ههنا | شعرا ولكني الهزبر الباسل |
ثم قال وأرسله مثلا سائرا وأحسن ما شاء:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص | فهي الشهادة لي بأني كامل |
ثم قال وتعسف وتكلف:
الطيب أنت إذا أصابك طيبه | والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل |
تقديره الطيب أنت طيبه إذا أصابك والماء أنت غاسله إذا اغتسلت به، وإذا صح لنا أن نقول الطيب أنت طيبه لأنك أطيب منه ريحا فلا يصح لنا أن نقول أنت تغسل الماء لأنك أنظف منه فإن ذلك غير مستملح، وإنما ألم فيه بقول القائل:
وتزيدين طيب الطيب طيبا | أن تمسيه أين مثلك أينا |
وعلى ذكر قول المتنبي (وإذا أتتك مذمتي) إلخ نقول إن ما يحكى من أن أبا العلاء المعري كان يوما في مجلس الشريف المرتضى فجرى ذكر المتنبي فهضم الشريف من جانبه فقال المعري لو لم يكن له من الشعر إلا قوله- لك يا منازل في القلوب منازل- لكفاه فغضب المرتضى وأمر بإخراجه وقال أتدرون ما عنى إنه عنى قوله- وإذا أتتك مذمتي البيت- الظاهر أنه غير صحيح (أولا) لأن الشريف المرتضى بعلمه ومعرفته وإنصافه لم يكن ليهضم المتنبي حقه (ثانيا) إن أبا العلاء أعرف بجلالة قدر المرتضى وعلو مكانه من أن يواجهه بهذا الكلام وهو القائل فيه من قصيدة يرثي بها والده:
سبق الرضي المرتضى وتلاهما الر | اضي فيا لثلاثة أحلاف |
أنتم بني النسب القصير وطولكم | باد على الكبراء والأشراف |
فالظاهر أن القصة موضوعة- وفي الصبح المنبي عن صاحب الحدائق أن الفتح بن خاقان ذكر ابن الصائغ في كتابه قلائد العقيان فذمه وقال فيه (رمد عين الدين وكمد نفوس المهتدين، لا يتطهر من جنابة ولا يظهر مخائل إنابة) فمر عليه ابن الصائغ وهو جالس في جماعة فسلم على القوم وضرب على كتف الفتح وقال إنها شهادة يا فتح ومضى فلم يدر أحد ما قال إلا الفتح فتغير لونه فسئل عن ذلك فقال إنه أشار إلى قول المتنبي وإذا أتتك إلخ جوابا عما وصفته به في قلائد العقيان- ومما يشبه هذا ما في الصبح المنبي قيل أنه دخل على سيف الدولة بعض الشعراء فقال أيها الأمير بماذا تفضل علي ابن عيدان السقا قال بحسن شعره قال اختر أي قصيدة له وحتى أعارضها بأحسن منها فقال عليك بقصيدته التي أولها:
بعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي | وللحب ما لم يبق مني وما بقي |
فلم يرها من مختاراتها وعلم أنه أشار إلى قوله فيها (إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق) البيت فامتنع عن معارضتها.
وقال ابن بسام في الذخيرة إن أبا عبد الله ابن شرف قال يوما للمأمون بن ذي النون أيام خدمته إياه وقد أجروا ذكر أبي الطيب فذهبوا في وصفه كل مذهب إن رأى المأمون أن يشير إلى أي قصيدة شاء من شعر أبي الطيب حتى أعارضها بقصيدة تنسي اسمه وتعفي رسمه فتثاقل ابن ذي النون عن جوابه وألح أبو عبد الله حتى أحرج ابن ذي النون فقال له دونك قوله (لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي) وسئل ابن ذي النون أي شيء أقصده إلى تلك القصيدة فقال لأن أبا الطيب يقول فيها: إذا شاء أن يلهو إلخ.
وقال أبو الطيب من قصيدة كهذه التي تقدمت جمع فيها بين الغث والسمين:
قد علم البين منا البين أجفانا | تدمى وألف في ذا القلب أحزانا |
أملت ساعة ساروا كشف معصمها | ليلبث الحي دون السير حيرانا |
ولو بدت لأتاهتهم فحجبها | صون عقولهم من لحظها صانا |
وهذه الأبيات الثلاثة لو صحت معانيها لكان في سقم تراكيبها كفاية ثم قال:
بالواخدات وحاديها وبي قمر | يظل من وخدها في الخدر حشيانا |
والحشيان بالحاء المهملة من أخذه البهر وهو من الغريب الوحشي الذي لا يأنس به السمع ولا يقبله القلب وبعضهم يرويه خشيان بالخاء وهو لا يزيده حسنا ثم قال وأجاد:
قد كنت أشفق من دمعي على بصري | فاليوم كل عزيز بعدكم هانا |
ثم أراد أن يزيد على الشعراء في وصف المطايا فأتى كما قاله الصاحب بأخزى الخزايا فقال:
لو استطعت ركبت الناس كلهم | إلى سعيد بن عبد الله بعرانا |
قال الصاحب ومن الناس أمه فهل ينشط لركوبها والممدوح لعل له عصبة لا يريد أن يركبوا إليه فهل في الأرض أفحش وأوضع من هذا قال الثعالبي ثم أراد أن يستدرك هذه الطامة بقوله:
فالعيس أعقل من قوم رأيتهم | عما يراه من الإحسان عميانا |
ثم قال فأجاد به أولية الممدوح:
إن كوتبوا أو لقوا أو حوربوا وجدوا | في الخط واللفظ والهيجاء فرسانا |
كأن ألسنهم في النطق قد جعلت | على رماحهم في الطعن خرصانا |
كأنهم يردون الموت من ظمأ | أو ينشقون من الخطي ريحانا |
ثم قال:
خلائق لو حواها الزنج لا نقلبوا | ظمي الشفاه جعاد الشعر غرانا |
قال الصاحب الزنجي لا يوجد إلا جعاد الشعر فكيف ينقلبون عن الجعودة إلى الجعودة وقد احتج عنه أصحاب المعاني بما يطول ذكره. والعجب كل العجب من خاطر يقدح بمثل قوله في قصيدة:
وملمومة زرد ثوبها | ولكنه بالقنا مخمل |
يفاجئ جيشا بها حينه | وينذر جيشا بها القسطل |
ثم يتصور هذا الكلام الغث الرث فيتبعه به حيث يقول:
جعلتك في القلب لي عدة | لأنك باليد لا تجعل |
ولو قاله بعض صبيان المكاتب لاستحيا منه وهذه الأبيات من قصيدة قالها في سيف الدولة وهو بميافارقين وقد ضربت له خيمة كبيرة وأشاع الناس أن مقامه يتصل أياما فهبت ريح شديدة فسقطت الخيمة وتكلم الناس عند سقوطها فقال أبو الطيب:
أيقدح في الخيمة العذل | وتشمل من دهرها يشمل |
وتعلو الذي زحل تحته | محال لعمرك ما تسأل |
فلم لا تلوم الذي لامها | فما فص خاتمه يذبل |
ولما أمرت بتطنيبها | أشيع بأنك لا ترحل |
فما اعتمد الله تقويضها | ولكن أشار بما تفعل |
وقوله (فما فص خاتمه يذبل) اختلف المفسرون فيه فقيل الضمير في خاتمه راجع إلى سيف الدولة: أي لا يبلغ يذبل مع عظمه فص خاتمه وقيل راجع إلى اللائم أي كما أن فص خاتم هذا اللائم لا يمكن أن يوازي يذبلا فكذلك لا يمكن أن تعلو الخيمة من تحته زحل ولا ينبغي للشعر أن يكون بعيدا عن درك الأفهام معناه بحيث تختلف في تفسيره الأقوال، وربما كانت كلها خلاف ما أراده الشاعر. ومن جمعه بين الغث والسمين قوله:
بحب قاتلني والشيب تغذيتي | هواي طفلا وشيبي بالغ الحلم |
فما أمر بربع لا أسائله | ولا بذات خمار لا تريق دمي |
فالبيت الثاني من جيد الشعر والبيت الأول معقد اللفظ خفي المعنى مرذولهما وتغذيتي مبتدأ خبره بحب والشيب معطوف على حب وفسر ذلك بالشطر الثاني.
3- استكراه اللفظ وتعقيد المعنى
بتقديم ما حقه التأخر وبالعكس أو بحذف ما يخل حذفه بالمعنى أو نحو ذلك مما يوجب التعقيد وهو في الشعر من أقبح العيوب. في اليتيمة: هو أحد مراكبة الخشنة التي يتسنمها ويأخذ عليها في الطرق الوعرة، فيضل ويضل ويتعب ويتعب، ولا ينجح، إذ يقول في وصف الناقة:
شيم الليالي إن تشكك ناقتي | صدري بها أفضى أم البيداء |
فتبيت تسئد مسئدا في نيها | اسآدهافي المهمه الإنضاء |
الإسآد إسراع السير والني الشحم والإنضاء مصدر أنضاه أي هزله وتقديره، فتبيت تسئد حال كون الإنضاء يسئد في نيها فيذيبه كإسادها في المهمه وقوله مادحا شجاع ابن محمد الطائي:
أنى يكون أبا البرايا آدم | وأبوك والثقلان أنت محمد |
تقديره أنى يكون آدم أبا البرايا وأبوك محمد والثقلان أنت وقال من نسيب قصيدة:
إذا عذلوا فيها أجبت بأنة | حبيبيتا قلبي فؤادي هيا جمل |
حبيبيتا منادى حذف منه حرف النداء وأبدلت ياء المتكلم فيه ألفا وزاده تصغيره بشاعة وقلبي بدل من حبيبيتا وفؤادي بدل من قلبي منادى بعد منادى وهيا حرف نداء كما تقول أخي سيدي مولاي وأشباه هذه الأبيات كثيرة في شعره كقوله:
لساني وعيني والفؤاد وهمتي | أود اللواتي ذا اسمها منك والشطر |
أود بفتح الهمزة وضم الواو أو كسرها جمع ود بضم الواو بمعنى ودود كقفل وأقفل أي لساني وعيني إلخ هي أو داء التي تسمى بهذه الأسماء منك وهي شطر منك أي أوداء لسانك وعينك وفؤادك وهمتك فانظر إلى هذا البيت كيف جمع سخافة المعنى وسوء التركيب.
وقوله:
فتى ألف جزء رأيه في زمانه | أقل جزيء بعضه الرأي اجمع |
وقوله:
لو لم تكن من ذا الورى للذ منك هو | عقمت بمولد نسلها حواء |
واللذ لغة في الذي أي لو لم تكن من هذا الورى الذي هو منك لأنه لولاك لم يكن شيئا مذكورا لكانت حواء كأنها عقيم، في اليتيمة هو مما اعتل لفظه ولم يصح معناه، فإذا قرع السمع لم يصل إلى القلب إلا بعد إتعاب الفكر ثم إن ظفر به بعد العناء والمشقة فقلما يحصل على طائل واعتلال لفظه بتخفيف الذي والإيتان بذا بدل هذا- وهو كثير في شعره كما ستعرف- وإسكان واو هو وغير ذلك. قال الصاحب وأنا أقول ليت حواء عقمت ولم تأت بمثله بل ليت آدم اجفر ولم يكن من نسله وما أظرف قول الشاعر:
فرحمة الله على آدم | رحمة من عم ومن خصصا |
لو كان يدري أنه خارج | مثلك من إحليله لاختصى |
وقوله:
لا تجزني بضنى بي بعدها بقر | تجزي دموعي مسكوبا بمسكوب |
لا ناهية أي لا تكافني بعدها نساء شبيهة ببقر الوحش عن ضناي ووجدي بأن أسلوبها عنها فإنها إن تفعل تكافئ دمعا مسكوبا بمثله.
4- التعسف في اللغة والإعراب
وهو مما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان قد يحتج له ويعتذر عنه فلا يرفع ذلك استكراهه كقوله:
فدى من علم على الغبراء أولهم أنا | لهذا الأبي الماجد الجائد القرم |
ولم يحك عن العرب الجائد وإنما المحكي الجواد ومع ذلك فتركيب البيت ركيك بارد، وقوله:
فأرحام شعر يتصلن لدنه | وأرحام مال لا تني تتقطع |
فتشديد نون لدن غير معروف في لغة العرب قال ابن جني لدنه فيه قبح وبشاعة إذ لم يكن بعد النون نون، وبعد هذا البيت قوله:
فتى ألف جزء رأيه في زمانه | أقل جزيء بعضه الرأي أجمع |
قال الصاحب: ومن بدائهه الظريفة عند متعلقي حبله وفواتحه البديعة عند ساكني ظله قوله:
شديد البعيد من شرب الشمول | تزنج الهند أو طلع النخيل |
فلا أدري استهلال الأبيات أحسن أم المعنى أبدع أم قوله تزنج أفصح، قال الثعالبي والمعروف عن العرب الأترج والترنج مما يغلط فيه العامة. وقوله:
بيضاء يمنعها تكلم دلها | تيها ويمنعها الحياء تميسا |
فنصب تميس بأن المحذوفة وهو ضعيف عن أكثر النحويين وفي هذه القصيدة أبيات لا تعاب لا بأس بالإشارة إليها هنا قال الصاحب ومن تصريفه الحسن وضعه التقييس موضع القياس في قوله:
بشر تصور غاية في آية | تفني الظنون وتفسد التقبيسا |
ويليه بيت إن لم يستح أصحابه منه سلمناه لهم وهو:
وبه يضن على البرية لا بها | وعليه منها لا عليها يوسى |
وليس بالحلو قوله:
صدق المخبر عنك دونك وصفه | من بالعراق يراك في طرسوسا |
"أه" وقوله:
وتكرمت ركباتها عن مبرك | تقعان فيه وليس مسكا اذفرا |
فجمع ركبات ثم أعاد عليها ضمير المثنى فقال تقعان وهو ضعيف وغير سديد في صنعة الإعراب وقوله:
ليس إلاك يا علي همام | سيفه دون عرضه مسلول |
قال الصاحب ومن شعره الذي يدخل في العزائم ويكتب في الطلسمات قوله:
لم تر من نادمت إلا كا | لا لسوى ودك لي ذاكا |
واحسب أنه بهذا البيت أشد سرورا من أم الواحد بواحدها وقد آب بعد فقد أو بشرت به عقب ثكل "أه" وجعله الثعالبي من التعسف في اللغة والإعراب فإنه وصل الضمير بإلا وحقه الفصل كما قال تعالى (ضل من تدعون إلا إياه) وإن ورد شاذا في كلام العرب كقوله:
وما نبالي إذا ما كنت جارتنا | أن لا يجاورنا إلاك ديار |
وقوله: (لأنت أسود في عيني من الظلم) فإن أفعل التفضيل لا يضاع مما اسم فاعله على أفعل كأسود وأحمر وأعرج وإنما يقال أشد سوادا وحمرة وعرجا وقوله: (جللا كما بي فليك التبريح) وحذف النون من يكن إذا استقبلها الألف واللام خطأ عند النحويين لأنها تتحرك إلى الكسرة وإنما تحذف تخفيفا إذا سكنت وقوله (امط عنك تشبيهي بما وكأنه) والتشبيه بما محال وقوله:
لعظمت حتى لو تكون أمانة | ما كان مؤتمنا بهاج برين |
قال الصاحب قلب هذه اللام إلى النون أبغض من وجه المنون ولا أحسب جبريل عليه السلام يرضى منه بهذا المجاز "أه" هذا على ما في معنى البيت من الفساد والقبح وسوء الأدب مع جبريل عليه السلام،. وقوله:
حملت إليه من ثنائي حديقة | سقاها الحجى سقي الرياض السحائب |
بنصب الرياض وخفض السحائب أي سقي السحائب الرياض وفيه الفصل بين المضاف إليه: قال الصاحب: ومن مجازاته التي خلقها خلقا متفاوتا تخفيفه الغاش وهذا مالا أعلم سامعا باسم الأدب يسوغه أو يسمح فيه فيجوزه وذلك في قوله:
كأنك ناظر في كل قلب | فما يخفى عليك محل غاش |
5- الخروج عن الوزن
كقوله:
تفكره علم ومنطقه حكم | وباطنه دين وظاهره ظرف |
قال الصاحب في هذه القصيدة سقطة عظيمة لا يفطن لها إلا من جمع في علم وزن الشعر بين العروض والذوق وهو من هذا البيت وذاك أن سبيل عروض الطويل أن تقع مفاعلن وليس يجوز أن تأتي مفاعلين إلا إذا كان البيت مصرعا اللهم إلا أن يضعه عروضي لتمام الدائرة ذكرها.
ونحن نحاكمه إلى كل شعر للقدماء والمحدثين على بحر الطويل فما نجد له على خطاه مساعدا "أه" وقال الثعالبي لأنه لم يجئ عن العرب مفاعلين في عروض الطويل غير مصرع وإنما جاء مفاعلن وقال الصاحب عن مطلع القصيدة ومن معانيه التي تنبئ عن هوسه وعشقه لنفسه قوله:
لجنية أم غادة رفع السجف | لوحشية لا ما لوحشية شنف |
وقال القاضي أبو الحسن الجرجاني وقد عيب عليه أيضا بقوله:
إنما بدر بن عمار سحاب | هطل فيه ثواب وعقاب |
لأنه أخرج الرمل على فاعلاتن وأجرى جميع القصيدة على ذلك في الأبيات غير المصرعة وإنما جاء الشعر على فاعلن وإن كان أصله في الدائرة فاعلاتن.
6- استعمال الغريب والوحشي
مع أنه من المحدثين ونسج على منوالهم بل ربما انحط عنهم بالركاكة ومع ذلك يستعمل الغريب الوحشى والشاذ البدوي بل ربما زاد في ذلك على إقحاح المتقدمين فحصل كلامه بين طرفي نقيض كقوله:
وما أرضى لمقتله بحلم | إذا انتبهت توهمه ابتشاكا |
والإبتشاك الكذب قال الثعالبي ولم أسمع فيه شعرا قديما ولا محدثا سوى هذا البيت
وقوله في وصف الغيث:
لساحيه على الأجداث حفش | كأيدي الخيل أبصرت المخالي |
الساحي القاشر ومنه سميت المسحاة لأنها تقشر وجه الأرض والحفش مصدر حفش السيل حفشا إذا جمع الماء من كل جانب إلى مستنقع. وقوله في وصف السيف:
ودقيق قدى الهباء أنيق | متوال في مستوهزهاز |
قدى بمعنى مقدار يقال بينهما قيد رمح وقاد رمح وقدى رمح،وقوله:
أمعاهد الأحباب إن الأدمعا=تطس الخدود كما يطسن اليرمعا
(تطس) تدق (واليرمع)الحجارة البيض الرخوة.
وقوله:
وإلى حصى أرض أقام بها | بالناس من تقبيلها يلل |
(اليلل) إقبال الأسنان وإنعطافها على باطن الفم قال الثعالبي ولم أسمعه في شعره غيره. وقوله:(الشمس تشرق والسحاب كنهورا)الكنهور القطعة العظيمة من السحاب. وقوله:(وقد غمرت نوالا أيها النال) النال المعطي. وقوله:(اسائلها عن المتديريها)أي المتخذيها دارا قال الصاحب لفظة المتديريها لو وقعت في بحر صاف لكدرته ولو ألقي ثقلها على جبل سام لهذه وليست للمقت فيها نهاية ولا للبرد معها غاية. قال الصاحب وأطم ما يتعاطاه التفاصح بالألفاظ النافرة والكلمات الشاذة حتى كأنه وليد خباء أو غذي لبن لم يطأ الحضر ولم يعرف المدر فمن ذلك قوله:
أيفطمه التوراب قبل فطامه | ويأكله قبل البلوغ إلى الأكل |
ولا أدري كيف عشق التوراب حتى جعله عوذة شعره "اه" قال الثعالبي وليس ذلك سائغا لمثله وهو وليد قرية ومعلم صبية "اه"(والتوراب) لغة في التراب. ومن الجموع الغريبة التي يوردها قوله في جمع الأرض:
أروض الناس من ترب وخوف | وأرض أبي شجاع من أمان |
وقوله في جمع اللغة(عليم بأسرار الديانات واللغة) وفي جمع الدنيا(أعز مكان في الدنى سرج سابح)وقوله فيجمع الأخ:
كل آخائه كرام بني الدن | يا ولكنه كريم الكرام |
قال الصاحب ومن لغاته الشاذة وكلماته النادة ما في هذا البيت ولو وقع الإخفاء في رائية الشماخ لاستثقل فكيف مع أبيات منها:
قد سمعنا ما قلت في الأحلام | وأنلناك بدرة في المنام |
والكلام إذا لم يتناسب زيفته جهابذته وبهرجته نقاده "أه".
7- الركاكة بألفاظ العامة والسوقة ومعانيهم
كقوله:
رماني خساس الناس من صائب أسته | وآخر قطن من يديه الجنادل |
قال الصاحب: ومما انتصف فيه عند نفسه فكان الباحث لمديته والكاشف لعورته هذا البيت. وقوله:
وإن ماريتني فاركب حصانا | ومثله تخر له صريعا |
وقوله:
إن كان لا يدعى الفتى إلا كذا | رجلا فسم الناس طرا أصبعا |
وقوله:
قسا فالأسد تفزع من يديه | ورق فنحن نفزع أن يذوبا |
وقوله:
تألم درزه والدرز لين | كما يتألم العضب الصنيعا |
وقوله:
لسري لباسه خشن القطـ | ـن ومروي مرو لبس القرود |
وقوله:
ما أنصف القوم ضبه | وأمه الطراطبة |
إلى آخر القصيدة وجلها على هذا المنوال وقوله: "لفظ يريك الدر مخشلبا" ولو عد مخشلبا من الغريب الوحشي لجاز. وقوله:
إن كان مثلك كان أو هو كائن | فبرئت حينئذ من الإسلام |
قال الصاحب حينئذ هنا أنفر من غير منفلت. قال ومن ركيك صنعته في وصف شعره والزراية على غيره قوله:
إن بعضا من القريض هراء | ليس شيئا وبعضه أحكام |
منه ما يجلب البراعة والذهـ | ـن ومنه ما يجلب البرسام |
قال الصاحب وههنا بيت ترضى باتباعه فيه (أي نرضى بحكم اتباع المتنبي فيه) وما ظنك بمحكم مناوئيه ثقة بظهور حقه وإبراء زنده وإن لم يكن التحكيم بعد أبي موسى من مقتضى الحزم وموجب العزم وهو:
أطعناك طوع الدهر يا ابن يوسف | بشهوتنا والحاسدو لك بالرغم |
وإن كنا حكمناهم فما يبعدهم من أن يفضلوا هذا على قول أبي عبادة:
عرف العارفون فضلك بالعلـ | ـم وقال الجهال بالتقليد |
نعم وتقدمه على قوله:
لا أدعي لأبي العلاء فضيلة | حتى يسلمها إليه عداه |
وقوله:
تقضم الجمر والحديد الأعادي | دونه قضم سكر الأهواز |
وقوله:
فكأنما حسب الأسنة حلوة | أو ظنها البرني والآزاذا |
قال الصاحب إذا جمع السكر إلى البرني والآزاذ ثم الأمر "أه" والبرني والآزاذ نوعان من التمر. قال القاضي ومن أمثاله العامية قوله:
وكل مكان أتاه الفتى | على قدر الرجل فيه الخطى |
8- إبعاد الإستعارة والخروج بها عن حدها
كقوله في رثاء أخت سيف الدولة:
مسرة في قلوب الطيب مفرقها | وحسرة في قلوب البيض واليلب |
أي إن مفرقها مسرة في قلوب الطيب لوجود الطيب فيه وحسرة في قلوب البيض واليلب لعدم وجودهما على مفرقها لأن النساء لا تلبس بيضة الحرب وقوله:
تجمعت في فؤاده همم | ملء فؤاد الزمان إحداها |
وقوله:
لم يحك نائلك السحاب وإنما | حمت به فصبيبها الرخصاء |
وقوله:
ألا يشب فلقد شابت له كبد | شيبا إذا خضبته سلوة نصلا |
فجعل للطيب والبيض واليلب قلوبا وللسحاب حمى وللزمان فؤادا وللكبد شيبا وهذه استعارات لم تجر على شبه قريب ولا بعيد وإنما تصح الاستعارة وتحسن على وجه من الوجوه المناسبة وطرق من الشبه والمقاربة قال الصاحب:
وعهدت الأدباء وعندهم أن أبا تمام أفرط في قوله:
شاب رأسي وما رأيت مشيب الر | أس إلا من فضل شيب الفؤاد |
فعمد له خضابا ونصولا فقال ألا يشب البيت قال: ولما سمع الشعراء قبله قد أبدعوا فقالوا:
بيد السماك خطامها وزمامها | وله على ظهر المجرة مركب |
تشبه بهم فجعل للبنين حلواء فقال:
وقد ذقت حلواء البنين على الصبا | فلا تحسبيني قلت ما قلت عن جهل |
وما زلنا نتعجب من قول أبي تمام.
لا تسقني ماء الملام فإنني | صب قد استعذبت ماء بكائي |
فخف علينا بحلواء البنين. قال ومن استرساله إلى الاستعارة التي لا يرضاها عاقل ولا يلتفت إليها فاضل قوله:
في الخد إن عزم الحبيب رحيلا | مطر تزيد به الخدود محولا |
فالمحول في الخدود من البديع المردود ثم لهذا الابتداء في القصيدة من العيوب ما يضيق الصدور.
9- الاستكثار من قول ذا
قال القاضي وهي ضعيفة في صنعة الشعر دالة على التكلف وربما وافقت موضعا تليق به فاكتسبت قبولا أما في أكثر ما جاء به فهي سخافة وضعف كقوله:
قد بلغت الذي أردت من البـ | ـر ومن حق ذا الشريف عليكا |
وإذا لم تسر إلى الدار في وقـ | ـتك ذا خفت أن تسير إليكا |
وقوله:
لو لم تكن من ذا الورى اللذ منك هو | عقمت بمولد نسلها حواء |
قال الصاحب: وهؤلاء المتعصبون له يصلح عندهم أن ينقش هذا البيت على صدور الكواعب.
وقوله:
ع ذا الذي حرم الليوث كماله | تنسى الفريسة خوفه لجماله |
وقوله:
وإن بكينا لا فلا عجب | ذا الجزر في البحر غير معهود |
وقوله:
أفي كل يوم ذا الدمستق مقدم | قفاه على الإقدام للوجه لائم |
وقوله:
أبا المسك ذا الوجه الذي كنت تائقا | إليه وذا الوقت الذي كنت راجيا |
وقوله: (وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب)
وقوله:
أريد من زمني ذا أن يبلغني | ما ليس يبلغه في نفسه الزمن |
وقوله: (يضاحك في ذا اليوم كل حبيبه) قال ولو تصفحت شعره لوجدت فيه أضعاف ما ذكرناه من هذه الإشارة وأنت لا تجد منها في عدة دواوين جاهلية حرفا والمحدثون أكثر استعانة بها لكن في الفرط والندرة أو على سبيل الغلط والفلتة.
10- الإفراط في المبالغة والخروج فيه إلى الإحالة
كقوله:
ونالوا ما اشتهوا بالحزم هونا | وصاد الوحش نملهم دبيبا |
وقوله:
وضاقت الأرض حتى صار هاربهم | إذا رأى غير شيء ظنه رجلا |
فبعده وإلى ذا اليوم لو ركضت | بالخيل في لهوات الطفل ما سعلا |
وقوله:
وأعجب منك كيف قدرت تنشا | وقد أعطيت في المهد الكمالا |
وأقسم لو صلحت يمين شيء | لما صلح العباد له شمالا |
وأما قوله:
بمن أضرب الأمثال أم من أقيسه | إليك وأهل الدهر دونك والدهر |
وقوله:
ولو قلم ألقيت في شق رأسه | من السقم ما غيرت من خط كاتب |
وقوله:
من بعد ما كان ليلي لا صباح له=كأن أول يوم الحشر آخره
فهو مما لا يستهجن في صنعة الشعر على أن كثيرا من النقدة لا يرتضون هذا الإفراط كله.
11- تكرير اللفظ في البيت الواحد من غير تحسين
كقوله:
ومن جاهل بي وهو يجهل جهله | ويجهل علمي أنه بي جاهل |
قال الصاحب كنت أسمع رواية المعلى للخليل ابن أحمد.
لكن جهلت مقالتي فعذلتني | وعلمت أنك جاهل فعذرتكا |
واقتفاه في قوله: ومن جاهل بي- البيت. وفي رافعي رايته من يشغف بهذا البيت أشد من شغفنا بقول حبيب ابن أوس.
أبا جعفر إن الجهالة أمها | ولود وأم العلم جداء حائل |
"أه" وقوله في هذه القصيدة.
فلقلقت بالهم الذي قلقل الحشا | قلاقل هم كلهن قلاقل |
قال الصاحب: وكان الناس يستبشعون قول مسلم.
سلت وسلت ثم سل سليلها | فأتى سلسل سليلها مسلولا |
حتى جاء هذا المبدع فقال:
وأفجع من فقدنا من وجدنا | قبيل الفقد مفقود المثال |
فالمصيبة في الراثي أعظم منها في المرثي وقوله:
عظمت فلما لم تكلم مهابة | تواضعت وهو العظم عظما من العظم |
قال الصاحب فما أكثر عظام هذا البيت مع أنه قول الطائي.
تعظمت عن ذاك التعظم فيهم | وأوصاك نبل القدر أن لا تنبلا |
قال وبلغني أنه كان إذا أنشد شعر أبي تمام قال هذا نسيج مهلهل وشعر مولد وما أعرف طيائيكم هذا وهو دائب يسرق منه ويأخذ عنه ثم يأخذ ما يسرقه في أقبح معنى كخريدة ألبست عباءة وعروس جليت في مسرح ولولا خوف تضييع الأوقات لأطلت في هذا المكان قال وما أحسن ما قال الأصمعي لمن أنشده.
فما للنوى جد النوى قطع النوى | كذاك النوى قطاعة لوصال |
لو سلط الله على هذا البيت شاة لأكلت هذا النوى كله.
وقوله:
ولا الضعف حتى يتبع الضعف ضعفه | ولا ضعف الضعف بل مثله ألف |
وقوله:
ولم أر مثل جيراني ومثلي | لمثلي عند مثلهم مقام |
وقوله:
العارض الهتن ابن العارض الهتن ابـ | ـن العارض الهتن ابن العارض الهتن |
كذا في اليتيمة ولكن علماء البلاغة عدوا ذلك في أنواع البديع.
وقوله:
وإني وغن كان الدفين حبيبه | حبيب إلى قلبي حبيب حبيبي |
وقوله:
لك الخير غيري رام من غيرك الغنى | وغيري بغير اللاذقية لاحق |
وقوله:
ملومة لا تدوم ليس لها | من ملل دائم بها ملل |
وقوله:
قبيل أنت أنت وأنت منهم | وجدك بشر الملك الهمام |
وقوله:
وكلكم أتى مأنى أبيه | فكل فعال كلكم عجاب |
وقوله:
وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله | ولكن نفسي فيك من شعره شعر |
وقوله:
إنما الناس حيث أنت وما النا | س بناس في موضع منك خال |
وقوله:
ولولا تولي نفسه حمل حمله | عن الأرض لانهدت وناء بها الحمل |
وقوله:
ونهب نفوس أهل النهب أولى | بأهل النهب من نهب القماش |
وقوله:
وطعن كأن الطعن لا طعن عنده | وضرب كأن النار من حرخ برد |
وقوله:
أراه صغيرا قدرها عظم قدره | فما لعظيم قدره عنده قدر |
وقوله:
جواب مسائلي إله نظير | ولا لك في سؤالك لا إلا لا |
قال الصاحب: ومما لم أقدره يلج سمعا أو يرد أذنا هذا البيت وقد سمعت بالتمام ولم أسمع باللألاء حتى رأيت هذا المتكلف المتعسف الذي لا يقف حيث يعرف.
12- الخطأ في جمع الأسامي في الشعر
قال الصاحب لم ننفك مستحسنين لجمع الأسامي في الشعر كقوله:
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم | بعتيبة بن الحارث بن شهاب |
وقوله الآخر (عباد بن أسماء بن زيد بن قارب) واحتذى هذا الفاضل على مثالهم وطرقهم فقال:
وأنت أبو الهيجا بن حمدان يا ابنه | تشاربه مولود كريم ووالد |
وحمدان حمدون وحمدان حارث | وحارث لقمان ولقمان راشد |
وهذه من الحكمة التي ذخرها أرسطا طاليس وأفلاطن لهذا الخلف الصالح وليس على حسن الاستنباط قياس.
13- التصغير المستبشع المستثقل
كقوله: (حبيبتا قلبي) وقوله: (نام الخويلد عن لييلتنا) وقوله: (لييلتنا المنوطة بالتنادي) وغير ذلك أما قوله: (أفي كل يوم تحت ضبني شويعر) فهو جيد.
14- إساءة الأدب بالأدب
كقوله:
فغدا أسيرا قد بللت ثيابه | بدم وبل ببوله الأفخاذا |
قال الصاحب وكان الرجل محربا فقال في وصف الحروب وما ينتج من رعب القلوب (فغدا أسيرا البيت) وبعده:
فكأنه حسب الأسنة حلوة | أو ظنها البرني والآزاذا |
فلا أدري أكان في الحرب أم في سوق التمارين بالبصرة. وقوله:
ما بين كاذتي المستغيـ | ـر كما بين كاذتي البائل |
وقوله:
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع | فإن لحت حاضت في الخدور العواتق |
وذكر الحيض والبول مما لا يحسن في مخاطبة الملوك والرؤساء ويقال إنه لما أنكر عليه حاضت غيره بذابت وأقبح موقعا من ذلك قوله يرثي أخت سيف الدولة ويعزيه عنها:
وهل سمعت سلاما لي ألم بها | فقد أطلت وما سلمت عن كثب |
وما باله يسلم على حرم الملوك ويذكر منهن ما يذكر المتغزل في قوله:
يعلمن حين تحيا حسن مبسها | وليس يعلم إلا الله بالشنب |
وكان أبو بكر الخوارزمي يقول لو عزاني إنسان عن حرمة لي بمثل هذا لألحقته بها وضربت عنقه على قبرها. قال الصاحب ولقد مررت على مرثية في أم سيف الدولة تدل مع فساد الحس على سوء أدب النفس وما ظنك بمن يخاطب ملكا في أمه بقوله:
رواق للعز فوقك مسبطر | وملك علي ابنك في كمال |
ولعل لفظة الاسبطرار في مراثي النساء من الجذلان الرقيق الصفيق المغير نعم هذه القصيدة يظن المتعصبون له أنها من شعره بمثابة (وقيل يا أرض ابلعي ماءك) من القرآن (واصدع بما تؤمر) من الفرقان وفيها يقول:
وهذا أول الناعين طرا | لأول ميتة في ذا الجلال |
ومن سمع باسم الشعر عرف تردده في انتهاك الستر ولما أبدع في هذه المرثية واخترع قال:
#صلاة الله خالقنا حنوط | على الوجه المكفن بالجمال |
وقد قال بعض من يغلو فيه هذه استعارة فقلت صدقت ولكنها استعارة حداد في عرس، قالالثعالبي ما أدري هذه الاستعارة أحسن أم وصفه وجه والدة ملك يرثيها بالجمال أم قوله في وصفه قرابتها وجواريها.
أتتهن المصائب غافلات | فدمع الحزن في دمع الدلال |
قال الصاحب ولما أحب تقريظ المتوفاة والإفصاح عن أنها من الكريمات أعمل دقائق فكره واستخرج زبد شعره فقال:
ولا من جنازتها تجار | يكون وداعهم خفق النعال |
قال ولعل هذا البيت عنده وعند كثير ممن يقول بإمامته. أحسن من قول الشاعر:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه | فطيب تراب القبر دل على القبر |
وفي اليتيمة ما ظنك بمن يخاطب ملكا في أمه بقوله:
بعيشك هل سلوت فإن قلبي | وإن جانبت أرضك غير سالي |
يتشوق إليها ويخطئ خطأ لم يسبق إليه وإنما يقول مثل ذلك من يرثي بعض أهله فأما استعماله إياه في هذا الموضع فدال على ضعف البصر بمواقع الكلام قال الصاحب: وكان الشعراء يصفون المآزر تنزيها لألفاظها عما يستشنع ذكره حتى تخطى هذا الشاعر المطبوع إلأى التصريح الذي لم يهتد له غيره فقال:
إني على شغفي بما في خمرها | لأعف عما في سراويلاتها |
قال وكثير من العهر أحسن من هذا العفاف "أه".
15- إساءة الأدب فيما يرجع إلى الدين
وعنونه الثعالبي بالإفصاح عن ضعف العقيدة ورقة الدين والأولى العنوان الذي ذكرناه لأننا لا نستطيع أن نجزم بأن ما يأتي دال على ضعف عقيدة المتنبي لما ستعرف. قال الثعالبي.
على أن الديانة ليست عيارا على الشعراء ولا سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشاعر ولكن للإسلام حقه من الإجلال الذي لا يسوغ الإخلال به قولا وفعلا ونظما ونثرا ومن استهان بأمره ولم يضع ذكره وذكر ما يتعلق به في موضع استحقاقه فقد باء بغضب من الله تعالى لمقته في وقته "أه". يعني إت التدين وإن لم يرتبط بالشاعرية إلا أن الشاعر المسلم عليه أن يراعي حقوق الإسلام في شعره وإلا كان ذلك مخلا بشاعريته لأنه وضع الشيء في غير محله وأول ما يطلب من الشاعر وضع الأمور في محالها قال وكثيرا ما قرع المتنبي هذا الباب بمثل قوله:
يترشفن من فمي رشفات | هن فيه أحلى من التوحيد |
وقوله:
ونصفي الذي يكنى أبا الحسن الهوى | ونرضي الذي يسمى الإله ولا يكنى |
وقوله:
تتقاصر الأفهام عن إدراكه | مثل الذي الأفلاك فيه والدنا |
قال الثعالبي وقد أفرط جدا لأن الذي الأفلاك فيه والدنا هو علم الله عز وجل وقوله لعضد الدولة.
الناس كاعابدين آلهة | وعبده كالموحد اللاها |
وقوله في مدح طاهر العلوي.
وأبهر آيات التهامي أنه | أبوكم وإحدي ما له من مناقب |
وقوله:
لو كان علمك بالإله مقسما | في الناس ما بعث الإله رسولا |
لو كان لفظك فيهم ماأنزل التـ | ـوراة والفرقان والإنجيلا |
وقوله:
لو كان ذو القرنين أعمل رأيه | لما أتى الظلمات صرن شموسا |
لو كان صادف رأس عازر سيفه | في يوم معركة لأعيا عيسى |
عازر اسم الرجل الذي أحياه المسيح عليه الصلاة والسلام بإذن الله عز وجل.
لو كان لج البحر مثل يمينه | ما انشق حتى جاز فيه موسى |
الغلط بوضع الكلام في غير موضعه
كقوله:
أغار على الزجاجة وهي تجري=على شفة الأمير أبي الحسين
وهذه الغيرة إنما تكون بين المحب ومحبوبه كما قال أبو الفتح كشاجم وأحسن:
أغار إذا دنت من فيه كأس | على در يقلبه الزجاج |
فأما الأمراء والملوك فلا معنى للغيرة على شفاهها.
وكقوله:
وغر الدمست قول الوشا | ة أن عليا ثقيل وصب |
فجعل الأمراء يوشى بهم وإنما الوشاية السعاية ونحوها ومن شأن الممدوح أن يفضل على عدوه ويجري العدو مجرى بعض أصحابه وليس بسائغ في اللغة أن يقال وشى فلان بالسلطان إلى بعض رعيته وكقوله في وصف الحمى المعرقة.
إذا ما فارقتني غسلتني | كأنا عاكفان على حرام |
وليس الحرام بالاغتسال منه من الحلال وكقوله في وصف مهره (وزاد في الأذن على الخرانق)- الخرانق جمع خرنق وهو ولد الأرنب وأذن الفرس يستحب فيها الدقة والانتصاب وتشبه بطرف القلم وأذن الأرنب على الضد من هذا الوصف
امتثال ألفاظ المتصرفة
واستعمال كلماتهم المعقدة ومعانيهم الخلقة
كقوله في وصففرس (سبوح لها منها عليها شواهد) هكذا ذكر الثعالبي وقال الصاحب كنت أتعجب من كلام أبي يزيد البسطامي في المعرفة وألفاظه المعقدة وكلماته المبهمة حتى سمعت قول شاعرنا في صفة فرس (سبوح لها منها عليها شواهد) "أه" ومن ذلك يعلم أن الثعالبي تبع الصاحب في هذا النقد. والحق أن هذا الوصف والتعبير لا غبار عليه سواء كان من ألفاظ المتصوفة أو المتقطنة وقوله:
إذا ما الكأس أرعشت اليدين | صحوت فلم تحل بيني وبيني |
وقوله:
أفيكم فتى حر فيخبرني عني | بما شربت مشروبة الراح من ذهني |
وقوله:
نال الذي نلت منه مني | لله ما تصنع الخمور |
وقوله:
كبر العيان علي حتى أنه | صار اليقين من العيان توهما |
وقوله:
وبه يضن على البرية لا بها | وعليه منها لا عليها يوسى |
وقوله:
ولولا أنني في غير نوم | لكنت أظنني مني خيالا |
قال الصاحب: ومن شعره الذي يتباهى به بالسلاسة وخلوه من الشراسة الموجودة في طبعه بيت رقية العقرب أقرب إلى الإفهام منه وهو:
نحن من ضايق الزمان له فيـ | ـك وخانته قربك الأيام |
فإن قوله له فيك لو وقع في عبارات الجنيد والشبلي لتناءت عنه المتصوفة دهرا بعيدا. قال الثعالبي ومن أشد ما قاله في هذا المعنى قوله:
ولكنك الدنيا إلي حبيبة | فما عنك إلا إليك ذهاب |
ومر في بعض هذا أنه غير مضر بحسن الشعر.
الخروج عن طريق الشعر إلى طريق الفلسفة
كقوله:
ولجدت حتى كدت تبخل حائلا | للمنتهى ومن السرور بكاء |
أي جدت إلى النهاية حتى كاد جودك أن يحول وينقلب بخلا.
وقوله:
ألف هذا الهواء أوقع في الأنـ | ـفس أن الحمام مر المذاق |
والأسى قبل فرقة الروح عجز | والأسى لا يكون بعد الفراق |
أي الخوف من الموت قبل مفارقة الروح البدن عجز وضعف لما ذكره في البيت الأول وبعد فراق الروح الجسد ينتقل المرء إلى عالم آخر فلا يأسى على هذا الفراق وقوله:
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم | إلا على شجب والخلف في الشجب |
فقيل تخلص نفس المرء سالمة | وقيل تشرك جسم المرء في العطب |
الشجب الهلاك فهو قد تعرض لبقاء النفس وفنائها ثم قال:
ومن تفكر في الدنيا ومهجته | أقامه الفكر بين العجز والتعب |
وقوله:
فدعاك حسدك الرئيس وأمسكوا | ودعاك خالقك الرئيس الأكبرا |
خلفت صفاتك في العيون كلامه | كالخط يملأ مسمعي من أبصرا |
الضمير في كلامه يرجع للخالق في البيت الذي قبله أي جاءت صفاتك خلفا لكلامه في حقك فطابقته فكان كمن رأى شيئا مكتوبا ثم سمع مضمونه وقوله:
تمنع من سهاد أو رقاد | ولا تأمل كرى تحت الرجام |
فإن لثالث الحالين معنى=سوى معنى انتباهك والمنام
الحالان السهاد والرقاد وثالثهما الموت قال ابن جني أرجو أن لا يكون أراد بذلك أن نومة القبر لا انتباه لها "أه" والظاهر أنه أراد بذلك أنها أعظم منها وأشد لما فيها من الأهوال.
استكراه التخلص
قال القاضي الجرجاني لعلك لا تجد في شعره تخلصا مستكرها إلا قوله:
أحبك أو يقولوا جر نمل | ثبيرا وابن إبراهيم ريعا |
فأما قوله:
ضنى في الهوى كالسهم في الشهد كامنا | لذذت به جهلا وفي اللذة الحتف |
فأفنى وما أفنته نفسي كأنما | أبو الفرج القاضي له دونها كهف |
وقوله:
لو استطعت ركبت الناس كلهم | إلى سعيد بن عبد الله بعرانا |
وقوله:
أعز مكان في الدنا سرج سابح | وخير جليس في الزمان كتاب |
وبحر أبو المسك الخضم الذي له | على كل بحر زخرة وعباب |
فهي وإن لم تكن مستحسنة مختارة فليست بالمستهجن الساقط (أه) هكذا نقله في اليتيمة وذكره في الصبح ولم يعزه لأحد وهو عجيب أن يكون قوله: لو استطعت ركبت الناس ليس من المستهجن الساقط- ويجعل أحبك أو يقوؤلوا جر نمل إلخ مستكرها ولا يجعل (كأنما أبو الفرج القاضي له دونها كه) وفي الصبح في قوله أحبك إلخ فهذا تخلص ليس عليه شيء من الجمال وها هنا يكون الاقتضاب أحسن من التخلص فينبغي لسالك هذا الطريق أن ينظر إلأى ما يصوغه فإن أتاه التخلص حسنا أتى به وإلأا فليدعه وكذلك قال في قصيدة:
على الأمير يرى ذلي فيشفع لي | إلى التي صيرتني في الهوى مثلا |
والإضراب عن مثل هذا التخلص خير من ذكره وما ألقاه في هذه الهفوة إلا أبو نواس حيث قال:
سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد | هواها لعل الفضل يجمع بيننا |
على أن أبا نواس أخذ ذلك من قيس بن ذريح لكنه أفسده ولم يأت به كما أتى به قيس ولذلك حكاية وهو أنه لما هام بليلى وجن بها رق له الناس ورحموه فسعى ابن أبي عتيق إلى أن طلقها من زوجها وزوجها قيسا فقال قيس:
جزى الرحمن أفضل ما يجازي | على الإحسان خيرا من صديق |
فقد جربت إخواني جميعا | فما ألفيت كابن أبي عتيق |
سعى في جمع شملي بعد صدع | وراي حرت فيه عن الطريق |
وأطفأ لوعة كانت بقلبي | أغصتني حرارتها بريقي |
قبح المقاطع
والمقطع هو آخر القصيدة الذي يقطع عليه الكلام مع أنه هو والمطلع والمخلص أحق بالجودة من كل أبيات القصيدة كقوله بعد أبيات أحسن فيها وهي:
ولله سر في علاك وإنما | كلام العدى ضرب من الهذيان |
أتلتمس الأعداء بعد الذي رأت | قيام دليل أو وضوح بيان |
رأت كل من ينوي لك العذر يبتلى | بغدر حياة أو بغدر زمان |
قضى الله يا كافور أنك واحد | وليس بقاض أن يرى لك ثاني |
فما لك تختار القسي وإنما | عن السعد ترمي دونك الثقلان |
وما لك تعنى بالأسنة والقنا | وجدك طعان بغير سنان |
ولم تحمل السيف الطويل نجاده | وأنت غني عنه بالحدثان |
أرد لي جميلا جدت أو لم تجد به | فإنك ما أحييت في أتاني |
وختمه بقوله:
لو الفلك الدوار أبغضت سعيه | لعوقه شيء عن الدوران |
وقوله في مقطع قصيدة:
لو لم تكن من ذا الورى اللذ منك هو | عقمت بمولد نسلها حواء |
وقوله:
خلت البلاد من الغزالة ليلها | فأعاضهاك الله كي لا تحزنا |
جوامع ما يعاب به
وبعضه داخل فيما تقدم
قال الصاحب: ومن تعقيده الذي لا يشق غباره ولا تدرك آثاره قوله:
وللترك للإحسان خير لمحسن | إذا جعل الإحسان غير ربيب |
قال وما أشك أن هذا البيت أوقع عند حملة عرشه من قول حبيب:
إساءة الحادثان استنبطي نفقا | فقد أظلك إحسان ابن حسان |
قال وسأله سيف الدولة عن صفة فرس يقوده إليه أو يحمله عليه فقال أبياتا منها:
ومن اللفظ لفظه تجمع الوصـ | ـف وذاك المطهم الموصوف |
ومن هذا وصفه يقاد إليه المركب من مربط التجار (كذا).
قال الصاحب ومن افتتاحه الذي يفتح طرق الكرب ويغلق أبواب القلب قوله:
أراع كذا كل الأنام همام | وسح له رسل الملوك غمام |
ولو لم يتكلم في الشعر إلا من هو من أهله لما سمع مثل هذا قال ومن مبادئه التي تجمع استكراه الألفاظ وسقوط المعنى قوله:
وما مطرتنيه من البيض والقنا | وروم العبدي هاطلات غمامه |
قال ومن إسرافه الذي لا يصبر عنه قوله:
يا من يقتل من أراد بسيفه | أصبحت من قتلاك بالإحسان |
فإنه أخذ قول الشاعر (أصلحتني بالجواد بلأفستني) فجعل الإفساد قتلا عجرفة وتهورا. هذا ومذهب الشعراء المدح بالإحياء عند العطاء وبالإماتة عند منع الحباء ولهذا استحسن قول الشاعر:
شتان بين محمد ومحمد | حي أمات وميت أيحاني |
فصحبت حيا في عطايا ميت | وبقيت مشتملا على الخسران |
ومن هؤلاء العوام الذين يتهالكون فيه من هذا عنده أبدع من قول البحتري:
أخجلتني بندى يديك فسودت | ما بيننا تلك اليد البيضاء |
وقطعتني بالجود حتى أنني | متخوف أن لا يكون لقاء |
صلة غدت في الناس وهي طيعة | عجبا لبر راح وهو جفاء |
قال ومن وسائط مقته قوله يحكي جور السلاف ويستأذن في الانصراف:
نال الذي نلت منه مني | لله ما تصنع الخمور |
وذا انصرافي إلى محلي | فآذن أيها الأمير |
قال وكنت أقرأ كتب الألفاظ فلم أر أجمع من قوله:
الحازم اليقظ الأغر العالم الـ | ـفطن الألد الأريحي الأروعا |
الكاتب اللبق الخطيب الواهب الـ | ـندس اللبيب الهزبري المصقعا |
قال ومن اضطرابه في ألأفاظه مع فساد أغراضه قوله:
قد حلف العباس غرتك ابنه | مرأى لنا وإثى القيامة مسمعا |
قال وللشعراء فن في اشتقاق أسماء الممدوحين كقول علي بن العباس:
كأن أباه حين سماه صاعدا | رأى كيف يرقى في المعالي ويصعد |
فقتل المتنبي في حبل اختنق به وقال:
في رتبة حجب الورى عن نيلها | وعلا فسموه علي الحاجبا |
محاسن شعر المتنبي
حسن المطلع
كقوله:
فديناك من ربع وإت زدتنا كربا | فإنك كنت الشرق للشمس والغربا |
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة | لمن بان عنه أن نلم به ركبا |
وقوله:
الرأي قبل شجاعة الشجعان | هو أول وهي المحل الثاني |
فإذا هما اجتمعا لنفس مرة | بلغت من العياء كل مكان |
وقوله:
أعلى الممالك ما يبنى على الأسل | والطعن عند محبيهن كالقبل |
وقوله:
اليوم عهدكم فأين الموعد | هيهات ليس اليوم موعدكم غد |
الموت أقرب مخلبا من بينكم | والعيش أبعد منكم لا تبعدوا |
وقوله:
المجد عوفي إذ عوفيت والكرم | وزال عنك إلى اعدائك الألم |
حسن التخلص
كقوله:
مرت بنا بين تربيها فقلت لها | من أين جانس هذا الشادن العربا |
فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى | ليت الشرى وهو من عجل إذا انتسبا |
وقوله:
وغيث ظننا تحته أن عامرا | علا لم يمت أو في السحاب له قبر |
وقوله:
وإلا فخانتني القوافي وعاقني | عن ابن عبيد الله ضع العزائم |
إذا صلت لم أترك مصالا لصائل | وإن قلت لم أترك مقالا لعالم |
وقوله:
نودعهم والبين فينا كأنه | قنا ابن أبي الهيجاء في قلب فيلق |
وقوله:
ومقانب بمقانب غادرتها | أقوات وحش كن من أقواتها |
أقبلتها غرر الجياد كأنما | أيدي بني عمران في جبهاتها |
وقوله:
حدق يذم من القواتل غيرها | بدر بن عمار بن إسماعيلا |
وقوله:
ولو كنت في أسر غير الهوى | ضمنت ضمان أبي وائل |
فدى نفسه بضمان النضار | وأعطى صدور القنا الذابل |
وقوله:
خليلي ما لي لا أرى غير شاعر | فكم منهم الدعوى ومني القصائد |
فلا تعجبا أن السيوف كثيرة | ولكن سيف الدولة اليوم واحد |
النسيبب بالأعربيات
كقوله:
من الجىذر في زي الأعاريب | حمر الحلى والمطايا والجلابيب |
زمر أكثرها. قل الثعالبي وله طريق ظريفة في وصف البدويات قد تفرد بحسنها وأجاد ما شاء فيها فمنها قوله:
هام الفؤاد بأعرابية سكنت | بيتا من القلب لم تضب به طنبا |
مظلولمة القد في تشبيهها غصنا | مظلومة الريق في تشبيهه ضربا |
قوله:
إن الذين أقمت واحتملوا | أيامهم لديارهم دول |
الحسن يرحل كلما رحلوا | معهم وينزل حيثما نزلوا |
في مقلتي رشأ تديرهما | بدوية فتنت بها الحلل |
تشكو المطاعم طول هجرتها | وصدودها ومن الذي تصل |
وصفها بقلة الطعم وهي محمودة في نساء العرب:
ما أمأرت في القعب من لبن | تركته وهو المسك والعسل |
قالتا ألا تصحو فقلت لها | أعلمتني أن الهوى ثمل |
وقوله:
ديار اللواتي دارهن عزيزة | بطول القنا يحفظن لا بالتمائم |
حسان التثني ينقش الوشي مثله | إذا مسن في أجسادهن النواعم |
ويبسمن عن در تقلدن مثله | كأن التراقي وشحت بالمباسم |
حسن التصرف في سائر الغزل
كقوله:
قد كان يمنعه الحياء من البكا | فالآن يمنعه الحيا أن يمنعا |
حتى كأن لكل عظم رنة | في جلده ولكل عرق مدمعا |
سفرت وبرقعها الحياء بصفرة | سترت محاسنها ولم تك برقعا |
فكأنها والدمع يقطر فوقها | ذهب بسمطي لؤلؤ قد رصعا |
كشفت ثلاث ذوائب من شعرها | في ليلة فأرت ليالي أربعا |
واستقبلت قمر المساء بوجهها | فأرتني القمرين في وقت معا |
وقوله:
أيدري الربع أي دم أراقا | وأي قلوب هذا الركب شاقا |
لنا ولأهله أبدا قلوب | تلاقى في جسوم ما تلاقى |
فليت هوى الأحبة كان عدلا | فحمل كل قلب ما أطاقا |
وقد أخذ التمام البدر فيهم | وأعطاني من السقم المحاقا |
وبين الفرع والقدمين نور | يقود بلا أزمتها النياقا |
وطرف إن سقى العشاق كأسا | بها نقص سقانيها دهاقا |
وخصر تثبت الأحداق فيه | كأن عليه من حدق نطاقا |
وقوله:
مثلت عينك في حشاي جراحة | فتشابها كلتاهما نجلاء |
نفذت علي السابري وربما | تندق فيه الصعدة السمراء |
وقوله:
كأن العيس كانت فوق جفني | مناخاة فلما ثرن سالا |
لبسن الوشي لا متجملات | ولكن كي يصن به الجمالا |
وضفرن الغدائر لا لحسن | ولكن خفن في الشعر الضلالا |
حسن التشبيه بغير أداته
كقوله:
بدت قمرا ومالت غصن بان=وفاحت عنبرا ورنت غزالا
وقوله:
ترنو إلي بعين الظبي مجهشة | وتمسح الطل فوق الورد بالعنم |
وقوله:
قمرا نرى وسحابتين بموضع | من وجهه ويمينه وشماله |
وقوله:
أعارني سقم عينيه وحملني | من الهوى ثقل ما تحوي مآزره |
وقوله:
عرفت نوائب الحدثان حتى | لو انتسبت لكنت لها نقيبا |
الإبداع في سائر
التشبيهات والتمثيلات
كقوله في السفر:
وإن نهاري ليلة مدلهمة | على مقلة من فقدكم في غياهب |
بعيدة ما بين الجفون كأنما | عقدتم أعالي كل هدب بحاجب |
وقوله:
كأن رقيبا منك سد سامعي | عن العذل حتى ليس يدخلها العذل |
كأن سهاد العين يعشق مقلتي | فبينهما في كل هجر لنا وصل |
وقوله في الحمى:
وزائرتي كأن بها حياء | فليس تزور إلا في الظلام |
بذلت لها المطارف والحشايا | فعافتها وباتت في عظامي |
وقوله في سرعة الأوبة وتقليل اللبث:
وما أنا غير سهم في هواء | يعود ولم يجد فيه امتساكا |
وقوله:
كريم نفضت الناس لما لقيته | كأنهم ما جف من زاد قادم |
وكان سروري لا يفي بندامتي | على تركه في عمري المتقادم |
وقوله:
رضوا بك كالرضا بالشيب قسرا | وقد خط النواصي والفروعا |
وقوله في وصف الشعر:
إذا خلعت على عرض له حللا | وجدتها منه في أبهى من الحلل |
بذي الغباوة من إنشادها ضرر | كما تضر رياح الورد بالجعل |
التمثيل بما هو من جنس صنعته
من النحو وعلم العربية
كقوله:
وإنما نحن في جيل سواسة | شر على الحر من سقم على البدن |
حولي بكل مكان منهم خلق | تخطي إذا جئت في استفهامها بمن |
وقوله:
من اقتضى بسوى الهندي حاجته | أجاب كل سؤال عن هل بلم |
وقوله:
أمضى إرادته فسوف له قد | واستقرب الأقصى فثم له هنا |
وقوله:
دون التعانق ناحلين كشكلتي | نصب أدقهما وضم الشاكل |
وقوله:
ولولا كونكم في الناس كانوا | هراء كالكلام بلا معاني |
وقوله:
إذا كان ما تنويه فعلا مضارعا | مضى قبل أن تلقى عليه الجوازم |
المدح الموجه
كالثوب له وجهان كلاهما حسن
كقوله:
نهبت من الأعمار ما لو حويته | لهنئت الدنيا بأنك خالد |
قال ابن جني لو لم يمدح أبو الطيب سيف الدولة إلا بهذا البيت وحده لكان قد أبقى فيه ما لا يخلقه الزمان وهذا هو المدح الموجه لأنه بنى البيت على ذكر كثرة ما استباحه من أعمار أعدائه ثم تلقاه من آخر البيت بذكر سرور الدنيا ببقائه واتصال أيامه وكقوله:
عمر العدو إذا لاقاه في رهج | أقل من عمر ما يحوي إذا وهبا |
وقوله:
تشرق تيجانه بغرته | إشراق ألفاظه بمعناها |
وقوله:
تشرق أعراضهم وأوجههم | كأنهم في نفوسهم شيم |
حسن التصرف
في مدح سيف الدولة بهذا اللقب
كقوله:
لولا سمي سيوفه ومضاؤه | لما سللن لكن كالأجفان |
وقوله:
يسمى الحسام وليست من مشابهة | وكيف يشتبه المخدوم والخدم |
كل السيوف إذا طال الضراب بها | يمسها غير سيف الدولة السأم |
وقوله:
تهاب سيوف الهند وهي حدائد | فكيف إذا كانت نزارية عربا |
وقوله:
تخير في سيف ربيعة أصله | وطابعه الرحمن والمجد صاقل |
وقوله:
قلد الله دولة سيفها أنـ | ـت حساما بالمكرمات محلى |
فإذا اهتز للندى كان بحرا | وإذا اهتز للعدى كان نصلا |
وقوله:
فلا تعجبا أن السيوف كثيرة | ولكن سيف الدولة اليوم واحد |
وأنت حسام الملك والله ضارب | وأنت لواء الدين والله عاقد |
وقوله:
لقد سل سيف الدولة المجد معلما | فلا المجد مخفيه ولا الضرب ثالمه |
على عاتق الملك الأغر نجاده | وفي يد جبار السموات قائمه |
وإن الذي سمى عليا لمنصف | وإن الذي سماه سيفا لظالمه |
وما كل سيف يقطع الهام حده | وتقطع لزيات الزمان مكارمه |
وقوله:
من السيوف بأن تكون سميها | في أصله وفرنده ووفائه |
طبع الحديد فكان من أجناسه | وعلي المطبوع من آبائه |
الإبداع في سائر مدائحه
كقوله:
ملك سنان قناته وبنانه | يتباريان دما وعرفا ساكبا |
يستصغر الخطر الكبير لوفده | ويظن دجلة ليس تكفي شاربا |
كالبدر من حيث التفت رأيته | يهدي إلى عينيك نورا ثاقبا |
كالشمس في كبد السماء وضوءها | يغشى البلاد مشارقا ومغاربا |
كالبحر يقذف للقريب جواهرا | جودا ويبعث للبعيد سحائبا |
وقوله:
ليس التعجب من مواهب ماله | بل من سلامتها إلى أوقاتها |
عجبا له حفظ العنان بأنمل | ما حفظها الأشياء من عاداتها |
لو مر يركض في سطور كتابة | أحصى بحافر مهره ميماتها |
كرم تبين في كلامك ماثلا | ويبين عنق الخيل في أصواتها |
أعيا زوالك عن محل نلته | لا تخرج الأقمار من هالاتها |
فيه مدح وضرب مثل وتشبيه نادر. وقوله:
ذكر الأنام لنا فكل قصيدة | أنت البديع الفرد من أبياتها |
وقوله:
وما زلت حتى قادني الشوق نحوه | يسايرني في كل ركب له ذكر |
واستكبر الأخبار قبل لقائه | فلما التقينا صغر الخبر الخبر |
وقوله:
أزالت بك الأيام عتبي كأنما | بنوها ها ذنب وأنت لها عذر |
وقوله:
بعثوا الرعب في قلوب الأعادي | فكأن القتال قبل التلاقي |
وتكاد الظبى لما عودوها | تنتضي نفسها إلى الأعناق |
كل ذمر يزيد في الموت حسنا | كبدور تمامها في المحاق |
كرم خشن الجوانب منهم | فهو كالماء في الشفار الرقاق |
ومعال إذا ادعاها سواهم | لزمته جناية السراق |
وقوله:
تمشي الكرام على آثار غيرهم | وأنت تخلق ما تأتي وتبتدع |
من كل فوق محل الشمس موضعه | فليس يرفعه شي ولا يضع |
وقوله:
أرى كل ذي ملك إليك مصيره | كأنك بحر والملوك جداول |
إذا أمطرت منهم ومنك سحابة | فوابلهم طل وطلك وابل |
وقوله:
هم المحسنون الكر في حومة الوغى=وأحسن منه كرهم في المكارم
ولولا احتقار الأسد شبهتها بهم | ولكنها معدودة في البهائم |
مخاطبة الممدوح بخطاب المحبوب
مع الإحسان والإبداع
قال الثعالبي وهو مذهب له تفرد به واستكثر من سلوكه اقتدارا منه وتبحرا في الألفاظ والمعاني ورفعا لنفسه عن درجة الشعراء كقوله لكافور:
وما أنا بالباغي على الحب رشوة | ضعيف هوى يبغى عليه ثواب |
وما شئت إلا أن أل عواذلي | على أن رأيي في هواك صواب |
وأعلم قوما خالفوني فشرقوا | وغربت إني قد ظفرت وخابوا |
إذا نلت منك الود فالمال هين | وكل الذي فوق التراب تراب |
وقوله له:
ولو لم تكن في مصر ما سرت نحوها | بقلب المشوق المستهام المتيم |
وقوله لابن العميد:
تفضلت الأيام بالجمع بيننا | فلما حمدنا لم تدمنا على الحمد |
فجد لي بقلب إن رحلت فإنني | مخلف قلبي عند من فضله عندي |
وقوله لعضد الدولة:
أروح وقد ختمت على فؤادي | بحبك أن يحل به سواكا |
فلو أني استطعت حفظت طرفي | فلم أبصر به حتى أراكا |
وقوله لسيف الدولة:
ما لي أكتم حبا قد برى جسدي | وتدعي حب سيف الدولة الأمم |
إن كان يجمعنا حب لغرته | فليت أنا بقدر الحب نقتسم |
استعمال ألفاظ الغزل والنسيب في وصف الحروب والجد
قال الثعالبي وهو أيضا مما لم يسبق إليه وتفرد به وأظهر في الحذق بحسن النقل وأعرب عن جودة التصرف كقوله:
أعلى الممالك ما يبنى على الأسل | والطعن عن محبيهن كالقبل |
وقوله:
شجاع كأن الحرب عاشقة له | إذا زارها فدته بالخيل والرجل |
وقوله:
والطعن شزر والأرض راجفة | كأنما في فؤادها وهل |
قد صبغت خدها الدماء كما | يصبغ خد الخريدة الخجل |
وقوله
حمى أطراف فارس شمري | يحض على التباقي في التفاني |
بضرب هاج أطراف المنايا | سوى ضرب المثالث والمثاني |
فلو طرحت قلوب العشق فيها | لما خافت من الحدق الحسان |
حسن التقسيم
كقوله:
ضاق الزمان ووجه الأرض عن ملك | ملء الزمان وملء السهل والجبل |
فنحن في جذل والروم في وجل | والبر في شغل والبحر في خجل |
وقوله:
الدهر معتذر والسيف منتظر | وأرضهم لك مصطاف ومرتبع |
للسبي ما نكحوا والقتل ما ولدوا | والنهب ما جمعوا والنار ما زرعوا |
وقوله:
فلم يخل من نصر له من له بد | ولم يخل من شكر له من له فم |
ولم يخل من أسمائه عود منبر | ولم يخل دينار ولم يخل درهم |
وقوله:
يجل عن التشبيه لا الكف لجة | ولا هو ضرغام ولا رأي مخدم |
ولا جرحه يوسى ولا غوره يرى | ولا حده ينبو ولا يتثلم |
محلك مقصود وشانيك مفحم | ومثلك مفقود ونيلك خضرم |
وقوله:
عربي لسانه فلسفي | رأيه فارسية أعياده |
وقوله:
سهاد لأجفان وشمس لناظر | وسقم لأبدان ومسك لناشق |
حسن سياقة الأعداد
كقوله:
ألا أيها السيف الذي ليس مغمدا | ولا فيه مرتاب ولا منه عاصم |
هنيئا لضرب الهام والمجد والعلا | وراجيك والإسلام إنك سالم |
وقوله:
لا يستحي أحد يقال له | نضلوك آل بويه أو فضلوا |
قدروا عفوا وعدوا وفوا سئلوا | أغنوا علوا أعلوا ولوا عدلوا |
وقوله:
ورب جواب عن كتاب بعثته | وعنوانه للناظرين قتام |
حروف هجاء الناس فيه ثلاثة | جواد ورمح ذابل وحسام |
وقوله:
ومرهف سرت بين الجحفلين به | حتى ضربت وموج الموت يلتطم |
فالخيل والليل والبيداء تعرفين | والسيف والرمح والقرطاس والقلم |
وقوله:
أنت الجواد بلا من ولا كدر | ولا مطال ولا وعد ولا مذل |
وقوله:
الثغر والنحر والمخلخل والمعـ | ـصم دائي والفاحم الرجل |
وقوله:
ولكن بالقسطاط بحرا أزرته | حياتي ونصحي والهوى والقوافيا |
أمينا وإخلافا وغدرا وخسة | وجبنا أشخصا لحت لي أم مخازيا |
إرسال الأمثال في أنصاف الأبيات
كقوله:
مصائب قوم عند قوم فوائد | ومن قصد استقل السواقيا |
وخير جليس في الزمان كتاب | إن المعارف في أهل النهى ذمم |
وربما صحت الأجسام بالعلل | وفي الماضي لمن بقي اعتبار |
وتأبى الطباع على الناقل | ومنفعة الغوث قبل العطب |
هيهات تكتم في الظلام مشاعل | ومخطئ من رميه القمر |
وما خير الحياة بلا سرور | بجبهة العير يفدى حافر الفرس |
ولا رأي في الحب للعاقل | ولكن طبع النفس للنفس قائد |
وليس يأكل إلا الميت الضبع | كل ما يمنح الشريف شريف |
والجوع يرضي الأسود بالجيف | ومن فرح النفس ما يقتل |
ويستصحب الإنسان من لا يلائمه | إن النفيس غريب حيثما كانا |
فمن الرديف وقد ركبت غضنفرا | إذا عظم المطلوب قل المساعد |
ومن يسد طريق العارض الهطل | وأدنى الشرك في نسب جوار |
وفي عنق الحسناء يستحسن العقد | لا تخرج الأقمار من هالاتها |
إذا النفوس عدد الآجال | ولكن صدم الشر بالشر أحزم |
أنا الغريق فما خوفي من البلل | أشد من السقم الذي أذهب السقما |
فإن الرفيق بالجاني عتاب | إن القليل من الحبيب كثير |
بغيض إلي الجاهل المتعاقل | وليس كل ذوات المخلب السبع |
وللسيوف كما للناس آجال | في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل |
فأول قرح الخيل المهار | والبر أوسع والدنيا لمن غلبا |
ليس كالتكحل في العينين كالكحل | ويبين عشق الخيل في أصواتها |
إرسال المثلين
في مصراعي البيت الواحد
كقوله:
في سعة الخافقين مضطرب | وفي بلاد من أختها بدل |
الحب ما منع الكلام الألسنا | وألذ شكوى عاشق ما أعلنا |
ذل من يغبط الذليل بعيش | رب عيش أخف منه الحمام |
من يهن يسهل الهوان عليه | ما لجرح بميت إيلام |
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا | وحسب المنايا أن يكن أمانيا |
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن | يخلو من الهم أخلاهم من الفطن |
وأتعب من نادك من لا تجيبه | وأغيظ من عاداك من لا تشاكل |
لا تشتر العبد إلا والعصا معه | إن العبيد لأنجاس مناكيد |
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته | وإذا أنت أكرمت اللئيم تمرد |
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا | مضر كوضع السيف في موضع الندى |
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم | ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا |
وقيدت نفسي في ذراك محبة | ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا |
إرسال المثل والموعظة
وشكوى الدهر ونحوها
كقوله:
وما الجمع بين الماء والنار في يدي | بأصعب من أن أجمع الجد والفهما |
يخفي العداوة وهي غير خفية | نظر العدو بما أسر يبوح |
والأمر لله رب مجتهد | ما خاب إغلا لأنه جاهد |
إليك فإني لست ممن إذا اتقى | عضاض الأفاعي نام فوق العقارب |
خير الطيور على القصور وشرها | يأوى الخراب ويسكن الناووسا |
ليس الجمال لوجه صح مارنه | أنف العزيز بقطع العز يجتدع |
وليس يصح في الأفهام شيء | إذا احتاج النهار إلى دليل |
وقد بتزيا بالهوى غير أهله | ويستصحب الإنسان من لا يلايمه |
وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا | إذا لم يكن فوق الكرام كرام |
ما كل ما يتمنى المرء يدركه | تجري الرياح بما لا تشتهي السفن |
وأحسب أني لو هويت فراقكم | لفارقته والدهر أخبث صاحب |
من خص بالذم الفراق فإنني | من لا يرى في الدهر شيئا يحمد |
ومن نكد الدنيا على الحران يرى | عدوا به في صداقته بد |
وإذا كانت النفوس كبارا | تعبت في مرادها الأجسام |
تلف الذي اتخذ الشجاعة جنة | وعظ الذي اتخذ الفرار ليلا |
فإن يكن الفعل الذي ستء واحدا | فأفعاله اللاتي سررن ألوف |
وإذا خفيت على الغبي فعاذر | أن لا تراني مقلة عمياء |
إن كنت ترضى بأن بعطوا الجزى بذلوا | منها رضاك ومن للعور بالحول |
فآجرك الإله على مريض | بعثت به إلى عيسى طبيبا |
إذا أتت الإساءة من لئين | ولم ألم المسيء فمن ألوم |
وإذا أتتك مذمتي من ناقص | فهي الشهادة لي بأني كامل |
إذا ما قدرت على نطقة | فإني على تركها أقدر |
واحتمال الأذى ورؤية جانيـ | ـه غذاء تضوى به الأجسام |
وتوهموا اللعب الوغى والطعن في الـ | ـهيجاء غير الطعن في الميدان |
وإذا ما خلا الجبان بأرض | طلب الطعن وحده والنزالا |
ومن الخير بطء سيبك عني | أسرع السحب في المسير الجهام |
وليس الذي يتبع الوبل رائدا | كمن جاءه في داره رائد الوبل |
أبلغ ما يطلب النجاح به الطبـ | ـع وعند التعمق الزلل |
كم مخلص وعلا في خوض مهلكة | وقتلة قرنت بالذم في الجبن |
وما قلت للبدر أنت للجين | ولا قلت للشمس أنت الذهب |
ومن ركب الثور بعد الجوا | د أنكر أظلافه والغبب |
فقر الجهول بلا عقل إلى أدب | فقر الحمار بلا رأس إلى رسن |
لا يعجبن مضيما حسن بزته | وهل يروق دفينا جودة الكفن |
إذا ما الناس جربهم لبيب | فإني قد أكلتهم وذاقا |
فلم أر ودهم إلا خداعا | ولم أر دينهم إلا نفاقا |
ذريني أنل ما لا ينال من العلا فصعـ | ـب العلا في الصعب والسهل في السهل |
تريدين لقيان المعالي رخيصة | ولا بد دون الشهد من إبر النحل |
تمن يلذ المستهام بمثله | وإن كان لا يغني فتيلا ولا يجدي |
وغيظ على الأيام كالنار في الحشا | ولكنه غيظ الأسير على القد |
ومكايد السفهاء واقعة بهم | وعداوة الشعراء بئس المقتنى |
لعنت مقاربة اللئيم فإنها | ضيف يجر من الندامة ضيفنا |
وما الخيل إلا كالصديق قليلة | وإن كثرت في عين من لا يجرب |
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها | وأعضائها فالحسن عنك مغيب |
وقوله:
تصفو الحياة لجاهل أو غافل | عما مضى منها وما يتوقع |
ولمن يغالط في الحقائق نفسه | ويسومها طلب المحال فتطمع |
وقوله:
وأتعب خلق الله من زاد همه | وقصر عما تشتهي النفس وجده |
فلا ينحلل في المجد مالك كله | فينحل مجد كان بالمال عقده |
ودبره تدبير الذي المجد كفه | إذا حارب الأعداء والمال زنده |
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله | ولا مال في الدنيا لمن قل مجده |
إذا كنت في شك ن السيف فابله | فإما نفيه وإما تعده |
وما الصارم الهندي إلا كغيره | إذا لم يفارقه النجاد وغمده |
وقوله:
إنما تنجح المقالة في المر | ء إذا وافقت هوى في الفؤاد |
وإذا الحلم لم يكن في طباع | لم يحلم تقادم الميلاد |
وقوله:
وما الحسن في وجه الفتى شرفا له | إذا لم يكن في فعله والخلائق |
وما بلد الإنسان غير الموافق | ولا أهله الأدنون غير الأصادق |
وجائزة دعوى المحبة والهوى | وإن كان لا يخفى كلام المنافق |
وما يوجع الحرمان من كف حارم | كما يوجع الحرمان من كف رازق |
وقوله:
إنما أنفس الأنيس سباع | يتفارسن جهرة واغتيالا |
من أطاق التماس شيء غلابا | واقتسارا لم يلتمسه سؤالا |
كل غاد لحاجة يتمنى | أن يكون الغضنفر الرئبالا |
وقوله:
لولا المشقة ساد الناس كلهم | الجود يفقر والإقدام قتال |
وإنما يبلغ الإنسان غايته | وما كل ماشية بالرجل شملال |
إنا لفي زمن ترك القبيح به | من أكثر الناس إحسان وإجمال |
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته | ما فاته وفضول العيش إشغال |
وقوله:
يرى الجبن أن العجز حزم | وتلك خديعة الطبع اللئيم |
وكل شجاعة في المرء تغني | ولا مثل الشجاعة في الحكيم |
وكم من عائب قولا صحيحا | وآفته من الفهم السقيم |
ولكن تأخذ الآذان منه | على قدر القرائح والعلوم |
وقوله:
ولقد رأيت الحادثات فلا أرى | يققا يميت ولا سوادا يعصم |
والهم يخترم الجسيم نحافة | ويشيب ناصية الصبي ويهرم |
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله | وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم |
لا يخدعنك من عدو دمعه | وارحم شبابك من عدو يرحم |
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى | حتى يراق على جوانبه الدم |
والظلم من شيم النفوس فإن تجد | ذا عفة فلعلة لا يظلم |
ومن البلية عذل من لا يرعوي | عن جهله وخطاب من لا يفهم |
ومن العداوة ما ينالك نفعه=ومن الصداقة ما يضر ويؤلم
وقول:
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه | حريصا عليها مستهاما بها صبا |
فحب الجبان النفس أورده البقا | وحب الشجاع الحرب أورده الحربا |
ويختلف الرزقان والفعل واحد | إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا |
وقوله:
وفيك إذا جنى الجاني أناة | تظن كرامة وهي احتقار |
بنو كعب وما أثرت فيهم | يد لم يدمها إلا السوار |
بها من قطعة ألم ونقص | وفيها من جلالته افتخار |
لهم حق بشركك في نزار | وأدنى الشرك في نسب جوار |
لعل بينهم لبينك جند | فأول قرح الخيل المهار |
وما في سطوة الأرباب عيب | ولا في ذلة العبدان عار |
وقوله:
من اقتضى بسوى الهندي حاجته | أجاب كل سؤال عن هل بلم |
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة | بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم |
هون على بصر ما شق منظره | فإنما يقظات العين كالحلم |
لا تشكون إلى خلق فتشمته | شكوى الجريح إلى الغربان والرخم |
وكن على حذر للناس تستره | ولا يغرنك منهم ثغر مبتسم |
وقت يضيع وعمر ليت مدته | في غير أمته من سائر الأمم |
أتى الزمان بنوه في شبيبته | فسرهم وأتيناه على الهرم |
وقوله:
الرأي قبل شجاعة الشجعان | هو أول وهي المحل الثاني |
فإذا هما اجتمعا لنفس مرة | بلغت من العلياء كل مكان |
ولربما طعن الفتى أقرانه | بالرأي قبل تطاعن الأقران |
لولا العقول لكان أدنى ضيغم | أدنى إلى شرف من الإنسان |
وقوله:
لحى الله ذي الدنيا مناخا لراكب | فكل بعيد الهم فيهم معذب |
ألا ليت شعري هل أقول قصيدة | ولا أشتكي فيها ولا أتعتب |
وبي ما يذود الشعر عني أقله | ولكن قلبي يا ابنة القوم قلب |
أما تغلط الأيام في بأن أرى | بغيضا تنائي أو حبيبا تقرب |
وقوله:
أبى خلق الدنيا حبيبا تديمه | فما طلبي منها حبيبا ترده |
وأسرع مفعول فعلت تغيرا | تكلفت شيء في طباعك ضده |
قوله:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه | وصدق ما يعتاده من توهم |
وعادى محبيه بقول عداته | وأصبح في ليل من الشك مظلم |
وما كل هاو للجميل بفاعل | ولا كل فعال له بمتمم |
وأحسن وجه في الورى وجه محسن | وأيمن كف فيهم كف منعم |
وأشرفهم من كان أشرف همة | وأكثر إقداما على كل معظم |
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها | سرور محب أو مساءة مجرم |
وقوله:
فؤاد ما تسليه المدام | وعمر مثل ما تهب اللئام |
ودهر ناسه ناس صغار | وإن كانت لهم جثث ضخام |
وما أنا منهم بالعيش فيهم | ولكن معدن الذهب الرغام |
فشبه الشيء منجذب إليه | وأشبهنا بدنيانا الطغام |
ولو لم يعل إلا ذو محل | تعالى الجيش وانحط القتام |
ولو حيز الحفاظ بغير عقل | تجنب عنق صيقله الحسام |
ابتكار المعاني
في المراثي والتعازي
كقوله:
من لا يشابهه الأحياء في شيم | أمسى يشابهه الأموات في الرمم |
وقوله:
وقد فارق الناس الأحبة قبلنا | وأعيا دواء الموت كل طبيب |
سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها | منعنا بها من جيئة وذهوب |
تملكها الآتي تملك سالب | وفارقها الماضي فراق سليب |
علينا لك الإسعاد إن كان نافعا | بشق قلوب لا بشق جيوب |
فرب كئيب ليس تندى جفونه | ورب كثير الدمع غير كئيب |
وللواجد المكروب من زفراته | سكون عزاء أو سكون لغوب |
وقوله:
ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى | أن الكواكب في التراب تغور |
ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى | رضوى على أيدي الرجال تسير |
خرجوا به لكل باك خلفه | صعقات موسى يوم دك الطور |
حتى أتوا جدثا كأن ضريحه | في كل قلب موحد محفور |
كفل الثناء له برد حياته | لما انطوى فكأنه منشور |
الإيجاع في الهجاء
كقوله:
إن أوحشتك المعالي | فإنها دار غربه |
أو آنستك المخازي | فإنها لك نسبه |
وقوله:
إني نزلت بكذابين ضيفهم | عن القرى وعن الترحال محدود |
إلى آخر ما مر من هذه القصيدة.
جوامع المحاسن
كقوله: في الجمع بين مدح سيف الدولة وقد فارقه وبين مدح كافور وقد قصده في بيت واحد:
فراق ومن فارقت غير مذمم | وأم ومن يممت خير ميمم |
ثم قال معرضا بسيف الدولة:
وما منزل اللذات عندي بمنزل | إذا لم أبجل عنده وأكرم |
رحلت فكم باك بأجفان شادن | علي وكم باك بأجفان ضيغم |
المصراع الثاني تصديق لقوله (ليحدثن لمن ودعتهم ندم):
وما ربة القرط المليح مكانه | بأجزع من رب الحسام المصمم |
فلو كان ما بي من حبيب مقنع | عذرت ولكن من حبيب معمم |
وهذا أيضا من إجرائه الممدوح من الملوك مجرى المحبوب في كثير من شعره كما مر:
رمى واتقى رميي ومن دون ما اتقى | هوى كاسر كفي وقوسي وأسهمي |
وكقوله في مدح كافور والتعريض بالقدح في سيف الدولة:
قالوا هجرت إليه الغيث قلت لهم | إلى غيوث يديه والشآبيب |
إلى الذي تهب الدولات راحته | ولا يمن على آثار موهوب |
يا أيها الملك الغاني بتسمية | في الشرق والغرب عن نعت وتلقيب |
يعني أنه مستغن بشهرته عن لقب كلقب سيف الدولة:
أنت الحبيب ولكني أعوذ به | من أن أكون محبا غير محبوب |
وهذا أيضا من ذاك. وقوله من قصيدة لسيف الدولة بعدما فارق حضرته يعرض باستزادة يومه وشكر أمسه:
وإني لأتبع تذكاره | صلاة الإله وسقي السحب |
وإن فارقتني أمطاره | فأكثر غدرانها ما نضب |
ومنها في التعريض بكافور:
ومن ركب الثور بعد الجواد | أنكر أظلافه والغيب |
وقوله في هز كافور والتعريض باستزادته:
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله | فإني أغني منذ حين وتشرب |
وهبت على مقدار كفي زماننا | ونفسي على مقدار كفيك تطلب |
وقوله أيضا في التعريض بالاستزادة:
أرى بقربي منك عينا قريرة | وإن كان قربا بالبعاد يشاب |
وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا | ودون الذي أملت منك حجاب |
أقل سلامي حب ما خف عنكم | وأسكت كيما لا يكون جواب |
وفي النفس حاجات وفيك فطانة | سكوتي بيان عندها وخطاب |
وكقوله في وصف الفرس:
ويوم كليل العاشقين كمنته | أراقب فيه الشمس أيان تغرب |
وعيني إلى أذني أغر كأنه | من الليل باق بين عينيه كوكب |
عينه إلى أذنه لأنه كامن لا يرى شيئا فهو ينظر إلى أذني فرسه فإن رآه قد توجس بهما تأهب وذلك أن أذن الفرس تقوم مقام عينيه:
له فضلة عن جسمه في إهابه | تجيء على صدر رحيب وتذهب |
شققت به الظلماء أدني عنانه | فيطغى وأرخيه مرارا فيلعب |
وأصرع أي الوحش قفيته به | وأنزل عنه مثله حين أركب |
وكقوله في التوديع:
وإني عنك بعد غد لغاد | وقلبي من فنائك غير غادي |
محبك حيث ما اتجهت ركابي | وضيفك حيث كنت من البلاد |
وقوله في التوديع أيضا:
وإذا ارتحلت فشيعتك كرامة | حيث اتجهت وديمة مدرار |
وأراك دهرك ما تحاول في العدا | حتى كأن صروفه أنصار |
أنت الذي بجح الزمان بذكره | وتزينت بحديثه الأسمار |
وكقوله في اللطف بالصديق والعنف بالعدو:
إني لأجبن عن فراق أحبتي | وتحس نفسي بالحمام فأشجع |
ويزيدني غضب الأعادي قسوة | وبلم بي عتب الصديق فأجزع |
وكقوله في حسن الكناية:
تشتكي ما اشتكيت من ألم الشو | ق إلينا والشوق حيث النحول |
وكقوله في حسن الحشو:
صلى عليك الله غير مودع | وسقى ثرى أبويك صوب غمام |
وقوله:
ويحتقر الدنيا احتقار مجرب | يرى كل ما فيها- وحاشاك- فانيا |
وقوله:
إذا خلت منك حمص- لا خلت أبدا- | فلا سقاها من الوسمي باكره |
وكقوله في التهنئة:
المجد عوفي إذا عوفيت والكرم | وزال عنك إلى أعدائك الألم |
وما أخصك في برء بتهنئة | إذا سلمت فكل الناس قد سلموا |
ومحاسن شعره كثيرة يضيق عنها نطاق البيان وفيما ذكرناه منها كفاية.
ليس المتنبي ملحدا ولا قرمطيا
قد ذكرنا في صدر الترجمة أن الظاهر تشيع المتنبي وذكرنا هناك جميع ما يمكن أن يستدل به على تشيعه ونقلنا هناك حكاية ابن حجر القول بأنه كان ملحدا ونقلنا هناك عن الأستاذ ماسينيون الإفرنسي بعض ما يستدل به على تشيعه.
ونقول هنا إنه قد نقل بعض المحاضرين في المهرجان الذي أقيم للمتنبي بدمشق في 14 جمادى الأولى سنة 1355 عن الأستاذ ماسينيون أنه أثبت أن المتنبي كان باطنيا بتحليل بعض أشعاره وتفسير بعض رموزه وألفاظه كقوله مثلا قدس الله روحه واستعماله لفظ الفلك الدوار ووضع الشمس دون الهلال وقوله (خدد الله ورد الخدود) مما فيه إشارة إلى رموز الباطنية ومصطلحاتهم وأنه ا يستبعد أن يكون للمتنبي صلة بدعاة الإسماعيلية حتى انبرى تحت تأثير ذلك للقيام على السلطان مع بعض قبائل بني كلب ويقول ماسينيون أيضا إن مذهب القرامطة كان قد انتشر في ذلك العصر فتأثر المتنبي بكثرة تردده إلى الكوفة بعقيدة القرامطة، وأنت ترى أن كل هذه الأقاويل لا تستند إلى مستند صحيح ولا إلى دليل ظاهر يفيد الظن فضلا عن القطع أما لفظ قدس الله روحه فمن العبارات الشائعة بين المسلمين إلى اليوم ولفظة الفلك الدوار شائعةة بين جميع الأمم وجميع أهل الملل وكذلك باقي العبارات التي جعلها إشارة إلى رموز الباطنية ومصطلحاتهم لا يستفاد منها ذلك بشيء من الدلالات ولو فرض موافقتها لبعض مصطلحاتهم فالموافقة شيء والدلالة شيء آخر وأما نفي البعد عن أن يكون له صلة بدعاة الإسماعيلية وأن يكون خروجه على السلطان مع بعض قبائل بني كلب لأجل ذلك فهو بعيد غاية البعد بل مقطوع بفساده فإن الباطنية كان لهم دعاة في ذلك العصر في أكثر البلاد وكان خروجهم على السلطان بشكل مخصوص لا يشبه خروج المتنبي فقد كان فيهم الفدائية ويكون خروجهم بتدبير وترتيب وإقدام وجرأة وحزم فلذلك كانوا ينتصرون في أكثر وقائعهم كما يظهر من مراجعة كتب السير والتاريخ والمتنبي كان خروجه عاديا منبعثا عن هوس في رأسه ولم يسمع أنه عاونه أحد من الباطنية ولا انه كان في أصحابه باطني واحد ولم يكن عن تدبير ورأي فلذلك قبض عليه بسرعة وحبس وتفرق من حوله فلا يشبه خروجه خروج الباطنية بوجه من الوجوه.
أما انتشار مذهب القرامطة في ذلك العصر في الكوفة فغير صحيح لأن مخترع مذهب القرامطة وإن كان من قرية من سواد الكوفة لكن هذا المذهب لم ينتشر في الكوفة نفسها.
أما نسبة الإلحاد إليه على الإطلاق فنسبة باطلة والذين كانوا في عصره من حساده ومناوئيه لم يكن ليخفى عليهم إلحاده لو كان في عقيدته شيء من ذلك ولم يكونوا لسكتوا عنه فهم كانوا يبحثون عن معائبه اشد البحث وكانوا يعيرونه بأن أباه سقاء ويصفونه بابن عيدان السقاء وقد هجوه بأقبح الهجو ولم يقل واحد منهم في حقه كلمة واحدة تدل على الإلحاد فلو عرفوا منه الميل إلى الإلحاد لما وصموه إلا به لأنه كان كافيا في نبذه وسقوط محله على أن أشعاره شاهدة بعدم الإلحاد فهو الذي يقول:
ولولا قدرة الخلاق قلنا | أعمدا كان خلقك أن وفاقا |
وقو في حكمته تعالى:
ألا لا أرى الأحداث مدحا ولا ذما | فما بطشهم جهلا ولا كفها حلما |
ويقول:
قد شرف الله أرضا أنت ساكنها | وشرف الناس إذ سواك إنسانا |
ويقول:
ما أقدر الله أن يخزي خليقته | ولا يصدق قوما في الذي زعموا |
إلى غير ذلك أما ما يقال أنه يشف عن رقة دينه وضعف عقيدته فالصواب أنه لا دلالة له على ذلك أي لا نستطيع أن نجزم ولا أن نظن بأن المتنبي كان معطلا أو شاكا في العقائد الحقة الإسلامية بصدور أمثال هذه الكلمات منه بعد ما صدر منه ما هو صريح في اعتقاده بالخالق وإظهاره التدين بدين الإسلام نعم في هذه الكلمات سوء أدب راجع إلى الدين قاد المتنبي إليه ما تعوده من الإفراط في المبالغة في كل أمر تناوله بشعره وقلة المبالاة بعيوب شعره فجرى له في هذه الناحية ما جرى له في سائر النواحي التي أهملها في شعره ولم يهذبه منها فعابها عليه العائبون ليس أكثر من ذلك. أما قوله:
تمتع من سهاد أو رقاد | ولا تأمل كرى تحت الرجام |
فليس فيه إلا أن هذا النوم تنامه في الدنيا لا يكون مثله وأنت في القبر.
جمله من أخبار المتنبي
شهد المتنبي مع سيف الدولة جملة من وقائعه وحروبه وفي الصبح المنبي أنه لما اتصل بسيف الدولة حسن موقعه عنده فقربه وأجازه الجوائز السنية ومالت نفسه إليه فسلمه إلى الرواض فعلموه الفروسية والطراد والمثاقفة (وقال) حكي أنه صحب سيف الدولة في عدة غزوات إلى بلاد الروم ومنها غزوة العثاء التي لم ينج منها إلا سيف الدولة بنفسه وستة أنفار أحدهم المتنبي وأخذت عليهم الطرق الروم فجرد سيف الدولة سيفه وحمل على العسكر وفرق الصفوف وبدد الألوف. وحكى الرقي عن سيف الدولة قال كان المتنبي يسوق فرسه فاعتلقت بعمامته طاقة من الشجر المعروف بأم غيلان فكان كلما جرى الفرس يصيح الأمان يا علج قال سيف الدولة فهتفت به وقلت أيما علج هذه شجرة علقت بعمامتك فود أن الأرض غيبته فقال له ابن خالويه أيها الأمير أليس أنه ثبت معك حتى بقيت في ستة أنفار تكفيه هذه الفضيلة.
وفي الصبح المنبي: حكى أبو الفرج الببغا قال أذكر ليلة وقد استدعى سيف الدولة بدرة فشقها بسكين الدواة فمد أبو عبد الله بن خالويه طيلسانه فحثى فيه سيف الدولة صالحا ومددت ذيل دراعتي فحثا لي جانيا والمتنبي حاضر وسيف الدولة ينتظر منه أن يفعل مثل فعلنا فما فعل فغاظه ذلك فنثرها كلها على الغلمان فلما رأى المتنبي أنه قد فاتته زاحم الغلمان يلتقط معهم فغمزهم عليه سيف الدولة فداسوه فاستحيا ومضت به ليلة عظيمة وانصرف في ذلك فقال يتعاظم تلك العظمة وينزل إلى مثل هذه المنزلة لولا حماقته.
وحكى أبو الفرج أن أبا الطيب دخل مجلس ابن العميد أن أبا الطيب دخل مجلس ابن العميد وكان يستعرض سيوفا فلما نظر أبا الطيب نهض من مجلسه وأجلسه في دسته ثم قال له: اختر سيفا من هذه السيوف فاختار منها واحدا ثقيل الحلي واختار ابن العميد غيره فقال كل واحد منهما سيفي الذي اخترته أجود ثم اصطلحا على تجربتهما فقال ابن العميد فبماذا نجربهما قال أبو الطيب في الدنانير يؤتى بها فينضد بعضها على بعض ثم نضرب به فإن قدها فهو قاطع فاستدعى ابن العميد عشرين دينارا فنضدت ثم ضربها أبو الطيب فقدها وتفرقت في المجلس فقام من مجلسه المفخم يلتقط الدنانير المتبددة فقال ابن العميد ليلزم الشيخ مجلسه فإن أحد الخدام يلتقطها ويأتي بها إليك فقال بل صاحب الحاجة أولى.
وفي اليتيمة سمعت أبا بكر الخوارزمي يقول كان المتنبي قاعدا تحت قول الشاعر:
وإن أحق الناس باللوم شاعر | يلوم على البخل الرجال ويبخل |
وإنما أعرب عن طريقته وعادته بقوله:
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها | وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه |
قال وحضرت بحلب عنده يوما وقد أحضر مالا بين يديه من صلات سيف الدولة على حصير قد فرشه فوزن وأعيد إلى الكيس وتخللت قطعة كأصغر ما يكون بين خلال الحصير فأكب عليها بمجامعه ليستنقذها منه واشتغل عن جلسائه حتى توصل إلى إظهارها وأنشد قول قيس ابن الخطيم:
تبددت لنا كالشمس تحت غمامة | بدا حاجب منها وضنت بحاجب |
ثم استخرجها وأمر بإعادتها إلى مكانها من الكيس فقال له بعض جلسائه أما يكفيك ما في هذه الأكياس حتى أدميت أصبعك لأجل هذه القطعة فقال إنها تحضر المائدة.
وفي الصبح المنبي عن الخالديين أنهما قالا كان أبو الطيب المتنبي كثير الرواية جيد النقد ولقد حكى بعض من كان يحسده أنه كان يضع من الشعراء المحدثين وبعض البلغاء المفلقين وربما قال أنشدوني لأبي تمامكم شيئا حتى أعرف منزلته من الشعر فتذاكرنا ليلة في مجلس سيف الدولة بميافارقين وهو معنا فأنشد أحدنا لمولانا أيده الله شعرا له قد ألم فيه بمعنى لأبي تمام استحسنه مولانا أدام الله تأييده فاستجاده واستعاده فقال أبو الطيب هذا يشبه قول أبي تمام وأتى بالبيت المأخوذ منه المعنى فقلنا قد سررنا لأبي تمام إذ عرفت شعره فقال أو يجوز للأديب أن لا يعرف شعر أبي تمام وهو أستاذ كل من قال الشعر فقلنا قد قيل أنك تقول كيت وكيت فأنكر ذلك وما زال بعد ذلك إذا التقينا ينشدنا بدائع أبي تمام وكان يروي جميع شعره.
وفي الصبح المنبي حدث محمد بن الحسن الخوارزمي قال مررت بمحمد بن موسى الملقب بسيبويه ابن الموسى وهو يقول مدح الناس المتنبي على قوله:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى | عدوا له ما من صداقته بد |
ولو قال ما من مداراته أو مداجاته بد لكان أحسن وأجود قال واجتاز المتنبي به فوقف عليه قال أيها الشيخ أحب أن أراك قال له رعاك الله وحياك فقال بلغني أنك أنكرت علي قولي (عدوا له ما من صداقته بد) فما كان الصواب عندك فقال إن الصداقة مشتقة من الصدق في المودة ولا يسمى الصديق صديقا وهو كاذب في مودته فالصداقة إذا ضد العداوة ولا موقع لها في هذا الموضع ولو قلت ما من مداراته أو مداجاته لأصبت، هذا رجل منا- يريد نفسه- قال:
أتاني في قميص اللاذ يسعى | عدو لي يلقب بالحبيب |
فقال المتنبي أمع هذا غيره قال نعم
وقد عبث الشراب بوجنتيه | فصير خده كسنا اللهيب |
فقلت له متى استعملت هذا | لقد أقبلت في زي عجيب |
فقال الشمس أهدت لي قميصا | مليح اللون من نسج المغيب |
فثوبي والمدام ولون خدي | قريب من قريب من قريب |
فتبسم المتنبي وانصرف وكان المتنبي يذكر قول سيبويه في هذا البيت "أه" (أقول) لو قال ما من مداراته لفاتت المقابلة بين الصداقة والعداوة والتعبير بالصداقة هنا صحيح على نحو من التجوز أي من إظهار صداقته أو من صداقته ظاهرا أو نحو ذلك.
وقال ابن جني حدثني المتنبي قال حدثني فلان الهاشمي من أهل حران بمصر قال أحدثك بطريفة كتبت إلى امرأتي وهي بحران كتابا تمثلت فيه بيتك:
بم التعلل لا أهل ولا وطن | ولا نديم ولا كأس ولا سكن |
فأجابتني عن الكتاب وقالت ما أنت والله كما ذكرته في هذا البيت بل أنت كما قال الشاعر في هذه القصيدة:
سهرت بعد رحيلي وحشة لكم | ثم استمر مريري وارعوى الوسن |
وفي اليتيمة حكى ابن جني قال حدثني أبو علي الحسين بن أحمد الصنوبري قال خرجت من حلب أريد سيف الدولة فلما برزت من السور إذا أنا بفارس ملثم قد أهوى نحوي برمح طويل وسدده إلى صدري فكدت أطرح نفسي عن الدابة فرقا فلما قرب مني ثني السنان وحسر لثامه فإذا هو المتنبي وأنشدني:
نثرنا رؤوسا بالأحيدب منهم | كما نثرت فوق العروس الدراهم |
ثم قال كيف ترى هذا القول أحسن هو فقلت له ويحك قد قتلتني يا رجل قال ابن جني فحكيت أنا هذه الحكاية بمدينة السلام لأبي الطيب فعرفها وضحك لها وذكر أبا علي من التقريظ والثناء بما يقال في مثله.
ومما يذكر من سرعة جوابه وقوة استحضاره على ما في لسان الميزان وغيره أنه حضر مجلس الوزير ابن خنزابة وفيه أبو علي الآمدي الأديب المشهور فأنشد المتنبي أبياتا جاء فيها (إنما التهنيات للأكفاء) فقال له أبو علي التهنية مصدر والمصدر لا يجمع فقال المتنبي لآخر بجنبه أمسلم هو فقال سبحان الله هذا أستاذ الجماعة أبو علي الآمدي فقال إذا صلى المسلم وتشهد أليس يقول التحيات فخجل أبو علي وقام.
وحكى السري الرفا الشاعر المشهور قال حضرت مجلس سيف الدولة بعد قتل المتنبي فجرى ذكره فأثنى عليه الأمير وذكر شعره بما غاظني فقلت أيها الأمير اقترح أي قصيدة اردت للمتنبي فإني أعارضها بما يعلم الأمير أن المتنبي قد خلف نظيره فقال عارض قصيدته التي أولها (لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقي) فلما رجعت إلى منزلي تأملت القصيدة فإذا هي ليست من مختاراته ثم مر بي فيها:
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق | أراه غباري ثم قال له الحق |
فعلمت أنه أراد الأمير وخار الله لي "أه" وقد مرت هذه القصيدة عن رجل مجهول.
وقال أبو الحسين الجزار معرضا بصنعته ومشيرا إلى المتنبي:
تعاظم قدري على ابن الحسين | فذهني كالعارض الصيب |
وكم مرة قد تحكمت فيه | لأن الخروف أبو الطيب |
وقال بعض المتعصبين عليه في قوله:
تبل خداي كلما ابتسمت | من مطر برقه ثناياها |
إنها كانت تبصق في وجهه. قال ابن جني: قرأت ديوانه عليه فلما بلغت قوله في كافور القصيدة التي أولها:
أغالب فيك الشوق والشوق أغلب | وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب |
إلى قوله:
ألا ليت شعري هل أقول قصيدة | ولا أشتكي فيها ولا أتعتب |
وبي ما يذود الشعر عني أقله | ولكن قلبي يا ابنة القوم قلب |
فقلت: يعز علي أن يكون هذا الشعر في مدح غير سيف الدولة! فقال: حذرناه وأنذرناه فما نفع، ألست القائل فيه:
أخا الجواد أعط الناس ما أنت مالك | ولا تعطين الناس ما أنا قائل |
فهو للذي أعطاني كافورا بسوء تدبيره وقلة تمييزه "أه".
مشائخ المتنبي
في روضات الجنات عن شرح ديوان المتنبي للخطيب التبريزي: أن المتنبي نشأ وتأدب بالكوفة ولما اشتد ساعده هاجر إلى العلماء فلقي من أصحاب المبرد أبا إسحاق الزجاج وابا بكر ابن السراج وأبا الحسن الأخفش، ومن أصحاب ثعلب أبا موسى الحامض وأبا عمر الزاهد وأبا نصر، ومن أصحاب أبي سعيد السكري نفطويه وابن درستويه ثم لقي أبا بكر محمد بن دريد فقرأ عليه ولزمه ولقي بعده أكابر أصحابه منهم أبو علي الفارسي وأبو القاسم عمر ابن سيف البغدادي وأبو عمران موسى "أه".
ملحق ترجمة المتنبي
بعد فراغنا منها وجدنا الدكتور طه حسين يقول إن المؤرخين لم يذكروا أمه واختلفوا في أبيه لجهالتهما وذكروا جدته (أقول: يؤيده قول من ذكه: دعي كندة كما مر) ورأينا في خزانة الأدب بعض الزيادات، ونقل ترجمته من كتاب (إيضاح المشكل لشعر المتنبي) لأبي القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني معاصر ابن جني ألفه لبهاء الدولة بن بويه يوضح ما أخطأ فيه ابن جني من شرحه. قال بدأت بذكر المتنبي ومنشئه ومغتربه وما دل عليه شعره من معتقده إلى مختتم أمره ومقدمه على الملك- نضر الله وجهه- (يعني عضد الدولة) بشيراز وانصرافه عنه إلى أن قتل بين دير قنة والنعمانية: حدثني ابن النجار ببغداد أن مولد المتنبي بالكوفة في محلة تعرف بكندة بها ثلاثة آلاف من بين رواء ونساج واختلف إلى كتاب فيه أولاد أشراف الكوفة فكان يتعلم دروس العربية شعرا ولغة وإعرابا، فنشأ في خير حاضرة وقال الشعر صبيا، ثم وقع إلى خير بادية وحصل في بيوت العرب فادعى الفضول الذي ينبز به وحبس فبقي يعتذر ويتبرأ مما وسم به في كلمته المعروفة، وهو في الجملة خبيث الاعتقاد. وكان في صغره وقع إلى واحد يكنى أبا الفضل بالكوفة من المتفلسفة فهوسه وأضله كما ضل. وأما ما يدل عليه شعره فمتلون فقوله:
هون على بصر ما شق منظره | فإنما يقظات العين كالحلم |
مذهب السوفسطائية (أقول) هل هو إلا مثل ما ورد (الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا) وقوله:
تمتع من سهاد أو رقاد | ولا تأمل كرى تحت الرجام |
فإن الثالث الحالين معنى | سوى معنى انتباهك والمنام |
مذهب التناسخ (أقول) لا وجه له ومر قول ابن جني وما استظهرناه نحن. وقوله:
نحن بنو الدنيا فما بالنا | نعاف ما لا بد من شربه |
فهذه الأرواح من جوه | وهذه الأجسام من تربه |
مذهب الفضائية (القائلين إن الله هو الفضاء) ولا يمكن الجزم بذلك. وقوله في ابن العميد:
فإن يكن المهدي من باب هديه | فهذا وإلا فالهدى ذا فما المهدي |
مذهب الشيعة (أي إن كان المهدي الموعود من ظهر هديه فهذا الممدوح هو المهدي وإلا فالممدوح هو الهدى كله فله المهدي (إلا هذا) وقوله:
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم | إلا على شجب والخلف في الشجب |
فقيل تخلد نفس المرء باقية | وقيل تشرك جسم المرء في العطب |
فهذا مذهب من يقول بالنفس الناطقة ويتشعب بعضه إلى قول الحشيشية (فرقة من الباطنية كانوا يستولون بالحشيشة على حواس أتباعهم)، أقول: لا يدل كلامه على أنه يقول بالنفس الناطقة وإنما نقل القولين ببقائها وفنائها.
قال: ثم جئنا إلى حديثه وتطوافه في أطراف الشام وبلاد العرب ومقاساته للضر وحقارة ما يوصل به حتى أنه أخبرني أبو الحسن الطرائفي ببغداد وكان لقي المتنبي في حال عسره ويسره أنه قد مدح بدون العشرة والخمسة من الدراهم وأنشدني قوله مصداقا لحكايته:
أنصر بجودك ألفاظا تركت بها | في الشرق والغرب من عاداك مكبوتا |
فقد نظرتك حتى حان مرتحل | وذا الوداع فكن أهلا لما شيتا |
(أقول) وهذا تصديق ما مر من أن الذي رفع بضبعه ونشر صيته وأعلى قدره هو سيف الدولة فصار- بعدما كان يمدح كل أحد بدون العشرة والخمسة من الدراهم- يأنف من مدح غير الملوك ومن مدح الوزير المهلبي ومن مدح الصاحب بن عباد الذي وعده بمشاطرة جميع ما يملكه فمن الذي رقاه إلى هذه المرتبة غير سيف الدولة ومن الذي عرف ابن العميد وعضد الدولة به غيره لما اشتهرت مدائحه فيه وعطاياه له فعرفه الناس بذلك. قال: وأخبرني أبو الحسن الطرائفي قال: سمعت المتنبي يقول: أول شعر قلته وابيضت أيامي بعده قولي:
أنا لائمي إن كنت وقت اللوائم | علمت بما بي بين تلك المعالم |
فإني أعطيت بها بدمشق مائة دينار ثم اتصل بأبي العشائر ثم أهداه إلى سيف الدولة فلما سمع شعره حكم له بالفضل. وأخبرني أبو الفتح عثمان بن جني أن المتنبي أسقط من شعره الكثير وبقي ما تداوله الناس. وأخبرني الحلبي أنه قيل للمتنبي معنى بيتك هذا أخذته من قول الطائي فقال الشعر جادة وربما وقع حافر على حافر، وكان المتنبي يحفظ ديواني الطائيين ويستصحبهما في أسفاره ويجحدهما فلما قتل وقع ديوان البحتري إلى بعض من درس علي وذكر أنه رأى خط المتنبي وتصحيحه فيه.
وسمعت أنه قيل للمتنبي قولك لكافور:
فارم بي حيثما أردت فإني | أسد القلب آدمي الرواء |
وفؤادي من الملوك وإن كا | ن لساني يرى من الشعراء |
ليس قول ممتدح ولا منتجع إنما هو قول مضاد فقال إن هذه القلوب كما سمعت إحداها يقول:
يقر بعيني أن أرى قصد القنا | وصرعى رجال في وغى أنا حاضره |
وأحدها يقول:
يقر بعيني أن أرى من مكانها | ذري عقدات الأجرع المتقاود |
ودخل مع سيف الدولة بلاد الروم وتأصل حاله في جنبته بعد أن كان حويلة. وعن أبي الفتح وزير سيف الدولة أنه رسم له بإحصاء ما وصل به المتنبي فكان خمسة وثلاثين ألف دينار في مدة أربع سنين فلما انتهت مدته عند سيف الدولة استأذنه في المسير إلى إقطاعه (وهي ضيعة بالمعرة اسمها صفا) فأذن له وامتد باسطا عنانه إلى دمشق إلى أن قصد مصر، فألم بكافور وأقام على كره بمصر إلى أن ورد فاتك غلام الأخشيدي من الفيوم وقادوا بين يديه في مدخله إلى مصر أربعة آلاف جنيبة منعلة بالذهب فسماه أهل مصر فاتك المجنون فلقيه المتنبي في الميدان على رقبة من كافور ومدحه بالقصيدة التي أولها:
لا خيل عندك تهديها ولا مال | فليسعد النطق إن لم يسعد الحال |
فوصله بما قيمته عشرون ألف دينار ثم مات فاتك فرثاه المتنبي وذم كافورا وانتهز المتنبي الفرصة في العيد للهرب وكان رسم السلطان أنه قبل العيد بيوم تهيأ الخلع والحملانات وأنواع المبار لجنده ورؤساء جيشه وصبيحة العيد تفرق وثاني العيد يذكر له من قبل ومن رد واستزاد فاغتنم المتنبي غفلة كافور ودفن رماحه برا وسار ليلته هذه والأيام الثلاثة التي كان كافور مشتغلا فيها بالعيد حتى وقع في تيه بني إسرائيل إلى أن جازه على الحلل والأحياء والمفاوز المجاهيل والمناهل الأواجن حتى ورد الكوفة ثم مدح بها دلير بن لشكروز (وكان أتى الكوفة لقتال الخارجي الذي نجم بها من بني كلاب وانصرف الخارجي قبل وصول دلير إليها) بقصيدته التي يقول فيها:
ولست غبينا لو شربت منيتي | بإكرام دلير بن لشكروز لي |
فحمله على فرس بمركب ذهب، وكان السبب في قصده أبا الفضل ابن العميد أن المعروف بالمطوق الشاشي كان بمصر وقت المتنبي فعمد إلى قصيدته في كافور (أغالب فيك الشوق والشوق أغلب) وجعل مكان أبا المسك أبا الفضل وحمل القصيدة إلى الفضل وزعم أنه رسول المتنبي فوصله بألفي درهم واتصل هذا الخبر بالمتنبي ببغداد فقال: رجل يعطي لحامل شعري هذا فما تكون صلته لي. وكان ابن العميد يخرج في السنة من الري خرجتين إلى أرجان يجبي بها أربع عشرة مرة ألف ألف درهم فنما حديثه إلى المتنبي بحصوله بأرجان فلما حصل المتنبي ببغداد ركب إلى المهلبي فأذن له فدخل وجلس إلى جنبه وصاعد خليفته دونه وأبو الفرج صاحب كتاب الأغاني فانشدوا هذا البيت:
سقى الله أمواها عرفت مكانها | جراما وملوكا وبذر فالغمرا |
فقال المتنبي هو جرابا وهذه أمكنة قتلتها علما وإنما الخطأ وقع من النقلة فأنكره أبو الفرج. قال الشيخ هذا البيت أنشده أبو الحسن الأخفش صاحب سيبويه في كتابه جراما بالميم وهو الصحيح وعليه علماء اللغة وتفرق المجلس ثم عاوده اليوم الثاني وانتظر المهلبي إنشاده فلم يفعل وإنما صده ما سمعه من تماديه في السخف واستهتاره بالهزل واستيلاء أهل الخلاعة والسخافة عليه.
وكان المتنبي مر النفس صعب الشكيمة فخرج فلما كان اليوم الثالث أغروا به ابن الحجاج حتى علق لجام دابته في صبية الكوخ وقد تكابس الناس عليه من الجوانب وابتدأ ينشد:
يا شيخ أهل العلم فينا ومن | يلزم أهل العلم توقيره |
فصبر عليه المتنبي ساكنا ساكتا إلى أن نجزها ثم خلى عنان دابته وانصرف إلى منزله وقد تيقن استقرار أبي الفضل ابن العميد بأرجان وانتظاره له فاستعد للمسير (أقول) وبهذا ظهر سر عدم مدحه للمهلبي مع أنه قصد بغداد لأجله الذي قلنا سابقا أنه غير ظاهر من كلام المؤرخين.
فلما أشرف على أرجان وجدها ضيقة البقعة فضرب بيده على صدره وقال تركت ملوك الأرض وهم يتعبدون بي وقصدت رب هذه المدرة فما يكون منه ثم أرسل غلامه إلى ابن العميد فدخل عليه وقال مولاي أبو الطيب خارج البلد وكان وقت القيلولة وهو مضطجع في دسته فثار من مضجعه واستثبته ثم أمر حاجبه باستقباله فركب واستركب من لقيه في الطريق ففصل عن البلد بجمع كثير فتلقوه وقضوا حقه فدخل على أبي الفضل فقام له من الدست قياما مستويا وطرح له كرسي عليه مخدة ديباج وقال أبو الفضل كنت مشتاقا إليك يا أبا الطيب ثم أفاض المتنبي في حديث سفره وأن غلاما له احتمل سيفا وشذ عنه وأخرج من كمه درجا فيه قصيدته (باد هواك صبرت أو لم تصبرا) فوحى أبو الفضل إلى حاجبه بقرطاس فيه مائتا دينار وسيف غشاؤه فضة وقال هذا عوض عن السيف المأخوذ وأفرد له دارا نزلها فلما استراح من تعب السفر كان يغشى أبا الفضل كل يوم ويقول ما أزورك أكبابا إلا لشهوة النظر إليك ويؤاكله وكان أبو يقرأ عليه ديوان اللغة الذي جمعه ويتعجب من حفظه وغزارة علمه فأظلهم النيروز فأرسل أبو الفضل مع بعض ندمائه إلى المتنبي أنه كان يبلغني شعرك بالشام والمغرب وما سمعته دونه فلم يحر جوابا إلى أن حضره النيروز وأنشده مهنئا ومعتذرا القصيدة التي أولها:
هل لعذري إلى الهمام أبي الفضـ | ـل قبول سواد عيني مداده |
فأخبرني البديهي سنة 370 أن المتنبي قال بأرجان الملوك قرود يشبه بعضهم بعضا على الجودة يعطون وكان حمل إليه أبو الفضل خمسين ألف دينار سوى توابعها وهو من أجاود زمان الديلم ثم لما ودعه ورد كتاب عضد الدولة يستدعيه فقال المتنبي ما لي وللديلم فقال أبو الفضل عضد الدولة أفضل مني ويصلك بأضعاف ما وصلتك به فأجاب إن هؤلاء الملوك أقصد الواحد منهم بعد الواحد وأملكهم شيئا يبقى ببقاء النيرين ويعطونني عرضا فانيا ولي ضجرات واختيارات فيعوقونني عن مرادي فأحتاج إلى مفارقتهم على واختيارات فيعوقونني عن مرادي فأحتاج إلى مفارقتهم على أقبح الوجوه فكاتب ابن العميد عضد الدولة بهذا الحديث فأجاب بأنه مملك مراده في المقام والظعن فسار المتنبي من أرجان فلما كان على أربعة فراسخ من شيراز استقبله عضد الدولة بأبي عمر الصباغ أخي أبي محمد الأبهري صاحب كتاب حدائق الآداب فلما تلاقيا وتسايرا استنشده فقال المتنبي الناس يتناشدون فأخبره أبو عمر أنه رسم له ذلك عن المجلس العالي فبدأ بقصيدته التي فارق مصر بها:
ألا كل ماشية الخيزلى | فدى كل ماشية الهيذبى |
ثم دخل البلد فأنزل دارا مفروشة وخبر أبو عمر عضد الدولة بما جرى وأنشده من كلمته قوله:
فلما أنخنا ركزنا الرما | ح بين مكارمنا والعلا |
وبتنا نقبل أسيافنا | ونمسحها من دماء العدا |
لتعلم مصر ومن بالعراق | ومن بالعواصم أني الفتى |
وأني وفيت وأني أبيت | وأني عتوت على من عتا |
فقال عضد الدولة هو ذا يتهددنا المتنبي. ثم ركب إلى عضد الدولة فلما انتهى إلى قرب السرير قبل الأرض واستوى قائما وقال شكرت مطية حملتني إليك وأملا وقف بي عليك ثم سأله عضد الدولة عن مسيره من مصر وعن علي بن حمدان فذكره وانصرف وما أنشده فبعد أيام حضر السماط فقام وبيده درج فأجلسه عضد الدولة وأنشد (وغاني الشعب طيبا في المغاني) فلما أنشدها وفرغوا من السماط حمل إليه عضد الدولة من أنواع الطيب في الأردية الأمنان من الكافور والعنبر والمسك والعود وقاد إليه فرسه الملقب بالمجروح وكان اشترى له بخمسين ألف شاة وبدرة دراهمها عدليه ورداء حشوه ديباج رومي مفصل وعمامة قومت بخمسمائة دينار ونصلا هنديا مرصع النجاد والجفن بالذهب وبعد ذلك كان ينشده في كل حدث يحدث قصيدة إلى أن حدث يوم نثر الورد فدخل عليه والملك على سرير في قبة يحسر البصر في ملاحظتها والأتراك ينثرون الورد فقال المتنبي ما خدمت عيني قلبي كاليوم وأنشأ يقول:
قد صدق الورد في الذي زعما | أنك صيرت نثره ديما |
فحمل على فرس بمركب وألبس خلعة ملكية وبدرة بين يديه محمولة وكان أبو جعفر وزير بهاء الدولة مأمورا بالاختلاف إليه وحفظ المنازل والمناهل من مصر إلى الكوفة وتعرفها منه فقال كنت حاضره وقام ابنه يلتمس أجرة الغسال فأحد المتنبي إليه النظر بتحديق وقال ما للصعلوك والغسال يحتاج الصعلوك إلى أن يعمل بيده ثلاثة أشياء يطبخ قدره وينعل فرسه ويغسل ثيابه ثم ملأ يده قطيعات بلغت درهمين أو ثلاثة ثم ذكر كتاب أبي الفتح ابن العميد إليه وجواب المتنبي له بالأبيات التي أولها (بكتب الأنام كتاب ورد) ثم قال فجعل أبو الفتح الأبيات سورة يدرسها ويحكم للمتنبي بالفضل على أهل زمانه فقال أبو محمد ابن أبي الثبات البغدادي:
لو أرد شعر كذوب البرد | أتانا به خاطر قد جمد |
فأقبل يمضغه بعضنا | وهم السنانير أكل الغدد |
فاستخف أبو الفتح به وجره برجله ففارقهم وهاجر إلى آذربيجان وقال عضد الدولة إن المتنبي كان جيد شعره بالغرب فأخبر المتنبي به فقال الشعر على قدر البقاع.
وكان عضد الدولة جالسا في البستان الزاهر يوم زينته وأكابر حواشيه وقوف فقال رجل ما يعوز مجلس مولانا سوى أحد الطائيين فقال عضد الدولة لو حضر المتنبي لناب عنهما.
ثم ذكر مفارقته عضد الدولة إلى أن نزل الجسر بالأهواز ثم حكى عن أبي الحسن السوسي قال كنت أتولى الأهواز من قبل المهلبي وورد علينا المتنبي ونزل عن فرسه ومقوده بيده وفتح عيابه وصناديقه لبلل مسها في الطريق وصارت الأرض كأنها مطارف منشورة فحضرته أنا وقلت قد أقمت للشيخ نزلا فقال المتنبي إن كان تم فآتيه ثم جاءه فاتك الأسدي وقال قدم الشيخ هذه الديار وشرفها بسفره والطريق بينه وبين دير قنة خشن قد احتوشته الصعالكة وبنو أسد يسيرون في خدمته إلى أن يقطع هذه المسافة ويبر كل واحد منهم بثوب بياض فقال المتنبي ما أبقى الله بيدي هذا الأدهم وذباب الجراز الذي أنا متقلده فإني لا أفكر في مخلوق فقام فاتك ونفض ثوبه وجمع من رتوت الأعاريب الذين يشربون دماء الحجيج حسوا سبعين رجلا ورصد له فلما توسط المتنبي الطريق خرجوا عليه فقتلوا كل من كان في صحبته وحمل فاتك على المتنبي وطعنه في يساره ونكسه عن فرسه وكان ابنه أفلت إلا أنه رجع يطلب دفاتر أبيه فلحقه أحدهم وحز رأسه وصبوا أمواله يتقاسمونها بطرطورة.
(أقول) هذه الرواية تخالف ما سبق في كون فاتك جاءه وعرض الخفارة عليه ولعل ما سبق هو الصواب فإن فاتكا لم يكن ليجيئه وهو يعلم أنه عدوه وهاجي قرابته. قال وقال بعض من شاهده إنه لم تكن فيه فروسية وإنما كان سيف الدولة سلمه إلى الرواض بحلب فاستجرأ على الركض والحضر فأما استعمال السلاح فلم يكن من عمله ثم قال وجملة القول فيه أنه من حفاظ اللغة ورواة الشعر وأما الحكم عليه وعلى شعره فهو سريع الهجوم على المعاني، ونعت الخيل والحرب من خصائصه، وما كان يراد طبعه في شيء مما يسمح به يقبل الساقط الرديء كما يقبل النادر البديع وفي متن شعره وهي وفي ألفاظه تعقيد وتعويض "أه" ملخص ما نقل في الخزانة عن الإيضاح.
دار التعارف للمطبوعات - بيروت-ط 1( 1983) , ج: 2- ص: 513
أبو الطيب المتنبي أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد أبو الطيب الجعفي الكوفي المتنبي الشاعر، ولد سنة ثلاث وثلاث مائة وأكثر المقام بالبادية لاكتساب اللغة ونظر في فنون الأخبار وأيام الناس والأدب وقال الشعر من صغره حتى بلغ الغاية وفاق أهل عصره ولم يأت بعده مثله ومدح الملوك وسار شعره في الدنيا. قال ضياء الدين ابن الأثير: سافرت إلى مصر ورأيت الناس يشتغلون بشعر المتنبي فسألت القاضي الفاضل فقال: إن أبا الطيب ينطق عن خواطر الناس. وكان قد خرج إلى كلب فادعى فيهم أنه علوي ثم ادعى النبوة إلى أن أشهد عليه بالكذب بالدعوتين وحبس دهرا وأشرف على القتل ثم استنابوه وأطلقوه ثم إنه تنبأ في بادية السماوة فخرج إليه لؤلؤ أمير حمص من قبل الإخشيد فأسره بعد أن شرد من معه ثم حبسه دهرا فاعتل وكاد يتلف ثم استتيب بمكتوب، وقيل إنه قال: أنا أول من تنبأ بالشعر، ثم التحق بالأمير سيف الدولة ابن حمدان وحظي عنده ثم فارقه ودخل مصر سنة ست وأربعين وثلاث مائة ومدح كافورا الإخشيدي وكان يقف بين يديه وفي رجليه خفان وفي وسطه سيف ومنطقة ثم يركب بحاجبين من مماليكه وهما بالسيوف والمناطق ولما لم يرضه هجاه وفارقه ليلة عيد النحر سنة خمسين وثلاث مائة ووجه كافور الإخشيدي خلفه رواحل إلى جهات شتى فلم يلحق. وكان كافور وعده بولاية بعض أعماله فلما رأى تعاطيه في شعره وسموه بنفسه خافه وعوتب فيه فقال: يا قوم من ادعى النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أما يدعي المملكة مع كافور فحسبكم. وكان لسيف الدولة مجلس يحضره العلماء في ليلة النحر فيتكلمون بحضرته فوقع بين المتنبي وبين ابن خالويه كلام فوثب ابن خالويه على المتنبي فضربه في وجهه بمفتاح فشجه وخرج ودمه يسيل وغضب وخرج إلى مصر. ولما فارق مصر قصد بلاد فارس ومدح عضد الدولة ابن بويه فأجزل جائزته. ورجع من عنده قاصدا بغداذ ثم إلى الكوفة في شعبان لثمان خلون منه فعرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي في عدة من أصحابه وكان مع المتنبي جماعة أيضا فقتل المتنبي وابنه محسد وغلامه مفلح بالقرب من النعمانية بمكان يقال له الصافية وقيل عند دير العاقول. ذكر ابن رشيق في العمدة: لما فر أبو الطيب حين رأى الغلبة قال له غلامه: لا يتحدث الناس عنك بالفرار أبدا وأنت القائل:
فالخيل والليل والبيداء تعرفني | والسيف والرمح والقرطاس والقلم |
أبعين مفتقر إليك نظرتني | فأهنتني وقذفتني من حالق |
لست الملوم أنا الملوم لأنني | أنزلت آمالي بغير الخالق |
رماني الدهر بالأرزاء حتى | فؤادي في غشاء من نبال |
فصرت إذا أصابتني سهام | تكسرت النصال على النصال |
في جحفل ستر العيون غباره | فكأنما يبصرن بالآذان |
لهوى القلوب سريرة لا تعلم | كم حار فيه عالم متكلم |
والناس مختلفون في تحقيقه | وصحيحه فيما أتوه توهم |
كل يقول ولا يصحح قوله | وعلى النجوم يحيل من يتنجم |
وإذا تفكر في الحقائق عاقل | ضعفت قواه وخانه ما يعلم |
ما فاتني من كل علم سره | ومن الحقائق ما يصان ويكتم |
والعلم بحر والقرائح ليلة | ومن العناء لزوم ما لا يلزم |
أي فضل لشاعر يطلب الفضـ | ـل من الناس بكرة وعشيا |
عاش حينا يبيع في الكوفة الما | ء وحينا يبيع ماء المحيا |
كفوا عن المتنبي | فإنه قد تنبه |
يا شاعرا ما يساوي | طرطوره نصف حبه |
يا شيخ أهل العلم فينا ومن | يلزم أهل العلم توقيره |
مسائل جاءتك مفتنة | فيها من العمل عقاقيره |
مشم شرجي كيف تثنيه لي | وذوق إستي كيف تصغيره |
وأير بغل طوله سبعة | في مثل دور الدقر تدويره |
كم إصبعا واحسبه لي جيدا | يكون في است أمك تكسيره |
قل لي وطرطورك هذا الذي | في غاية الحسن شوابيره |
ما ضره إذ جاء فصل الشتا | لو أن شعر استي سموره |
يا ديمة الصفع صبي | على قفا المتنبي |
ويا قفاه تقدم | حتى تصير بجنبي |
إن كنت أنت نبيا | فالقرد لا شك ربي |
كأن الهام في الهيجا عيون | وقد طبعت سيوفك من رقاد |
وقد صغت الأسنة من هموم | فما يخطرن إلا في فؤاد |
وكأن موقعه بجمجمة الفتى | حذر المنية أو نعاس الهاجع |
الطاعن الطعنة النجلاء تحسبها | نوما أناخ بجفن العين يغفيها |
بلهذم من هموم النفس صبغته | فليس ينفك يجري في مجاريها |
أين الرماح التي غذيتها مهجا | مذ مت ما وردت قلبا ولا كبدا |
كأن سنان ذابله ضمير | فليس عن القلوب له ذهاب |
كأنه كان ترب الحب مذ زمن | فليس يعجزه قلب ولا كبد |
كأن سيفك ضيف الشيب ليس له | إذا أتى عن ورود الرأس منصرف |
كأن سيوف الهند فيها كواكب | مع الصبح في هام الكماة تغور |
مترديا نصلا إذا | لاقى المنية لم يراقب |
فكأنه في الحرب شمـ | ـس والرؤوس له مغارب |
أمن الهجر سيفه فهو لا ينـ | ـفك مذ كان قاطعا بتارا |
أم من الحب رمحه فهو لا يأ | لف إلا القلوب والأفكارا |
بيض الوجوه كأن زرق رماحهم | سر يحل سواد قلب العسكر |
كأن عداه في الهيجا ذنوب | وصارمه دعاء مستجاب |
كأنما أسيافه في الوغى | طير ترى الهام لها عشا |
فتى ينصب في ثغر الفيافي | كما ينصب في المقل الرقاد |
زارنا في الظلام يطلب سترا | فافتضحنا بنوره في الظلام |
فالتجأنا إلى حنادس شعر | سترتنا عن أعين اللوام |
غاض القريض وأودت نضرة الأدب | وصوحت بعد ري دوحة الكتب |
سلبت ثوب بهاء كنت تلبسه | كما تخطف بالخطية السلب |
ما زلت تصحب في الجلى إذا نزلت | قلبا جميعا وعزما غير منشعب |
وقد حلبت لعمري الدهر أشطره | تمطو بهمة لا وان ولا نصب |
من للهواجل تحيي ميت أرسمها | بكل جائلة التصدير والحقب |
قباء خوصاء محمود علالتها | تنبو عريكتها بالحلس والقتب |
أم من لسرحانها يقريه فضلته | وقد تضور بين اليأس والسغب |
أم من لبيض الظبا توكافهن دم | أم من لسمر القنا والزغف واليلب |
أم للمحافل إذ تبدو لتعمرها | بالنظم والنثر والأمثال والخطب |
أم للصواهل محمرا سرابلها | من بعدما غربت معروفة الشهب |
أم للمناهل والظلماء عاكفة | تواصل الكر بين الورد والقرب |
أم للقساطل تعتم الحروب بها | أم من لضغم الهزبر الضيغم الحرب |
أم للضراب إذا الأحساب دافع عن | تذنيبها شعرات الوكف القضب |
أم للملوك تحليها وتلبسها | حتى تمايس في أبرادها القشب |
نابت وسادي أحزاني تؤرقني | لما غدوت لقى في قبضة النوب |
عمرت خدن المساعي غير مضطهد | ومت كالنصل لم تدنس ولم تعب |
فاذهب عليك سلام الله ما قلت | خوص الركائب بالأكوار والشعب |
لا رعى الله سرب هذا الزمان | إذ دهانا في مثل هذا اللسان |
ما رأى الناس ثاني المتنبي | أي ثان يرى لبكر الزمان |
كان من نفسه الكبيرة في جيـ | ـش وفي كبرياء ذي سلطان |
هو في شعره نبي ولكن | ظهرت معجزاته في المعاني |
الزم مقال الشعر تحظ برتبة | وعن النبوة، لا أبا لك، فانتزح |
تربح دما قد كنت توجب سفكه | إن الممتع بالحياة لمن ربح |
تبدت لنا كالشمس جادت بحاجب | تبدى لنا منها وضنت بحاجب |
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 6- ص: 0
المتنبي شاعر الزمان، أبو الطيب، أحمد بن حسين بن حسن الجعفي الكوفي، الأديب الشهير بالمتنبي.
ولد سنة ثلاث وثلاث مائة، وأقام بالبادية يقتبس اللغة والأخبار، وكان من أذكياء عصره.
بلغ الذروة في النظم، وأربى على المتقدمين، وسار ديوانه في الآفاق، ومدح سيف الدولة ملك الشام، والخادم كافورا صاحب مصر، وعضد الدولة ملك فارس والعراق.
وكان يركب الخيل بزي العرب، وله شارة وغلمان وهيئة.
وكان أبوه سقاء بالكوفة، يعرف بعبدان.
روى عنه: أبو الحسين محمد بن أحمد المحاملي، وعلي بن أيوب القمي، وأبو عبد الله بن باكويه، وأبو القاسم بن حبيش، وكامل العزائمي، والحسن بن علي العلوي من نظمه.
قيل: إنه جلس عند كتبي، فطول المطالعة في كتاب للأصمعي، فقال صاحبه: يا هذا، أتريد أن تحفظه؟ فقال: فإن كنت قد حفظته، قال: أهبه لك، قال: فأخذ يقرؤه حتى فرغه، وكان ثلاثين ورقة.
قال التنوخي: خرج المتنبي إلى بني كلب، وأقام فيهم، وزعم أنه علوي، ثم تنبأ فافتضح، وحبس دهرا، وأشرف على القتل، ثم تاب.
وقيل: تنبأ ببادية السماوة، فأسره لؤلؤ أمير حمص بعد أن حارب.
وقد نال بالشعر مالا جليلا، يقال: وصل إليه من ابن العميد ثلاثون ألف دينار، وناله من عضد الدولة مثلها.
أخذ عند النعمانية، فقاتل، فقتل هو وولده محسد.
وفاته في رمضان سنة أربع وخمسين وثلاث مائة.
وكان يبخل.
وقد طولت أمره في ’’تاريخ الإسلام’’.
وهو القائل:
لولا المشقة ساد الناس كلهم | الجود يفقر والإقدام قتال |
دار الحديث- القاهرة-ط 0( 2006) , ج: 12- ص: 255
أحمد بن الحسين بن الحسن الكوفي أبو الطيب الشاعر المعروف بالمتنبي ذكره أبو القاسم بن الطحان في ذيله على تاريخ الغرباء بن يونس فقال كان يتشيع قال وقيل كان ملحدا
دار الكتب العلمية - بيروت-ط 1( 1995) , ج: 1- ص: 31