شيخنا الإمام الرباني، إمام الأئمة، ومفتي الأمة، وبحر العلوم، سيد الحفاظ، وفارس المعاني والألفاظ، فريد العصر، وقريع الدهر، شيخ الإسلام، قدوة الأنام، علامة الزمان، وترجمان القرآن، علم الزهاد، وأوحد العباد، قامع المبتدعين، وآخر المجتهدين، الشيخ تقي الدين؛ أبو العباس، أحمد بن الشيخ الإمام شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن الشيخ الإمام شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن [محمد بن الخضر] بن علي بن عبد الله الحراني؛ نزيل دمشق، وصاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها.
قيل. إن جده محمد بن الخضر حج - وله امرأة حامل - على درب تيماء، فرأى هناك جاريةً طفلة قد خرجت من خباءٍ، فلما رجع إلى حران وجد امرأته قد ولدت بنتاً، فلما رآها قال: يا تيمية، يا تيمية، فلقب بذلك.
وقال ابن النجار: ذكر لنا أن محمداً هذا كانت أمه تسمى تيمية، وكانت واعظة، فنسب إليها، وعرف بها.
ولد شيخنا بحران يوم الاثنين عاشر - وقيل ثاني عشر - ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة.
وقدم مع والده وأهله إلى دمشق وهو صغير، وكانوا قد خرجوا من حران مهاجرين بسبب جور التتار، فساروا بالليل ومعهم الكتب على عجلة لعدم الدواب؛ فكاد العدو يلحقهم، ووقفت العجلة، فابتهلوا إلى الله واستغاثوا به فنجوا وسلموا، وقدموا دمشق في أثناء سنة سبع وستين؛ فسمعوا من الشيخ زين الدين أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي جزء ابن عرفة، وغير ذلك.
ثم سمع شيخنا الكثير من: ابن أبي اليسر، والكمال بن عبد، والشيخ شمس الدين الحنبلي، والقاضي شمس الدين بن عطاء الحنفي، والشيخ جمال الدين بن الصيرفي، ومجد الدين بن عساكر، والنجيب المقداد، وابن أبي الخير، وابن علان، وأبي بكر الهروي، والكمال عبد الرحيم، وفخر الدين بن البخاري، وابن شيبان، والشرف بن القواس، وزينب بنت مكي، وخلق كثير.
وشيوخه الذين سمع منهم أزيد من مئتي شيخ.
وسمع ’’مسند الإمام أحمد’’ مرات، و’’معجم الطبراني الكبير’’، والكتب الكبار، والأجزاء، وعني بالحديث، وقرأ بنفسه الكثير، ولازم السماع مدة سنين، وقرأ الغيلانيات في مجلس، ونسخ وانتقى، كتب الطباق والأثبات، وتعلم الخط والحساب في المكتب، واشتغل بالعلوم، وحفظ القرآن، وأقبل على الفقه، وقرأ أياماً في العربية على ابن عبد القوي ثم فهمها، وأخذ يتأمل ’’كتاب سيبويه’’ حتى فهمه، وبرع في النحو، وأقبل على التفسير إقبالاً كلياً حتى حاز فيه قصب السبق، وأحكم أصول الفقه، وغير ذلك، هذا كله وهو بعد ابن بضع عشرة سنة، فانبهر الفضلاء من فرط ذكائه، وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه.
نشأ في تصونٍ تام، وعفاف وتألهٍ، واقتصاد في الملبس والمأكل، ولم يزل على ذلك خلفاً صالحاً سلفياً، براً بوالديه، تقياً، ورعاً، عابداً ناسكاً، صواماً قواماً، ذاكراً لله تعالى في كل أمر وعلى كل حال، رجاعاً إلى الله تعالى في سائر الأحوال والقضايا، وقافاً عند حدود الله تعالى وأوامره ونواهيه، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، لا تكاد نفسه تشبع من العلم، ولا تروى من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال، ولا تكل من البحث، وقل أن يدخل في علم من العلوم، في باب من أبوابه إلا ويفتح له من ذلك الباب أبواب، ويستدرك أشياء في ذلك العلم على حذاق أهله.
وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، فيتكلم ويناظر، ويفحم الكبار، ويأتي بما يتحير منه أعيان البلد في العلم، وأفتى وله نحو سبعة عشر سنة، وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت.
ومات والده - وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم - فدرس بعده بوظائفه؛ وله إحدى وعشرون سنة، واشتهر أمره، وبعد صيته في العالم، وأخذ في تفسير الكتاب العزيز أيام الجمع على كرسي من حفظه، فكان يورد ما يقوله من غير توقفٍ ولا تلعثم، وكذا كان يورد الدرس بتؤدةٍ وصوتٍ جهوري فصيح.
وحج سنة إحدى وتسعين وله ثلاثون سنة، ورجع وقد انتهت إليه الإمامة في العلم، والعمل، والزهد، والورع، والشجاعة، والكرم، والتواضع، والحلم، والأناة، والجلالة، والمهابة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، مع الصدق والأمانة والعفة والصيانة، وحسن القصد والإخلاص، والابتهال إلى الله، وشدة الخوف منه، ودوام المراقبة له، والتمسك بالأثر، والدعاء إلى الله، وحسن الأخلاق، ونفع الخلق والإحسان إليهم.
وكان - رحمه الله - سيفاً مسلولاً على المخالفين، وشجاً في حلوق أهل الأهواء والمبتدعين، وإماماً قائماً ببيان الحق ونصرة الدين، طنت بذكره الأمصار، وضنت بمثله الأعصار.
وقال شيخنا الحافظ أبو الحجاج: ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحداً أعلم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا أتبع لهما منه.
وقال العلامة كمال الدين بن الزملكاني: كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحداً لا يعرفه مثله، وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم - سواء كان من علوم الشرع أو غيرها - إلا فاق فيه أهله والمنسوبين إليه، وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف، وجودة العبارة، والترتيب والتقسيم والتبيين، ووقعت مسألة فرعية في قسمةٍ جرف فيها اختلافٌ بين المفتين في العصر؛ فكتب فيها مجلدة كبيرة، وكذلك وقعت مسألة في حد من الحدود؛ فكتب فيها أيضاً مجلدة كبيرة، ولم يخرج في كل واحدةٍ عن المسألة، ولا طول بتخليط الكلام والدخول في شيءٍ والخروج من شيء، وأتى في كل واحدةٍ بما لم يكن يجري في الأوهام والخواطر، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها.
وقرأت بخط الشيخ كمال الدين أيضاً على كتاب ’’رفع الملام عن الأئمة الأعلام’’ لشيخنا: تأليف الشيخ الإمام العالم، العلامة الأوحد، الحافظ المجتهد، الزاهد العابد، القدوة، إمام الأئمة، قدوة الأمة، علامة العلماء، وارث الأنبياء، آخر المجتهدين، أوحد علماء الدين، بركة الإسلام، حجة الأعلام، برهان المتكلمين، قامع المبتدعين، محيي السنة، ومن عظمت به لله علينا المنة، وقامت به على أعدائه الحجة، واستبانت ببركته وهديه المحجة، تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، أعلى الله مناره، وشيد به من الدين أركانه.
ماذا يقول الواصفون له | وصفاته جلت عن الحصر |
هو حجة لله قاهرةٌ | هو بيننا أعجوبة الدهر |
هو آية في الخلق ظاهرةٌ | أنوارها أربت على الفجر |
وهذا الثناء عليه وكان عمره نحو الثلاثين سنة، وقد أثنى عليه خلقٌ من شيوخه، ومن كبار علماء عصره كالشيخ شمس الدين بن أبي عمر، والشيخ تاج الدين الفزاري، وابن منجى، وابن عبد القوي، والقاضي الخويي، وابن دقيق العيد، وابن النحاس، وغيرهم.
وقال الشيخ عماد الدين الواسطي - وكان من الصلحاء العارفين - وقد ذكره: هو شيخنا السيد الإمام، الأمة الهمام، محيي السنة، وقامع البدعة، ناصر الحديث، مفتي الفرق، الفاتق عن الحقائق وموصلها بالأصول الشرعية للطالب الذائق، الجامع بين الظاهر والباطن، فهو يقضي بالحق ظاهراً وقلبه في العلى قاطن، أنموذج الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، الشيخ الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية أعاد الله بركته، ورفع إلى مدارج العلى درجته.
ثم قال في أثناء كلامه: والله ثم والله ثم والله لم أر تحت أديم السماء مثله علماً وعملاً وحالاً وخلقاً واتباعاً وكرماً وحلماً في حق نفسه، وقياماً في حق الله عند انتهاك حرماته.
ثم أطال في الثناء عليه.
وقال الشيخ علم الدين في ’’معجم’’ شيوخه: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني الشيخ تقي الدين أبو العباس، الإمام المجمع على فضله ونبله ودينه، قرأ الفقه وبرع فيه، والعربية والأصول، ومهر في علمي التفسير والحديث، وكان إماماً لا يلحق غباره في كل شيء، وبلغ رتبة الاجتهاد، واجتمعت فيه شروط المجتهدين. وكان إذا ذكر التفسير أبهت الناس من كثرة محفوظه، وحسن إيراده، وإعطائه كل قولٍ ما يستحقه من الترجيح والتضعيف والإبطال، وخوضه في كل علم، كان الحاضرون يقضون منه العجب، هذا مع انقطاعه إلى الزهد والعبادة، والاشتغال بالله تعالى، والتجرد من أسباب الدنيا، ودعاء الخلق إلى الله تعالى، وكان يجلس في صبيحة كل جمعة على الناس يفسر القرآن العظيم، فانتفع بمجلسه وبركة دعائه، وطهارة أنفاسه، وصدق نيته، وصفاء ظاهره وباطنه، وموافقة قوله لعمله، وأناب إلى الله خلقٌ كثير، وجرى على طريقة واحدة من اختيار الفقر، والتقلل من الدنيا، ورد ما يفتح به عليه.
وقال علم الدين في موضع آخر: رأيت في إجازة لابن الشهرزوري الموصلي خط الشيخ تقي الدين، وقد كتب تحته الشيخ شمس الدين الذهبي: هذا خط شيخنا الإمام، شيخ الإسلام، فرد الزمان، بحر العلوم، تقي الدين. مولده عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وست مئة، وقرأ القرآن والفقه، وناظر واستدل وهو دون البلوغ، وبرع في العلم والتفسير، وأفتى ودرس وله نحو العشرين، وصنف التصانيف، وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه، وله المصنفات الكبار التي سارت بها الركبان، ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراس وأكثر، وفسر كتاب الله تعالى مدة سنين من صدره أيام الجمع، وكان يتوقد ذكاءً، وسماعاته من الحديث كثيرة، وشيوخه أكثر من مئتي شيخ، ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وحفظه للحديث ورجاله وصحته وسقمه فما يلحق فيه، وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين - فضلاً عن المذاهب الأربعة - فليس له فيه نظير، وأما معرفته بالملل والنحل والأصول والكلام فلا أعلم له فيه نظيراً، ويدري جملةً صالحة من اللغة، وعربيته قويةٌ جداً، ومعرفته بالتاريخ والسير فعحبٌ عجيب، وأما شجاعته وجهاده وإقدامه فأمر يتجاوز الوصف ويفوق النعت، وهو أحد الأجواد الأسخياء الذين يضرب بهم المثل، وفيه زهد وقناعةٌ باليسير في المأكل والملبس.
وقال الذهبي في موضع آخر: كان آيةً في الذكاء وسرعة الإدراك، رأساً في معرفة الكتاب والسنة والاختلاف، بحراً في النقليات، هو في زمانه فريد عصره علماً وزهداً وشجاعةً وسخاءً، وأمراً بالمعروف، ونهياً عن المنكر، وكثرة تصانيف.
إلى أن قال: فإن ذكر التفسير فهو حامل لوائه، وإن عد الفقهاء، فهو مجتهدهم المطلق، وإن حضر الحفاظ نطق وخرسوا، وسرد وأبلسوا، واستغنى وأفلسوا، وإن سمي المتكلمون فهو فردهم، وإليه مرجعهم، وإن لاح ابن سينا يقدم الفلاسفة فلسهم وتيسهم، وهتك أستارهم، وكشف عوارهم، وله يدٌ طولى في معرفة العربية والصرف واللغة، وهو أعظم من أن تصفه كلمي، وينبه على شأوه قلمي، فإن سيرته وعلومه ومعارفه ومحنه وتنقلاته يحتمل أن ترصع في مجلدتين.
وقال في مكان آخر: وله خبرة تامة بالرجال، وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفةٍ بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، وبالصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه الذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته ولا يقاربه، وهو عجبٌ في استحضاره، واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند بحيث يصدق عليه أن [يقال]: ’’كل حديثٍ لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث’’؛ ولكن الإحاطة لله؛ غير أنه يغترف فيه من بحر، وغيره من الأئمة يغترفون من السواقي، وأما التفسير فمسلم إليه، وله في استحضار الآيات من القرآن - وقت إقامة الدليل بها على المسألة - قوة عجيبة، وإذا رآه المقرئ تحير فيه، ولفرط إمامته في التفسير وعظمة اطلاعه يبين خطأ كثيرٍ من أقوال المفسرين، ويوهي أقوالاً عديدة، وينصر قولاً واحداً موافقاً لما دل عليه القرآن والحديث، ويكتب في اليوم والليلة من التفسير، أو من الفقه، أو من الأصلين، أو من الرد على الفلاسفة والأوائل نحواً من أربعة كراريس أو أزيد، وما أبعد أن تصانيفه إلى الآن تبلغ خمس مئة مجلدة، وله في غير مسألةٍ مصنفٌ مفرد في مجلد.
ثم ذكر بعض مصنفاته وقال: ومنها كتاب في الموافقة بين المعقول والمنقول في مجلدتين.
طريقهم، وفرق فريقهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضهم وقاطعوه، ثم نازع طائفة أخرى ينتسبون من الفقر إلى طريقة، ويزعمون أنهم على أدق باطنٍ منها وأجلى حقيقة، فكشف تلك الطرائق، وذكر لها - على ما زعم - بوائق، فآضت إلى الطائفة الأولى من منازعيه، واستعانت بذوي الضغن عليه من مقاطعيه، فوصلوا بالأمراء أمره، وأعمل منهم في كفره فكره، فرتبوا محاضر، وألبوا الرويبضة للسعي بها بين الأكابر، وسعوا في نقله إلى حضرة المملكة بالديار المصرية، فنقل وأودع السجن ساعة حضوره واعتقل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشدوا لذلك قوماً من عمار الزوايا وسكان المدارس، من مجامل في المنازعة مخاتلٍ في المخادعة، ومن مجاهر بالتكفير مبارزٍ بالمقاطعة، يسومونه ريب المنون،
{وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون}، وليس المجاهر بكفره بأسوأ حالاً من المخاتل، وقد دبت إليه عقارب مكره، فرد الله كيد كل في نحره، ونجاه على يد من اصطفاه، والله غالب على أمره، ثم لم يخل بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم ينتقل طول عمره من محنة إلا إلى محنة، إلى أن فوض أمره لبعض القضاة فتقلد ما تقلد من اعتقاله، ولم يزل بمحبسه ذلك إلى حين ذهابه إلى رحمة الله تعالى وانتقاله، وإلى الله ترجع الأمور، وهو المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وكان يومه مشهوداً، ضاقت بجنازته الطريق، وانتابها المسلمون من كل فج عميق، يتبركون بمشهده يوم يقوم الأشهاد، ويتمسكون بشرجعه حتى كسروا تلك الأعواد.
ثم ذكر يوم وفاته ومولده، ثم قال: وقرأت على الشيخ الإمام حامل راية العلوم، ومدرك غاية المفهوم، تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله بالقاهرة، قدم علينا.
ثم ذكر حديثاً هن جزء ابن عرفة.
قلت: أملى شيخنا المسألة المعروفة بالحموية سنة ثمانٍ وتسعين في قعدةٍ بين الظهر والعصر، وهي جواب سؤال ورد من حماة في الصفات، وجرى له بسبب ذلك محنة، ونصره الله وأذل أعداءه، وما حصل له بعد ذلك إلى حين وفاته من الأمور والمحن والتنقلات تحتاج إلى عدة مجلدات، وذلك كقيامه في نوبة غازان سنة تسع، والتقائه أعباء الأمر بنفسه، واجتماعه بالملك وبنائبه خطلوشاه وببولاي، وإقدامه وجرأته على المغول، وعظيم جهاده، وفعله الخير، من إنفاق الأموال، وإطعام الطعام، ودفن الموتى، ثم توجهه بعد ذلك بعام إلى الديار المصرية، وسوقه على البريد إليها في جمعةٍ لما قدم التتار إلى أطراف البلاد، واشتد الأمر بالبلاد الشامية، واجتماعه بأركان الدولة، واستصراخه بهم، وحضهم على الجهاد، وإخباره لهم بما أعد الله للمجاهدين من الثواب، وإبدائهم له العذر في رجوعهم، وتعظيمهم له، وتردد الأعيان إلى زيارته، واجتماع ابن دقيق العيد به، وسماعه كلامه، وثنائه عليه الثناء العظيم، ثم توجهه بعد أيام إلى دمشق واشتغاله بالاهتمام لجهاد التتار، وتحريض الأمراء على ذلك، إلى ورود الخبر بانصرافهم، ثم قيامه في وقعة شقحب المشهورة سنة اثنتين وسبع مئة، واجتماعه بالخليفة والسلطان، وأرباب الحل والعقد، وأعيان الأمراء، وتحريضه لهم على الجهاد، وموعظته لهم، وما ظهر في هذه الوقعة من كراماته وإجابة دعائه، وعظيم جهاده، وقوة إيمانه، وشدة نصحه للإسلام، وفرط شجاعته، ثم توجهه بعد ذلك في آخر سنة أربع لقتال الكسروانيين وجهادهم، واستئصال شأفتهم، ثم مناظرته للمخالفين سنة خمسٍ في المجالس التي عقدت له بحضرة نائب السلطنة الأفرم، وظهوره عليهم بالحجة والبيان، ورجوعهم إلى قوله طائعين ومكرهين، ثم توجهه بعد ذلك في السنة المذكورة إلى الديار المصرية صحبة قاضي الشافعية، وعقد مجلس له حين وصوله بحضور القضاة وأكابر الدولة، ثم حبسه في الجب بقلعة الجبل، ومعه أخواه سنةً ونصفاً، ثم خروجه بعد ذلك، وعقد مجالس له ولخصومه وظهوره عليهم، ثم إقرائه للعلم وبثه ونشره، ثم عقد مجلس له في شوال من سنة سبع لكلامه في الاتحادية وطعنه عليهم، ثم الأمر بتسفيره إلى الشام على البريد، ثم رده من مرحلةٍ وسجنه بحبس القضاة سنةً ونصفاً، وتعليمه أهل الحبس ما يحتاجون إليه من أمور الدين، ثم إخراجه منه، وتوجهه إلى الإسكندرية، وجعله في برج حسنٍ منها ثمانية أشهرٍ يدخل إليه من شاء، ثم توجهه إلى مصر، واجتماعه بالسلطان في مجلس حفل فيه القضاة وأعيان الأمراء، وإكرامه له إكراماً عظيماً، ومشاورته له في قتل بعض أعدائه، وامتناع الشيخ من ذلك، وجعله كل من آذاه في حل ثم سكناه بالقاهرة، وعوده إلى نشر العلم ونفع الخلق، وما جرى بعد ذلك من قضية البكري وغيرها، ثم توجهه بعد ذلك إلى الشام صحبة الجيش المصري قاصداً للغزاة بعد غيبته عن دمشق سبع سنين وسبع جمع، وتوجهه في طريقه إلى بيت المقدس، ثم ملازمته بعد ذلك بدمشق لنشر العلم، وتصنيف الكتب، إفتاء الخلق، إلى أن تكلم في مسألة الحلف بالطلاق، فأشار عليه بعض القضاة بترك الإفتاء بها في سنة ثمان عشرة؛ فقبل إشارته، ثم ورد كتاب السلطان بعد أيام بالمنع من الفتوى عليها، ثم عاد الشيخ إلى الإفتاء بها وقال: لا يسعني كتمان العلم. وبقي كذلك مدةً إلى أن حبسوه بالقلعة خمسة أشهر وثمانية عشر يوماً، ثم أخرج، ورجع إلى عادته من الأشغال وتعليم العلم، ولم يزل كذلك إلى أن ظفروا له بجواب يتعلق بمسألة شد الرحال إلى قبور الأنبياء والصالحين، كان قد أجاب به من نحو عشرين سنة؛ فشنعوا عليه بسبب ذلك، وكبرت القضية، وورد مرسوم السلطان في شعبان من سنة ست وعشرين بجعله في القلعة؛ فأخليت له قاعة حسنة، وأجري إليها الماء، وأقام فيها ومعه أخوه يخدمه، وأقبل في هذه المدة على العبادة والتلاوة وتصنيف الكتب، والرد على المخالفين، وكتب على تفسير القرآن العظيم جملةً كبيرة تشتمل على نفائس جليلة، ونكتٍ دقيقة، ومعانٍ لطيفة، وأوضح مواضع كثيرة أشكلت على خلقٍ من المفسرين، وكتب في المسألة التي حبس بسببها مجلدات عدة، وظهر بعض ما كتبه واشتهر، وآل الأمر إلى أن منع من الكتابة والمطالعة، وأخرجوا ما عنده من الكتب، ولم يتركوا عنده دواةً ولا قلماً ولا ورقة، وكتب عقيب ذلك بفحمٍ يقول إن إخراج الكتب من عنده من أعظم النعم. وبقي أشهراً على ذلك، وأقبل على التلاوة والعبادة والتهجد حتى أتاه اليقين، فلم يفجأ الناس إلا نعيه، وما علموا بمرضه، وكان قد مرض عشرين يوماً، فتأسف الخلق عليه، وحضر جمعٌ كبير، فأذن لهم في الدخول، وجلس جماعةٌ عنده قبل الغسل، وقرؤوا القرآن، وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثم انصرفوا، وحضر جماعةٌ من النساء ففعلن مثل ذلك، ثم انصرفن، واقتصر على من يغسله ويعين عليه في غسله، فلما فرغ من ذلك أخرج وقد اجتمع الناس بالقلعة والطريق إلى جامع دمشق، وامتلأ الجامع وصحنه والكلاسة وباب البريد وباب الساعات إلى اللبادين والفوارة، وحضرت الجنازة في الساعة الرابعة من النهار أو نحو ذلك، ووضعت في الجامع، والجند يحفظونها من الناس من شدة الزحام، وصلي عليه أولاً بالقلعة، تقدم في الصلاة عليه الشيخ محمد بن تمام، ثم صلي عليه بجامع دمشق عقب صلاة الظهر، وحمل من باب البريد، واشتد الزحام، وألقى الناس على نعشه مناديلهم وعمائمهم للتبرك، وصار النعش على الرؤوس، تارة يتقدم وتارة يتأخر، وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلها من شدة الزحام، وكل باب أعظم زحمةً من الآخر، ثم خرج الناس من أبواب البلد جميعها من شدة الزحام، لكن كان المعظم من الأبواب الأربعة باب الفرج الذي أخرجت منه الجنازة، ومن باب الفراديس وباب النصر وباب الجابية، وعظم الأمر بسوق الخيل، وتقدم في الصلاة عليه هناك أخوه زين الدين، وحمل إلى مقبرة الصوفية ؛ فدفن إلى جانب أخيه الإمام شرف الدين رحمهما الله، وكان دفنه وقت العصر أو قبلها بيسير، وغلق الناس حوانيتهم، ولم يتخلف عن الحضور، إلا نفرٌ قليل، أو من عجز للزحام، وحضرها من الرجال والنساء أكثر من مئتي ألف، وشرب جماعةٌ الماء الذي فضل من غسله، واقتسم جماعة بقية السدر الذي غسل به، وقيل إن الطاقية التي كانت على رأسه دفع فيها خمس مئة درهم، وقيل إن الخيط الذي فيه الزئبق الذي في عنقه لأجل القمل دفع فيه مئة وخمسون درهماً، وحصل في الجنازة ضجيجٌ وبكاء عظيم، وتضرع كثير، وكان وقتاً مشهوداً، وختمت له ختم كثيرةٌ بالصالحية والبلد، وتردد الناس إلى قبره أياماً كثيرة ليلاً ونهاراً، ورؤيت له مناماتٌ كثيرة حسنةٌ، ورثاه جماعةٌ بقصائد جمةٍ.
وكانت وفاته ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة، رحمه الله، ورضي عنه، وأثابه الجنة برحمته."