الشيخ صدر الدين محمد بن عمر بن مكي بن عبد الصمد الشيخ الإمام العالم العلامة ذو الفنون البارع صدر الدين ابن المرحل ويعرف في الشام بابن وكيل بيت المال المصري الأصل العثماني الشافعي أحد الأعلام وفريد أعاجيب الزمان في الذكاء والحافظة والذاكرة.
كم مقفل ضل فيه العقل فانفرجت | أرجاؤه لحجاه عن معانيه |
يفتي فيروى غليل الدين من حصر | أدناه نقلا وقد شطت مراميه |
ومؤنق قد سقاه غيث فطنته | مزنا أيادي رياح الفكر تمريه |
ولد في شوال سنة خمس وستين بدمياط وتوفي بالقاهرة ودفن عند الشافعي سنة ست عشرة وسبع مائة.
رثاه جماعة في الشام ومصر وحصل التأسف عليه، وقال الشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية لما بلغته وفاته: أحسن الله عزاء المسلمين فيك يا صدر الدين. أنشدني من لفظه لنفسه القاضي شمس الدين محمد بن داود ابن الحافظ ناظر جيش صفد:
ما مات صدر الدين لكنه | لما عدا جوهرة فاخره |
لم تعرف الدنيا له قيمة | فعجل السير إلى الآخره |
وهو مأخوذ من قول القائل:
قد كان صاحب هذا القبر جوهرة | غراء قد صاغها الباري من النطف |
عزت فلم تعرف الأيام قيمتها | فردها غيرة منه إلى الصدف |
نشأ بدمشق وتفقه بوالده وبالشيخ شرف الدين المقدسي وأخذ الأصول عن صفي الدين الهندي وسمع من القاسم الإربلي والمسلم بن علان وجماعة، وكان له عدة محفوظات قيل أنه حفظ المفصل في مائة يوم ويوم والمقامات الحريرية في خمسين يوما وديوان المتنبي على ما قيل في جمعة واحدة، وكان من أذكياء زمانه فصيحا مناظرا لم يكن أحد من الشافعية يقوم بمناظرة الشيخ تقي الدين ابن تيمية غيره، ناظره يوما في الكلاسة فاضطر الكلام الشيخ تقي الدين إلى أحد الحاضرين وقال له: هذا الذي أقوله ما هو الصواب؟ فأنشده صدر الدين:
إن انتصارك بالأجفان من عجب | وهل رأى الناس منصورا بمنكسر |
وجرت بينهما مناظرات عديدة في غير موضع.
وتخرج به الأصحاب والطلبة وكان بارعا في العقليات وأما الفقه وأصول الفقه فكانا قد بقيا له طباعا لا يتكلفهما، أفتى ودرس وبعد صيته، ولي مشيخة دار الحديث الأشرفية سبع سنين وجرت له أمور وتنقلات وكان مع اشتغاله يتنزه ويعاشر ونادم الأفرم نائب دمشق ثم توجه إلى مصر وقام بها إلى أن عاد السلطان من الكرك في سنة تسع وسبع مائة، فجاء بعدما خلص من واقعة الجاشنكير -فإنه نسب إليه منها أشياء وعزم الصاحب فخر الدين ابن الخليلي على القبض عليه تقربا إلى خاطر السلطان وهو بالرمل فعفا عنه السلطان- وجاء إلى دمشق.
فعمل عليه زمان قراسنقر وتوجه إلى حلب وأقرأ بها ودرس وأقبل عليه الحلبيون إقبالا زائدا وعاشرهم وخالطهم، قال: وصلني من مكارمات الحلبيين في مدة عشر أشهر فوق الأربعين ألف درهم، وأقبل عليه نائبها أسندمر.
وكان محفوظا لم يقع بينه وبين أحد من الكبار إلا وعاد من أحب الناس فيه، وكان حسن الشكل تام الخلق حسن البزة حلو المجالسة طيب المفاكهة وعنده كرم مفرط كل ما يحصل له ينفقه على خلطائه وخلصائه بنفس متسعة ملوكية وكان يتردد إلى الصلحاء ويلتمس دعاءهم ويطلب بركتهم.
أخبرني من لفظه الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن العسجدي الشافعي قال: كنت معه وكانت ليلة عيد فوقف له فقير وقال: شيء لله، فالتفت إلي وقال: ايش معك؟ فقلت: مائتا درهم، فقال: ادفعها إلى هذا الفقير، فقلت له: يا سيدي الليلة العيد وما معنا نفقة غد، فقال: امض إلى القاضي كريم الدين الكبير وقل له: الشيخ يهنيك بهذا العيد، فلما رآني كريم الدين قال: كأن الشيخ يعوز نفقة في هذا العيد، ودفع إلي ألفي درهم للشيخ وثلاث مائة درهم لي، فلما حضرت إلى الشيخ وعرفته ذلك قال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ’’الحسنة بعشرة’’ مائتان بألفين. وحكى لي عنه غير واحد ممن كان يختص به مكارم كثيرة ولطفا زائدا وحسن عشرة، وأما أوائل عشرته فما كان لها نظير لكنه ربما يحصل عنده ملل في آخر الحال حتى قال فيه القائل:
وداد ابن الوكيل له شبيه | بلبادين جلق في المسالك |
فأوله حلي ثم طيب | وآخره زجاج مع لوالك |
وشعره الجيد منه مليح إلى الغاية وربما يقع فيه اللحن الخفي وكان ينظم الشعر والمخمس والدوبيت والموشح والزجل وغير ذلك من أنواع النظم ويأتي فيه على اختلاف الأنواع بالمحاسن.
ومن تصانيفه ما جمعه في سفينة سماه الأشباه والنظائر في الفقه يقال أنه شيء غريب، وعمل مجلدة في السؤال الذي حضر من عند أسندمر نائب طرابلس في الفرق بين الملك والنبي والشهيد والولي والعالم.
ولما كان بحلب حضر الأمير سيف الدين أرغون الدوادار نائب السلطان أظنه متوجها إلى مهنا بن عيسى فاجتمع به هناك وقدم له ربعة عظيمة كان قد وهبها له أسندمر نائب حلب فقال: هذه ما تصلح إلا لمولانا السلطان، ووعده بطلبه إلى الديار المصرية ووفى له بوعده وطلب إلى مصر ولم يزل بها في وجاهة وحرمة إلى أن توفي رحمه الله. وجهزه السلطان رسولا إلى مهنا مع الأمير علاء الدين الطنبغا الحاجب فقال الشيخ: إنه حصل لي تلك السفرة ثلاثون ألف درهم.
ومن شعره قصيدة بائية أولها:
ليذهبوا في ملامي أية ذهبوا | في الخمر لا فضة تبقى ولا ذهب |
لا تأسفن على مال تمزقه | أيدي سقاة الطلا والخرد العرب |
فما كسوا راحتي من راحها حللا | إلا وعروا فؤادي الهم واستلبوا |
راح بها راحتي في راحتي حصلت | فتم عجبي بها وازداد لي العجب |
أن ينبع الدر من حلو مذاقته | والتبر منسبك في الكأس منسكب |
وليست الكيميا في غيرها وجدت | وكل ما قيل في أبوابها كذب |
قيراط خمر على القنطار من حزن | يعيد ذلك أفراحا وينقلب |
عناصر أربع في الكأس قد جمعت | وفوقها الفلك السيار والشهب |
ماء ونار هواء أرضها قدح | وطوفها فلك والأنجم الحبب |
ما الكأس عندي بأطراف الأنامل بل | بالخمس تقبض لا يحلو لها الهرب |
شججت بالماء منها الرأس موضحة | فحين أعقلها بالخمس لا عجب |
قلت: لو لم يقل الشيخ صدر الدين من الشعر إلا هذا البيت لكان قد أتى بشيء غريب نهاية في البديع لقد غاص فيه على المعنى ودق تخيله فيه
وما تركت بها الخمس التي وجبت | وإن رأوا تركها من بعض ما يجب |
وإن أقطب وجهي حين تبسم لي | فعند بسط الموالي يحفظ الأدب |
هذا البيت أيضا بديع المعنى دقيقه وقد اعتذر عن تقطيبه بأحسن عذر وأوضحه عما أشار إليه الشعراء في ذلك وقبحوا فعله مثل قول ابن أبي الحداد:
بالراح رح فهي المنى | وعلى جماع الكأس كس |
لا تلقها إلا ببشـ | ـرك فالقطوب من الدنس |
ما أنصف الصهباء من | ضحكت إليه وقد عبس |
وإذا سكرت فغن لي | ذهب الرقاد فما يحس |
وما أحسن قول ابن رشيق القيرواني:
أحب أخي وإن أعرضت عنه | وقل على مسامعه كلامي |
ولي في وجهه تقطيب راض | كما قطبت في وجه المدام |
وتتمة أبيات صدر الدين:
عاطيتها من بنات الترك عاطية | لحاظها للأسود الغلب قد غلبوا |
هيفاء جارية للراح ساقية | من فوق ساقية تجري وتنسكب |
من وجهها وتثنيها وقامتها | تخشى الأهلة والقضبان والكتب |
يا قلب أردافها مهما مررت بها | قف لي عليها وقل: لي هذه الكثب |
وإن مررت بشعر فوق قامتها | بالله قل لي: كيف البان والعذب |
تريك وجنتها ما في زجاجتها | لكن مذاقته للريق تنتسب |
تحكي الثنايا الذي أبدته من حبب | لقد حكيت ولكن فاتك الشنب |
في هذه الأبيات تضمين إعجاز أبيات من قصيدة ابن الخيمي الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى.
وقال أيضا:
سرى وستور الهم بالكأس تهتك | وساكن وجدي بالغناء يحرك |
فعاطيته كأسا فحيى بفضلها | ومازج ذاك الفضل ريق ممسك |
أرقت دم الراووق حلا لأنني | رأيت صليبا فوقه فهو مشرك |
وسالت دموع العين منه وكلما | بكى بالدما مما جرى منه أضحك |
وزوجت بنت الكرم بابن غمامة | فصح على التعليق والشرط أملك |
وهذه القصيدة والتي قبلها حذفت منهما جملة لأن هذا خلاصة ما فيهما. وقال:
وعارض قد لام في عارض | وطاعن يطعن في سنه |
وقال لي: قد طلعت ذقنه | فقلت: لا أفكر في ذقنه |
وقال وهو في غاية الحسن:
شب وجدي بشائب | من سنا البدر أوجه |
كلما شاب ينحني | بيض الله وجهه |
وقال:
ولما جلا فصل الربيع محاسنا | وصفق ماء النهر إذ غرد القمري |
أتاه النسيم الرطب رقص دوحه | فنقط وجه الماء بالذهب المصري |
وقال:
عيرتني بالسقم طرفك مشبهي | وكذاك خصرك مثل جسمي ناحلا |
وأراك تشمت إذ أتيتك سائلا | لا بد أن يأتي عذارك سائلا |
وقال في مليح به يرقان:
رأيت في طرفه اصفرارا | سبا فؤادي فقلت مهلا |
أيا مليك الأنام حسنا | العفو من سيفك المحلى |
قلت: وهذا مثل قول الوداعي:
قال قوم: قد شانه يرقان | قلت: أخطأتم وحاشى وكلا |
إنما الخد واللواحظ منه | مصحف مذهب وسيف محلى |
وقال:
أقصى مناي أن أمر على الحمى | ويلوح نور رياضه فيفوح |
حتى أري سحب الحمى كيف البكا | وأعلم الورقاء كيف تنوح |
وقال أيضا:
بعيشك خل عاذلتي تلمني | ومنها في ملامتها ومني |
فإن نجحت فلا نجحت طريقي | وأدركت المنية لا التمني |
وإن خابت فلا خابت طريقي | وإن كان الهوى ثانيه عني |
فيا غصن النقا ويحل قدرا | قوامك أن أشبهه بغصن |
لحاظك بالمها فتكت عنادا | ولا تسأل عن الظبي الأغن |
وعطفك قد كسا الأغصان وجدا | فمالت بالهوى لا بالتثني |
ورقت ورقها فبكت عليها | وفي الأفنان أبدت كل فن |
وقد طارحتها شجنا فلما | بكيت صبابة أخذت تغني |
وقال أيضا:
يا ليلة فيها الأمان والمنى | وكل ما أطلبه تهيا |
لا تقصري فالصبح قد شربته | مدامة عنقودها الثريا |
وقال أيضا:
تلك المعاطف أم غصون البان | لعبت ذؤابتها على الكثبان |
وتضرجت تلك الخدود فوردها | قد شق قلب شقائق النعمان |
ما يفعل الموت المبرح في الورى | ما تفعل الأحداق في الأبدان |
أخليل قلبي وهو يوسف عصره | قلبي الكليم رميت في النيران |
قطعته مذ كان قلبا طائرا | ودعوته فأتى بغير توان |
يا نور عيني لا أراك وهكذا | إنسان عيني لا يراه عياني |
وقال أيضا:
أخفيت حبك عن جميع جوانحي | فوشت عيوني والوشاة عيون |
ووددت أن جوانحي وجوارحي | مقل تراك وما لهن جفون |
ووددت دمع الخافقين لمقلتي | حتى عزيز الدمع فيك يهون |
يا ليت قيسا في زمان صبابتي | حتى أريه العشق كيف يكون |
وقال أيضا:
يا وجنة هي جنة قد زخرفت | وردا ومن آس العذار تحصرت |
عين بنور جمال وجهك متعت | وسوى جمالك أبصرت لا أبصرت |
وقال في مليح يلقب بالحامض:
وبديع الجمال معتدل القا | مة كالغصن والقنا الأملود |
لقبوه بحامض وهو حلو | قول من لم يصل إلى العنقود |
وقال أيضا:
راح بها الأعمى يرى مع العمى | وهاك برهانا على هذي المدح |
الخمر للأقداح قلب دائما | والحدق انظرها تجد قلب القدح |
وقال أيضا:
قال لي من أحب والبدر يبدو | من خلال السحاب ثم يغيب: |
ما حكى البدر؟ قلت: وجهك لما | يختفي عندما يلوح الرقيب |
وقال أيضا:
كأنما البرق خلال السما | من فوق غيم ليس بالكابي |
طراز تبر في قبا أزرق | من تحته فروة سنجاب |
وقال أيضا:
يا غاية منيتي ويا معشوقي | من بعدك لم أمل إلى مخلوق |
يا خير نديم كان لي يؤنسني | من بعدك قد صلبت على الراووق |
وقال أيضا:
في خدك خط مشرف الصدغ ستور | والشاهد ناظر على الفتك يدور |
يا عارضه بالشرع لا تقتلني | الشاهد فاتك وذا خطك زور |
وقال أيضا:
تعطف على مهجة ظاميه | وتقذفها عبرة هاميه |
فقد طال سقمي فقل لي متى | تجيء إلى عبدك العافيه |
وأرخصت دمعي يوم النوى | لأجل سوالفك الغاليه |
فصبرا على ما قضى لم أقل | فيا ليتها كانت القاضيه |
ونحن عبيدك ذبنا أسا | فرفقا على رقة الحاشيه |
فقال بعيني أقيك الردى | فقلت على عينك الواقيه |
فشنف سمعي بهذا الحديث | فما ذكرت قرطها ماريه |
فيا عاذلي لو دعاك الهوى | لقد كنت تسمع يا ساريه |
وقال أيضا:
من دمي أنت كنت في أوسع الحـ | ـل ومني خذي ثواب الشهاده |
واحمليني على الترائب مهلا | واحسبي أنني خييط القلاده |
وقال أيضا:
تغنت في ذرى الأوراق ورق | ففي الأفنان من طرب فنون |
وكم بسمت ثغور الزهر عجبا | وبالأكمام كم رقصت غصون |
وقال أيضا رحمه الله تعالى:
وبي من قسا قلبا ولان معاطفا | إذا قلت أدناني يضاعف تبعيدي |
أقر برق إذ أقول أنا له | وكم قالها أيضا ولكن لتهديدي |
قلت: من العجيب أن الباخرزي ذكر في الدمية ترجمة الفقيه أبي نصر عبد الوهاب المالكي أورد فيها قول الشيخ أبي عامر الجرجاني:
عذيري من شادن أغضبوه | فجرد لي مرهفا باتكا |
وقال أنا لك يا ابن الوكيل | وهل لي رجاء سوى ذالكا |
أيها الواقف أنعم النظر في ما أوردته وتعجب من هذا الاتفاق وكون صدر الدين ابن الوكيل أخذ هذا المعنى الذي له في البيتين الأولين من قول الجرجاني، والجرجاني أتى بالقول بالموجب في بيتيه خفيا لأنه قال غضب وجر المرهف وقال أنا لك ابن الوكيل وهذا بقرينة تجريد المرهف لفظ تهديد فقلبه الجرجاني وقال بموجبه ونقله إلى التمليك، فأتى به الشيخ صدر الدين واضحا جليا صريحا ظاهرا، ومحل التعجب قوله أنا لك يا ابن الوكيل كأن هذا المعنى قال أنا لك يا ابن الوكيل تنظمني فيجيء أحسن وأبين وتكون أنت أحق بي من الجرجاني، وهذا اتفاق عجيب إلى الغاية ما مر بي مثله والظاهر أن الشيخ صدر الدين لما وقف على هذا المعنى تنبه له وأخذه فكان له وهو به أحق وهذا المعنى قد ابتكره الجرجاني أبو عامر وترك فيه فضلة فجاء الشيخ صدر الدين رحمه الله تعالى وجوده ولم يبق لأحد بعده مطمح إلى زيادة ولا مطمع في إفادة وما بقي إلا اختصار ألفاظه فقط فقلت:
قال حبي أنا له | ولكم قلت سرمدا |
أنا للملك قلتها | وهو للغيظ هددا |
وقال الشيخ صدر الدين:
غازل وخذ من نرجس من لحظه | منثور دمع كلهن نظام |
واحذر إذا بعث السلام إليك من | نبت العذار فإنه نمام |
وقال أيضا دوبيت:
كم قال معاطفي حكتها الأسل | والبيض سرقن ما حوته المقل |
الآن أوامري عليهم حكمت | البيض تحد والقنا تعتقل |
وقال أيضا:
عانقت وبالعناق يشفى الوجد | حتى شفي الصب ومات الصد |
من أخمصه لثما إلى وجنته | حتى اشتكت القضب وضج الورد |
وقال:
بكف الثريا وهي جذما تقاس لي | شقاق دجى مدت من الشرق للغرب |
ولو ذرعوها بالذراع لما انقضت | فما تنقضي يا ليل أو ينقضي نحبي |
وأنا شديد التعجب منه رحمه الله تعالى فإنه لم يكن عاجزا عن النظم الجيد وبعد هذا كان يأخذ أشياء من قصائد ومقاطيع ويدعيها، من ذلك أنه امتدح السلطان بقصيدة عندما فرغ القصر الأبلق من العمارة بقلعة الجبل وهي بمجموعها لابن التعاويذي أولها:
لولاك يا خير من يمشي على قدم | خاب الرجاء وماتت سنة الكرم |
منها:
بنيت دارا قضى بالسعد طالعها | قامت لهيبتها الدنيا على قدم |
فغيره وقال: بنيت قصرا. وكان ينظم الشاهد شعرا على الفور إذا احتاج إليه وينشده تأييدا لما قاله وادعاه، من ذلك ما أخبرني به قاضي القضاة العلامة تقي الدين أبو الحسن السبكي عمن أخبره قال: ادعى يوما في الطائفة المنسوبة إلى ابن كرام أنهم الكرامية بتخفيف الراء فقال الحاضرون: المعروف فيهم تشديد الراء، فقال: لا التخفيف والدليل عليه قول الشاعر:
الفقه فقه أبي حنيفة وحده | والدين دين محمد بن كرام |
انتهى. قلت: وهذا في البديهة مخرع لا يتفق ذلك لأحد غيره من حسن هذا النظم وإبرازه في هذا القالب، هكذا شاعت هذه الواقعة عن الشيخ صدر الدين في الديار المصرية وكنا نعتقد صحتها دهرا حتى ظفرنا بالبيت المذكور وهو من جملة بيتين من شعر المتقدمين والأول منهما:
إن الذين لجهلهم لا يقتدوا | في الدين بابن كرام غير كرام |
وكان الظفر بهذين البيتين في سنة أربع وأربعين وسبع مائة.
وجمع موشحاته وسمى الكتاب طراز الدار وهذا في غاية الحسن لأنه أخذ اسم كتاب ابن سناء الملك وهو دار الطراز فقلبه وقال طراز الدار لأن طراز الدار أحسن ما فيها، وكان الأدب قد امتزج بلحمه ودمه.
حكى لي قاضي القضاة تقي الدين أبو الحسن علي السبكي الشافعي قال: دخلت عليه في مرضه الذي توفي فيه فقلت: كيف تجدك؟ أو كيف حالك؟ فأنشدني:
ورجعت لا أدري الطريق من البكا | رجعت عداك المبغضون كمرجعي |
فكان ذلك آخر عهدي به. أخبرني القاضي شهاب الدين ابن فضل الله قال: وكان عارفا بالطب والأدوية علما لا علاجا، فاتفق أن شكا إليه الأفرم سوء هضم فركب له سفوفا وأحضره، فلما استعمل منه أفرط به الإسهال جدا فأمسكه مماليك الأفرم ليقتلوه، وأحضر أمين الدين سليمان الحكيم لمعالجة الأفرم فعالجه باستفراغ بقية المواد التي اندفعت وأعطاه أمراق الفراريج ثم أعطاه الممسكات حتى صلح حاله، فلما صلحت حاله سأل الأفرم عن الشيخ صدر الدين فأخبره المماليك ما فعلوه به فأنكر ذلك عليهم ثم أحضره وقال له: يا صدر الدين جئت تروحني غلطا، وهو يضحك فقال له سليمان الحكيم: يا صدر الدين اشتغل بفقهك ودع الطب فغلط المفتي يستدرك وغلط الطبيب ما يستدرك، فقال له الأفرم: صدق لك لا تخاطر، ثم قال لمماليكه: مثل صدر الدين ما يتهم والله الذي جرى عليه منكم أصعب مما جرى علي وما أراد والله إلا الخير، فقبل يده وبعث إليه الأفرم لما انصرف جملة من الدراهم والقماش.
وأخبرني أيضا أن الشيخ تقي الدين ابن تيمية كان يقول عنه: ابن الوكيل ما كان يرضى لنفسه بأن يكون في شيء إلا غاية، ثم يعدد أنواعا من الخير والشر فيقول: في كذا كان غاية وفي كذا كان غاية.. قال: ولما أنكر البكري استعارة البسط والقناديل من الجامع العمري بمصر لبعض كنائس القبط في يوم من أيام مهماتهم ونسبت هذه الفعلة إلى كريم الدين وفعل ما فعل ثم طلع إلى حضرة السلطان وكلمه في هذا وأغلظ في القول له وكاد يجوز ذلك على السلطان لو لم يحل بعض القضاة الحاضرين على البكري وقال: ما قصر الشيخ كالمستزري به والمستهزئ بنكيره، فحينئذ أغلظ السلطان في القول للبكري فخارت قواه وضعف ووهن فازداد تأليب بعض الحاضرين عليه فأمر السلطان بقطع لسانه، فأتى الخبر إلى الشيخ صدر الدين وهو في زاوية السعودي فطلع إلى القلعة على حمار فاره اكتراه قصدا للسرعة فرأى البكري وقد أخذ ليمضي فيه ما أمر به فلم يملك دموعه أن تساقطت وفاضت على خده وبلت لحيته فاستمهل الشرطة عليه ثم أنه صعد الإيوان والسلطان جالس به وتقدم إلى السلطان بغير استئذان وهو باك فقال له السلطان: خير يا صدر الدين، فزاد بكاؤه ونحيبه ولم يقدر على مجاوبة السلطان فلم يزل السلطان يرفق به ويقول له: خير ما بك، إلى أن قدر على الكلام فقال له: هذا البكري من العلماء الصلحاء وما أنكر إلا في موضع الإنكار ولكنه لم يحسن التلطف، فقال له السلطان: إي والله أنا أعرف هذا ما هذا إلا حطبة، ثم انفتح الكلام ولم يزل الشيخ صدر الدين يرفق السلطان ويلاطفه حتى قال له: خذه وروح، فأخذه وانصرف، هذا كله والقضاة حضور وأمراء الدولة ملء الإيوان ما فيهم من ساعده ولا أعانه إلا أمير واحد شذ عني اسمه.
وحدث عنه من كان يصحبه في خلواته أنه كان إذا فرغ مما هو فيه قام فتوضأ ومرغ وجهه على التراب وبكى حتى يبل ذقنه بالدموع ويستغفر الله ويسأله التوبة حتى قال بعضهم: لقد رأيته وقد قام من سجوده ولصق بجدار الدار كأنه اسطوانة ملصقة.
وللشيخ صدر الدين ابن الوكيل رحمه الله تعالى ديوان موشحات منها قوله يعارض السراج المحار:
ما أخجل قده غصون البان=بين الورق=إلا سلب المها مع الغزلان | حسن الحدق |
#قاسوا غلطا من حاز حسن البشر
#بالبدر يلوح في دياجي الشعر
#لا كيد ولا كرامة للقمر
الحب جماله مدى الأزمان | معناه بقي |
وازداد سنا وخص بالنقصان | بدر الأفق |
#الصحة والسقام في مقلته
#والجنة والجحيم في وجنته
#من شاهده يقول من دهشته
هذا وأبيك فر من رضوان | تحت الغسق |
للأرض يعيذه من الشيطان | رب الفلق |
#قد أنبته الله نباتا حسنا
#وازداد على المدى سناء وسنا
#من جاد له بروحه ما غبنا
قد زين حسنه مع الإحسان | حسن الخلق |
لو رمت لحسنه شبيها ثان | لم يتفق |
#في نرجس لحظه وزهر الثغر
#روض نضر قطافه بالنظر
#قد دبج خده بنبت الشعر
فالورد حواه ناعم الريحان | بالظل سقي |
والقد يميل ميلة الأغصان | للمعتنق |
#أحيى وأموت في هواه كمدا
#من مات جوى في حبه قد سعدا
#يا عاذل لا أترك وجدي أبدا
لا تعذلني فكلما تلحاني | زادت حرقي |
يستأهل من يهم بالسلوان | ضرب العنق |
#القد وطرفه قناة وحسام
#والحاجب واللحاظ قوس وسهام
#والثغر مع الرضاب كأس ومدام
والدر منظم مع المرجان | في فيه نقي |
قد رصع فوقه عقيق قان | نظم النسق |
وأما الموشحة التي للسراج المحار فهي:
مذ شمت سنا البروق من نعمان | باتت حدقي |
تذكي بمسيل دمعها الهتان | نار الحرق |
#ما أومض بارق الحمى أو خفقا
#إلا وأجد لي الأسى والحرقا
#هذا سبب لمحنتي قد خلقا
أمسي لوميضه بقلب عان | بادي القلق |
لا أعلم في الظلام ما يغشاني | غير الأرق |
#أضنى جسدي فراق إلف نزحا
#أفنى جلدي ودمع عيني نزحا
#كم صحت وزند لوعتي قد قدحا
لم تبد يد السقام من جثماني | غير الرمق |
ما أصنع والسلو مني فان | والوجد بقي |
#أهوى قمرا حلو مذاق القبل
#لم يكحل طرفه بغير الكحل
#تركي اللحظات بابلي المقل
زاهي الوجنات زائد الإحسان | حلو الخلق |
عذب الرشفات ساحر الأجفان | ساجي الحدق |
#ما حط لثامه وأرخى شعره
#أو هز معاطفا رشاقا نضره
#إلا ويقول كل راء نظره
هذا قمر بدا بلا نقصان=تحت الغسق |
|
أو شمس ضحى في غصن فينان | غض الورق |
#ما أبدع معنى لاح في صورته
#أيناع عذاره على وجنته
#لما سقي الحياة من ريقته
فاعجب لنبات خده الريحان | من حيث سقي |
يضحي ويبيت وهو في النيران | لم يحترق |
والمحار عارض بهذا قول أحمد بن حسن الموصلي وهو:
مذ غردت الورق على الأغصان | بين الورق |
جرت دمعي وفي فؤادي العاني | أذكت حرقي |
#لما برزت في الدوح تشدو وتنوح
#أضحى دمعي بساحة السفح سفوح
#والفكر نديمي في غبوق وصبوح
قد هيجت الذي به أضناني | منه قلقي |
والقلب له من بعد صبري الفاني | والوجد بقي |
#ما لاح بريق رامة أو لمعا
#إلا وسحاب عبرتي قد همعا
#والجسم على المزمع هجري زمعا
بالنازح والنازح عن أوطاني | ضاقت طرقي |
ما أصنع قد حملت من أحزاني | ما لم أطق |
#قلبي لهوى ساكنه قد خفقا
#والوجد حبيس واصطباري طلقا
#والصامت من سري بدمعي نطقا
في عشق منعم من الولدان | أصبحت شقي |
من جفوته ولم يزر أجفاني | غير الأرق |
#فالورد مع الشقيق من خديه
#قد صانهما النرجس من عينيه
#والآس هو السياج من صدغيه
واللفظ وريق الأغيد الروحاني | عند الحذق |
حلوان على غصن من المران | غض رشق |
#الصاد من المقلة من حققه
#والنون من الحاجب من عرقه
#واللام من العارض من علقه
قد سطره بالقلم الريحاني | رب الفلق |
بالمسك على الكافور كالعنوان | فوق الورق |
#الملحة لمع الصلت بالإيضاح
#والغرة بالتبيان كالمصباح
#والمنطق نثر الدر بالإصلاح
والثغر هو الصحاح كالعقيان | كالعقد نقي |
والرد مع الخلاف للسلوان | عنه خلقي |
#ما أبدع وضع الخال في وجنته
#خط الشكل الرفيع من نقطته
#قد حير إقليدس في هيئته
كالعنبر في نار الأسيل القاني | للمنتشق |
فاعجب لعبير وهو في النيران | لم يحترق |
وقلت أنا معارضا لذلك وزدته توشيح الحشوات:
ما هز قضيب قده الريان | للمعتنق |
إلا استترت معاطف الأغصان | تحت الورق |
أفدي قمرا لم يبق عندي رمقا | لما رمقا |
قد زاد صبابتي به والحرق | شوقا وشقا |
لو فوق سهم جفنه أو رشقا | في يوم لقا |
أبطال وغى تميس في غدران | نسج الخلق |
أبصرتهم في معرك الفرسان | صرعى الحدق |
بدر منعته قسوة الأتراك | رحمى الشاكي |
من ناظره حبائل الشراك | والإشراك |
كم ضل بها قلبي من النساك | والفتاك |
قاني الوجنات ينتمي للقان | صعب الخلق |
إن قلت أموت في الهوى ناداني | هذا يسقي |
كم جاء جبينه الدجا واقترضا | صبحا فأضا |
كم جرد جفنه حساما ونضا | والصب قضى |
كم أودع ريقه فؤادا مرضا | من جمر غضا |
فاعجب لرضابه شفا الظمآن | يذكي حرقي |
والخد به الخال على النيران | لم يحترق |
يا خجلة خد الورد في جنته | من وجنته |
يا كسرة غصن البان في حضرته | من خطرته |
يا حسرة بدر الأفق من غرته | في طرته |
لا تعتقد الأقمار بالبهتان | وسط الأفق |
أن تشبهه فليس في الإمكان | ما لم تطق |
ما أسعد من أصابه بالحور | سهم النظر |
ما أنعم من يصليه نار الفكر | طول العمر |
أو قيده الحب بقيد الشعر | عند السحر |
أو طوقه بذلك الثعبان | فوق العنق |
أو بات بقفل صدغه الريحاني | تحت الغلق |