وزير المأمون الفضل بن سهل، أبو العباس السرخسي، أخو الحسن بن سهل، وقد تقدم ذكر أخيه في مكانه من حرف الحاء، أسلم على يد المأمون سنة تسعين ومائة، وقيل: إن أبا سهل أسلم على يد المهدي، ووزر الفضل للمأمون واستولى عليه حتى ضايقه في جارية أراد شرائها.
ولما عزم يحيى بن خالد البرمكي على استخدام الفضل للمأمون، وصفه بحضرة الرشيد، فقال الرشيد: أوصله إلي، فلما أدخله لحقته حيرة. فنظر الرشيد إلى الوزير يحيى نظر منكر لاختياره له، فقال الفضل: يا أمير المؤمنين، إن من أعدل الشواهد على فراهة المملوك أن تملك قلبه هيبة سيده، فقال الرشيد: لئن كنت سكت لتوصغ هذا الكلام لقد أحسنت، وإن كان بديهة لأحسن وأحسن. ثم لم يسأله بعد ذلك عن شيء إلا أجاب بما يصدق وصف يحيى له.
وكانت له فضائل، وكان يلقب ذا الرياستين لأنه تقلد الوزارة والسيف. وكان يتشيع. وكان من أخبر الناس بعلم النجامة، وأكثرهم إصابة في أحكامه.
يقال أنه اختار لطاهر بن الحسين لما خرج إلى الأمين وقتا، وعقد له فيه لواء وسلمه إليه، وقال: عقدت لك لواء لا يحل خمسا وستين سنة.
وكان بين خروج طاهر ذلك الوقت إلى أن قبض يعقوب بن الليث الصفار على محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر بن الحسين بنيسابور ستون سنة.
ولما توفي الفضل طلب المأمون من والدة الفضل ما خلفه، فحملت إليه سلة مختومة مقفلة، ففتح قفلها، فإذا صندوق صغير مختوم، وإذا فيه درج، وفي الدرج مكتوب بخطه:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما قضى الفضل بن سهل على نفسه، قضى أنه يعيش ثمانيا وأربعين سنة ثم يقتل بين ماء ونار. فعاش هذه المدة، وقتله غالب خادم المأمون في حمام بسرخس، وكان قد ثقل أمره على المأمون، فدس عليه غالبا مغافصة ومعه جماعة، وذلك في سنة اثنتين ومائتين، وقيل: ثلاث ومائتين.
وفيه يقول مسلم بن الوليد:
أقمت خلافة وأزلت أخرى | جليل ما أقمت وما أزلتا |
لفضل بن سهل يد | تقاصر عنها المثل |
فنائلها للغنى | وسطوتها للأجل |
وباطنها للندى | وظاهرها للقبل |
لعمرك ما الأشراف في كل بلدة | وإن عظموا للفضل إلا صنائع |
ترى عظماء الناس للفضل خشعا | إذا ما بدا والفضل لله خاشع |
تواضع لما زاده الله رفعة | وكل جليل عنده متواضع |
من يلقب بغير معنى فقد لقبـ | ـت يا ذا الرياستين بحق |
وإذا ما الخطوب جلت وكا | ع القوم عنها في رتق أمر وفتق |
بذهم ذو الرياستين برأي | واعتزام منه بحزم ورفق |
نصحه للإمام نصح طباع | لا اختلاف ولا مشوب بمذق |
إحدى الملات الجلائل | أودت بفضل والفضائل |
برزت غداة حلولها | من كل منزلة بثاكل |
يا ذا الرياسة والسيا | سة وابن ذادتها الأوائل |
عمرت ببهجتك القبو | ر وأوحشت منك المنازل |
والأرض أصبح ظهرها | وحشا وبطن الأرض آهل |
كانت حياتك للعفا | ة ويوم موتك للواحل |
اليوم أعفيت المطـ | ـي وعطلت منها الرواحل |
اليوم أيتمت العفا | ة وصال بالإسلام صائل |
من للعديم وللغريم | ولليتامى والأرامل |
من يحمل الخطب الجليـ | ـل ويقصم البطل الحلاحل |
نزلت بآل محمد | والناس منسية النوازل |
درست سبيل الراغبيـ | ـن وعطلت منها المناهل |
يا فضل دعوة لائذ | في الحزن والدرر الهوامل |
عدم الأسى فيك المصا | ب وأنت أسرة كل هابل |
الموت بعدك نعمة | والعيش بعدك غير طائل |
ما مت بل مات الذي | أبقيت من عاف وآمل |
إما يزول بك الزما | ن فإن ذكرك غير زائل |
ما مات من حسن أخو | ه ومثله في ما يحاول |
ذهلت فلم أمنع عليك بعبرة | وأكبرت أن ألفى بيومك ناعيا |
فلما بدا لي أنه لاعج الأسى | وأن لس إلا الدمع للعين شافيا |
أقمت لك الأنواح فارتج بينها | نوادب يندبن اللهى والمعاليا |
عفت بعدك الأيام لا بل تبدلت | وكن كأعياد فعدن مباكيا |
فلم تر عيني بعد يومك ضاحكا | ولم أر إلا بعد موتك باكيا |
دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 24- ص: 0