التصنيفات

قبجق سيف الدين نائب الشام قبجق المنصوري. هو الأمير الكبير سيف الدين: نقلت من خط القاضي شهاب الدين ابن فضل الله بعدما حدثني بذلك غير مرة قال: أصله مكتسب لا بالشراء، وكان رجلا كريما حازما بطلا شجاعا مبرزا في جودة الرماية لا يرامى رميه ولا تتقى سهامه، غاية في العقل وتقدم في الفكر والوقوع في صواب الرأي، قليل النظير معدوم المثيل، من فرسان الإسلام المشاهير وأفرادها المذكورين، وكان يجيد الكلام والخط باللغة المغولية.
وحكى لوالدي عن نفسه أنه كان كابتا لحسن تقو أحد نونيات المغول، وأن أباه كان رأسا من رؤوس الكتابة بالمغولية مجيدا في الترسل فيها، وقال له: مثل ما عندكم كلام جيد وكلام رديء هكذا عندنا.
ولما كان في المماليك المنصورية كان مؤاخيا لحسام الدين لاجين لا يكاد يصبر واحد منهما على الآخر، وأكلهما وشربهما واحد، فلما انتهت الأيام إلى ملك لاجين انعكس ذلك الود على ما يأتي ذكره.
ولم يزل قبجق مقدما في البيت المنصوري رأسا من رؤوس المماليك السلطانية وأمر، ومع هذا أستاذه لا يثق به ولا يسكن إليه، ولا يزال يتقي بادرة منه، وكان لا يخرجه معه في بواكيره إلى الشام خوفا منه لا يهرب.
حكى بلبان الطشلاقي مملوك الصالح علي قال: ركب السلطان، يعني الملك المنصور قلاوون، يوما إلى قبة النصر في جماعة من خوجداشيته الأمراء الصالحية، ونزلوا هناك في صواوين خفاف نصبت لهم، وأكلوا وانشرحوا، ثم قام كل أمير إلى صيوانه، فأتى الملك المنصور بعدة خراف من الرمسان البداري فعرضها عليه وقلبها ثم تخير له منها خروفا من أصحها أعضاء، وفرق البقية - بعث إلى كل أمير بخروف منها وقال: ليقم كل واحد بذبح خروفه وبشويه بيده مثل ما نعمل في بلادنا، وأنا في الأول.
ثم قام هو فذبح ذلك الخروف الذي اختاره وسلخه بيده، وأمر بنار أوقدت ثم قام بيده شواه، فلما انتهى طلب الأمراء ليأكلوا معه منه، ثم أخذ هو منه الكتف الأيمن وأكل لحمه وأكلوا هم، فلما أكل لحم ذلك الكتف جرده إلى أن نقاه، ثم تركه قليلا حتى جف، ثم قام فجعل يلوحه على النار برفق، ثم أخرجه ونظر إليه وأطال فيه التأمل، ثم تفل عليه وشتمه وألقاه من يده، وكان يجيد معرفة النظر في الكتف، فلم يجسر أحد من الأمراء على سؤاله عما رأى فيه، فدسوا عليه أميرا سماه الطشلاقي، أظنه بيسري، فمازحه ثم قال له: بالله يا خوند أي شيء رأيت في الكتف؟. فقال: والله حاشاك، قال عن هذا الصبي قبجق وهذا الصبي عبد الله - عن مملوك آخر كان عنده من المكتسبين أيضا - لا تخرجهم معك إلى الشام، فهؤلاء متى صاروا في الشام هربوا وعملوا فتنة.
فأما عبد الله فتقدم موته، وأما قبجق فلما صار نائب الشام هرب وجاب التتار.
وحكى والدي أن الشجاعي قال مرة وقد جاءه كتاب من قبجق: هذا قنينة دهن ورد مخبأ ليوم مشؤوم.
قلت: ولم يزل مع تقدمه في البيت المنصوري مؤخرا عند السلطان حتى مات.
فلما ملك الملك الأشرف أجل قدره ونوه به، وكان من أقرب المقربين إليه، وربما استشاره في بعض الأمر.
وكان رجلا داهية. فلما قتل الأشرف وتقلبت بالناس الأمور حتى ملك العادل كتبغا لم يبق بحاشيته دأب إلا لاجين، وتقصد قبجق لقص جناح لاجين حتى اتفقا وطردا كتبغا وملك لاجين، وخير قبجق بين نيابة مصر والشام، فاختار الشام فبعثه إليها وجاءها وهو يظن أنه مالكها.
وظهر من تعظيم لاجين له أن كتب إليه بالجناب العالي وكان يكتب إليه المملوك، واستعفى قبجق من هذا فقيل له: أنت تعرف مكانتك ونحن نعرف مكانتك.
ثم إن لاجين ولى جاغان أحد مماليكه وظيفة الشد بالشام، وكان جاغان مدلا على أستاذه، فعمل الوظيفة على قواعد ضاق منها قبجق وحصر.
وصارت مراسيم قبجق ترد عليه، فمنها ما يرده ومنها ما يوقفه على المشاورة، فنشأت بينهما النافسة، فبقي جاغان يكتب في حقه بما يغير ما بينه وبين لاجين من المودة التي أنفقوا فيها الأعمار، حتى اشتد تخيل لاجين منه، وبعث إلى آقوش الأفرم - وكان ابن خالة لاجين - يقول له: تجعل بالك من قبجق وتعرفنا بأخباره.
فطمع بالنيابة، وكتب بما يزكي أقوال جاغان، فاشتد نفار قبجق وهم بالأفرم، فجاء الأفرم بالبريد بالطلب إلى مصر، ورسم لجاغان بسلوك الأدب مع قبجق، وأن لا يرد له أمرا ولا ينقل قدما عن قدم إلا بأمره، فأظهر قبجق الرضى واسر ما أسر.
ثم تواترت الأخبار بقصد التتار أطراف البلاد، فجردت العساكر المصرية والشامية ورسم لقبجق بالخروج وأن يكون مقدما عليهم، فخرج إلى حمص وعرض يوم خروجه عرضا ما رأى قبله مثله، وخرج على قومه في زينته وعليه قباء مزركش بالذهب المرصع، بالجواهر يبهر العيون، وعليه كلوتة مثل ذلك، وفي وسطه كاش ملبس بالذهب وعليه قطع الجوهر، وكذلك كان سرج فرسه وكنبوشه ولجامه.
ونزل بحمص وخيم عليها فقال منكودمر للاجين: ما قصرت سلطنت قبجق وبعثت معه الجيوش والأمراء وقعدت أنت وحدك برقبتك، وندمه؛ وكان هذا دأب منكودمر يوحش بين لاجين مخدومه وبين كبراء الأمراء، ويتقصد إبادتهم.
فشرع لاجين في العمل على إمساك من يقدر عليه منهم واغتيال من لا يقدر على إمساكه منهم، وندب لهذا صلغاي بن حمدان وكان خؤونا نماما غربالا للأسرار وكانونا على المتحدثين.
فلما جاء قبجق وحدثه كان والدي حاضرا قال: فقال له: السلطان يسلم عليك ويقول لك: قد حصل القصد بإلقاء السمعة والمهابة، وما بقي للتتار حركة، وأنا قد بعثني أرد العساكر المصرية من حلب والأمير يرجع إلى دمشق، فقال له قبجق: لما قال لك السلطان هذا كان منكودمر حاضرا عنده؟ فقال له: وإلا فأين يغيب ذاك؟ قال والدي: ففهمت بها خيانة ابن حمدان.
ثم إن ابن حمدان قطع الكلام وقال: يا خوند أنا جيعان، وقد اشتهيت عليك كركي يشوى لي، فقال: هنا كركي مشوي هاتوه، فجابوه وأنا قاعد، فلما جاء قال ابن حمدان: لا يقطع لي أحد أنا أقطع لنفسي. ثم إنه أخرج سيخا كان معه وجعل يقطع برأسه ويأكل، ثم قطع بسفل ذلك السيخ وقدمه لقبجق وقال له: أنا قد قطعت لك وأنت إن اشتهيت تأكل وإن اشتهيت لا تأكل، ففهم قبجق أنه قد سم له ما قطعه له، وغضب واربد وجهه واسود وظهر عليه ما لا يخفى من الأذى، ثم قال: أنا ما آكل شيئا. قال والدي: فقمت من عنده وشرع قبجق في ما هم به.
قال: ثم سافر ابن حمدان إلى جهة حلب وكان من الأمراء الذين بها ما كان، وركب بكتمر السلحدار والبكي نائب صفد عائدين إلى حمص حتى أتيا قبجق وشكيا إليه ما أريد بهما بحلب، فشكا هو إليهما ما أريد به بحمص، وأجمعوا على الرأي، وأراد قبجق تحليف الأمراء له، وطلب شهاب الدين ابن غانم ليتولى ذلك له، فعمل نسخة بالتحليف، فلما حضر ليحلف قال أمراء الشام: أين كاتب السر؟ فقال: هو بعث هذا. فقال الطواشي... وكان رأس الميمنة وكبير الأمراء والملك الأوحد ابن الزاهر ما نحلف إلا إن حلفنا كاتب السر، فإنه أخبر بالعادة.
قال والدي: فطلبت وأعطيت نسخة التحليف فوجدتها مجردة لقبجق فقلت: ما جرت بهذا عادة، ثم أخذت القلم وأضفت فيها اسم السلطان ولزوم طاعته وجماعته، فحلفوا على هذا، وتنكر لي قبجق.
قال: فلما رأى قبجق أن الأمر ما يتم له لاختلاف أمراء الشام عليه أعمل الرأي في الهرب.
قال: حكى لي الفرسي الحاجب قال: جئت إلى قبجق في الليلة التي أراد فيها الركوب للهرب، وأخذت في لومه وعذله وقلت له: يا خوند بعد الحج إلى بيت الله الحرام وقطع هذا العمر في الإسلام، وأمير علي، تروح إلى بلاد العدو؟! فقال: يا حاج، أنا كنت أعتقد أن لك عقلا، الروح ما يعدلها شيء، وأما الإسلام فأنا مسلم أينما كنت ولو كنت في قبرص، وأما الحج فكل سنة يحج من الشرق قدر ما يحج من عندكم مرات، وأما أمير علي فأي امرأة بصقت فيها جاء منها أمير علي وأمير إبراهيم وأمير خليل.
ثم قال: هاتوا ما نأكل، فجاءوه بزبدية خشب فيها لحم يخني، فأخذ منه قطعة وحطها على قباء كنجي زيتي عليه، وشرع يقطع منها ويأكل ويغني بالتتري يريني أنه قد دخل في زي التتار وعيشهم، ثم هرب وأمسك نائب حمص معه فقال: يا خوند أي شيء هو ذنبي؟ فقال: مالك ذنب وإنما أخذتك معي حتى يتفرق هؤلاء الحيال عن جند حمص.
ثم إنه أطلقه بعد ذلك. وبعد هربه بيومين جاءت الأخبار بقتل لاجين وذبح منكودمر، فجهز إليه البريدي الواصل بهذا الخبر، وهو علاء الدين الدبيسي، فلحقه وأخبره، فما صدقه وهم بقتله، ثم تركه ورده، واستمر قبجق حتى وصل إلى أردو السلطان محمود غازان فقبل وفادته ولم يجد لديه طائل إكرام.
وحكى لي شرف الدين راشد كاتب بكتمر السلحدار قال: إن غازان رتب له رابتا لا يليق بمثله، ثم إن غازان حشد للصيد وجمع حلقة ما رؤي مثلها وضمت ما لا يحصى من الوحش، وقال لأمرائه: حتى نبصر هؤلاء إن كانوا أقجية أم لا. وكان يظن أنه يفضحهم.
ثم قالوا لقبجق: يا قبجق نحن شباعي صيد، وإنما هذا عملناه ضيافة لكم. فنزل قبجق وضرب له الجوك ثم قال: بسعادة القان نتصيد، فعبرت بهم حمر وحشية، فأمره غازان بالرمي عليها، فقال له قبجق: ايش يشتهي القان يأكل لحمه من هذه الحمير؟ فقال له: هذا وهذا، وأشار إلى اثنين منها أو ثلاثة أو أكثر، والشك مني لا ممن حدثني.
فساق قبجق وصهر له عليها، أحدهما أخذ على يمينها والآخر أخذ على يسارها، واتفقا على الرمي على مكان منها، حاذياهما ورميا عليها فلم يخطئا المكان حتى تلاقى نشابهما وتقاصف، وهكذا في كل رماياهم.
ثم إنهم حملوها حتى رموها بين يدي غازان وقد امتلأ قلبه تعظيما لهما، فلما رأى رميهم المتوارد على مكان واحد في كل رمية حتى يتلاقى النشاب بالنشاب ويتقصف زاد في توقيرهم في صدره، وقال: إلي قبجق بك. ثم لبسه تبعا له كان على رأسه ولبس صهره تكلأ كان عليه، ثم أصغى إلى كلامهم فحدثوه في أخذ الشام.
واتفق أن الملك المظفر صاحب ماردين كان قد تحدث في هذا للإغارة التي شملت بلاده، فخرج محمود غازان بهم حتى أتى بلاد حمص، وكان الملك قد آل إلى الملك الناصر وقد خرج للملتقى.
حكى والدي قال: قال لي قبجق بعد عوده: لما تلاقينا نحن وأنتم تتعتع جيشنا، فهم غازان بالرجوع وطلبني ليضرب عنقي قبل أن نرجع لكون خروجه كان برأيي قال: ففطنت لذلك، فلما صرت بين يديه قال: أيش هذا؟ فضربت جوكا له ثم قلت له: أنا أخبر بأصحابنا وهم لهم فرد حملة فالقان يصبر ويبصر كيف ما يبقى قدامه أحد منهم.
وكان الأمر كما قلت، وخلصت من يده، فلما انكسر ثم أراد أن يسوق عليكم فعلمت أنه متى ساق عليكم ما يبقى منكم أحد فقلت: القان يصبر فإن هؤلاء أصحابنا خباث، وربما يكون لهم كمين، وقد انهزموا مكيدة حتى نسوق خلفهم فيردوا علينا ويطلع الكمين وراءنا، فوقف حتى أبعدتم، فولا أنا ما قتل منكم أحد، ولولا أنا ما بقي منكم أحد.
قلت: ثم لما جاء غازان إلى دمشق ونزل بتل راهط جعل لقبجق الحكم بدمشق، وكان فيه مغلوبا مع التتار لا يسمع منه، ومع هذا كان يداري ويدافع عن المسلمين بجهده ويباطن أرجواش في عدم تسليم القلعة.
فلما عزم غازان على العود جعل إليه نيابة الشام، ولبكتمر السلحدار نيابة حلب، ولألبكي نيابة السواحل كلها.
ووقفت على نسخ تقاليد كتبت لهم على مصطلح ملوكنا، كتبت بخط جمال الدين ابن المكرم، وكتب لقبجق فيها الجناب العالي، وجعل زكرياء بن الجلال وزيرا بالشام وحلب والسواحل ولاية عامة يتحدث في الأموال.
وترك بولاي بجانب من العسكر ليكون ردءا لهؤلاء النواب إلى أن يستخدموا لهم جندا.
ثم لما بنت ببولاي الدار شرع قبجق بمراسلة المصريين، وجهز عز الدين ابن القلانسي والشريف زين الدين النقيب رسلا منه إليهم، واستعان بكتب كتبها محمد بن عيسى إلى الأمراء بسببه.
فأما سلار فلان له جانبه، وأما بيبرس الجاشنكير فخشن عليه، ثم غلب عليه رأي سلار والأمراء الأكابر وقالوا: لو لم يكن إلا لأجل محمد بن عيسى، فإنه بالغ في أمره وقام معه هذا القيام الذي ما بقي يمكن أنه يتخلى عنه بعده.
فإن لم تأووه أنتم آووه هم، وأخذوا وجها عند غازان وقالوا: عملنا هذا لأجلك، فأجمعوا على صلحه، ثم جعلوا مقامه بالشوبك لخاصة مماليكه على رزق جند عين له.
ودام على هذا حتى كانت الوقعة الثانية نوبة مرج الصفر، فحضر وشهد يومها بمماليكه وأبلى بلاء حسنا لم يبل أحد مثل بلائه، وشبق إلى الماء ليملكه فوجد عليه فوجا من التتار، فما زال يقاتلهم حتى زحزحهم فملكه، فبات المسلمون يرتوون بالماء وبات التتار يصطلون بالعطش فكان ذلك من أكبر أسباب النصرة. ثم لما خلت حماة بعث إلى نيابتها وكان كأنه مالكها.
حكى لنا الصاحب أمين الدين قال: طلبت يوما إلى دار النيابة وسلار جالس وبيبرس إلى جانبه، فدخلت مسرعا لكثرة الاستعجال وليس معه منديل للحساب، فقال لي سلار: أين كارتك؟ يعني الحساب، فقلت: هي مع العبد، فأمر بها فأحضرت، ثم قال: اكشف أي شيء مضمون التذكرة التي كتبت على حماة، قال: فكشفتها، وكانت قد كتبت تذكرة على حماة وكتب فيها قبجق فالجناب العالي السيفي مقدم بكذا، والجناب العالي السيفي يفعل كذا، فقال لي: يا سبحان الله كأنك نسيت ما عمله قبجق، أيش هذا؟ تريد تغيظه حتى يعمل النوبة أنحس من الأول؟! هو طلع رقاص عندكم حتى تقولوا لهاه اعمل كذا وافعل كذا؟ ما يقنعكم أنه يقنع بحماة ويسكت عنكم؟! ثم أخرج كتابا جاءه منه وهو يقول فيه بين أسطره: لا إله إلا الله يا خوند ويا خوشداش، صرت مشد جهة عند الكتاب والدواوين أو والي بلد، إن كان هذا بمرسومك فحاشاك منه، والموت أهون من هذا، وإن كان هذا بمرسوم الدواوين فتريد تعرف أن الدنيا سايبه وأنت تعرف أيش يترتب على هذا.
قال: فقمت والله ما أبصر الطريق. فلما كنت في الدهليز لحقني نقيب فردني، فلما رآني قال: لا تعودوا تذكروا حماة واحسبوا أنها ما هي في الوجود.
قال: فوالله ما عدنا مددنا فيها مدة قلم واحد. ثم لم يزل قبجق بها حتى جاء السلطان الناصر من الكرك إلى دمشق آخر مرة تسلطن فيها، جاءه قبجق وأسندمر جميعا وكانا قد اتعدا، وخرج السلطان لملتقاهما بظاهر الميدان الصغير بدمشق، وترجل لهما وعانقهما، فلما ركب أمسك أسندمر له الركاب وعضده قبجق، ثم لما استقر ملك السلطان بمصر، بعث قبجق وفي ظنه أنه إلى نيابة الشام، وأتى دمشق فنزل بالقصر الأبلق بها وهو ينتظر التقليد بها، فجاءه التقليد بحلب، فتوجه إليها وأقام بها حتى مات.
وكان لا يحب إلا دمشق ولا يتمنى سواها، ففرقت الدنيا بينه وبينها وعكست عليه المرام، وهذه عادة الأيام.
ووفاته في آخر جمادى الأولى سنة عشر وسبعمائة، ونقل إلى حماة ودفن بتربته التي بناها فيها وهي مشهورة.

  • دار فرانز شتاينر، فيسبادن، ألمانيا / دار إحياء التراث - بيروت-ط 1( 2000) , ج: 24- ص: 0

قبجق الأمير الكبير سيف الدين نائب دمشق وحماة وحلب.
وكان من فرسان الإسلام، وأبطاله الشجعان الأعلام، لا يرام ولا يرامى، ولا يسام في تدبير ولا يسامى، برز في جودة الرمي بالنشاب، واللعب بالرمح على ظهور المطمهة العراب.
وأما عقله ودهاؤه وحزمه وانتخاؤه، فانفرد بافتراع ذروته، وإحكام عروته، يظن بالشيء قبل وقوعه ما آل إليه، ويتخيل المقادير فتنثال عليه، وكان فصيحا في اللغة المغلية، مجيدا في كتابتها كما تجيده كتاب العربية.
وكان لا يكاد الصيد يخرج من بين يديه سليما، ولا يعبأ هو به أكان ظبيا أو ظليما، لكنه اضطر في الدخول إلى بلاد التتار، والتجاهر بالخروج منها دون الاستتار. ولكنه شعب ما صدع، ودمل ما جذع. فكان في عداد التتار وهو مع الإسلام، وفي ظاهر الأمر بينهم، وهو في الباطن تحت الأعلام. وداراهم إلى أن عادوا، وبدههم بدهاء إلى أن بادوا.
ولم يزل بعد ذلك يتقلب في النيابات، ويشفي غلة سيوفه من التتار في المصافات إلى أن جاءه المصرع القاسر، واختطفه عقبان المنية الكواسر.
وتوفي -رحمه الله تعالى- بحلب وهو نائبها في أواخر جمادى الأولى سنة عشر وسبع مئة، ونقل إلى حماة ودفن في تربتة المشهورة بها.
لما كان في بيت المنصور قلاوون كان مؤاخيا للأمير حسام الدين لاجين لا يكاد أحدهما يصبر عن الآخر إلى أن انعكس ذلك، على ما سيأتي ذكره.
وما زال الأمير سيف الدين قبجق مقدما في البيت المنصوري، رأسا من رؤوس مماليكه، وتأمر وأستاذه ما يثق به ولا يركن إليه، ولا يزال ينتظر منه بادرة فلا يخرجه معه إلى حروب الشام، ولا تجاريده خوفا منه لئلا يهرب.
قال لي القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله: حكى بلبان الطشلاقي مملوك الصالح علي، قال: ركب المنصور يوما إلى قبة النصر في جماعة من خوشدا شيته الأمراء الصالحية، ونزلوا هناك في صواوين خفاف، فأكلوا وانشرحوا، وقام كل أمير إلى صيوانه، فأتى المنصور بعدة خراف رمسان بدارية، فقلبها ثم إنه تخير له منها خروفا من أصحها أعضاء، وفرق البقية، ثم بعث إلى كل أمير بخروف منها. وقال: ليقم كل واحد يذبح خروفه بيده ويشويه بيده مثلما نعمل في بلادنا، وأنا في الأول. ثم قام فذبح خروفه الذي اختاره وسلخه بيده، وأمر بنار فأوقدت، ثم شواه بيده، ولما انتهى طلب الأمراء ليأكلوا معه، ثم أخذ منه الكتف اليمين، فأكل لحمه، ولما فرغ لحمه جرده إلى أن أنقاه، ثم إنه تركه قليلا إلى أن جف، ثم قام وجعل يلوحه على النار برفق، ثم نظر إليه وأطال فيه التأمل، ثم تفل عليه وسبه، فألقاه من يده، وكان يجيد معرفة النظر في الكتف فلم يجسر أحد من الأمراء على سؤاله عما رأى فيه، فدسوا عليه أميرا سماه الطشلاقي، قال القاضي شهاب الدين: أظنه بيسري، فمازحه، وقال له: يا خوند أي شيء رأيت في الكتف. فقال: والله حاشاك، قال عن هذا الصبي قبجق، وهذا الصبي عبد الله عن مملوك آخر كان عنده من المكتسبين أيضا لا تخرجهم معك إلى الشام، فهؤلاء متى صاروا في الشام هربوا وعملوا فتنة. فأما عبد الله فتقدم موته، وأما قبجق، فلما صار نائب الشام هرب وأتى بالتتار.
وقال: قال والدي: إن الشجعاني، قال مرة، وقد جاء كتاب من قبجق: هذا قنينة دهن ورد مخبوء لكل يوم مشؤون.
ولم يزل مقدما في بيت الملك المنصور وهو مؤخر إلى أن مات المنصور، وهو مؤخر.
ولما ملك ولده الأشرف أجلة ونوه بقدره، وكان من أقرب المقربين إليه، وربما استشاره في بعض الأمر.
ولما قتل الأشرف، وملك كتبغا لم يبق لحاشيته دأب إلا لاجين وقبجق، وتقصد قبجق قص جناح لاجين حتى اتفقا وطردا كتبغا، وملك لاجين، وخير قبجق بين نيابة الشام ونباية مصر، فاختار الشام، فجاء إليه وهو يظن أنه مالكها، ووصل إلى دمشق يوم السبت سادس عشر شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين وست مئة.
وظهر من تعظيم لاجين له أن كتب إليه ’’بالجناب العالي’’، وكان يكتب إليه: ’’المملوك’’، فاستعفى، فقيل له: أنت تعرف مكانتك ونحن نعرف مكانتك.
ثم إن لا جين ولى جاغان، المقدم ذكره، أحد مماليكه شد الدواوين بالشام، وكان جاغان مدلا على أستاذه، فعمل الوظيفة على قاعدة ضاق منها قبجق وانحصر.
وكانت مراسيم قبجق ترد عليه، فمنها ما يرده، ومنها ما يوقفه على المشاهدة، فنشأت بينهما منافسة، وبقي جاغان يكتب في حقه بما يغير بينه وبين السلطان من المودة التي أنفقوا فيها الأعمار، حتى اشتد تخيل لاجين منه، وبعث إلى آقوش الأفرم، وهو ابن خالة لاجين، يقول له: تجعل بالك من قبجق، وتعرفنا بأخباره، فطمع في النيابة، وكتب بما يزكي أخبار جاغان وأقواله.
واشتد نفار قبجق وهم بالأفرام، فجاء الأفرم البريد بطلبه إلى مصر، ورسم لجاغان بسلوك الأدب معقبجق ولا يرد له أمرا، ولا ينقل قدما عن قدم إلا بأمره، فأظهر قبجق الرضا، وأسر ما أسر.
ثم إن الأخبار تواترت بقصد التتار أطراف الشام، فجردت العساكر المصرية والشامية، ورسم لقبجق بالخروج، وأن يكون مقدما عليهم، فخرج إلى حمص وعرض عرضا ما رأى قبله مثله ’’وخرج على قومه في زينته’’ وعليه قباء مزركش بالذهب مرصع بالجواهر، وكذلك سربه يبهر العيون، وعليه كلوته كذلك، وفي وسطه كاش ملبس بالذهب مرصع بالجواهر، وكذلك سرجه وكنفوشه ولجامه.
ونزل بحمص وخيم عليها، فقال منكوتمر للاجين: ما قصرت سلطنت قبجق وبعثت معه الجيوش والأمراء، وقعدت أنت وحدك برقبتك، وندمه.
وكان هذا دأب منكوتمر يوحش بين لاجين وبين الأمراء، ويتقصد إبادتهم، فشرع لاجين في العمل على إمساك من قدر عليهم منهم، واغتيال من لا يقدر على إمساكه، وندب لهذا صلغاي بن حمدان، وكان خؤونا نماما غربال أسرار.
ولما جاء قبجق وحدثه وكان والدي حاضرا، قال: فقال له: السلطان يسلم عليك، ويقول لك: قد حصل القصد بإلقاء السمعة والمهابة، وما بقي للتتار حركة، وأنا قد بعثني أرد العساكر المصرية من حلب والأمير يرجع إلى دمشق.
فقال له قبجق: لما قال لك السلطان هذا، كان منكوتمر حاضرا عنده؟ قال: وإلا فأين يغيب ذاك. قال والدي: تفهمت بها خيانة ابن حمدان.
ثم إن ابن حمدان قطع الكلام، وقال: يا خوند أنا جيعان وقد اشتهيت كركيا يشوى لي. فقال: هاهنا كركي مشوي هاتوه، فأتوا به وأنا قاعد، فلما أتى به، قال ابن حمدان: لا يقطع لي أحد، أنا أقطع لنفسي، ثم إنه أخرج سيخا كان معه، وجعل يقطع برأسه، ويأكل، ثم قطع بسفل ذلك السيخ وقدمه لقبجق، وقال له: أنا قد قطعت لك وأنت إن اشتهيت تأكل، وإن اشتهيت لا تأكل، ففهم قبجق أنه قد سم له ما قطعه له، وغضب وأربد وجهه واسود وظهر عليه ما لا يخفى من الأذى، ثم قال: أما ما آكل شيئا.
قال والدي: فقمت من عنده، وشرع قبجق فيما هم فيه، وهم بما هم به.
ثم سافر ابن حمدان إلى جهة حلب وكان من الأمراء الذين بها ما كان، وركب بكتمر السرح دار وألبكي نائب صفد، عائدين إلى حمص حتى أتيا قبجق وشكيا إليه ما كان أريد بهما بحلب، فشكا هو إليهما ما أريد به بحمص، وأجمعوا على الرأي.
وأراد قبجق تحليف الأمراء له، وطلب من شهاب الدين بن غانم ليتولى له ذلك، فعمل نسخة بالتحليف، فلما حضر ليحلف. قال له أمراء الشام: أين كاتب السر، فقالوا: هو بعث هذا.
فقال الطواشي، وكان رأس الميمنة وكبير الأمراء والملك الأوحد بن الزاهر ما نحلف إلا إن حلفنا كاتب السر، فإنه أخبر بالعادة.
قال والدي: فطلبت، وأعطيت نسخة التحليف، فوجدتها مجردة لقبجق.
فقلت: ما جرت بهذا عادة، ثم أخذت القلم وأضفت فيها اسم السلطان ولزوم طاعته، وجماعته، فحلفوا على هذا.
وتنكر لي قبجق، قال: فلما رأى قبجق أن الأمر ما يتم له، لاختلاف الأمراء عليه، أعمل الرأي في الهرب، قال: حكى لي الغرسي الحاجب، قال: جئت إلى قبجق في الليلة التي أراد الركوب فيها للهرب، وأخذت في لومه وعذله، وقلت له: يا خوند بعد الحج إلى بيت الله الحرام وقطع هذا العمر في الإسلام، وأمير علي تروح إلى بلاد العدو؟ فقال: يا حاج، أنا كنت أعتقد أن لك عقلا، الروح ما يعدلها شيء، وأما الإسلام فأنا مسلم أينما كنت، ولو كنت في قبرس. وأما الحج فكل سنة يحج من الشرق قدر من يحج من عندكم مرات، وأما أمير علي، فأي امرأة بصقت فيها جاء منها أمير علي وأمير إبراهيم وأمير خليل.
ثم قال: هاتوا ما نأكل، فجاؤوا بزبدية خشب فيها لحم يخني، فأخذ منها قطعة وحطها على قباء كنجي زيتي عليه، وشرع يقطع منها ويأكل، ويغني بالتتري، يريني بذلك أنه قد دخل في زي التتار، وعيشهم.
ثم هرب وأمسك نائب حمص معه. فقال: يا خوند أيش هو ذنبي. فقال: مالك ذنب، وإنما معي حتى تفرق هؤلاء الحيال، يعني جند حمص ثم إنه أطلقه بعد ذلك.
وبعد هروبه بيومين ثلاثة -قلت أنا: الصحيح بعد أسبوع وأكثر- جاءت الأخبار بقتل السلطان لاجين وذبح مملوكه منكوتمر، فجهز إليه البريدي الذي وصل بهذا الخبر، وهو علاء الدين الدبيسي، فلحقه وأخبره، فما صدقه، وهم بقتله، ثم تركه ورده، واستمر قبجق حتى وصل إلى أردو القان غازان، فقبل وفادته، ولم يجد لديه طائل إكرام.
قال: وحكى لي شرف الدين راشد كاتب بكتمر السلاح دار، قال: إن غازان رتب له راتبا لا يليق بمثله، ثم إن غازان حشد للصيد وجمع حلقة ما رئي مثلها، وضمت ما لا يحصى من الوحش.
وقال لأمرائه: حتى نبصر هؤلاء إن كانوا أقجية أو لا، فظن أنه يفضحهم.
ثم قالوا لقبجق: يا قبجق نحن قد شبعنا، وإنما عملناه ضيافة لكم، فنزل قبجق، وضرب له جوكا، ثم قال: بسعادة القان نتصيد، فعبرت بهم حمر وحشية، فأمر غازان بالرمي عليها.
فقال قبجق: أيش يشتهي القان يأكل لحمه من هذه الحمير. فقال له: هذا وهذا، وأشار إلى اثنين منهما أو ثلاثة أو أكثر، فساق قبجق وصهر له عليها، واتفقا على الرمي على مكان منهما.
ثم حاذياها ورميا عليها، فلم يخطئا المكان حتى تلاقى نشابهما وتقاصف. وهكذا في كل رماياهم، ثم إنهما حملاها حتى رمياها بين يدي غازان. فلما رأي رميهما المتوارد على مكان واحد في كل رمية زاد توقيرهم في صدره، وقال إلي قبجق بك، ثم ألبسه قبعا كان على رأسه، وألبس صهره بكلا كان عليه، ثم أصغى إلى كلامهم، فحدثوه في أمر الشام، واتفق أن الملك المظفر صاحب ماردين كان قد تحدث في هذه الإغارة التي شملت بلاده، فخرج بهم غازان حتى أتى بلاد حمص، وكان الملك قد آل إلى الملك الناصر، وقد خرج إلى الملتقى.
قال: فحكى لي والدي قال: قال لي قبجق بعد عوده لما تلاقينا: نحن وأنتم تتعتع جيشنا، فهم غازان بالرجوع، وطلبني ليضرب عنقي قبل أن نرجع لكون خروجه كان برأيي، ففطنت لذلك فلما صرت بين يديه قال: أيش هذا؟ فضربت له جوكا، ثم قلت له: أنا أخبر بأصحابنا، وهم لهم فرد حملة، فالقان يصبر، ويبصر كيف ما يبقى قدامه منهم أحد، وكان الأمر كما قلت، وخلصت من يده، فلما انكسر تم أراد أن يسوق عليكم، فعلمت أنه متى فعل ذلك لم يبق منكم أحد، فقلت له: القان يصبر فإن هؤلاء أصحابنا أخباث، وربما يكون لهم كمين، وقد انهزموا مكيدة حتى نسوق خلفهم فيردوا علينا، ويطلع الكمين وراءنا، فوقف حتى أبعدتم عنا، فلولا أنا ما قتل منكم أحد، ولولا أنا ما بقي منكم أحد.
ولما جاء غازان ونزل بتل راهط، جعل الحكم لقبجق بدمشق، وكان فيه مغلوبا مع التتار لا يسمعون منه، وعلى هذا، فكان يداري ويدافع عن المسلمين بجهده ويباطن أرجواش في عدم تسليم القلعة.
ولما عزم غازان على العود، جعل إليه نيابة الشام، ولبكتمر السلاح دار نيابة حلب، ولألبكي نيابة السواحل كلها.
قال: ووقفت على نسخ تقاليد كتبت لهم على مصطلح ملوكنا، كتبت بخط جمال الدين بن المكرم، وكتب لقبجق فيها ’’الجناب العالي’’، وجعل زكريا بن الجلال وزيرا بالشام وحلب والسواحل عامة يتحدث في الأموال، وترك بولاي من عسكر التتار، ليكون ردءا لهؤلاء النواب إلى أن يستخدموا لهم جندا.
ثم لما بنت ببولاي الدار، شرع يراسل المصريين، وجهز الصاحب عز الدين بن القلانسي والشريف زين الدين رسلا منه إليهم، واستعان بكتب كتبها محمد بن عيسى، إلى الأمراء بسببه.
فأما سلار فلان له جانبه. وأما الجاشكير فخشن عليها، ثم غلب عليه رأي سلار والأمراء الكبار. وقالوا: لو لم يكن إلا لأجل محمد بن عيسى، فإنه بالغ في أمره، وقام معه هذا القيام الذي ما بقي معه يمكن أن يتخلى عنه، وإن لم يؤووه أنتم آووه هم.
وأخذوا وجها عند غازان، وقالوا: عملنا هذا لأجلك، فأجمعوا على صلحه، ثم جعلوا مقامه بالشوبك لخاصة مماليكه على رزق جيد عين لهم.
ودام على هذا حتى كانت الواقعة الثانية نوبة شقحف، فحضر وشهد يومها بمماليكه، وأبلى بلاء حسنا لم يبل أحد بلاءه.
وسبق إلى الماء ليملكه، فوجد عليها فوجا من التتار، فما زال يقاتلهم حتى زحزحهم، وملكه. فبات المسلمون يرتوون بالماء، وبات التتار يصلون بنار العطش، وكان ذلك من أكبر أسباب النصرة فرعي له هذا العمل.
ولما خلت حماه بعث إليها قبجق نائبا، وكان مثل مالكها.
حكى الصاحب أمين الدين، قال: طلبت يوما إلى دار النيابة وسلار جالس وبيبرس إلى جانبه، فدخلت مسرعا لكثرة الاستعجال، وليس معي منديل للحساب.
فقال لي سلار: أين كارتك، يعني مزرة الحساب، فقلت: هي مع العبد، فأمر بها، فأحضرت.
فقال: اكشف أي شيء مضمون التذكرة التي كتبت على حماة، قال: فكشفتها، وكانت قد كتبت تذكرة على حماة، وكتب فيها إلى قبجق فالجناب العالي يتقدم بكذا، والجناب العالي يفعل كذا.
فقال لي: يا سبحان الله نسيت ما عمله قبجق أمس ها تريد تغيظه، حتى يعمل النوبة أنحس من النوبة الأولى، هو طلع رقاصا عندكم، حتى تقولوا له: اعمل كذا، افعل كذا ما يقنعكم، أنه قنع بحماة ويسكت عنكم، ثم أخرج كتابا جاء منه، وهو يقول فيه بين أسطره: لا إله إلا الله، يا خوند يا خوشداش صرت مشد جهة عند الكتاب والدواوين أو والي بلد، إن كان هذا بمرسومك، فحاشاك منه، والموت أهون من هذا، وإن كان بمرسوم الدواوين، فتريد تعرف أن الدنيا سائبة وأنت تعرف أيش يترتب على هذا.
قال: فقمت والله ما أبصر الطريق، فلما كنت في الدهليز لحقني نقيب فردني، فلما رآني، قال: لا تعودوا تذكرون حماة، واحسبوا أنها ما هي في الدنيا، قال: فوالله، ما عدنا مددنا فيها قلم.
ثم لم يزل فيها قبجق حتى جاء السلطان الملك الناصر من الكرك إلى دمشق آخر مرة تسلطن فيها، وجاءه قبجق من حماة وأسندمر من طرابلس معا، وكانا قد اتعدا لمثل ذلك.
وخرج السلطان للقائهما بظاهر الميدان الصغير بدمشق، وترجل لهما وعانقهما. ولما ركب أمسك أسندمر له الركاب وعضده قبجق، ثم توجها معه إلى مصر، ولما استقر الملك بمصر بعث قبجق، وفي ظنه أنه نائب الشام. وأتى دمشق ونزل بالقصر الأبلق وهو ينتظر التقليد، فجاءه التقليد بحلب، فتوجه إلى حلب، وأقام بها نائبا إلى أن مات في التاريخ المذكور، وكان ما يحب إلا دمشق، وما يتمنى سواها، ففرقت الأيام بينها وبينه، وعكست مراده، وهذه عادتها القادرة، وشيمتها الغادرة.

  • دار الفكر المعاصر، بيروت - لبنان / دار الفكر، دمشق - سوريا-ط 1( 1998) , ج: 4- ص: 61